بعثت الحرب الضارية على قطاع غزة طوفانا من التساؤلات النقدية والمراجعات الفكرية في الأفق العربي والعالمي، منها ما يتعلق بسلوك عُدَّ من بعض وجوهه صادما، من جانب الديمقراطيات الغربية نحو الإبادة الجماعية الجارية بحق الشعب الفلسطيني.

فالأمم التي برزت في منصات العالم في موقع الأستاذية القيمية في الترافع عن حقوق الإنسان وحريته وكرامته، شوهد قادتها ونخبها ووسائل إعلامها تنزلق بشكل فج إلى خندق جيش الإبادة الذي يقترف مجازر وحشية منقولة على مدار الساعة عبر البث المباشر، وتمارس إنكارا صارخا لما يجري، وتوقع تضييقا على حرية التعبير إلى درجة حظر نشاطات عامة وفعاليات جماهيرية ومنع عبارات ورموز تنادي بالحرية لفلسطين حتى في الفضاءات الأكاديمية.

إعادة اكتشاف العالم

منحت هذه الحرب فرصة لإعادة اكتشاف العالم الحديث وواقع الديمقراطيات الغربية، ومن شأن كتابين صدرا حديثا بالتزامن مع اندلاع هذه الحرب، على غير اتفاق، أن يساعدا على إلقاء نظرة تشريحية فاحصة ومتوازنة من الداخل على أزمة الديمقراطيات الغربية، وعلى الاجتماع الإنساني الحديث الذي يسمح بتكرار الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب المروعة على هذا النحو.

يسبر كتاب "إعادة تفكير في الديمقراطية"، وكتاب "نقد العالم- إعادة تفكير في الواقع الإنساني الحديث"، لكاتبهما الاستشاري الإعلامي والباحث في الشؤون الأوروبية والدولية حسام شاكرالمقيم في فيينا، موضوعات التناول بمنظار نقدي ثاقب، ولن يعجب قارئ الكتابين عن فهم سلوك دول الصدارة العالمية، وتفسير تناقضات سياساتها وجموح بعض مواقفها، كما يلحظ في الحرب الجارية وسواها.

صدر الكتابان ضد سلسلة موسعة من الكراسات النقدية للباحث حسام شاكر بلغ مجموعها 20 إصدارا، تقع في زهاء 3 آلاف صفحة من قطع صغير يتيح تناولها الميسر للقراء، وهي من منشورات "مؤسسة الأسرة العربية" التي تتخذ من إسطنبول مقرا لها.

يمنح حسام شاكر في كتابه "إعادة تفكير في الديمقراطية" القارئ إطلالات غير مألوفة على الديمقراطية وواقع تطبيقاتها في معاقلها الأوروبية والغربية

قصور في واقع التجارب الديمقراطية

يمنح حسام شاكر في كتابه "إعادة تفكير في الديمقراطية" القارئ إطلالات غير مألوفة على الديمقراطية وواقع تطبيقاتها في معاقلها الأوروبية والغربية، ويباشر إعادة التفكير فيها، ابتداء من مراجعة أسس مفاهيمية من قبيل "هل الديمقراطية هي حكم الشعب بالشعب؟".

يعرض الكتاب الواقع في قرابة 200 صفحة من القطع الصغير لمسائل ذات صلة؛ من قبيل تطوير الديمقراطية، وترشيد الحكم الرشيد، راصدا معضلات وأزمات وأعراض قصور في واقع التجارب الديمقراطية؛ مثل: السيولة السياسية، وأزمة الديمقراطية التمثيلية، ومسالك الاصطفاء النخبوي، وتركيز النفوذ في الديمقراطيات الغربية.

كما يتعرض لظاهرة "الاستثناء من الديمقراطية" التي تجعل الديمقراطية حرفيا "لبعض السكان فقط" ممن يحوزون دون غيرهم امتياز التصويت في جولات الاقتراع؛ بسبب عامل الجنسية أو المواطنة الذي لا يحوزه الجميع، حتى إن قسطا عريضا من السكان في سن الانتخاب في بعض العواصم الأوروبية، مستثنوْن لهذا السبب من الديمقراطية، ويتوقع أن يتصاعد هذا المنسوب في السنوات المقبلة.

ويقف الكتاب عند مفارقة مفادها خشية بعض الديمقراطيات العريقة من نهوض حكم ديمقراطي في دول أخرى، ومعضلة انتفاء "الدمقرطة" عن السياسات الخارجية، وحقيقة أن هذه السياسات تقع على تخوم الديمقراطية أو في معزِل عنها في الواقع، وهو ما يسهم -مثلا- في تفسير مواقف الدول الغربية من حرب الإبادة الجارية في غزة، وكأن الكتاب الصادر بالتزامن معها استشرف هذه المآلات، ومهّد للجمهور سبيل فهمها واستيعابها.

حرية التعبير

لعل من أكثر فصول الكتاب إثارة للاهتمام ما يتناول حرية التعبير في الديمقراطيات الأوروبية، حيث يظهر المؤلف عبر سبر دؤوب مأزقا يعتري هذه الحرية ويضيق الخناق عليها من وجوه معينة، أو يستعمل هذه الحرية على نحو يضرب قيما ومبادئ أخرى. ثم يبحث الكتاب تدهور بعض البيئات الديمقراطية إلى ثقافة الحظر عبر سلسلة من إجراءات التقييد والمنع والقضم من مكتسبات كانت متاحة لعموم الجمهور من قبل، إضافة إلى استشراء النزعة السلطوية وأنظمة الرقابة في بعض الديمقراطيات.

ورغم التقديرات والاستنتاجات النقدية التي يدفع بها الكتاب؛ فإن المؤلف يحذّر من الانزلاق إلى خلاصة جاهزة تقضي بانتفاء إمكانية "اجتراح بدائل إصلاحية"، جزئية على الأقل، من داخل الديمقراطية ذاتها، كما أن "البديل لا ينعقد في خيارات ساذجة من التحكم السلطوي الشمولي، أو في الارتكاس إلى نماذج من السلطات المتوارية عن الأنظار بدعوى منح الجماهير السلطة"، حسب تأكيده.

على أن المؤلف ينبه إلى أن المقاربات الإصلاحية لا ينبغي لها أن تغفل "قدرة الرأسمالية على ملء بعض الفراغات التي تخليها الدولة، وأنها قادرة على تكريس حضورها حتى من مواقع المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية، عبر صيغ التأسيس والتمويل والاستمالة والتوجيه وغيرها".

مرافعات في نقد العالم

أما كتاب "نقد العالم" الواقع في قرابة 180 صفحة فيفتح آفاقا لإعادة التفكير في الواقع الإنساني الحديث، عبر معالجات تضع مظاهر محسوبة على الحداثة وما بعدها على مشرحة النقد والتمحيص، التي تسعى إلى اكتشاف تناقضات وبيان إخفاقات وسبر أغوار وتشخيص مخبوءات.

يساءل الباحث حسام شاكر في هذا الكتاب الواقع الإنساني الحديث، أو ينبري لمحاكمة بعض تجاربه ومظاهره، عبر توليفة تتضافر فيها نظرات اجتماعية وتاريخية وفلسفية وثقافية ونفسية، دون أن تثقل لغة الكتاب أو تتسبب بوعورة نصوصه على القارئ، الذي قد يحفزه هذا العمل على إعادة فهم العالم من وجوه جديدة.

من الموضوعات ذات الصلة بحدث الساعة، أي حرب الإبادة الجارية ضد غزة، ما يجري "خارج مجال الرؤية" المتاح لجمهور أمم الحداثة. فما زال مجال الرؤية قاصرا عن تمكين الأمم التي تعلن ولاءها للحداثة من إدراك عموم المشهد والوعي بأبعاده وملابساته وأثمانه الفادحة واقعيا وأخلاقيا.

كما يذكر المؤلف الذي يضيف "فكثيرا ما يتحدد مجال الرؤية هذا بنطاق الإحساس بالذات الجمعية "نحن"، فيقع عزل "الآخر" الذميم وجدانيا على نحو لا يغدو معه مشمولا بامتيازات الذات الجمعية إياها".

وكأن المؤلف يستشرف ما جرى بالتزامن مع صدور الكتاب خلال حرب غزة عندما يسرد مثلا "تمضي أنظمة تعلن ولاءها للحداثة -وما بعدها- في مساعيها للحجر على مجال الرؤية ومنعه من الانفلات خارج نطاقات مرغوبة، فهي تحرص على استبعاد إنسان مدنيتها ذي الحس المرهف من مواكبة ما يجري في ميدان السلوك الوحشي المخصص للأطراف".

المخيال الحداثي

وفي معرض غوصه في أعماق "المخيال الحداثي" يلحظ حسام شاكر معضلات تلبست بعض الخطابات الحداثية؛ مثل: "إغفالها ميزان القيم، باستدعاء قيمة مخصوصة، أو قيم معينة بصفة انتقائية ومنحها الصدارة باستقلال عن ملابساتها ودون ضمان انضباطها بقيم أخرى ذات صلة بالسياقات الموضوعية؛ ومن شأن هذا أن يفضي إلى اضطراب التصورات وجنوح الأحكام وجموح الممارسات".

يقول المؤلف "انعكس هذا الاضطراب بصفة جسيمة على المخيال الحداثي على نحو أغوى باستسهال إطلاق أحكام جائرة، وتسويغ ممارسات مارقة مع تغليفها قيميا ومبدئيا؛ وهو ما يتفاعل في مستويات الفرد والمجتمع والدولة وما فوقها".

ويضيف أن "المخيال الحداثي إذ يغترف من شعاراته المفضلة يتجاوز حقيقة أن المبادئ لا تعمل في الواقع بإطلاق، وأنها تخضع بالأحرى لقيود وضوابط قد يمنح بعضها امتيازا استعماليا يقوض اشتغال الشعار في بعض نطاقات الواقع لأسباب تمليها المصالح والتواطؤات والتقديرات المتعلقة بحدود الممكن وعواقبه (…) من الأدوار الوظيفية التي يتيحها الخيال قابليته للاستنفار ضد وجهات محددة إن انعقدت ذرائع تأويلية له".

اشتهر سلوك التوحش التقليدي بأنه فاعل ومبادر؛ إلا أن مفعوله في الفتك والإيلام قد لا يضاهي بعض وجوه التوحش الحديث

التوحش الحديث

يفتح حسام شاكر ملف "التوحش الحديث"، وهو مرافعة نوعية ترسم ملامح منهجية فارقة بين النماذج التقليدية والحديثة من التوحش. يذكر المؤلف في هذا الصدد، مثلا، أن "التوحش الحديث يحرص على إيجاد قنطرة بين نقطة الانطلاق ونقطة الاستهداف، فقد يشتغل عبر وسيط تقني (…) أو من خلال وسيط بشري تتيحه حرب بالوكالة؛ وفيها تحقق أطراف ثالثة مصالح يتوخاها رعاة الحرب الذين يتحاشون الظهور في المشهد الميداني".

على هذا الأساس "لا يعمل التوحش الحديث وفق معادلة الدرجة الأولى التي اعتادتها تقاليد التوحش البدائي، أو نظم التوحش التقليدي (…) يلجأ التوحش الحديث إلى معادلات معقدة وإلى توزيع أدوار مع التلاعب بالثابت وتوجيه المتغير، وانتهاز الفرص السانحة ومتغيرات النظام الدولي، وأولويات خطابه لخدمة الأغراض المتوخاة".

ثم يكشف الكتاب عن وجه غير ملحوظ من وجوه "التوحش الحديث" يتمثل في "الإحجام عن التصرف". فإن اشتهر سلوك التوحش التقليدي بأنه "فاعل ومبادر؛ إلا أن مفعوله في الفتك والإيلام قد لا يضاهي بعض وجوه التوحش الحديث التي تقوم على تقاعس عن القيام بما تمليه الالتزامات المبدئية والمسؤوليِات الأخلاقية".

لعل هذه الفكرة تحديدا تكتسب وزنا مضاعفا في إعادة تقييم السياسات الغربية في الموقف من حرب الإبادة في غزة، فهي وإن لم تتواطأ مع هذه الحرب؛ فإنها لم تستعمل نفوذها المؤكد في المجتمع الدولي الذي يؤهلها لكبح الحرب ووقفها من فورها.

يوجز الكاتب عرض هذا النمط من "التوحش السلبي" في المثال التالي الذي يصلح لقياس سياسات ومواقف أوسع نطاقا عليه: "إن لم تتدخل سفينة مبحرة في عرض البحر لإنقاذ قارب شارف على الغرق، لمجرد أنه يقل حشدا من بؤساء الأرض أبحروا نحو فردوس أرضي موهوم؛ فإن أكوام الجثث التي ستلفظها الأمواج نحو الشاطئ ستبقى شاهدة على مفعول التوحش السلبي هذا، الذي يفعل فعله الشنيع بالإحجام لا بالإقدام".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الإنسانی الحدیث مجال الرؤیة حسام شاکر فی الواقع

إقرأ أيضاً:

غالبية الألمان قلقون على الديمقراطية بعد 80 عاما من نهاية النازية

أظهرت نتائج استطلاع للرأي العام في ألمانيا أن غالبية الألمان لا يزالون قلقين بشأن الديمقراطية، ويخشون اندلاع حرب عالمية ثالثة بعد 80 عاما من نهاية النظام النازي.

وأظهر الاستطلاع الذي أجراه معهد "يوجوف" أن 64% من الألمان يرون أن الديمقراطية في ألمانيا في خطر. ويرى 60% أن هناك أوجه تشابه بين الحاضر وثلاثينيات وأربعينيات القرن الـ20.

واعتبر 43% أن تكرار حكم استبدادي مماثل للدكتاتورية النازية أمر محتمل. وأعرب 59% من الألمان عن مخاوف محددة من اندلاع حرب عالمية ثالثة قريبا.

وانتهت الحرب العالمية الثانية في أوروبا باستسلام ألمانيا في الثامن من مايو/أيار 1945، ويرى 45% من المشاركين في الاستطلاع أن هذا التاريخ يمثل تحريرا لألمانيا، في حين يرى 15% أنه يمثل هزيمة. وبالنسبة لـ27% من المشاركين يعد هذا اليوم "يوم التحرير والهزيمة في الوقت نفسه".

تدمير ألمانيا

ويرى 75% من المشاركين في الاستطلاع أن النازيين هم المسؤولون عن تدمير ألمانيا، بينما يرى 27% آخرون أن الحلفاء هم السبب في تدمير ألمانيا بعد الحرب العالمية الثانية. ويحمل 55% من الألمان بلدهم مسؤولية أخلاقية خاصة تجاه السلام والتعاون في العالم بسبب ماضيها.

وفيما يتعلق بـ"ثقافة التذكر"، قال 67% من المشاركين في الاستطلاع إن الحقبة النازية لا تزال تؤثر على وعي ألمانيا بذاتها.

إعلان

ويرى 34% من الألمان أنه يجري الحديث في بلدهم كثيرا عن دور ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، بينما يرى 23% آخرون أن الحديث حول هذا الأمر محدود للغاية. واتفق 57% مع عبارة "نحن نركز كثيرا على الفصول المظلمة في التاريخ الألماني".

وجرى الاستطلاع، الذي شمل 2196 شخصا فوق 18 عاما، عبر الإنترنت خلال الفترة من 21 إلى 24 مارس/آذار الماضي.

مقالات مشابهة

  • جمهورية الكونغو الديمقراطية تدعم مغربية الصحراء ومبادرة الحكم الذاتي
  • خالد الجندي يوضح شروط جواز رواية الحديث النبوي بالمعنى
  • غالبية الألمان قلقون على الديمقراطية بعد 80 عاما من نهاية النازية
  • ماذا بعد معرض الكتاب؟!
  • هل نحتاج الكتاب اليوم؟
  • كتابان جديدان قريبًا بالقومي للترجمة.. تعرف عليهما
  • ناقصات عقل ودين .. الدكتورة دينا أبو الخير توضح تفسير الحديث
  • سويلم يكشف عن دور البحوث التطبيقية في مجالات الري الحديث وتغير المناخ
  • عمار: الحديث عن المساس بالدعم نوعاً من «الغباء الاقتصادي»
  • المنتخب السعودي للخماسي الحديث يستعد لغرب آسيا