أريد أن أضحك عندما أقرأ في الأخبار وأسمع عن «الجهود الأمريكية» لإنهاء الحرب الإسرائيلية على غزة وإحلال السلام في الشرق الأوسط.
لو أن الولايات المتحدة تبحث فعلا عن استقرار وسلام في الشرق الأوسط لامتنعت من الأساس عن سياساتها العمياء في المنطقة. لكنها لا تريد، لأن الاستقرار ليس ضمن أجندتها. فالعقيدة الأمريكية هي إيجاد أسباب الحروب ثم الاستثمار فيها لجني ما أمكن من الأرباح المادية والاستراتيجية.
القضية لا تتوقف عند الوجوه التي نراها يوميا تذهب وتجيء ممثلة للبيت الأبيض ووزارتي الدفاع والخارجية. هناك قوى أكثر تأثيرا من هؤلاء جميعا.
لو أن الولايات المتحدة تبحث فعلا عن استقرار وسلام في الشرق الأوسط لامتنعت من الأساس عن سياساتها العمياء في المنطقة
بوارج حربية عملاقة من كل مكان اتجهت إلى بحار وسواحل قريبة من إسرائيل. ما لا يقل من 230 طائرة شحن أمريكية حطّت في إسرائيل محمّلة بكل أنواع الأسلحة الفتاكة والباهظة الثمن. تخيّل العدد الكلي لو أن كل طائرة حملت في جوفها فقط 20 قذيقة أو صاروخا! مَن المجنون بين مُلّاك ومديري المجمّعات الصناعة الحربية في أمريكا يتمنى أن تتوقف هذه الحرب حتى لو أبيدت غزة عن بكرة أبيها؟
لا يوجد حاليا صراع في العالم ليس للولايات المتحدة حضور فيه، قبلي أو بعدي. وهذا ليس صدفة.
عاد الشرق الأوسط ليحتل صدارة الأجندة الأمريكية بعد تراجع طفيف فرضه خلال العقدين الماضيين صعود الصين وتمرد روسيا، وفرضه تحوّل القضية الفلسطينية إلى «شغب» داخلي تتولى أمره الشرطة الإسرائيلية وجهاز الأمن الداخلي.
الدافع لعودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط أن إسرائيل في خطر وعاجزة بمفردها عن حماية نفسها كما تبيّن منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر).
الحروب بالنسبة للشعوب الأخرى مرادف للقتل والدماء والجوع والذعر والتشريد. لذلك لا أحد يريدها أو يتمناها. بالنسبة لأمريكا، الحروب هي «بزنس» يُدّر أرباحا لا يحق تركها تضيع. كما ينتظر بائع «آيس كريم» موسم الصيف بشوق لزيادة أرباحه، تبحث الولايات المتحدة عن أسباب الحروب في كل جحر من هذا العالم لتحريك مُجمّعات التصنيع العسكري لديها والبدء في جني العوائد المادية والاستراتيجية.
الدافع لعودة الولايات المتحدة إلى الشرق الأوسط أن إسرائيل في خطر
لذلك لا تتألم الولايات المتحدة كثيرا من هزائمها، وما أكثرها! تتطلع دائما للحرب المقبلة مثلما يتطلع بائع الآيس كريم للصيف المقبل إذا ما خسر الحالي لسبب ما.
ما يزيد حماس الولايات المتحدة للحروب رغم الكلفة العالية، أن الصراعات الدامية التي يشهدها العالم، حاضرا وسابقا، تجري وجرت كلها بعيدا عن أراضيها ولا تمس الشعب الأمريكي بشكل مباشر وفي قوته وأمنه اليومي. أما جنودها الضحايا فمجرد أرقام توضع في صناديق مشمّعة تُسجى بالعلم ويُعزف لها السلام الوطني. لقد وافقوا على تلك النهاية المحتملة يوم أمضوا على انتسابهم للجيش.
كما أن الضغط الشعبي الرافض للحروب، إنْ وُجد، فهو عبر الكونغرس ومجلس النواب، ويكون تكتيكيا يجادل في التفاصيل، لا مبدئيا. لا تحفظ الذاكرة السياسية أن المشرّعين الأمريكيين منعوا، أو عارضوا في العمق، أيّ حرب خارجية قررت مُجمعات التصنيع الحربي خوضها خلال الخمسين سنة الأخيرة، وآخرها احتلال العراق وأفغانستان. في كل مرة يحتدم النقاش وتبرز ضغوط قوية وأسباب «وجيهة» ثم تنتهي بإقناع المشرّعين «المعارضين» واستسلامهم لتيار الحرب.
وإن وُجد اعتراض قوي نسبيا بين المشرّعين، تمتلك الإدارة دائما طرقا للالتفاف عليه كما فعلت مرتين خلال الشهر الماضي وحده وأقرّت إرسال شحنات أسلحة طارئة لإسرائيل. وفي المجمل، حماس المشرّعين النافذين للحروب غالبا ما يكون أكبر من حماس الإدارة. (الذين يلومون بايدن على شنّ غارات ضد الحوثيين في الأيام الماضية دون الرجوع إلى الكونغرس مخطئون. فلو عاد كان سيجد معارضة شكلية فقط أو لا يجد).
ضمن هذا المنطق يجب وضع انحياز واشنطن لحرب الإبادة التي تشنها إسرائيل على قطاع غزة ورفضها المستميت لأي وقف إطلاق نار حقيقي وجاد. وضمنه أيضا يجب وضع زيارات وزير الخارجية الأمريكي المكوكية للمنطقة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر).
لا يمكن تصديق أن زيارات بلينكن الخمس خيرية إنسانية هدفها فقط إنهاء الحرب.
الغرض من الزيارات توجيه الحرب وفق مسارات معينة وليس وقفها. وأهداف الزيارات هي ذاتها أهداف إسرائيل: الإبقاء على الحرب محصورة على غزة وسكانها، المساعدة في إعادة الأسرى الإسرائيليين لدى حماس بأيّ طريقة ممكنة، وأخيرا الحرص على ألَّا تتمدد الحرب إلى المنطقة، ليس خوفا على دول الجوار وشعوبها، وإنما لأن من شأن اتساع الحرب أن يُشوّش على إسرائيل ويمنع أو يؤخر تحقيق أهدافها في قطاع غزة، وفي أسوأ الأحوال يصبح خطرا داهما عليها.
لو أن هذه الحرب تجري في منطقة أخرى ليس في جغرافيتها إيران وإسرائيل، لبذلت الولايات المتحدة كل جهدها لتوسيع نطاقها. أما في الشرق الأوسط، فالعكس هو المطلوب كما تفعل الآن.
لاحظ أن كل زيارات بلينكن لم تتضمن لقاءات مع أيٍّ من الأطراف التي تحارب. من الصعب أن أصدِّق أن هذا الأمر بريء أو نتيجة لسهو ما أو سوء تخطيط.
كل لقاءات الوزير بلينكن كانت مع المحاورين الخطأ.. قادة دول بعضهم متواطئون مع الإدارة الأمريكية، وآخرون ليس لهم تأثير يُذكر على الأرض، لا سياسي ولا حربي.
قادة دول بعضهم متواطئون مع الإدارة الأمريكية وآخرون ليس لهم تأثير يُذكر على الأرض
بلينكن مكلف من إدارته بالبحث عن وكلاء يريدهم أن يقوموا بالأدوار القذرة من أجل مصالح أمريكا وإسرائيل. وقف الحرب غير وارد أمريكيا إذا لم يكن كما تريد إسرائيل.
أمريكا تعيش حالة عمى في الشرق الأوسط. لكنه عمى ليس عن رؤية الحقائق من حروب وما تسببه من قتل وأوجاع للإنسانية، بل عن رفض العمل في اتجاه التخفيف منها.
من المحزن أن يبقى في هذه المنطقة من العالم مَن ينتظر خيرا من أمريكا بعد كل تجارب نصف القرن الماضي، وصولا إلى حرب غزة الحالية. مُشعل النيران، بلينكن ومن سبقوه ومَن سيأتون بعده، لا يمكن أن يكون هو الإطفائي في الوقت ذاته. ومَن يقيم لإسرائيل جسرا جويا حربيا أكبر من الجسور الجوية التي أُقيمت خلال الحرب العالمية الثانية لا يؤتمن جانبه ولا يحق له أن يكون وسيطا أو يقترح أفكار سلام. انتهى الدرس، استيقظوا يا عرب!
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه غزة واشنطن غزة واشنطن الاحتلال الدعم الأمريكي العدوان مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط
إقرأ أيضاً:
رؤية جريئة للسلام في الشرق الأوسط
سلط جاكوب هيلبرون، محرر وزميل أول غير مقيم في مركز أوراسيا التابع للمجلس الأطلسي، الضوء على رؤية المؤلف أحمد الشرعي الطموحة للسلام في المنطقة في كتابه الجديد، "تشكيل المستقبل: رؤية للسلام والازدهار في الشرق الأوسط" (Shaping the Future: A Vision for Peace and Prosperity in the Middle East)، مقدماً إياه باعتباره مدافعاً حازماً عن الإصلاح في الشرق الأوسط، ومنوهاً بالتزامه بتعزيز السلام والتسامح والتقدم على الرغم من التحديات الشخصية والسياسية الكبيرة.
الرخاء الاقتصادي يمكن أن يمهد الطريق للحريات السياسية والحكم المستقر
ولطالما دافع أحمد الشرعي، وهو الناشر المغربي لصحيفة "جيروزالم ستراتيجيك تريبيون"، عن العلاقات السلمية في الشرق الأوسط. ووفقاً لكاتب المقال، فإن إيمان الشرعي بالقيم الغربية يؤكد رؤيته لتعزيز التسامح والتفاهم في المنطقة.
وقال الكاتب إن عمل الشرعي يأتي في الوقت المناسب بشكل خاص، نظراً للتحولات الجيوسياسية الحالية، بما في ذلك إضعاف إيران وحزب الله وحماس، وإمكانية إعادة بناء الاستقرار في الشرق الأوسط.
My full remarks this morning at @PressClubDC:
Ladies and gentlemen, good morning. It’s a pleasure to be back at the National Press Club. Thank you for the invitation and I look forward to taking your questions later.
Today the Middle East is on the cusp of fundamental change —… pic.twitter.com/DniwOVKotf
ويجمع كتاب الشرعي "تشكيل المستقبل" كتاباته الواسعة النطاق في مطبوعات بارزة مثل The National Interest وIsrael Hayom.
ويتضمن مقدمة بقلم "دوف زاخيم"، مراقب البنتاغون السابق، الذي أشاد بالشرعي باعتباره صاحب رؤية وعلى استعداد لمواجهة التحديات بشكل مباشر لتعزيز مُثُله.
اعتراف الشرعي بالتحولات الإقليمية يستكشف هيلبرون تحليل الشرعي الثاقب لديناميكيات الشرق الأوسط، مسلطاً الضوء على اعترافه المبكر بالتغيرات المحورية في المنطقة. وفي عام 2018، أشاد الشرعي بجاريد كوشنر، الذي شغل منصب مستشار دونالد ترامب في الشرق الأوسط، لإنجازاته الدبلوماسية.وبينما رفض كثيرون كوشنر، أشار الشرعي إلى فهمه الدقيق للأولويات الإقليمية، خاصة المخاوف بشأن أنشطة إيران المزعزعة للاستقرار، كما لاحظ الشرعي تغييراً في المواقف بين الأجيال العربية، الذين ينظر الكثيرون منهم الآن إلى وجود إسرائيل كحقيقة واقعة ويسعون إلى تحسين الأوضاع الاقتصادية بدلاً من الحروب.
VERY IMPORTANT TO WATCH
The birth of pragmatic Political Jihadism in the Middle East
We are witnessing a critical shift in the history of the Middle East. What we are seeing today is similar to what happened in the 1980s after the Islamic Revolution took over Iran.
The… pic.twitter.com/ZJAM0uta8l
النمو الاقتصادي كمسار نحو الاستقرار
وقال الكاتب إن حجر الزاوية في رؤية الشرعي هو الاعتقاد بأن الرخاء الاقتصادي يمكن أن يمهد الطريق للحريات السياسية والحكم المستقر.
وقارن هذا النهج بنهج رئيس الوزراء اللبناني الأسبق رفيق الحريري، الذي انتهت مهمته في تنشيط لبنان بشكل مأساوي باغتياله في عام 2005.
وسلط هيلبرون الضوء على تركيز الشرعي على البعد الاقتصادي للدبلوماسية، مشيراً إلى أن الاتفاقية البحرية بين إسرائيل ولبنان التي توسطت فيها الولايات المتحدة في عام 2020 حلت النزاعات التي استمرت عقوداً من الزمان حول المياه الإقليمية، مما مكَّن من استكشاف الطاقة والتعاون الاقتصادي، والذي يعده الشرعي ضربة حاسمة لخنق حزب الله لتجارة لبنان مع إسرائيل.
إيران والإرهاب العالميوتشمل واقعية الشرعي بشأن الشرق الأوسط انتقاداً لا يتزعزع لإيران، التي يعدها مركز الإرهاب العالمي.
ولفت الكاتب النظر إلى تحذيرات الشرعي بشأن الدور المزعزع للاستقرار الذي تلعبه إيران، بدءاً من دعمها لحزب الله والحوثيين إلى تزويد روسيا بالطائرات دون طيار في الصراع في أوكرانيا.
ودعا الشرعي الولايات المتحدة إلى محاسبة القادة الإيرانيين على الإرهاب، واقترح اتخاذ إجراءات قانونية كوسيلة لإرسال رسالة قوية مفادها أن مثل هذه الأعمال لن يتم التسامح معها.
واختتم هالكاتب مقاله بالقول إلى الشرعي يقدم رؤية جريئة وعملية للتغلب على الانقسامات التاريخية في الشرق الأوسط ورسم مسار نحو الاستقرار والتعاون.