أكبر الإخوان وما هو أكثر من التواطؤ والخذلان!
تاريخ النشر: 16th, January 2024 GMT
بإمكاني التخمين أن أكثر قارئي هذا المقال سيكونون من الإخوان المسلمين، ومن أعداء الإخوان، على السواء..
سيقول الإخوان: هل جُن هذا الرجل؟ ماذا دهاه، وقد تحملناه، وهو الذي طالما انتقد أداء قياداتنا "الربَّانية" نقدا لاذعا؟
وسيقول أعداء الإخوان: يا له من مُستمسَك جديد على الإخوان المسلمين، أهل الشر، خوارج العصر الذين لا تزال تدب فيهم الروح، رغم كل ما تعرضوا له من ضربات مميتة.
سيغضب الإخوان ويحوقلون، وسيفرك أعداء الإخوان أيديهم فرك اللص ليده، عندما يلمح ما يستحق السرقة!
أما العنوان الأكثر قربا للذهن فهو: "الشقيقة الكبرى وما هو أكثر من التواطؤ والخذلان!".. لكن هذه الصيغة تنطوي على التباس في نظر البعض؛ لأن مكانة مصر وتأثيرها ونفوذها قد تراجع إلى الحد الذي تستحق مصر معه صفة "الشقيقة الكبرى سابقا"، لا سيما مع جهود الأمير محمد بن سلمان الحثيثة لانتزاع موقع الصدارة بين "الأشقاء العرب" أو "الإخوان العرب"، بـ"فلوسه" وليس بأي شيء آخر!
أما العنوان المباشر الخالي من أي التباس فهو: "مصر وما هو أكثر من التواطؤ والخذلان!".. ولكن هذا العنوان "شديد الوضوح" فيه الكثير الكثير من المخاتلة والتضليل؛ فمصر ليست السلطة، والسلطة ليست الشعب ولم تعبر عنه يوما، ذلك لأن الشعب المصري لم يكن له الخيرة يوما في انتخاب سلطته، إلا مرة واحدة في تاريخه الطويل الممتد لعشرات آلاف السنين، وسرعان ما تم الانقلاب على أول حاكم منتخب، واختطافه من مكتبه، وحبسه انفراديا لست سنوات، تردد خلالها على "محكمة" أعدت له قفصا زجاجيا كاتما للصوت، وحاكمته بتهم لم يرتكبها، وأخيرا تم اغتياله بالسم في قاعة "المحكمة"؛ للتخلص (نهائيا) من صداع "الشرعية"!
أضف إلى ذلك، أن "مصر- مبارك" كانت تغض الطرف عن الأنفاق التي تربط غزة بمصر، أو بالأحرى التي كانت تتنفس منها غزة، فضلا عن أنها لم تغلق الحدود في وجه أهالي غزة، ولم تتعرض لهم بسوء أثناء العدوان الصهيوني على القطاع (2008/2009)، فكان أشقاؤنا الغزيون يدخلون إلى رفح المصرية؛ للحصول على احتياجاتهم ويعودون في اليوم نفسه، رغم القصف.. إن من ينكر هذا الموقف لمبارك فإنه آثم قلبه؛ لأنه كتم شهادة لا يكتمها إلا جاحد..
أذكِّر القارئ بهذا الموقف لمبارك، رغم قناعتي التامة بأن دوافعه كانت سياسية، ولم تكن تعاطفا مع أهل غزة، ولا مع حكومة حماس المحسوبة على الإخوان المسلمين الذين كان يكرههم مبارك، والذين استخدمهم "فزاعة" في وجه الغرب طوال ثلاثين سنة.. فقد كان يسكتهم في كل مناسبة يطرحون فيها موضوع الديمقراطية والحريات بقوله: "الإخوان هم البديل"!
أما "مصر- مرسي" فكان لها موقف تاريخي مشهود من العدوان الصهيوني على غزة؛ فقد وقف الرئيس مرسي (في 2012) ليقول بنبرة تحذيرية غاضبة: "لن نترك غزة وحدها!"، واتصل من فوره بالرئيس الأمريكي أوباما وقال له: "يجب أن تتوقف هذه الحرب".. ولم ينتظر الرئيس مرسي الرد الأمريكي، فأوفد وفدا رسميا إلى غزة برئاسة الدكتور هشام قنديل رئيس الوزراء، وآخر شعبيا بقيادة ممثلي حزب الأغلبية (الحرية والعدالة) في البرلمان المصري المنتخب، وانضم إليه من شاء من الشخصيات العامة، وقبل ذلك ومعه وبعده، تم فتح معبر رفح على مصراعيه، وتم تزويد قطاع غزة (شعبا وحكومة ومقاومة) بكل ما يلزم، في حدود المستطاع. ولم تستمر هذه "الجولة" من الحرب على غزة سوى أسبوع واحد.
وأما العنوان الأكثر وضوحا وتطابقا مع الواقع فهو: "السيسي وما هو أكثر من التواطؤ والخذلان!"، إلا أن السيسي ليس الأكبر ولا الأطول ولا الأضخم بين "الأشقاء العرب" كما تسميهم القيادة السياسية للمقاومة الفلسطينية تلطفا ولياقة ولباقة ودماثة خُلق، ليس إلا.. لكن السيسي تمرد على خِلقته (يبلغ طوله متر ونصف المتر تقريبا، وهذا الطول لا يؤهله للالتحاق بأي كلية عسكرية) وأبى إلا أن يكون الأكبر والأطول والأضخم بين "القادة العرب"، وما هو بقائد.. ومن ثم، يصبح عنوان المقال: "أكبر الإخوان وما هو أكثر من التواطؤ والخذلان!" مطابقا للواقع، إذا سمينا السيسي باسم الشهرة "ياسر جلال"!
لماذا ياسر جلال؟
لقد اختار السيسي الممثل المصري ياسر جلال، فارع الطول، رشيق القوام، قوي البنيان؛ ليجسد شخصيته في الجزء الثالث من مسلسل "الاختيار" الذي خصصه (السيسي) بالكامل لـ"شهادته" على فترة "حكم الإخوان"، ودوره "البطولي" المفعم بـ"الوطنية"، في هذه السنة (السودا) التي تصدى خلالها بـ"شجاعة" قل نظيرها لـ"انحراف" الإخوان و"ضلالهم"، وأنانيتهم التي كادت أن تدخل مصر في "حرب أهلية"! ولو كان هناك من هو أكثر طولا، وأضخم جثة، وأقوى بنية من ياسر جلال، بين الممثلين المصريين، لكلفه السيسي بتجسيد شخصيته في هذه المسلسل الذي أقل ما يُقال فيه: إنه "شهادة زور"!
وإذ ينسى مشاهدو هذا المسلسل البائس، فلا ينسون تلك النظرات النارية التي كان يرمق بها ياسر جلال (البطل الحاذق الخارق) الرئيس "الضعيف المتردد" محمد مرسي الذي أظهره السيسي في المسلسل "ألعوبة" بيد "مكتب الإرشاد"، والإخوان وعلى رأسهم المهندس خيرت الشاطر، نائب المرشد العام، ومدير مكتبه (مكتب الرئيس) الدكتور أحمد عبد العاطي، فك الله أسرهما.
حامل حذاء الرئيس!
وقد علق يحيي حامد (وزير الاستثمار في حكومة الدكتور هشام قنديل) في حينه، على هذا المسلسل بواقعة نسفت هذه الصورة المزيفة التي حاول السيسي أن يرسمها لنفسه نسفا، بدءا من اختيار ممثل هو على النقيض منه في بنيته وهيئته ليقوم بدوره، وانتهاءً بالتفاصيل التي كانت (في مجملها) من وحي خيال المؤلف والسيناريست الذي هو السيسي نفسه، ولا تمت للحقيقة بصلة..
يقول حامد من موقع شاهد العيان، في تدوينة له على فيسبوك بتاريخ 10 نيسان/ أبريل 2022 ما نصه:
"يبدو أن كاتب السيناريو الركيك الذي أراد أن يبجل نفسه، ويرسم لنفسه صورة الشخصية القوية، قد نسي أنه كان هناك شهود عيان على طريقة تعامله مع السيد الرئيس، ومحاولاته المتكررة التزلف إليه، وإظهار الولاء له"..
ويروي الوزير حامد الواقعة التي تؤكد استهلاله هذا فيقول:
"كنت في قصر الاتحادية.. وعقب تعيين السيسي [وزيرا للدفاع] بفترة وجيزة، وأثناء إحدى زياراته؛ للاجتماع مع سيادة الرئيس، خرج السيد الرئيس بعد الاجتماع (كعادته) للصلاة، مع الموجودين في القصر.. وبعد الانتهاء من الصلاة، وجدنا السيسي يذهب ويأتي بحذاء الرئيس ويضعه أمامه! نظر الرئيس مرسي إليه مستغربا وقال له: "إيه اللي بتعمله ده يا عبد الفتاح؟!".. انتهى.
صفقة القرن
لقد مارس "ياسر جلال" كل صور الصغَار والانبطاح والمذلة والهوان طوال حياته "العسكرية"، بشهادته هو نفسه في واقعة "مين الظابط النتن اللي حط الدبوس في الأستيكة" التي رواها بنفسه عن نفسه، على لسان قائده الذي أهانه بهذه العبارة، في حضور ملأ من الرتب الكبيرة والمتوسطة (الفيديو متاح على يوتيوب)، حتى وصل إلى موقع وزير الدفاع الذي أهله للانقلاب على أول رئيس منتخب في تاريخ مصر بدعم صهيوني، وتمويل سعودي إماراتي، كأول خطوة عملية لتنفيذ صفقة القرن، بعد أن رفض مبارك (رغم كل المآخذ عليه) الاستجابة للضغوط الصهيونية، والتنازل عن جزء من سيناء؛ ليكون بديلا عن غزة..
مهمة لم يكن يقبلها أي عسكري لديه مثقال ذرة من الشرف والوطنية، لكن ياسر جلال كان ينتظر (على أحر من الجمر) الفرصة للقيام بهذه المهمة الشنيعة، فلم يتردد في الحنث بيمينه، وخيانة رئيسه المنتخب، والانقلاب عليه، وتقدم ليكتب اسمه في قائمة العار..
شرع ياسر جلال في تهجير أهالي شمال سيناء قسريا، ومحا مدنهم ومزارعهم من على الخريطة، فور استيلائه على الحكم (بعد انتخابات صورية هزلية) في 2014، تمهيدا لاستقبال أهالي غزة الذين سينزحون عنها، تحت وطأة القصف الصهيوني الذي سيطال كل شبر في غزة، (حسب الخطة التي كانت على وشك الاكتمال)، ولكن المقاومة الفلسطينية في غزة كانت أسبق، فأخذت زمام المبادرة، وأفشلت هذا المخطط الدنيء، مراهِنة على ثبات وصمود حاضنتها الشعبية الذين هم السواد الأعظم من أهل غزة..
إذن نحن أمام صنيع هو أكبر من التواطؤ والخذلان.. نحن (في الحقيقة) أمام شراكة وتنسيق كاملين بين ياسر جلال والعدو الصهيوني، في الحرب الهمجية النازية على غزة التي بلغت يومها المئة الأحد الماضي (14 كانون الثاني/ يناير 2024).
من صور الشراكة والتنسيق:
* شرع ياسر جلال منذ 2014 في إعداد شمال سيناء لاستقبال أهالي غزة، عندما يحين وقت العدوان الصهيوني الشامل الماحق على قطاع غزة، كأول خطوة في تنفيذ "صفقة القرن" (أشرت إلى ذلك آنفا).
* اقترح ياسر جلال في مؤتمر صحفي متلفز، مع رئيس وزراء أوروبي، أن يقوم نتنياهو بتهجير أهالي غزة قسريا (مليونان وربع المليون) إلى صحراء النقب جنوب فلسطين المحتلة، حتى ينتهي من هدم أنفاق غزة، والقضاء على المقاومة الفلسطينية تماما! وذلك بعد رفض أهالي غزة مبدأ "الهجير" وإصرارهم على البقاء في أرضهم مفترشين الأرض، وملتحفين بالسماء!
* منع إدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة من معبر رفح (المصري- الفلسطيني) رغم افتقار أهالي غزة لأدنى مقومات الحياة.. فلا طعام، ولا ماء، ولا وقود، ولا دواء، ولا مشافي!
* النذر اليسير من المساعدات الذي يسمح العدو الصهيوني بدخوله إلى غزة، ولا يسد احتياجات واحد في المئة مما يلزم أهل غزة، يخضع للتفتيش من عناصر جيش الاحتلال الصهيوني على الأراضي المصرية!
* قام العدو الصهيوني بقصف معبر رفح، ومناطق أخرى داخل الحدود المصرية، عدة مرات، ولم يحرك ياسر جلال ساكنا، وحاول تسويق سكوته المطبق للمصريين على أنه نوع من "الحكمة" و"ضبط النفس"، و"حرص مصر على عدم توسيع دائرة الحرب"!
* علل وزير الخارجية المصري سامح شكري، منع مصر دخول الشاحنات المحملة بالمساعدات الإنسانية، من الجانب المصري إلى غزة، أثناء العدوان، بأن "إسرائيل" هددت مصر بقصف هذه الشاحنات! (قارن هذا الموقف مع موقف الرئيس الشهيد محمد مرسي).
* غض الطرف من قِبل ياسر جلال عن الابتزاز الذي يمارسه الضباط المصريون على معبر رفح بحق أهالي غزة الراغبين في السفر للعلاج، فقد وصلت قيمة "رشوة العبور" عشرة آلاف دولار، عن الفرد الواحد، وذلك بشهادة العديد من الشهود.
* التزم ياسر جلال الصمت، ولم يرد على محامي الكيان الصهيوني أمام محكمة العدل الدولية، بأن مصر (وليس إسرائيل) هي التي تمنع دخول المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزة، ذلك لأن معبر رفح يخضع للسيادة المصرية بالكامل! وبذلك تكون مصر (قانونيا أمام العالم والتاريخ) شريكة (بالفعل وليس بالقول فقط) في جريمة "الإبادة الجماعية" التي يتعرض لها أهل غزة!
* التزم ياسر جلال الصمت (أيضا) إزاء إعلان العدو الصهيوني احتلال "محور فيلادلفيا"، وهو الشريط الحدودي العازل بين سيناء (مصر) وقطاع غزة؛ ليُحكم العدو حصاره على قطاع غزة برا وبحرا وجوا، ويحيط به إحاطة السوار بالمعصم، ويصبح معبر رفح، معبرا "مصريا- إسرائيليا"! وقد برر ذلك بعض العسكريين المصرين المتقاعدين المرتزقة بأن معاهدة "كامب ديفيد" تسمح بذلك، إذا وافقت مصر، ويجب أن توافق مصر؛ لأن إسرائيل وافقت لمصر في أوقات سابقة على اتخاذ إجراءات لا تسمح بها كامب ديفيد.. وعليه.. تكون هذه بتلك!
* منع ياسر جلال أي مظهر من مظاهر دعم المقاومة الفلسطينية والتعاطف مع أهل غزة في الشارع المصري، وهو أمر لم يحدث مطلقا في عهد مبارك الذي شهد عدوان 2008/2009 على غزة!
* وأخيرا وليس آخرا، بدأ ياسر جلال في بناء سور خرساني تعلوه عدة طوابق من الأسلاك الشائكة، حتى ليبدو سور برلين (في عز الشيوعية) كما لو كان مجسما كرتونيا! ليه؟! كل دا ليه؟!
هذا غيض من فيض لمظاهر الشراكة والتنسيق الكاملين بين ياسر جلال والعدو الصهيوني على غزة، وأهلها ومقاومتها، وكلها "جرائم" لا تسقط بالتقادم؛ كونها تتراوح بين "الخيانة العظمى"، و"جرائم الحرب"، و"الإبادة الجماعية"..
هذا هو سلوك ياسر جلال الذي انتحل صفة "الأخ الأكبر والأضخم والأطول" باستعارتها من ممثل يتمتع بها؛ ليرتكب كل هذه الجرائم مجتمعة وأكثر، تحت ستار "العقل" و"الحكمة" و"الصبر"!
وليعلم المصريون أن كل من سكت أو رضي عن هذا السلوك المشين لياسر جلال، فهو شريك له في كل هذا الجرائم بسكوته ورضاه، ولتلك "الشراكة" عواقب وخيمة في الدنيا والآخرة..
فانتظروا إنَّا منتظرون.
twitter.com/AAAzizMisr
aaaziz.com
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه مصر غزة السيسي الإبادة الجماعية حصاره مصر السيسي غزة حصار الإبادة الجماعية مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة العدو الصهیونی الصهیونی على یاسر جلال أهالی غزة معبر رفح قطاع غزة التی کان أهل غزة على غزة
إقرأ أيضاً:
في الذكرى الـ 20 لرحيل ياسر عرفات: سيرة الشخص في سيرة الجماعة
لا يستطيع مقال قصير كهذا أن يحيط بسيرة ياسر عرفات من الولادة حتى الشهادة، تلك مهمة صعبة حتى لو كُرِّست من أجلها فصول كتاب كامل. بل لعلي أذهب إلى أبعد من ذلك لأضيف بأن حكاية الرجل لم تكتب كاملة بعد، رغم العناوين الكثيرة للكتب والدراسات التي راودت اسمه دون أن تجمع جميع شوارده فـي أوراقها. وذلك هو ديدن ياسر عرفات، يواصله حتى فـي تاريخه المستمر بعد الموت كما كان معروفا فـي حياته؛ فما زال يتملص من قفص الراوي ليجعل كتابة الحكاية أكثر صعوبة أو شبه مستحيلة، وتشرد خطاه عن تنبؤات الآخرين، الأصدقاء قبل الأعداء، ليبقي خطوته الأخيرة سرا، ويقول كما كان يقول دائما: «أنا مش لحدا».
لم تكتب حكايته الكاملة لأن الحكاية لم تصل إلى نهايتها بعد، كما هي حكاية شعبه المفتوحة لكل المصاير والنبوءات حتى اللحظة، هكذا بكل ما فـي البساطة من تعقيد حين يختلط الخاص بالعام. وهو مَن أشرف بنفسه على صناعة هذا التداخل المركَّب، حين أصرَّ لنحو أربعين عاما على مزج سيرة الشخص فـي سيرة الجماعة، والعكس، بطريقة أبوية سَمحة أحيانا وسلطوية أحيانا، قرَّبته من قلوب الناس وأورثت الكثير الكثير من الأخطاء. لن تفهموني إلا بعد أن تفهموا شعبي، هكذا أراد أن يقول للعالم، أكتب حكايتهم وسيكتبون حكايتي. أراد أن يقول بأن حكايته الشخصية تتعذر على كتَّاب سيرته طالما أن حكاية شعبه لم تكتمل، وأن الفصل بينهما خطأ تاريخي. وهو بذلك يوصلنا إلى سؤال إلياس خوري فـي مقدمة كتابه الأخير عن النكبة: «كيف نقرأ كتابا ونحن نعلم أنه لمَّا يصل إلى نهايته بعد؟». فكيف نكتب سيرة ياسر عرفات قبل أن تنتهي قضيته؟!
لقَّبه الفلسطينيون بـ«الختيار». أعلنوه أبا لشعبٍ يتيم الأرض فما أشق أبوة الأيتام! لكن عرفات، المولع بالرمزيات، وجد فـي اللقب شرعية سياسية ترفعه على الأكتاف وتمنحه - عن ثقةٍ ورضى- صلاحيات كبير العائلة الذي ليس لأحد أن يسائله عن خطأ «تكتيكي» هنا أو هناك. كان يتباهى أمام الصحفـيين بقدرته على طيّ كوفـيته على شكل خريطة فلسطين فوق بذلة الكاكي العسكرية. ويتباهى أحيانا بكونه هو الآخر لاجئا لا يختلف حاله كثيرا عن حال سائر أبناء شعبه. متقشف بشهادة من عرفوه عن قرب، حاجاته كانت معدودة كحاجات أي مقاتلٍ عادي من مقاتلي الأغوار.
كان شديد الانتباه للتفاصيل، ميزةٌ قد تبدو غريبة بعض الشيء على رجل عُرفت حياته السياسية بالفوضى. لكنه كان يدوِّن كل شيء فـي دفتره الصغير، الأمر الذي جعل إيهود باراك يخاف من الانفراد به فـي كامب ديفـيد سنة 2000، كما قيل. حكى ممدوح النوفل بأن الختيار ظل يستهلك يوميا قلم حبر كامل فـي توقيع الأوراق وكتابة مذكراته وملاحظاته قبل النوم، وكان يفتخر بذلك. كل تلك المعاني والرمزيات كانت كنز أبي عمَّار وخلاصة أيقونته فـي وجدان الناس، وكان يعي ذلك. كان يعي أهمية الصورة وخطورتها فـي الذاكرة الجمعية، خاصة وقد أدرك أنه بات رمزا لوطنٍ رمزي بلا دولة.
عُرف أبو عمَّار بميله الدائم للتواصل. وللمرء أن يعجب كيف ومتى تسنى لزعيم مثله أن يوزع كل تلك الذكريات الشخصية الصغيرة على الآلاف وربما الملايين من أبناء شعبه؟! تسألُ عنه فلسطينيين وفلسطينيات من مختلف الشرائح فـيتذكرون ويَتذكَّرن قبلة أو عناقا أو كلمة أو موقفا عابرا. ولم تكن العزلة والحصار إلا عقابا نهائيا فرضه عليه شارون بتواطؤ من الإدارة الأمريكية لتعطيل حيويته السياسية، تمهيدا لتصفـيته الجسدية.
فـي فن العلاقات وإدارة الخصومات السياسية كان لياسر عرفات أسلوبه الخاص الذي سرعان ما يتجلى عندما يتأزم الجو وتضيق الخيارات. و«العرفاتية» فـي الأزمات تعني أن يفتح جميع النوافذ للرياح وينتظر النتائج، دون أن يقفل الخط نهائيا مع أحد، مهما بلغت درجة الخصومة، فمن مصلحة القائد أن ينوّع باقة خياراته قبل أن يختار الذهاب إلى أقلها سوءا. غير أن كثيرين ممن تعاملوا معه وصفوا سلوكه السياسي بالبراغماتية المراوغة والماكرة التي لا تخلو من الانتهازية المنفّرة فـي بعض الأحيان. حسنا، وبصرف النظر عن مبعث تلك النوازع النفسية الدفـينة المرتبطة بالتكوين والطفولة غالبا، والتي من الأصلح تركها للمحللين النفسيين، لا بدَّ من القول إنصافا بأن تلك «التشوهات» قد ظهرت على السطح مع الوقت كنتاج لممارسة السياسة فـي بيئة سياسية عربية مشوهة أصلا، قائمة على العلاقات المؤذية والاستغلالية التي تدار بالشك والارتياب وغياب المصداقية، وخاصة فـي العلاقة مع الأنظمة العربية وقياداتها وما بينها من دسائس ومؤامرات.
منذ أن ترك الهندسة والتحق بالعمل السياسي وجد ياسر عرفات نفسه مع شعبه مطرودا من منفى إلى آخر. لقد كان مبدعا فـي فن التكتيك لا فـي الاستراتيجية، كما وصفه المناضل الأسير مروان البرغوثي. لذا حام على الوطن ودار على مدى عقود، وسقط رفاقه واحدا تلو الآخر فـي دورته تلك حول أرض الوطن المسيج بالأعداء، إلى أن وجد شقا صغيرا يدخل منه إلى فلسطين عقب توقيع اتفاقية أوسلو فـي 13 سبتمبر عام 1993. لم يكن ذلك ما تمناه حين أطلق شرارة الثورة عام 1965 على مرأى من عيون الزعيم الراحل جمال عبد الناصر. لكنه عاد، عاد إلى شبر من فلسطين حيث سيبني دولته الممسوخة. وسرعان ما اكتشف فخ العودة فعاد إلى ثوريته منقلبا على أوسلو بإعلانه الانتفاضة الثانية من الداخل هذه المرة. قاد الانتفاضة وحمى نشطاءها فـي مقاطعته الضيقة التي حولتها الدبابات الإسرائيلية إلى أطلال. وصنع مشهده الأخير بعبارته الأخيرة على قناة الجزيرة: «شهيدا، شهيدا، شهيدا».
فـي الذكرى العشرين لرحيل ياسر عرفات: أتمنى أن يُنصفه التاريخ، وأن يرحمه قليلا من ألسنة وأقلام من يقرأون عبرة الأحداث والأيام بحسابات النتائج والأرقام وكأن التاريخ لديهم محض مسألة رياضية!