إن كانت القصة التي سأحكيها لكم الآن ، قد سبق أن حكيتها لكم ، فإن في ذلك ما يعزى إلى رداءة التواصل الذي قد يفضي إلى ملهاة أو مأساة ، أو إلى خليط منهما . هكذا ، فإنه من المهم أن نُعلّم صغارنا قواعد اللغة الصحيحة : الفعل ، الفاعل ، المفعول به ، إذ أن عدم الإنضباط هنا ، قد يفضي إلى نهايات مفجعة .
ولنبدأ القصة :
* * * *
في أفريقيا ، زمن المجاعة ، أو بالأحرى زمن المجاعة في أفريقيا ، وأفريقيا التي في الذهن ، هي أفريقيا قبيلة "الكوكوا " .

إذ أن هذه الحكاية، لن يتسنى فهمها إلا في إطار قواعد لغة " الكوكـو" ، وأنّ النبات وكذا ثمره، لا يوجدا إلا في "كاجوكاجي"، من بلاد "الكوكوا". أما الحيوان الآخر في القصة ، فهو أيضا من ساكني "كاجوكاجي" .
هكذا فقد كان الزمن زمن مجاعة ، وكانت هنالك إمرأة ، لا نعرف لزوجها مكانا . لكن خلال المجاعات، فإنَّ الأمهات هنَّ اللائي يُعتمد عليهنّ . هنّ اللائي يتعلق بهنّ الأطفال . كان لهذه المرأة ، طفلة نحيلة، ولربما كانت تعاني من مرض "الكواشيركور" : انتفاخ البطن . رأس كبير وعينان جاحظتان . . يدان نحيفتان وساقان نحيلان . ولربما لا يكون الأمر كذلك . أنا لم أرها ، فقد جاءني خبرها سماعيا .
والقصة في فهمنا المتواضع ، هي إعادة سرد ما حدث من وقائع ، بحيث نهبها حياة ثانية أو ثالثة . . كإعادة سرد ، من طرف الذين شدتهم شاعريتها الرقيقة، وإبهارها للمثقف الذكي ، حين تترابط الوقائع لتشكل حدثاً محكيا . .
( . . . . )
وهكذا فقد وقع ذلك في زمن المجاعة في أفريقيا . كانت هنالك إمرأة لها طفلة ، بـ"كواشيركور" (نفاخ) ، أو بدونه . و لها أيضاً طفلة أخرى ، ترعى لها ذلك الكائن الصغير ذو البطن المنتفخ والذي في طريقه ليتكوّن بشراً سويا . . لنسمهِ "شبه إنسان" أو "شبه طفل". ما تذوّقوا طعاماً منذ يومين وليلتين متتاليتين . إستيقظوا مبكرين ذات صباح ، متجهين إلى مكان قصي . . ربما مسيرة ساعات خمسٍ أو ست ، بغرض الحصول على ثمار اللوز. لقشرته الخارجية الندية ، مذاق حلو ويسهل أكلها . وتجلب ثمار اللـوز ليعتصر منها الزيت . لم يبق لهم في هذه الحياة ، إلا جمع هذه الثمار . ( لم يكن ذلك دأب ربة الأسرة هذه وحدها ، بل كان دأب الناس يفعلون ما تفعل وفي كلِّ مكان . لم تعد السماء تمطر ، ولا الأرض تخرج ثمارها . ما بقيت إلا هذه الأشجار التي تعمّر لمئات السنين ، لا تبخل بثمارها ، برغم الجفاف المطبق ) .
ذهبوا إلى حيث شجرة اللوز، ذات الثمار اليانعة . وضعت الأم الطفلة ذات البطن المنتفخ ، ثم وضعت إلى جوارها السّلة ، التي ستجمع فيها الثمار. دعت طفلتها الأخرى، لأن تلتقط الثمار التي ستقذف بها إليها من فوق الشجرة . ثم تسلقتْ الأمُّ الشجرة ، وبدأت في قطع بضع ثمرات ، إلتهمتها في حينها لتطفيء حدة الجوع في أحشائها ، وذلك قبل أن تبدأ عملها في إسقاط الثمار لطفلتيها.
ثم بدأتْ تلقي بالثمار إلى الأرض ، وأخذت إبنتها تهرول هنا وهناك، لتجمع الثمار، بطول المساحة التي إمتلاءت بالأغصان المتساقطة وبالثمار . واستمر الحال على هذا المنوال . ولكن بعد مضي بعض الوقت ، لاحظت البنت ، أن رأس الطفلة – شبه الإنسان – بدأ في الإختفاء ، رويداً رويدا ، داخل شيء طويل ومنتفخ ، مثل جزع شجرة أملس مدهون . هرولت البنت إلى الجانب الذي يمكّنها من رؤية أمها وهي أعلى الشجرة . قالت لها :
- ماما . . " نا .. وي .. وي . ."
( أي : ماما . . إنها تبتلعها . . ! )
- ماذا . . ؟
- أقول لك ، "نا .. وي .. وي" : إنها تبتلعها . . !
- حسنا . . دعيها ، إذ لم تأكل شيئا منذ ليلة البارحة ، ومعدتها فارغة . . !
واحتارت البنت كيف تشرح لأمّها . ثم مضت تجمع المزيد من الثمار المتساقطة وتحملها إلى السّـلة . لكنها لاحظت هذه المرّة ، أن رأس الطفلة – شبه الإنسان – قد اختفى بأكمله ، وأن العنق الآن قد بدأ في الإختفاء أيضا . .
هرولت البنت ثانية إلى الناحية التي تمكّنها من رؤية أمها أعلى الشجرة . .
- أمي . . أمي ، إنها تبتلعها . !
- ولكني قلت لك ، دعيها تبتلع ، فقد كانت جائعة ونامت البارحة دون أن تأكل شــيئا . . !
ثم أخذت البنت تجمع المزيد من الثمار وتحملها إلى السلة . في هذه المرّة ، وجدت أن البطن المنتفخ ، أخذ في الإختفاء أيضا .
هرولت ثالثة ، إلى الناحية التي فيها أمها :
- أمي . . إنها حقيقة ، تبتلعـها . . !
- حسناً . . ما ذا بكِ . . ؟ لقد قلت لك دعيها ، فقد نامت البارحة بلا أكل . . هل أنت غبية ولا تفهمين ؟
وأخذت البنت تجمع المزيد من الثمار، ثم تحملها إلى السلة . وجدت هذه المرّة، أن كلّ ما تبقى من شقيقتها ، هما الساقان النحيلان . هرعت إلى أمها تنبئها بالخبر :
- أمي . . لقد أكملت ابتلاعها تماماً . . !
- حسناً . . هذا ما سيجعلها تحـيـا .
في نهاية المطاف ، نزلت الأم من أعلى اشجرة ، ولكنها لم ترَ طفلتها . .
- أين الطفــلة . . ؟
- إنها في داخل ذلك الشيء . .
- أي شيء تعنين . . ؟
وأومأت البنت إلى الشيء . صاحت الأم :
- لماذا لم تخبريني . . ؟
- لقد أخبرتك يا أمي أنها بدأت تبتلعها ، فقلت لي أن أدعها ، فهي لم تأكل ليـلـة البارحة . .
أما الثعبان ، الذي ربما لا يكون قد أكل شيئا البارحة ، فإنه قد بدأ الآن في هضـم الوجبة التي التهمها حـديثاً .
وهكذا ، إذا لم يُعلّم الآباء أبناءهم ، كيف يخاطبونهم بطريقة صحيحة، وإذا لم يتحقق الآباء ممّا يستغلق على صغارهم ، فإنهم سيحيلونهم طعاماً سائغاً لثعـابيـن جائعة .

إنتهت
نشرت في The Picador Book of African stories, Picador ,London,2000
ترجمت في مارس 2004 ، باذن خاص من المؤلف  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

ذياب بن محمد بن زايد: نستلهم من "يوم زايد للعمل الإنساني" القيم الإنسانية التي أسست لاستدامة العطاء الإماراتي

أكد الشيخ ذياب بن محمد بن زايد آل نهيان، نائب رئيس ديوان الرئاسة للشؤون التنموية وأسر الشهداء، رئيس مجلس الشؤون الإنسانية الدولية ورئيس مجلس أمناء مؤسسة إرث زايد الإنساني، أن "يوم زايد للعمل الإنساني" مناسبة نستلهم منها القيم الإنسانية الأصيلة التي غرسها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وأسست لاستدامة العطاء الإماراتي وأثره الإيجابي محلياً وعالمياً.

وقال الشيخ ذياب بن محمد بن زايد آل نهيان، إن تعزيز نهج زايد في العطاء الإنساني مسؤولية وطنية ومبدأ راسخ لدولة الإمارات وشعبها تتوارثه الأجيال جيلاً بعد جيل، في سبيل استمرار نهج الإمارات في مد يد العون وترسيخ قيم التعاون والتضامن مع مختلف المجتمعات في جميع أنحاء العالم.
وأضاف أن قيم التعاون والبذل والعطاء التي رسخها المغفور له الشيخ زايد، طيب الله ثراه، ألهمتنا من خلال تنفيذ الكثير من المبادرات والبرامج الإنسانية التي تقوم على التراحم والتعاون والتكافل وترسخ مبادئ العمل الخيري والتضامن الإنساني.
وأوضح أن دولة الإمارات، بقيادة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة، تواصل مسيرتها الإنسانية في مد يد العون إلى الفئات والمجتمعات المحتاجة في جميع مناطق العالم من خلال تضافر جهود الجهات الوطنية كمجلس الشؤون الإنسانية الدولية ومؤسسة إرث زايد الإنساني ووكالة الإمارات للمساعدات الدولية، لضمان إحداث تغييرات إيجابية مستدامة في حياة الفئات المستهدفة.
وأكد أن شعب الإمارات سيظل ينهل من قيم الشيخ زايد ونهجه الخيّر حيث سيبقى إرثه الإنساني منارة توجه مسيرة المساعدات الإماراتية، وتلهمنا لمواصلة أعمال الخير والعطاء وتعزيز قيم التعاضد والإخاء من أجل مستقبل أكثر تضامناً وإشراقاً للإنسانية جمعاء. الإمارات تحتفي غداً الأربعاء بيوم زايد للعمل الإنساني - موقع 24تحيي دولة الإمارات، غداً الأربعاء، "يوم زايد للعمل الإنساني" الذي يصادف 19 رمضان من كل عام الموافق لذكرى رحيل المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه.

 

 

 

مقالات مشابهة

  • إبراهيم فايق: موسم الرياض لا ينوي الحصول على حقوق رعاية أي فريق بالدوري المصري
  • شهادة معاملة أطفال الحلقة 20.. سما إبراهيم تكتشف خيانة صبري فواز وتقرر الانتقام
  • ذياب بن محمد بن زايد: نستلهم من "يوم زايد للعمل الإنساني" القيم الإنسانية التي أسست لاستدامة العطاء الإماراتي
  • الفاتيكان: البابا استغنى عن أجهزة التنفس لفترات قصيرة
  • "زراعة الشرقية" تنظم ندوة إرشادية حول تحديات مزارعي النخيل وحلولها
  • رانيا يوسف: مواقع التواصل الاجتماعي تصدر أحكاما متسرعة قبل العرض
  • رانيا يوسف: جمال سليمان راقي ورؤوف عبد العزيز صاحب فكر
  • وزارة الإعلام: ندين الاستهداف المباشر لمجموعة من الصحفيين والإعلاميين أثناء قيامهم بالتغطية قرب الحدود اللبنانية-السورية، وذلك عبر صواريخ موجّهة أطلقتها ميليشيا حزب الله، بعد ارتكابها جريمة اختطاف وتصفية لثلاثة من أفراد الجيش السوري البارحة
  • أحمد موسى يكشف تفاصيل زيارة الرئيس السيسي لأكاديمية الشرطة.. محمد رمضان يدعم إبراهيم شيكا.. غزة تواجه كارثة إنسانية| أهم أخبار التوك شو
  • ولي عهد رأس الخيمة يلبّي دعوة محمد القاسمي للسحور