مرّت الآن 100 يوم على العملية البطولية للمقاومة في السابع من أكتوبر، وكذلك العدوان الصهيوني الفاشي على شعبنا الفلسطيني. بالتأكيد، الكثيرون – في فلسطين وخارجها، من محبّي شعبنا ومقاومته ومن خصومه وأعدائه – سيحاولون الإجابة عن أسئلة كثيرة طُرحت منذ السابع من أكتوبر، مثل: شرعية العملية ودوافعها، وماذا أنجزت وتداعياتها؟ وعن رد الفعل الصهيوني وأهدافه وماذا أنجز ومآلات هذه المعركة على جميع الأطراف، بمن فيها أطرافٌ داخل فلسطين وخارجها، في الإقليم، وعلى مستوى العالم.
وهنا في هذا المقال نحاول الإجابة عن بعض هذه الأسئلة، وإن كانت هذه المحطة التاريخية والمفصلية ستبقى محل نقاش ودراسة لدى الأصدقاء والأعداء لأعوام وعقود قادمة.
محاولات تجاوز الفلسطينيينبدايةً، نؤكد أن كل مَن تواصل مع قيادة حركة حماس قبل "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر من السياسيين والدبلوماسيين والوسطاء والإعلاميين سمعوا كلامًا واضحًا لا لبسَ فيه، أنَّ الانفجار قادم لا محالة، والأمر مسألة وقت فقط، إذا استمرّت هذه الحكومة الصهيونية الفاشية في سياساتها، والتي بُنيت على خُطة معتمدة منذ عدّة سنوات، تقوم على "حسم الصراع" بشكل نهائي لصالح العدوّ، وأنّ هذا الانفجار قد يتجاوز حدود فلسطين، في ظلّ إصرار هذه الحكومة الفاشية على تحويل الصراع من صراع سياسي حول الدولة والعودة وتقرير المصير، إلى صراع ديني يستند إلى خرافات توراتيَّة وتلموديَّة في حقهم في الأرض والمقدسات. أهم بنود سياسة هذه الحكومة لحسم الصراع يتلخص في التالي:
1- خطوات عملية ومتسارعة للسيطرة على المسجد الأقصى على طريق هدمه وبناء الهيكل.
2- تهويد المدينة المقدسة وطرد الفلسطينيين من بيوتهم وأرضهم.
3- ضمّ الضفة الغربية (كليًا أو جزئيًا) للكيان عمليًا وقانونيًا.
4- الاستمرار في التنكيل بالأسرى الفلسطينيين في ظلّ السياسية التي يحاول تثبيتها وزير الأمن الصهيوني الإرهابي بن غفير.
5- الاستمرار في حصار غزة وعزلها وتحويلها إلى أكبر سجن مفتوح أو إلى "معسكر اعتقال" (حسب وصف بعض المؤرّخين الصهاينة أنفسهم) على غرار معسكرات الاعتقال النازيّة.
6- محاولات العدو- وبغطاء أميركي ممتد- إقناعَ الجميع بإمكانية تجاوز الفلسطينيين وحقوقهم والذهاب مباشرة لتطبيع العلاقات مع الدول العربية والإسلامية، والانفتاح على المنطقة وإعادة هندستها على المقاس الصهيو- أميركي، دون حلّ الصراع، واعتبار قضية الفلسطينيين شأنًا داخليًا صهيونيًا سيتدبّرون أمره بأنفسهم.
خطوة استباقيةكل هذا تمّ تبليغه للجميع، ولكنهم صمّوا آذانهم، إمّا على اعتبار أن هذه تهديدات فارغة لا تستند إلى أي قدرات حقيقية على الأرض، أو أنهم تبنّوا الرواية الصهيونية والتي مفادها أن حماس "مردوعة"، وهمها الأساس الآن هو تثبيت حكمها وسيطرتها في غزة، أو أنهم أسكرهم خمر القوة الصهيونية عن رؤية أي تهديدات ماثلة أمام أعينهم.
جاء "طوفان الأقصى" – بقيادة حركة حماس وبقية فصائل المقاومة – استشعارًا للخطر الداهم على قضيتنا الوطنية، وكذلك لحالة اللامبالاة الإقليمية والدولية بفلسطين وشعبها، ومخططات العدو وتداعياتها الخطيرة، فلولا هذه الخطوة الاستباقية المباركة لأصبحت القضية الفلسطينية نسيًا منسيًا، ولتحدث الجميع عنها كما نتحدث اليوم عن الأندلس وأمجاد العرب هناك.
الآن بعد 100 يوم على بداية المعركة هل حققت المعركة أهدافها المنشودة؟
يمكن الحديث هنا عن مرحلتَين؛ الأولى: بدأت وانتهت في السابع من أكتوبر، والثانية: ما تلاها من عدوان صهيوني على غزة وما زال مستمرًا.
بالنسبة للمرحلة الأولى يوم السابع من أكتوبر، فقد حققت أهدافها بالكامل، حيث أسقطت نظرية الجيش الذي لا يقهر، والاستخبارات صاحبة اليد الطويلة، والتي تعلم كل شيء عما يجري ليس في غزة فقط بل في الإقليم برمّته وخارجه، ويمكن أن تضرب في كل زوايا المعمورة، وكل هذا على أيدي ثُلة من الرجال بإمكانات بسيطة ومحدودة، ولكنهم يملكون إيمانًا صلبًا وبأسًا شديدًا. إلى جانب ذلك، فقد أسقطت هذه العملية نظرية أن الكيان الصهيوني هو المكان الآمن لكل يهودي يفتقد الأمن في وطنه الأصلي، والأهم أنها أثبتت الهشاشة الوجودية لهذا الكيان وإمكانية زواله.
مقاومة مبدعة وباسلةأمَّا المرحلة الثانية منذ بداية العدوان وحتى تاريخه، فقد دفع فيها شعبنا الفلسطيني أثمانًا غالية جدًا تفوق قدرة البشر على الاحتمال. ولكن بما يملك من إيمان عميق بمعية الله ورسوخ قدمه في حقه في وطن حر وكريم، وإلى جانب ذلك مقاومة باسلة ومبدعة فاجأت كل المراقبين: الأصدقاء والأعداء على حد سواء، كل هذا أفشل مخططات العدوّ، وأسقط أهدافه المعلنة، بتحطيم المقاومة، وتهجير سكان القطاع، واستعادة الأسرى.
فالجميع يرى- بشكل واضح بعد 100 يوم من العدوان- أن قيادة المقاومة ما زالت تُحكم السيطرة على الميدان، وتدير المشهد بكل اقتدار وإبداع، وما زال العدو يتلقى الضربات الموجعة من المقاومة، التي حطمت صورة جيشه في يوم السابع من أكتوبر، وعمَّقت هذه الهزيمة لجيشه على مدار أكثر من 100 يوم، فرغم كل الأهوال التي أسقطها على شعبنا، وخاصة في الأيام الأولى، فإنه لم يفلح في كسر إرادته وتمسكه بأرضه، وبقي شعبنا متشبثًا بوطنه رغم الألم والمعاناة، وقدم نموذجًا في الصمود الأسطوري أذهل الناس جميعًا حول العالم.
أما فيما يتعلق بالأسرى، فقد حاول بكل السبل الاستخباراتية والمدد التكنولوجي من الشرق والغرب أن يعرف أماكن احتجازهم ليستنقذهم، ففشل في كل محاولاته، بل قتل الأسرى ومن جاء لإنقاذهم، ولم يعد أيٌّ من الأسرى إلى أهله إلا بشروط المقاومة وحسب أجندتها.
إذًا فإن شعبنا ومقاومته، حتى اللحظة، حققوا هزيمة مدوية للعدو الصهيوني في السابع من أكتوبر وما تلاها من أيام ملؤها البطولة والصمود والفداء، وسطروا ملاحم سترويها الأجيال؛ لتتعلم منها الشعوب كيف تصنع الأمجاد، وكيف تنجز الحرية، وكيف تتحقق الكرامة.
استعادة النضال الوطنيالسؤال الجوهري الآن: بعد 100 يوم من المعركة ماذا بعدُ؟
نحن ما زلنا في خضم معركة شرسة وعلى كل المستويات، وقد يكون من المبكر استخلاص النتائج، ولكن كل المؤشرات تشير في اتجاه واحد، أن ما بعد 7 أكتوبر لن يكون كما كان قبل 7 أكتوبر، بالمعايير الإستراتيجية للصراع، لصالح شعبنا الفلسطيني وقضيته العادلة، سواء على المستوى الوطني أو الإقليمي أو الدولي، وكذلك على مستوى العدو ومستقبله.
فعلى المستوى الوطني، فقد استعاد شعبنا عافيته بالمعنى النضالي الوطني، وثقته بقدرته على تجاوز واقع أوسلو المشين وتداعياته الكارثية، والأهم أن إمكانية التحرير والعودة وهزيمة العدو وتفكيك مشروعه أصبحت ممكنة، بل وممكنة جدًا، وقدَّم 7 أكتوبر في هذا السياق نموذجًا مصغرًا لمعركة التحرير الأخيرة وزوال الاحتلال الصهيوني.
وفي هذا السياق فإن 7 أكتوبر وضع حدًا فاصلًا بين مرحلتَين قياديتَين للمشروع الوطني الفلسطيني، فبعد 7 أكتوبر لم يعد مقبولًا أن تبقى قيادة – (أشخاصًا وموضوعًا) فشلَ مشروعها السياسي وبامتياز وأورثنا الكوارث والأوبئة الوطنية- تتصدر المشهد وتدّعي الشرعية، وكأنها قدر الشعب الفلسطيني الذي لا فرارَ منه. أعتقد أنَّ شعبنا الفلسطيني- وفي كل مواقع تواجده، وخاصة في غزة- عبّر عن رأيه بكل قوة ووضوح، وعمّد هذا الموقف بالدماء والأشلاء، بأن خياره الوحيد هو المقاومة حتى التحرير والعودة، وكل استطلاعات الرأي التي أُجريت بعد العدوان ثبّتت هذه الحقيقة، وبنسب غير مسبوقة في تاريخ الصراع.
تداعيات جوهريةوعليه فنحن بحاجة إلى فتح صفحة جديدة على مستوى العلاقات الوطنية، تبني على مخرجات المعركة وتعيد بناء البيت الفلسطيني في ظل ما رسّخته هذه المعركة من قيم ومعادلات، وأهم خطوة في هذا الاتجاه هي بناء المؤسسة السياسية الفلسطينية، وكتابة المشروع الوطني الفلسطيني؛ ليعكس التغييرات التي حدثت خلال العقود الأخيرة، بحيث تصبح ممثلة حقيقةً لتطلعات شعبنا وطموحاته وتضحياته وتجرِبته السياسية، وخاصة تجربة أوسلو الكارثية.
أما على المستوى الإقليمي، فإن معركة "طوفان الأقصى" كان لها تداعيات جوهرية وإستراتيجية في هذه المساحة، ولعل أهمها أنها عطلت مشروع "التطبيع" الكارثي، الذي كان سينتهي قطعًا بشطب القضية الفلسطينية، وأكدت لكل من توهّم بأن يستنجد بهذا الكيان لنصرته وحمايته، أنه هشّ وأضعف من أن يحمي نفسه، وبنت هذه المعركة جُدرانًا عالية، من الدماء والأشلاء، بين الإقليم وشعوبه من جهة، وهذا الكيان وإمكانات دمجه في الإقليم من جهة أخرى، حتى لو حاول البعض إعادة الكَرّة مرة ثانية.
البعد الثاني على المستوى الإقليمي، فإنّ هذه الجولة المباركة أحيت في الشعوب ما كاد يموت بفعل سنوات عجاف مرّت بها المنطقة، أحيت فيها الأمل الكبير بإمكانات التحرير والعودة وعودة المقدسات إلى حِضْن الأمة.
تجولنا في عدد من الدول العربية والإسلامية في هذه الفترة بعد العدوان، وقابلنا العديد من الشعوب والجماعات، ولمسنا كيف ينتشي أبناء الأمة وبناتها فخرًا واعتزازًا بما قام به المجاهدون في السابع من أكتوبر، وشاهدنا العيون تذرف دموع الفرح؛ لأنهم عاشوا هذا اليوم الذي تجددت فيه أمجاد الأمة وقدرتها على الفعل، بعدما يئست الأمة من ذلك بعد عقود من الهزائم المتتالية.
أمّا الأمر الثاني فيما يتعلق بالإقليم، فإن غزة قدمت نموذجًا استثنائيًا للمبادرة والفعل، بل صناعة المستحيل، رغم التحديات والمعيقات، فإذا كانت غزة المحاصرة تمكّنت من فعل ذلك، فلماذا لا يمكننا نحن- في ربوع هذا الوطن الكبير- أن نفعله ونكرر التجربة؟.
قطعًا، سيكون لهذه المعركة المجيدة في فلسطين تداعياتها الجوهرية على نظرة الشعوب لذاتها وقدرتها على الفعل وإمكانات التغيير، بعد أن أصبحت المقاومة ورجالاتها وأفعالها أيقونات لكل مكونات الأمة، بغض النظر عن توجهاتهم السياسية أو مواقعهم الجغرافية. الأمة اليوم تبحث كيف يمكن أن تصبح شريكة مباشرة في معركة التحرير وليس مناصرًا أو مساندًا سلبيًا فقط. للأسف الشديد فإن الأداء الرسمي في هذه المواجهة الدموية والشرسة كان بعيدًا جدًا عن عواطف وتطلعات الأمة وشعوبها، وبعيدًا عن مستوى المسؤولية التاريخية تجاه قضية الأمة المركزية؛ قضية فلسطين.
مشروع خبيثأمّا على المستوى الدولي، فإن الاختراق كان كبيرًا وإستراتيجيًا. وتقديري لا رجعة فيه. فأولًا أصبحت القضية الفلسطينية – بعد محاولات شطبها ودفنها من الصهاينة وحلفائهم – قضيةَ مئات الملايين من البشر حول العالم، وبشكل شخصي للكثير منهم.
اكتشف ملايين من البشر حول العالم كيف أنهم كانوا مضللين فيما يتعلق بالرواية حول الصراع، وتهافتت الأسطورة الصهيونية بشكل مدوٍّ، وشاهد العالم مباشرة حقيقة هذا المشروع العنصري الفاشي، على غير ما يدّعيه من أنه يمثل الغرب وقيمه المتعلقة بالحرية والديمقراطية، واحترام حقوق الإنسان، فإذا به وحش ضارٍ دموي، يمثل دور الضحية ويبتزّ البشرية لعقود تحت مسميات مختلفة.
تَظهر أهمية هذا التحول في الرواية والسردية، في أن الكيان يستند في بقائه لسببين رئيسيين؛ الأول: قوته المادية، بأشكالها المختلفة على الأرض، مدعومة من التحالف الغربي الإمبريالي، والثاني: هو الدعم الدولي في مشروعية الكيان وبقائه مستندًا إلى لعب دور الضحية التاريخية الحصرية، وتمثيله قيمَ الغرب وحضارته. أما العنصر الأول، فقد تكفل به شعبنا ومقاومته، وأما الثاني، فقد انهار وبشكل مدوٍ بعد معركة 7 أكتوبر المجيدة.
أما على المستوى الدولي الرسمي، فما زالت المعركة في بدايتها، لاسيما أن من أسس هذا المشروع الخبيث وبناه ورعاه لعقود – في إطار المصالح المتبادلة بين الحركة الصهيونية والقوى الإمبريالية – هبّ لنجدته، عندما شعر أنه أوشك على الانهيار تحت ضربات المقاومة وغير قادر على الاستجابة للتهديد الإستراتيجي الذي يحيط به.
الهروب إلى الأمامولكن في هذه المساحة فعلى الأقل يمكن أن نرصد تحولات مهمة، حيث أدركَ كثيرٌ من الدول أن إمكانية شطب القضية الفلسطينية وتجاوز الفلسطينيين غير ممكن، وأنه لن ينعم أحدٌ بالأمن والاستقرار في المنطقة وخارجها دون حل الصراع وإنجاز الحقوق الفلسطينية الأصيلة.
أما بالنسبة للعدو وكيانه فإن هذه المعركةَ المباركةَ – إلى جانب كل التداعيات التي ذكرناها في ثنايا هذا المقال في المساحات الأخرى، والتي ستكون لها تداعيات مباشرة عليه – عمّقت حالة الانقسام الشديدة التي عاشها الكيان في السنوات الأخيرة، سواء على المستوى السياسي أو الاجتماعي أو الأيديولوجي، إلى درجة أن استمرار المعركة أحد أهم أسبابه هو محاولات القيادة الهروب إلى الأمام؛ خوفًا من اليوم التالي للمعركة وإمكانات الانهيار الكبير.
الأهم أنّ هذه الضربة الإستراتيجية أفقدت الجمهور ثقته بقيادته السياسية والأمنية والعسكرية، وقدرتهم على قيادة الدولة، وتوفير الأمن أو الحماية لمواطنيهم، هذا إلى جانب الانكشاف الإستراتيجي للكيان على المستويَين: الفردي والجماعي.
المقاومة وقيادتها ما زالت تمسك بمقود إدارة المعركة وتدرك جيدًا استحقاقات ذلك سواء على المستوى الميداني أو على المستوى السياسي. فعلى المستوى الميداني فما زال أمامنا شوطٌ لكسر أنف هذا الاحتلال وإجباره على وقف العدوان ومغادرة قطاعنا الحبيب يجرُّ أذيال الهزيمة والخزي، وفي الوقت نفسه العمل بكل جهد وطاقة لإغاثة شعبنا والتخفيف من تداعيات المأساة الإنسانية.
وعلى المستوى السياسي، فإن البعض يحاول إرجاعنا إلى السياقات السياسية لما قبل 7 أكتوبر، وقطعًا لن تقبل المقاومة ولن يقبل شعبنا بمعادلات وسياقات ما قبل المعركة، أو مخرجات لا تليق بتضحيات شعبنا والأثمان الكبيرة والعزيزة التي دفعها، وكذلك في سياق ما تعرض له العدوّ من ضربات قوية خلخلت كيانه وأفقدته توازنه وأضعفت بشكل جوهري امتداداته الدولية.
وهنا قد يكون مفيدًا الإشارة إلى أن رؤية المقاومة في هذه المرحلة – والتي تتحدث فيها للدول والوسطاء – هدفها الأساس هو وقف العدوان بشكل فوري وشامل، وانسحاب قوات الاحتلال من كل قطاع غزة وإغاثة شعبنا بما يوقف هذه الكارثة الإنسانية التي خلقها العدوان، وأيّ مقترحات أو مشاريع لا تحقق هذَين الهدفين بشكل فوري كخطوة أولى لن تُقبل ولن يُكتب لها النجاح.
وبعد ذلك يمكن أن تنطلق عملية ميدانية سياسية متوسطة وطويلة الأمد، قد تبدأ بعملية تبادل للأسرى وتمرّ برفع الحصار وإعمار ما دمره الاحتلال، ومن ثم إعادة ترتيب البيت الفلسطيني على أسس جديدة تعيد الاعتبار للمشروع الوطني الأصيل، تنتهي بعملية سياسية تؤدي إلى التخلص من الاحتلال الصهيوني وإنفاذ حقّ تقرير المصير للشعب الفلسطيني، وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس، وعودة اللاجئين وَفق القرارات الدولية ذات العلاقة.
استعادة زمام المبادرةعملية "طوفان الأقصى" شكلت لحظة فارقة وفرصة إستراتيجية، ليس لشعبنا فقط، بل لأمّتنا العربية والإسلامية، لتنهض من كبوتها وتستعيد زمام المبادرة الحضاري، وتقديم نموذجٍ مختلفٍ لإدارة الشأن الإنساني عامة، بعدما فشل الغرب وقيادته ومنظوماته في حماية الإنسانية من الفاشية والعنصرية وتداعياتها الكارثية على البشرية. هذه الفرصة لا يجوز أن تفلت من بين أيدينا وإلّا قد ننتظر- لا سمح الله- عقودًا حتى تتكرر لحظة مشابهة.
يجب أن تتحول هذه المعركة إلى منصة انطلاقة جديدة لشعبنا وقضيته العادلة، ولأمتنا ومستقبلها، في ظل التحولات الدولية الكبرى التي نشهدها، بتراجع نظام القطب الأوحد إلى نظام متعدد الأقطاب أو الفاعلين، يتقدم فيه "الجنوب العالمي"- ونحن جزءٌ منه- ليحتلَّ مكانته التي تليق بشعوبه بعد أن تم استعماره واستعباده ونهب ثرواته وإقصائه لقرون.
aj-logoaj-logoaj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلاميةالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: فی السابع من أکتوبر القضیة الفلسطینیة شعبنا الفلسطینی طوفان الأقصى هذه المعرکة على المستوى إلى جانب یمکن أن فی هذه فی هذا
إقرأ أيضاً:
قراءة مختلفة لـنظام التفاهة بعد طوفان الأقصى
رغم أهمية الأطروحات التي أوردها الفيلسوف الكندي آلان دونو في كتاب "نظام التفاهة" (2015)، فإننا نرى أن النقد الجذري الذي يمكن أن يوجه لهذا الكتاب المرجعي -في مستوى "اللامفكر فيه" بخيار شخصي من المؤلف، أو "ما يُمنع التفكير فيه" بحكم هيمنة اللوبي الصهيوني على الجامعات والإعلام- هو علاقة "نظام التفاهة" بما أسميناه بـ"الإمبريالية في مرحلتها المتصهينة".
فسيطرة "التافهين" على مفاصل السلطة ومراكز إنتاج القرار وعلى أدوات توجيه الرأي العام لا تعكس البنية العميقة للنظام العالمي، وليست مجرد مصادفة أو رمية من غير رام. ونحن نذهب إلى أن ما أسماه الكاتب بـ"نظام التفاهة" هو مجرد سطح أو هو أثر مقصود لاستراتيجية "عقلانية" بالغة التعقيد والقوة، ماديا وفكريا. وهي استراتيجية مُعولمة تجعل من الصعب على أي تفكير -بما في ذلك التفكير المعادي للصهيونية- أن يُفكر خارج سقفها إلا عند توفر شروط "إيمانية" وفكرية ومراجعات جذرية مؤلمة؛ تتحقق فيها معاني الكتابة المقاومة باعتبارها النقيض الحقيقي للكتابات/السرديات المتصهينة.
خلافا لآلان دونو الذي يركز على السياقات الغربية لتأكيد مقولاته التحليلية، فإننا معنيون في هذا المقال بالمجال العربي الإسلامي باعتباره الحاضنة الأولى للمقاومة، بل باعتباره موضوع سلطة أولئك "التافهين" الذين يحكمون مراكز القرار الغربي عبر وكلاء يمكن وصفهم بأنهم "تافهون من الدرجة الثانية". فإذا كان "التافه" في الغرب ينتج "المعرفة" و"التقنية" وينتج أيضا النماذج التفسيرية (البراديغمات)، فإن صنيعته -أي "التافه" العربي أو المسلم- لا ينتج شيئا غير تقديس "التافه الأصلي" باعتباره مرجعا نهائيا للمعنى وخالقا أوحد للكلمات النهائية، أي تلك الكلمات التي ليس وراءها إلا الموت أو الجنون أو الصمت على حد عبارة أحد الفلاسفة. إذا كان "التافه" في الغرب ينتج "المعرفة" و"التقنية" وينتج أيضا النماذج التفسيرية (البراديغمات)، فإن صنيعته -أي "التافه" العربي أو المسلم- لا ينتج شيئا غير تقديس "التافه الأصلي" باعتباره مرجعا نهائيا للمعنى وخالقا أوحد للكلمات النهائية، أي تلك الكلمات التي ليس وراءها إلا الموت أو الجنون أو الصمت على حد عبارة أحد الفلاسفةولعل احتفاء أغلب النخب الجامعية و"المثقفين" و"الإعلاميين" بكتاب آلان دونو -رغم اعتباره مراكز البحث الغربية والجامعات الكبرى والصحافة أعمدة لنظام التفاهة- هو أكبر دليل على حالة البؤس التي تعيشها تلك النخب.
لقد قرأت النخب العربية "نظام التفاهة" باعتباره شأنا غربيا، أو باعتباره توصيفا عاما لا ينطبق عليهم بالضرورة. وإذا كان دونو نفسه يعلن صراحة أن "قطب الرحى في سيطرة التافهين على كل مفاصل الحياة المعاصرة يبدأ وينتهي بالميادين الأكاديمية" (بلال رامز بكري، مدونات الجزيرة)، فإن النخب الأكاديمية -من أساتذة وخبراء ومثقفين- لم يجدوا في هذه الملاحظة ما يدعو إلى التفكير في أدواتهم المعرفية وأدوارهم الاجتماعية. وعوض أن يكون الكتاب مناسبة لنقد الذات أو لمراجعة علاقتها بالمرجع الغربي "المتصهين"، تحوّل "نظام التفاهة" إلى أداة للتمركز حول الذات وتأكيد تناقضها مع "التافهين المحليين"، أي تناقضها مع عامة الشعب ومع كل المخالفين سياسيا وأيديولوجيا.
لم تكن صيحة الفزع التي أطلقها آلان دونو في كتابه كافيةً لإيقاظ أغلب النخب العربية من نرجسيتهم واستعلائهم المعرفي الكاذب المبني على التذيل المطلق لـ"مركز التفاهة المُعولمة". وإذا كان الفيلسوف الاسكتلندي دافيد هيوم قد أيقظ الفيلسوف الألماني كانط من سباته الدوغمائي، فإنّ دونو -من باب المفارقة- قد وفّر للنخب "الوظيفية" ترسانة نظرية لشرعنة سُباتها وتأبيد أساطيرها لإعادة إنتاج أدوارها التقليدية المضادة جوهريا للثورة والديمقراطية ولمشروع "الحكم معا"، والاعتراف المتبادل بين الإسلاميين والعلمانيين.
ومهما كانت الأسباب التي حالت بين دونو وبين الدفع بتحليلاته إلى تدبر العلاقة بين "نظام التفاهة" والصهيونية (أي إلى نقد الإمبريالية في لحظتها المتصهينة)، فإن طوفان الأقصى قد وفّر للنخب العربية والإسلامية مناسبة لفعل ذلك. فإذا لم تكن الصهيونية تاريخيا هي منبع "نظام التفاهة"، فإنها قد أصبحت قاطرته الأساسية وارتبطت معه بعلاقة تلازمية، خاصة بعد تأسيس الكيان. ولذلك لا يمكن لنا الآن-وهنا أن نفهم "نظام التفاهة" في الغرب أو في هوامشه الوظيفية التي تُسمى مجازا دولا وطنية إلا باستحضار تلك العلاقة.
لمّا همّش آلان دونو قضية العلاقة الانصهارية بين نظام التفاهة وبين الإمبريالية في لحظتها الحالية (أي لحظتها المتصهينة)، فإنه لم يطرح على نفسه البحث في الاستعارة الخفية أو التوليدية لذلك النظام "الدهري" (أي المعارض بالضرورة للتعالي وللغيبيات باعتبارها موجهات أساسية للتفكير وللسلوك). فإذا كانت الإمبريالية في لحظتها المريكانتلية (التجارية) وفي بداياتها الرأسمالية قد استندت إلى استعارات "إنجيلية" صريحة أو معلمنة بدرجات متفاوتة، فإن الإمبريالية في لحظتها المتصهينة محكومة أساسا باستعارات يهودية جلية أو خفية. ونحن نذهب إلى أن "عبادة العجل الذهبي" (المال، السلطة، الوجاهة الاجتماعية، الجنس.. الخ) ليست إلا الدين المرئي للإمبريالية المتصهينة عند الغوييم (غير اليهود)، أما الديانة الخفية لمن يتحكمون في هذه الإمبريالية فهي مرتكزة على "البقرة الحمراء" وما تحمله من دلالات قيامية في اليهودية أو المسيحية المتهوّدة (خاصة عند البرتستانت). وهو ما يعني أن الإمبريالية في لحظتها المتصهينة ليست سوى مشروع ديني لا يمكن أن يستويَ على سوقه إلا بعولمة نظام التفاهة (عبادة العجل الذهبي) وتسليط التوافه على "الغُوييم".
ونحن لا نعني بالتوافه هنا الأشخاص الطبيعيين فقط، بل نعني أيضا الأشخاص غير الطبيعيين (مثل الجمعيات والمنظمات المدنية والأحزاب، بل الأيديولوجيات والسرديات الكبرى).
إن "التفاهة" لا تحكم الفضاء العام ولا تهيمن على الوعي الجمعي بالأشخاص الطبيعيين مباشرةً، بل هي تحتاج إلى "أجسام وسيطة" ومؤسسات وسرديات وظيفية وأدوات دعاية. ولا شك في أن الصهيونية -عبر وكلائها المحليين الصرحاء أو عبر "التافهين" الذين يخدمونها بلا وعي- قد عملت منذ إنشاء الكيان -بل قبله- على الدفع بالتافهين إلى مركز القرار ومراكز إنتاج المعرفة عبر حلفائها في القوى الاستعمارية. ولا شك أيضا في أن هؤلاء "التافهين" قد حولوا كل الكلمات/القضايا الكبيرة (مثل العدالة، التحرر، التحديث، الديمقراطية، الوحدة العربية، الخلافة، المواطنة، الإسلام، حرية المرأة، المجتمع المدني، الأحزاب.. الخ) إلى كبائر في خدمة قضاياهم الصغرى، كما يقول المناضل الاجتماعي والمفكر الديكولونيالي التونسي الأمين البوعزيزي.
أكد الطوفان أن التوافه الأخطر على "الإسلام المقاوم" هم الطائفيون ومنتحلو التنوير والتحديث، وهو ما يعني ضرورة مراجعة علاقتنا بهاتين السرديتين. فإذا كانت السردية الطائفية تشدنا إلى البنية الاستبدادية الدينية وإلى شيوخ السلاطين باعتبارهم الآلة الأيديولوجية لتأبيد الظلم والتخلف والتبعية، فإن السردية التنويرية تشدنا إلى البنية الاستبدادية المُعلمنة وإلى عبادة العقل الغربي
ونحن نعني هنا بالقضايا الصغرى تلك القضايا التي تفيض عن المصلحة الشخصية لأصحابها لتشمل مصلحة الطائفة أو التنظيم أو الجهة أو الفئة المهنية (الجيش مثلا)، أي كل شبكات الرعاية المتبادلة التي تُشرعن امتيازاتها بنسق حجاجي زائف مداره "المصلحة الوطنية العليا".
إذا صحّ لنا اعتبار "طوفان الأقصى" مدخلا للاستبدال العظيم في مستوى الأشخاص والسرديات والكيانات -وهو أمر مؤكدٌ كيما كانت مخرجات الصراع الحالي بين الكيان وجناحي المقاومة أو الإسلام المقاوم- فإن أوكد معاني الاستبدال هو تغيير ما بالعقول والقلوب، أي تغيير ما في أنفسنا بالمصطلح القرآني. لقد أكد الطوفان أن التوافه الأخطر على "الإسلام المقاوم" هم الطائفيون ومنتحلو التنوير والتحديث، وهو ما يعني ضرورة مراجعة علاقتنا بهاتين السرديتين. فإذا كانت السردية الطائفية تشدنا إلى البنية الاستبدادية الدينية وإلى شيوخ السلاطين باعتبارهم الآلة الأيديولوجية لتأبيد الظلم والتخلف والتبعية، فإن السردية التنويرية تشدنا إلى البنية الاستبدادية المُعلمنة وإلى عبادة العقل الغربي؛ باعتباره أداة ترسيخ الانقسام والتخلف والتراتبيات الاجتماعية المرتبطة وظيفيا بالمركز الغربي.
رغم أننا لا نعتبر "الإسلام المقاوم" إسلاما ما بعد الطائفي (رغم انفتاحه استراتيجيا على هذا الإمكان)، فإنه يطرح إجابة "ميدانية" من المفروض أن تدفعنا -نحن "التافهين من الدرجة الثانية"- إلى مراجعة علاقتنا بمقدساتنا الطائفية وأوهامنا الحداثية على حد سواء. ولكنها مراجعة تبدو مؤجلة عند أغلب "النخب" الطائفية والتنويرية التي ما زال سدنتها يرون أنفسهم خارج نظام التفاهة بل عدوه الأساسي. ولن نجانب الصواب إذا ما قلنا بأن "آلية الإنكار" قد حوّلت تلك "النخب" موضوعيا إلى أجسام وظيفية في خدمة الصهيونية "المستعربة"، بصرف النظر عن ادعاءات أصحابها ومزايداتهم على بعضهم بعضا.
x.com/adel_arabi21