استعرض تقرير لصحيفة "واشنطن بوست" أعده الصحفيان كارين دي يونغ وجون هدسون العدوان الإسرائيلي على غزة وسياسة التدمير التي يتبعها الاحتلال.

وقال الصحفيان، "إن وزير الخارجية أنتوني بلينكن لم يقم بتلطيف الكلمات مع المسؤولين الإسرائيليين. وقال لهم خلال زيارة في أواخر تشرين الثاني/ نوفمبر إنهم يفقدون الأرضية الأخلاقية في حربهم مع حماس".



وذكر التقرير، "أن نقل حربهم التي نهجت سياسة الأرض المحروقة من شمال غزة إلى الجزء الجنوبي من القطاع، كان من الضروري خفض الوفيات بين المدنيين وزيادة المساعدات الإنسانية بشكل كبير".

وأضاف، "كان هو وغيره من كبار المسؤولين الذين زاروا تل أبيب في ذلك الوقت قد ضغطوا من أجل الانتقال إلى حرب منخفضة الشدة بحلول نهاية كانون الأول/ ديسمبر الماضي، واستبدال القصف الشديد بالاستهداف الاستراتيجي لكبار مسؤولي حماس".

وقال أحد كبار المسؤولين الستة في الإدارة الذين تحدثوا عن الدبلوماسية الحساسة المستمرة بشرط عدم الكشف عن هويتهم: "أخبرنا الإسرائيليون أنهم سيتخذون كل هذه الخطوات الجديدة في الحملة في الجنوب".



ولكن بعد مرور ستة أسابيع، ومهما كانت نوايا إسرائيل في نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر، فإن شدة هجومها لم تتراجع بشكل كبير. وكان الانخفاض في عدد الضحايا المدنيين وأي توسع في المساعدات الإنسانية هامشيا ومتقطعا.

وتابع، "وقد أوضحت إسرائيل في المناقشات الأخيرة، كما قال مسؤولون في الإدارة، أنها ستواصل حملتها المكثفة طوال شهر كانون الثاني/ يناير الجاري".

وأضاف، "بدت إدارة بايدن، الحليف الأقرب لإسرائيل والمورد الرئيسي للأسلحة، غير قادرة أو غير راغبة في ممارسة تأثير ذي معنى على كيفية إدارة الجيش الإسرائيلي للحرب. على الرغم من أن الولايات المتحدة كانت في طليعة الجهود الرامية إلى إيصال المساعدات إلى الفلسطينيين في غزة وإطلاق سراح الرهائن المحتجزين هناك، إلا أن دورها المزدوج باعتبارها المدافع الرئيسي عن إسرائيل ضد عالم متزايد العداء قد قوبل بانتقادات ومطالبات دولية ومحلية متصاعدة بوقف فوري لإطلاق النار".

وقد أدى المعدل المرتفع للضحايا المدنيين إلى دعوات من اليسار للإدارة لوضع شروط على مليارات الدولارات من المساعدات العسكرية المقدمة لإسرائيل سنويا. 

وقال مات دوس، نائب الرئيس التنفيذي لمركز السياسة الدولية والمستشار السابق للسيناتور بيرني ساندرز: "إذا كان الرئيس محبطا حقا، فلديه الكثير من الأدوات التي يمكنه استخدامها". 

وأشار إلى "أن الوعد بالدعم غير المشروط بغض النظر ليس طريقة جيدة لجعل شخص ما يفعل شيئا مختلفا وحتى الديمقراطيون الوسطيون طالبوا بمزيد من الدعم الأمريكي".

وقال السيناتوران، كريس فان هولين (ماريلاند) وجيف ميركلي (ولاية أوريغون) في بيان الأسبوع الماضي بعد رحلة إلى المنطقة، "من الضروري" أن تطالب الولايات المتحدة الإسرائيليين برفع العقبات التي تبطئ تسليم "السلع الأساسية اللازمة للحفاظ على الحياة في غزة".

وقالت دولة الاحتلال، إن تدخل حماس وقرارات الأمم المتحدة، وعدم الكفاءة يعيقون المساعدات الإنسانية. 

وقدر المسؤولون "الإسرائيليون أن الجيش يقتل مدنيا واحدا مقابل كل مسلح من حماس، وهو سبب يصرون على أنه أقل من حملات مكافحة الإرهاب التي قامت بها دول أخرى، ويقولون إن ذلك يوضح التزامهم بحماية حياة الأبرياء. وأعرب مسؤولون أمريكيون عن شكوك قوية في أن هذا يعكس الواقع في غزة".

وفي الأسبوع الماضي، وفي اجتماعاته الأخيرة مع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو وحكومة الحرب، قال بلينكن إنه سينقل إلى الرئيس بايدن ردهم على المخاوف الأمريكية الجادة.

وقال نتنياهو، السبت بمناسبة مرور 100 يوم على بدء الحرب، إنه سيستمر "حتى النصر الكامل، وإعادة جميع الرهائن لدينا وضمان أن غزة لن تشكل مرة أخرى تهديدا لإسرائيل… لن يوقفنا أحد".

وبحسب التقرير، "فعندما يتعلق الأمر بتخفيف الطريقة التي تنفذ بها إسرائيل عمليات عالية الكثافة، فإن إدارة بايدن مقتنعة بشكل متزايد بأن الإسرائيليين يرفضون الاستجابة لنصيحتها".



وقال مسؤول كبير إنه من غير المجدي حثهم على التغيير، وأن أولوية واشنطن تحولت الآن إلى التسامح مع العملية الإسرائيلية عالية الكثافة طوال شهر كانون الثاني/ يناير، في حين تصر بدلا من ذلك على خفض إيقاعها في شباط/ فبراير.
 
وفي مؤتمر صحفي بعد مغادرته تل أبيب الأسبوع الماضي، رفض بلينكن التلميحات بأن الهدف الرئيسي لرحلته – مناقشة خطط مع الشركاء العرب وإسرائيل لإعادة إعمار وحكم القطاع بعد انتهاء الحرب – يعني أن الإدارة قد ابتعدت عن المحاولة للتأثير على سلوك إسرائيل.

وقال بلينكن: "فيما يتعلق بحماية المدنيين والإصابات.. نحن نركز بشكل مكثف على ذلك، تماما كما نركز بشكل مكثف على زيادة المساعدات الإنسانية". 

وأضاف: "لقد كنا واضحين للغاية أنه من الضروري القيام بالمزيد، وأن تبذل إسرائيل المزيد من الجهد لحماية المدنيين حتى في الوقت الذي تعمل فيه على ضمان عدم حدوث 7 أكتوبر مرة أخرى".

وكانت الـ 24 ساعة التي سبقت وصول بلينكن إلى دولة الاحتلال يوم الثلاثاء واحدة من أكثر الأيام دموية في غزة منذ بدء الصراع، حيث خلفت 250 شهيدا. 

ووفقا لوزارة الصحة في غزة، استشهد أكثر من 23,900 من سكان غزة منذ بدء الحرب، معظمهم من النساء والأطفال.

وقال مارتن غريفيث، كبير مسؤولي الشؤون الإنسانية بالأمم المتحدة، لمجلس الأمن يوم الجمعة إن "الوضع لا يزال مروعا مع استمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية بلا هوادة"، مضيفا أن خطر المجاعة "يتزايد يوما بعد يوم"، و"الحياة الإنسانية الكريمة أصبحت شبه مستحيلة".
وقال إن نحو 1.9 مليون من سكان غزة، أو 85 بالمئة من السكان، نزحوا من مختلف أنحاء غزة. 

وقد "حُشر معظمهم في قطعة أرض أصغر من أي وقت مضى" في الجنوب في أعقاب أوامر الإخلاء الإسرائيلية، "فقط ليجدوا المزيد من العنف والحرمان، والمأوى غير المناسب، وشبه غياب للخدمات الأساسية".

وبينما تحدث بلينكين عن تقييم للأمم المتحدة لتمكين سكان شمال غزة من العودة، قال غريفيث إنه "من الصعب حاليا تخيل أن الناس سيعودون أو يمكنهم العودة شمالا". 

وذكرت الأمم المتحدة في تحديثها الصادر يوم الجمعة أن خمس شحنات فقط من أصل 24 شحنة مقررة لشهر كانون الثاني/ يناير من الغذاء والدواء والمياه وغيرها من الإمدادات وصلت إلى شمال غزة – حيث لا يزال هناك ما يتراوح بين 150,000 إلى 300,000 مدني وسط الأنقاض – مشيرة إلى رفض الجيش الإسرائيلي المرور "لأن الطرق المتفق عليها غير قابلة للعبور".

حتى يوم الجمعة، دخل ما معدله 126 شاحنة محملة بالمساعدات إلى غزة في شهر كانون الثاني/ ينايرعبر الممرين الوحيدين المتاحين – معبر رفح من مصر وكرم أبو سالم من جنوب إسرائيل – مقارنة بمتوسط 108 شاحنة خلال الأيام العشرة الأخيرة من شهر كانون الأول/ ديسمبر ، بحسب أرقام الأمم المتحدة. وقبل الحرب، كانت تدخل غزة يوميا حوالي 500 شاحنة توصيل.

وقال التقرير، "أن أي زيادة كبيرة تعتبر غير محتملة في ظل النظام المعقد الحالي الذي يجب أن تمر به جميع المساعدات قبل أن تصل إلى غزة، ويصل معظمها إلى ميناء أو مطار العريش في شرق مصر".

ومن هناك، يتم تحميلها على شاحنات لإجراء تفتيش أولي من قبل مصر على جانبها من معبر رفح، ثم يتم نقلها لإجراء مزيد من التفتيش الإسرائيلي في نيتسانا في جنوب إسرائيل قبل إعادة تحميلها وإرسالها إلى كرم أبو سالم أو إعادتها إلى رفح، ليتم إعادة تحميلها مرة أخرى داخل غزة على مركبات أصغر لتوزيعها من قبل الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الأخرى.

وقد اتهم المسؤولون الإسرائيليون مرارا بأن أي نقص في المساعدات يرجع إلى أعمال النهب التي تقوم بها حماس داخل غزة، وهو الأمر الذي تنفيه كل من الأمم المتحدة والولايات المتحدة. 

وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة في الأيام الأخيرة إن أي نهب حدث، حدث من طرف المدنيين في غزة "اليائسين" فهم لا يعرفون متى أو ما إذا كانت الشحنة التالية ستصل أم لا.
 
واعترض مسؤول أمريكي كبير بشدة على توصيف إسرائيل، قائلا إن "الحكومة الإسرائيلية لم تقدم لحكومة الولايات المتحدة أي دليل محدد على سرقة حماس أو تحويل المساعدات المقدمة عبر الأمم المتحدة ووكالاتها".

وكانت العلاقة بين إسرائيل والأمم المتحدة متوترة منذ فترة طويلة، وتتهم إسرائيل مسؤولي الأمم المتحدة داخل غزة بأنهم ذراع لحماس. ومع ذلك، يشيد المسؤولون الأمريكيون دائما بالأونروا لجهودها في ظل الظروف الصعبة، بما في ذلك مقتل أكثر من 130 من موظفيها خلال القصف الإسرائيلي المتكرر لمرافق الأمم المتحدة.

ومع منع الصحفيين الخارجيين من دخول غزة، باستثناء الزيارات القصيرة التي تتم بمرافقة عسكرية إسرائيلية إلى الشمال، فمن الصعب تأكيد العديد من التقارير الواردة من داخل الصراع.

وعرض "الجيش الإسرائيلي يوم الجمعة وجهة نظر بديلة للواقع في غزة، ونشر مقطع فيديو بعنوان "المساعدات الإنسانية، الحرب الحضرية وكل شيء بينهما: ملخص مدته 7 دقائق للحرب ضد حماس على موقعه الإلكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي. يبدو أنه مخصص للاستهلاك الأجنبي، وقد تم سرده باللغة الإنجليزية".

ويرى كاتبا التقرير، "أن إسرائيل أدركت منذ بداية الصراع أن القتال ضد مقاتلي حماس المتمركزين بعمق في المناطق المدنية يمكن أن يؤدي إلى أضرار جسيمة للبنية التحتية وخسائر كارثية في أرواح المدنيين كما جاء في الفيديو وقرر الجيش الإسرائيلي أمرين أساسيين: الخطوات الإنسانية التي كان لا بد من اتخاذها".

وبدلا من تدمير المناطق بالكامل والمستشفيات والمدارس التي روتها الأمم المتحدة وغيرها، تقول إن جيش الاحتلال الإسرائيلي يستخدم الاستطلاع الاستخباراتي و"تتبع المواقع الخلوية" لبناء "صورة في الوقت الحقيقي للكثافة السكانية المتبقية" للتخطيط للمناورات المستقبلية" وبالتالي إنقاذ "أرواح لا حصر لها".  

كما ذكر الفيديو أن إسرائيل كانت حريصة على دخول المساعدات الإنسانية والطبية بالتنسيق مع مصر بحيث "مكنت هذه الإجراءات المشتركة من زيادة حجم المساعدات اليومية بنسبة 1000%".



لا يقدم الفيديو أي أساس للمقارنة، على الرغم من أنه لم ترفع إسرائيل الحظر الكامل الذي فرضته في زمن الحرب على جميع المواد الغذائية والمياه والوقود والإمدادات الطبية التي يتم توصيلها إلى غزة إلا بعد الأسبوعين الأولين من الحرب، وبعد تدخل مباشر من جانب بايدن.

وتقول الأمم المتحدة إن 15 مستشفى فقط من أصل 36 مستشفى في غزة تعمل بشكل جزئي، وأن المرافق والأطباء المتبقين لا يستطيعون تلبية الحاجة، وأنه "تم تلبية 26% فقط من احتياجات الإمدادات الطبية المطلوبة". 

وفي الوقت نفسه، "أدى الرفض المتكرر لتوصيل الوقود إلى مرافق المياه والصرف الصحي إلى حرمان الناس من الحصول على المياه النظيفة". 

وبحسب التقرير، "فإن الجمع بين نقل المياه بالشاحنات والمياه من محطة تحلية المياه العاملة واستعادة أحد خطوط إمدادات المياه الرئيسية الثلاثة في 30 كانون الأول/ ديسمبر، لم ينتج سوى 7 بالمئة من إنتاج المياه في غزة، مقارنة بإمدادات ما قبل تشرين الأول/ أكتوبر 2023".

ويقدر برنامج الغذاء العالمي أن 93 بالمئة من سكان غزة يواجهون مستويات أزمة الجوع.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي صحافة صحافة إسرائيلية غزة الاحتلال الولايات المتحدة الولايات المتحدة غزة الاحتلال شهداء مجازر صحافة صحافة صحافة سياسة سياسة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة صحافة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة المساعدات الإنسانیة الجیش الإسرائیلی شهر کانون الثانی الأمم المتحدة یوم الجمعة فی غزة

إقرأ أيضاً:

هل لا يزال نتنياهو يحلم بمشروع إسرائيل الكبرى؟

عادة ما يتلذذ نتنياهو بترديد، ما يشير إلى أنه مبعوث قوة "روحية/ خفية" مؤيدة وداعمة له لإنجاز مشروعه عن "الشرق الأوسط الجديد" ـ وهو المصطلح "الناعم" لمعنى إسرائيل الكبرى ـ وأن "رسالته" إلى العالم، كانت مرهونة بمآلات الحرب على الجبهة اللبنانية، فيما كان واثقًا وكأن "بطاقة ضمان" دسّتها تلك القوةُ الخفية في جيبه، مُرفقًا بها خريطة هذا "الشرق المزعوم" الذي يستخدمه نتنياهو كـ"مرهم" و"مُلطف" للجرح الإسرائيلي النازف منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول عام 2023، فيما يعتقد آخرون من حاضنته السياسية، الأكثر اعتدالًا ورصانةً، بأنه "يوتوبيا" ومثل من يطلب "لبن العصفور" كما يقول المثل الشعبي العربي.

إسرائيل ـ منذ هزيمتها في حرب "أكتوبر/ رمضان" 1973 ـ لم تحقق أي انتصارٍ إلا على المدنيين والمخيمات، وظلت عالقة بعد أكثر من 15 شهرًا من بربريتها في مخيم بحجم "جباليا" وبضعة أمتار في قرى جنوب لبنان، ومع ذلك ما انفكت تتكلم بوقاحة عن عدم رضاها بـ"إسرائيل الصغرى"، وأنها في سبيلها لإنجاز "نسختها الكبرى" تحت لافتة الشرق الأوسط الجديد.

وكما يقولون "الزَّنُّ على الوِدان/الأُذُن" أمرُّ من السحر، تصدَّرَ المشهدَ داخل الكيان، صحفيون ومعلقون، لإسالة هذه الديماغوجية إلى حقيقة متوهّمة، تجري في شرايين اليمين الشعبوي المتطرف مجرى الدم، ويتحدثون في صلف بأنَّ مرحلة ما "بعد حزب الله" ستكون مُدخلًا لتل أبيب، نحو إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وإحالته إلى "منطقة سلمية" قادرة على إدارة المصالح المتضاربة طوعًا أو بعصا إسرائيل الغليظة.

إعلان

لم يكن هذا التفكير المتفائل بالأمر الجديد، فبعد حرب الخليج عام 1991، واتفاقات أوسلو عام 1993، والربيع العربي عام 2011، روّج الخبراء الإسرائيليون لسيناريوهات وردية مماثلة، ولعلّ أشهرها كتاب شيمون بيريز صاحب الرؤية الذي ألفه في تسعينيات القرن العشرين حول "الشرق الأوسط الجديد"، وهي النبوءة التي قال عنها المفكر الإسرائيلي إفرايم أنبار: لقد تبين لاحقًا أنها "كلامٌ فارغ".

غاب لفترة ـ ليست بالقليلة ـ هذا الخطاب المتبجح، والمسلح بالحجج الدينية، وبغطرسة القوة على الأرض، ولعله قُمع وأحيل إلى "اللاوعي الإسرائيلي"، بفعل مرحلة الإحماء التدريجي والناعم التي شهدتها المنطقة ـ منذ سبعينيات القرن الماضي ـ تمهيدًا لإدماج إسرائيل كدولة طبيعية في المنطقة، وذلك إلى ما قبل طوفان الأقصى، الذي وضع العصا في عجلة التطبيع، فتعثر كلُّ شيء وتناثر المشروع مع بعثرة جثث الضحايا تحت أنقاض غزة المدمرة.

بيد أن صورةً لجندي إسرائيلي، التقطت له أثناء العمليات في غزة، في يونيو/ حزيران 2024 وهو يرتدي "شارة/ خريطة" إسرائيل الكبرى على زيّه العسكري ـ مطابقة لتصريح ثيودور هرتزل الذي مضى عليه أكثر من قرن من الزمان ـ أثارت غضبًا واسعًا في العالم العربي.

الخريطة ـ كما بدت على ذراع المقاتل الإسرائيلي ـ شملت مناطق من النيل إلى الفرات، ومن المدينة المنورة إلى لبنان، بما في ذلك أراضٍ من سوريا، والأردن بأكمله.

ومن المرجح أن ما أثار الغضب العربي هذه المرة، لم يكن وجود الخطة، بل ظهورها في الفضاء الأوسع لوسائل الإعلام الاجتماعي، إذ في مطلع العام 2024، وفي مقطع صوتي مسجل، قال السياسي الإسرائيلي آفي ليبكين: "… في النهاية، ستمتد حدودنا من لبنان إلى الصحراء الكبرى، ثم من البحر الأبيض المتوسط ​​إلى نهر الفرات. وتساءل:

ومن الذي يقع على الجانب الآخر من الفرات؟ الأكراد! والأكراد أصدقاء. لذا، لدينا البحر الأبيض المتوسط ​​خلفنا، والأكراد أمامنا، ولبنان، الذي يحتاج حقًا إلى مظلة حماية إسرائيل، وبعد ذلك أعتقد أننا سنستولي على مكة والمدينة وجبل سيناء، ونطهر تلك الأماكن " بحسب أوهامه المريضة.

إعلان

ولم يلقَ هذا المقطع ـ آنذاك ـ ردود أفعال غاضبة، ولعل ذلك يرجع إلى أن الحرب كانت في مراحلها الغضة، بكل تجلياتها "المبهجة" من انهيار الأساطير المؤسسة لـ" الدولة التي لا تقهر"، وتنامي الانطباع المصاحب لـ"النصر الغزي"، بأن ثمة شرقًا أوسطَ، يتشكل في رحم الغيب قد يكون بدون "إسرائيل".

بيدَ أن مشروع "إسرائيل الكبرى/ الشرق الأوسط الجديد"، اكتسب زخمًا أكبر، واهتمامًا متجددًا، مع النجاح التكتيكي الذي حققه نتنياهو، في المراحل الأولى من حربه على حزب الله (تصفية غالبية قياداته السياسية والأمنية والميدانية).

وفي حين ظل التوسع الإقليمي الإسرائيلي، بمسوغاته الدينية/ التاريخية، ومدى موضوعيته، يعيد ـ في العالم العربي ـ إنتاج خطابه الشعبوي كأداة للحشد والتعبئة والتخويف من التطبيع بدرجاته، أو كأداة بيد المعارضة السياسية، تستخدمها في إدانة أنظمة عربية تراها "متسامحة" مع المشروع، فإنه كان يخضع ـ مع كل أزمة ـ لاختبارات قاسية داخل دوائر النخبة الإسرائيلية، أو يُدرج على رأس أجندة مؤسسات بحثية، معنية بمستقبل منطقة الشرق الأوسط، وتبدأ من جذور المشكلة وأصولها، مثل التساؤل بشأن تحديد درجة علمية مطالبات هرتزل بالأرض، وخلص بعضها إلى أن هناك اتفاقًا واسع النطاق بين الباحثين على أن الكتاب المقدس لا يمثل مصدرًا تاريخيًا علميًا، وبالتالي فإن رواية العودة إلى إسرائيل، أو إسرائيل الكبرى يمكن ربطها بخطاب جدلي، وليس تاريخًا مفصلًا للمنطقة أو الحقائق الديمغرافية على الأرض.

لقد أخضعت البروفيسور إيكاترينا ماتوي ـ مديرة برنامج الشراكة مع الشرق الأوسط  MEPEI ـ مقولات "هرتزل" والأصول التي أقام عليها بنيانه التوسعي لنقاش أقرب إلى اختبار صحة الأسانيد التي يستقي منها الشرعية التي تملك القدرة على الإقناع أو قياس المسافة التي تفصلها عن المشروع كحتمية تاريخية ومؤجلة.

إعلان

وتساءلت: إذا كانت هذه الأرض إسرائيلية، فلماذا يتم شراؤها من ملاك قانونيين قائمين؟ وإذا كانت أطروحة الأرض "القاحلة" التي روجت لها وسائل الإعلام، أو "الأرض الشاغرة" بحسب "هرتزل" فلماذا يشتريها الإسرائيليون؟

ليخلص البرنامج إلى القول: يمكننا أن نؤكد أن طبيعة مطالب هرتزل المتعلقة بالأرض ليست علمية، فبينما كانت هناك أسباب دفعت الحركة الصهيونية إلى التفكير في تأسيس دولة يهودية مستقلة، فإن موقع وطريقة تنفيذ مثل هذا المشروع كانا خاضعين لمفاوضات أطول مع ضامني القوة في تلك الأوقات، أي القوى الاستعمارية السابقة، ألمانيا، ثم الولايات المتحدة في وقت لاحق، وكانت هذه اتفاقات ذاتية.

وإذا كان قد تم تحقيق أهداف الحكم الذاتي والحماية الذاتية التي ذكرها هرتزل، فإن هذه الحماية الذاتية تعتمد بشكل كبير على المساعدات العسكرية الأميركية والأوروبية حتى يومنا هذا، ما يعني أن "إسرائيل الكبرى/ الشرق الأوسط الجديد" يظل قرارًا دوليًا وليس إسرائيليًا محليًا، وهو القرار المستحيل، بسبب المصالح الجيوسياسية للقوى الكبرى في منطقة الشرق الأوسط.

في هذا السياق فإن معهد القدس للإستراتيجية والأمن الذي تأسس عام 2017 ويصر على أهمية القدس الموحدة كأساس لأمن الدولة والهوية الوطنية للشعب الذي يعيش في "صهيون" بحسب زعمه.. تهكم من فكرة "شرق أوسط جديد" ما بعد "حزب الله، وقال في لغة ساخرة: "من السذاجة الاعتقاد بأن حدثًا واحدًا قد يغير المشهد السياسي في منطقة بأكملها، فحتى النهاية الحاسمة للحرب الباردة والنصر الحاسم الذي حققته الولايات المتحدة على صدام حسين ـ وهما حدثان كان لهما تأثير دولي كبير ـ لم يحدثا إلا القليل لتغيير السياسة المحلية أو الدولية في الشرق الأوسط.

ويعتقد المعهد أن الشبكة المعقدة من الديناميكيات المحلية والدولية لا تشجع على التعايش السلمي، وإذا كان السعي إلى تحقيق شرق أوسط أكثر سلامًا يشكل مشروعًا نبيلًا، بحسب زعمه، فإنه يظل مهمة شاقة في الوقت الراهن.

إعلان

وينتهي إلى القول: " إن الدرس الذي يجب على إسرائيل أن تتعلمه هو أنها سوف تضطر إلى العيش على سيفها لسنوات عديدة قادمة، ورغم أن فترات انخفاض التوتر، مثل تلك التي تتمتع بها إسرائيل مع مصر والأردن، ممكنة بالتأكيد، فإنها لا تعكس علاقة ثنائية مختلفة نوعيًا، مثل العلاقة بين كندا والولايات المتحدة، وإن الانتقال من علاقة غير عنيفة إلى صراع مسلح قد يحدث بسرعة، ولا بد أن تكون إسرائيل مستعدة لهذا الاحتمال".

لا يوجد ما يشير بوضوح إلى أن إسرائيل قد تتخلى عن هذا الهدف، أو أنها قد تتنازل عن مشروع إسرائيل الكبرى، ومع ذلك، فإن الفكرة الرئيسية التي تظهر في الحجج التي تدافع عن مشروع إسرائيل الكبرى، أي العصر "الجديد" الدائم، قد تمثل بالفعل سببًا للتأمل.

فمع اقتراب العالم من نهاية عصر النفط الكبير، وتضاعف طرق التجارة على المستويين؛ العالمي والإقليمي، سوف تكون هناك حاجة إلى تغييرات نموذجية جديدة بالنسبة للقوى العظمى التقليدية من أجل التنافس سلميًا مع القوى الصناعية والتجارية الناشئة.

وفي حين تتمتع إسرائيل باستقلال نسبي ـ كما تدعي ـ وتزيد من حصتها في حماية نفسها، فإن أهمية الدعم الأجنبي قد تظل تشكل عنصرًا أساسيًا في سياستها الإقليمية، وعند تحليل مشروع إسرائيل الكبرى، يتعين علينا أن نأخذ في الاعتبار ما إذا كانت دولة الحرب الدائمة المحتملة متوافقة مع التطلعات نحو التنمية الاقتصادية في زمن السلم، والتي من المفترض أن تنافس القوى الاقتصادية سريعة النمو في عصر جديد، ما يجعل فكرة "إسرائيل الكبرى/الشرق الأوسط الجديد" خرافة تصطدم مع أية قراءة رصينة وعاقلة، إن لم تكن حلمًا بعيد المنال، وبالتزامن مع تنامي نزعة الثأر من تل أبيب في المنطقة التي "عليها العين"، وبالتوازي أيضًا مع اختمار تيار إسرائيلي استشرافي بات أكثر قناعة بأن الشرق الأوسط الجديد.. قد يتشكل فعلًا على المدى البعيد، ولكن بدون دولة إسرائيل.

إعلان

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • هل لا يزال نتنياهو يحلم بمشروع إسرائيل الكبرى؟
  • ما تداعيات توقف المساعدات الأميركية على الأزمة الإنسانية في اليمن؟
  • تحذيرات من تفاقم الأزمة الإنسانية وتزايد البطالة في اليمن جراء وقف المساعدات الأمريكية
  • وقف المساعدات الأمريكية يفاقم الأزمة الإنسانية في اليمن
  • الأمم المتحدة: لا نزال قلقين إزاء هجمات إسرائيل بالضفة الغربية
  • الاقتصاد السوري يحتاج إلى نصف قرن لاستعادة عافيته بعد الحرب التي دمرته
  • "العدل الدولية" تسمح للاتحاد الأفريقي بالمشاركة في إجراءات بشأن إسرائيل
  • الولايات المتحدة ترفض المشاركة في رعاية مشروع قرار في الأمم المتحدة لدعم أوكرانيا قبل الذكرى السنوية للحرب
  • موجة استقالات تعصف بمكتب سيناتور ديمقراطي بالولايات المتحدة بسبب إسرائيل
  • الأونروا: اقتحام إسرائيل مركز قلنديا للتدريب انتهاك غير مسبوق لامتيازات الأمم المتحدة