كيم داروتش

ترجمة: أحمد شافعي

استيقظنا جميعًا في صباح يوم الجمعة على نبأ الضربات الجوية الأمريكية البريطانية لليمن. امتلأت شاشات التليفزيونات لدينا بصور لقاذفات القوات الجوية الملكية إذ تقلع في سماء الليل المتوسطية، وانفجارات تبدو عشوائية إذ تضيء لبرهات عابرة آفاقا معتمة عديمة الأسماء وكأنه عرض بطيء للعبة من ألعاب الفيديو.

لكن الأمر هنا يتعلق بأهداف استراتيجية، وبشر حقيقيين. فالطيارون البريطانيون والأمريكيون يخاطرون بحياتهم، والقنابل التي تسقط تحتهم تسقط على يمنيين على الأرض.

هذه مجموعة صور مألوفة على نحو يثير القلق، تستدعي من الذاكرة القصف الأمريكي البريطاني الفرنسي لسوريا في عام 2018، والقصف البريطاني الفرنسي لقوات القذافي في ليبيا سنة 2011، وحملة «الصدمة والرعب» في العراق سنة 2003. فكيف انتهت تلك الوقائع؟ ليس على خير كبير. ولكن الواقعة التي لم تحدث لم تنته على خير أيضا: أي الضربات الجوية الأمريكية البريطانية الفرنسية المقترحة بقيادة أوباما لقوات بشار الأسد بعد أن استعمل أسلحة كيميائية على شعبه في عام 2013.

ففي أغسطس من عام 2013، كنت مستشار الأمن الوطني في المملكة المتحدة، وأتذكر بمنتهى الوضوح جلستي في قبو المبنى رقم 10 بشارع داوننج في صباح يوم سبت مشمس، منصتا إلى باراك أوباما في مكالمة هاتفية مع ديفيد كاميرون. كان العرض الأمريكي محدودًا: ضربات جوية «جراحية» لقوات الحكومة السورية، وتجري مساء الأحد بأسرع ما يمكن. ولكن مفتشي الأمم المتحدة كانوا لا يزالون في سوريا، ولم يتسن الوفاء بالموعد المحدد، وظهرت فجوة زمنية أتاحت لمجلس الأمن الوطني ومجلس الوزراء النقاش ثم شاء القدر أن يجري استدعاء البرلمان.

ومثلما سيتبين من السجلات العلنية، توافرت إجراءات سليمة. فقد استغرقت وزارة الدفاع والجيش وقتًا في دراسة خطط الولايات المتحدة وأهدافها وخلصا إلى أن المقترح -خلافًا لحملة الصدمة والرعب- محدود أكثر مما ينبغي، وجراحي أكثر مما ينبغي، ويمثل إشارة للأسد تفتقر إلى الصرامة اللازمة. وقامت وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث بتحليل رد الفعل الدولي المحتمل. وأقام المحامون حجتهم بتوافق العمل مع القانون الدولي. وفي مجلس الأمن الوطني، تحدث وزراء متجهمو الوجوه بالتناوب، فدعم أغلبهم، ولزم اثنان منهم الحياد. كان ذلك هو النقيض لـ«حكم الأريكة» الذي تعرض لكثير من الانتقادات. ومع ذلك، في نهاية المطاف، ما قيمة كل ذلك؟ في مجلس العموم، صوَّت أعضاء البرلمان بما يريح ضمائرهم من دعمهم السابق لغزو العراق في عام 2003 وانتهوا إلى الرفض بفارق ثلاثة عشر صوتا: فكانت تلك هي المرة الأولى التي تخسر فيها الحكومة البريطانية تصويتا على عمل عسكري منذ عام 1782.

بعد أيام قليلة، تخلى أوباما عن خطط الضربات الجوية الأمريكية، واستقر على صفقة تنطوي على وعود سورية بتسليم قدراتها من الأسلحة الكيميائية. وأكد أوباما لاحقًا أن ذلك كان من أفضل القرارات التي اتخذها على الإطلاق: لكن اقرأوا سيرة ديفيد كاميرون لتطّلعوا على رؤية مختلفة اختلافا حادًّا. وفي النهاية انتصرت حكومة الأسد في حربها الأهلية، وكان الثمن دمارًا شاملًا للبلد، في حين وسَّعت روسيا وإيران نفوذهما. ورأى البعض في الواقعة نقطة تحول استراتيجية لم يبرأ منها الغرب قط. وإذن فالسوابق التاريخية محبطة. والتدخلات كانت تسوق القوات الغربية إلى التورط في حروب تبدو بلا نهايات. والتقاعس كان يعني تسليم أرض لأعدائنا والتنازل لهم عن امتيازات. فهل يمكن أن يختلف الحال هذه المرة؟ إن حجة العمل العسكري قوية. فقرابة 15% من التجارة العالمية تمر بالبحر الأحمر. وقد تزعم هجمات الحوثيين أنها تنتقي الشحن المتجه إلى الموانئ الإسرائيلية، لكن الواقع أنها عشوائية وتستهدف كل من يمر. وإرسال سفن الشحن في طريق رأس الرجاء الصالح -وهو أطول كثيرا- يضيف إلى الشحن تكاليف هائلة إذ يقدِّر بيتر صاند -محلل الشحن المقيم في كوبنهاجن- أن كل رحلة تتكلف وقودًا إضافيًا بمليون دولار أمريكي. وهذه التكاليف الإضافية تظهر عند التسوق وتهدِّد بتجدد التضخم في الوقت الذي أوشكت فيه البنوك المركزية أخيرًا أن تسيطر عليه. ومن شأنها أن تؤدي إلى أوجاع اقتصادية على كلا جانبي الأطلنطي.

لقد تراجعت أرقام بايدن جزئيا [في استطلاعات الرأي] بسبب اليأس من الاقتصاد الأمريكي، في حين يواجه حزب المحافظين [في المملكة المتحدة] رياحًا معاكسة قوامها نمو شبه منعدم، وأزمة في تكاليف المعيشة، وتكاليف مرتفعة في الطاقة والرهون العقارية، وتضخم عنيد.

وهل من المؤكد أن تستطيع أكبر قوتين جويتين في العالم التغلب على عشرين ألف مقاتل حوثي؟ حسن، ربما. فالسعوديون والإماراتيون، بطائرات غربية باهظة الثمن، قضوا سبع سنين يحاولون قصف الحوثيين والانتصار عليهم وفشلوا. من المؤكد أن الضربات الجوية الأمريكية والبريطانية سوف تلحق ضررًا كبيرا في قدرات الحوثيين، مدمرة محطات رادار، ومراكز قيادة، وذخيرة من الطائرات المسيرة والصواريخ والمروحيات. لكنها لن تقضي على كل شيء. إذ يبدو أن الإيرانيين مستعدون لتحمل تكاليف إعادة التجهيز بلا حدود. فبعض الأسلحة في هذه الحرب بالذات، من قبيل الطائرات المسيرة والقوارب السريعة الصغيرة، غيرُ باهظة الثمن ويمكن شراؤها بكميات كبيرة. غير أن هذه الأسلحة يمكنها إلحاق أضرار كبيرة لسفن غربية كبيرة وباهظة الثمن: ولا يغيب عنا من تجربة فوكلاندس مدى الدمار الذي قد يلحقه صاروخ واحد. وللولايات المتحدة في الشرق الأوسط والخليج قرابة عشرين سفينة حربية سوف تبلغ تكلفتها المليارات. ويعلم الأمريكيون أن أغلب الشحن الذي يمر في البحر الأحمر وقناة السويس يكون متجها إلى موانئ أوروبية وأمريكية.

كل ذلك يعني أن في هذه العملية مخاطرة كبيرة، وأنها محاطة بالشكوك. غير أن في ما يفعله جو بايدن وريشي سوناك شيئا عتيق الطراز، شبه متحفي. ولعلهما لا يكونان مدركين لذلك، لكنهما في واقع الأمر يقتفيان أثر استراتيجي البحرية الأمريكية العظيم في القرن التاسع عشر ألفريد ثاير ماهان، الذي كتب في عمله المميز «تأثير القوة البحرية على التاريخ» أن «من يَسُد الأمواج يَسُد العالم». ويقفان، فضلا عن ذلك، ممثلين للنظام العالمي القائم منذ ما بعد الحرب [العالمية الثانية]. ولسوف ينتصر القانون الدولي، ولسوف تسود القيم الغربية، ولا بد من الوقوف في وجه الفوضى، وأن يستعاد النظام، وأن تبقى المسارات البحرية مفتوحة. لكن في عصر الشعبوية والطغاة الذي نعيشه، نرى مصيري بايدن وسوناك السياسيين معلقين بخيط. فكلاهما يواجه انتخابات في غضون اثني عشر شهرا. وكلاهما متراجع الأرقام في استطلاعات الرأي. وقد يكون هذا نقطة تحول لأحدهما أو الآخر. وقد يكون النفس الأخير للنظام القديم. ومن جانبي، أرجو أن ينجح التدخل.

كيم داروتش عمل مستشارا للأمن الوطني في المملكة المتحدة بين 2021 و2025 وسفيرا لبريطانيا في الولايات المتحدة بين 2016 و2019

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الضربات الجویة الأمریکیة

إقرأ أيضاً:

أمريكا وإسرائيل.. حكاية حبّ يجب أن تُروى.. في السياسة لا بدّ من الإيضاح

1 ـ  خطوط متباعدة تلتقي بعد خمسة قرون

بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل حكاية حبّ بعيدة الغور ينسجها قدر خفي. وعلى خلاف نزار القباني الذي يقول عند وصف علاقة ما بين مثليتين: "وحكاية حب لا تُحكى** في الحبّ يغيب الإيضاح"، نقدّر أن الحكاية بين الدولتين المارقتين يجب أن تُحكى، فلعلّها أن تفسّر شيئا من تحالف الحروب والدّماء بينهما. لذلك تأخذنا هذه الورقة إلى وقائع بعيدة من التّاريخ وإلى يد خفيّة تنسج من خيوطه المتنافرة الحلّة التي يرتديها العالم اليوم.

ظهر أوّل خيطي القصّة في العام 1492. فلمّا كان أبو عبد الله محمد الثاني عشر، آخر ملوك الأندلس المسلمين، يُسلّم غرناطة إلى الملك الإسباني، كان المستكشف الإيطالي كريستوفر كولومبوس يبحر برعاية إسبانية متجها إلى الهند. ولا شكّ أنّ الحدثين متباعدان أشد التباعد أو منفصلان أشد الانفصال عن كيانين هجينين لم يريا النور بعد هما الولايات المتّحدة وإسرائيل ثانيا. ومن هنا توجّب الإيضاح !

تعود بدايات التحالف الرّسمي بين الصهاينة والولايات المتّحدة الأمريكية إلى المؤتمر اليهودي بنيويورك عام 1942. فقد اجتمعت 600 شخصية صهيونية وازنة في المؤتمر الذي ترأسه كل من حاييم وايزمن ممثلا للمنظمة الصهيونية ودايفد بن غوريون ممثلا للوكالة اليهودية. وقررت نقل التنسيق اليهودي من بريطانيا إلى الولايات المتحدة التي أضحت تتزعّم العالم.يشاء النسّاج وهو يغزل الخيط الأول أن تسقط الأندلس. ويدرك الغرب أن عدم تقديم الإمبراطورية العثمانية الغوث لمن استغاثوا بها من المسلمين مؤشر على بلوغها درجة من الضعف والهوان. فيجعلها لاحقا هدفا لنزعته الاستعماريّة بحثا عمّا تحتاجه ثورته الصّناعية من مواد أولية وأسواق. ويدرك بعدها أن اليهود يمثلون عبئا على اقتصاده. فيتخلّص منهم بأن يمنحهم فلسطين وطنا قوميا.

ويشاء أن يضلّ كريستوفر كولومبوس الطريق وهو يغزل الخيط الثّاني. فيكتشف العالم الجديد بالصدفة. ويشاء أن تنشأ الولايات المتحدة الأمريكية بعد قرون ليستولي وافدوها البيض على أراضي الهنود الحمر، السكان الأصليين، وليمارسوا ضدّهم عملية تطهير عرقي واسعة، وأن تتسيد العالم بجزئيه القديم والجديد.

وحاصل نسج الخيطين أن نشأت إسرائيل وطنا قوميا لليهود، وأن أخذت تعيد تجربة الولايات المتحدة. فتتقمص الدور نفسه  في الشرق الأوسط وتجعل من الفلسطينيين هنودا حمرا جددا. وهذا ما سنعرض شذرات سريعة منه على نحو مقارن ونترك التّفصيل للقارئ، فنحن لا نذكر إلا لنحفز ذاكرة لا تغيب عنها هذه المعارف بكل تأكيد.

2 ـ الهاربون من الجحيم يصنعون جحيم ضحاياهم

فضلا عن المغامرين الحالمين بالثروة من أصحاب شركات الاستثمار والتجارة، يعدّ الأوروبيون الذين قصدوا العالم الجديد غالبا، الأقلّ حظا في عالمهم القديم. فقد وصلوا إلى الأراضي الأمريكية عامّة هاربين من اضطهاد رجال دين بيوريتان (طائفة المتطهرين) أو من اضطهاد الكنيسة الإنغليكانية في عهد الملك شارل الأول. أما المهاجرون الألمان والبريسبتاريون (بروتستانت الكنيسة المشيخية) من شمال أسكتلندا وأيرلندا فقد غادروا بلدانهم هرباً من الفقر والحروب وممّا يتعرضون له من اضطهاد ديني، مستفيدين من قرار البرلمان البريطاني منح الجنسية لكل بروتستانتي يهاجر إلى أمريكا .

والدّافع نفسه كان وراء هجرة اليهود إلى فلسطين منذ نهاية القرن التاسع عشر. فقد كانوا عرضة لاضطهاد ديني يحمّلهم باستمرار مسؤولية تسليم المسيح للرومان لصلبه. ولأنهم كانوا يسيطرون على أسواق المال والذهب ويبسطون سلطانهم على الحياة الاقتصادية في المجتمعات التي يعيشون فيها وجدوا أنفسهم مخيرين بين الذوبان في الكيانات المسيحية أو التعرّض إلى التمييز والإقصاء، خاصّة في ظل تنامي النزعات القومية والتنافس الاقتصادي والحمّى الاستعمارية.

3 ـ الاستيلاء على الأراضي.. أوّل خطط الاستيطان

عمل الأوروبيون الوافدون إلى العالم الجديد على الاستيلاء على المناطق الخصبة. ولمّا واجهوا مقاومة من مالكيها الأصليين دمروا مزارعهم ورحّلوهم قسريا إلى المناطق الداخلية القاحلة. ولعلّ ما ورد في خطاب الرئيس أندرو جاكسون عند تنصيبه في 4 مارس 1829، كاف لتلخيص ما تعج به كتب المؤرخين من تفاصيل الاضطهاد والتهجير القسري والتطهير العرقي الذي تعرض له الهنود الحمر. فقد  أعلن أنه سيفعل ما هو ضروري "لإفراغ" القارة الشرقية من الهنود واحتلال أراضيهم. وبالفعل ففي 28 مايو 1830، وقّع على ما يعرف بقانون إزالة الهنود، [l'Indian Removal Act] وهو القانون الذي يبيح تهجيرهم من جميع ولايات الساحل الشرقي وتوطينهم في المحميات الواقعة غرب سهل المسيسيبي. ورغم قرار المحكمة العليا الذي منع هذا الإجراء، تم ترحيل حوالي 100.000 من الأمريكيين الأصليين حتى عام 1850. ولقي أكثر من 4000 حتفهم في الرحلة، بسبب المرض والجوع والتعرض لظروف الطقس القاسية فيما أصبح يعرف باسم درب الدموع.

وبعد نصف قرن من هذا القرار وما تبعه من الإجراءات ظهرت فكرة تمكين يهود الشتات من وطن قومي. واستدرجوا من كل حدب ليحلوا محل شعب قائم. فقد أسّس الأمريكي حييم وايتمن، عضو الحركة الصهيونية "شركة تطوير أراضي فلسطين" في يافا عام 1907 لاستقطابهم. ثم ابتاع الصندوق القومي اليهودي في 1910 أكثر 200.000 دونم من ضباط عثمانيين عبر وساطة لبنانين في سهل مرج بن عامر شمال فلسطيني. فأخلاها من ستين ألف مزارع يعملون فيها وعوّضهم بيهود أوروبا الشرقية ثم بآخرين من اليمن. وأمّن هربيرت صامويل، وصول نحو 34 ألف يهودي ومنحهم الجنسية الفلسطينية في 1925 وأسهم في تأسيس 13 مستوطنة جديدة.

4 ـ من الممارسة العنصرية إلى التطهير العرقي: جرائم الأمريكيين التي تبناها الصّهاينة

من منطلق الشعور بتفوق العرق الأبيض مارس الوافدون إلى العالم الجديد عنصريتهم ضدّ السّكان الأصليين. فلم تصفهم الكتب الإنجليزية بكونهم "وحوشا لا تعقل ويأكلون زوجاتهم وأبناءهم" إلا لتبرّر ما سيرتكبون ضدّهم من الإبادة الجماعية والتطهير العرقي. وبعد تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية انخرطت حكوماتها المتعاقبة في حملات إبادة ضدّهم.  فقد كان عددهم 12 مليونا في عام 1500. ولكن هذا الرّقم وصل إلى أقل من 237 ألف عام 1900، ويبلغ حالياً حوالي الخمسة ملايين نسمة، من أصل أكثر من 300 مليون نسمة، إجمالي سكان الولايات المتحدة. ويشمل الرّقم سكان ألاسكا الأصليين.

في الشطر الآخر من العالم وقبل النكبة بأشهر، كانت الاجتماعات التّنسيقية التي يشرف عليها الصهاينة تلتئم أسبوعيا. فتخطّط لطرد الأهالي من قراهم جماعيا. وطبقت الخطة داليت (أو د) ، وهي خطة وضعتها عصابة الهاجاناه في فلسطين بين خريف 1947 وربيع 1948 وأُقرت في سنة 1948، وكانت تهدف إلى تأمين تأسيس دولة يهودية في فلسطين، عبر  السيطرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينة وطرد أكبر عدد ممكن من الأهالي وفرض سياسة الأمر الواقع على الأرض. فطورت عصاباتهم صناعة قاذفات اللهب لحرق القرى وقامت باختبارها ميدانيا في خمس منها. وتولت عصابة بالماخ التي يقودها الضابط إسحاق رابين، الحائز على جائزة نوبل للسلام لاحقا، تدميرها وطرد 1500 قروي منها. وفي مذبحة دير ياسين قتلت العصابات والهجاناه 100 قروي بأمر من ديفيد بن غوريون الذي كتب في مذكراته لاحقا أنه كان يجب إيقاع ضربة حاسمة في كل هجوم ضد الفلسطينيين. 

وتواصل التطهير العرقي إثر النكبة. وتمّ تنفيذ خطته في نحشون ودیر یاسین وحيفا وعكا وبيسان ويافا. فارتكبت المذابح ومات الكثير من المهجرين عطشا. ومما تذكر المصادر الإسرائيلية نفسها أن الفلسطينيين كانوا يُرغمون على حفر الخنادق التي سيدفنون فيها لاحقا. طُرد نحو مليون نسمة من بيوتهم بقوة السلاح.

5 ـ طمس الثقافة الأصلية للاستيلاء على العقول

أنتج سكان أمريكا الأصليون أرقى حضارات العالم القديم مثل الإنكا والأزتك والمايا، واشتهرت بالزراعة والصناعة والصيد والعمران. ولكن الأوروبي الغازي عمل على طمس ثقافتهم للسيطرة عليهم. ففرض عليهم العزلة والتهميش بأن حشرهم في المحميات الخاصّة ومنعهم من ارتداء لباسهم التقليدي، وممارسة تقاليدهم، وتكلم لغاتهم الأصلية. ثم أخذ أطفالهم بالقوّة إلى المدارس المسيحية الخاصة؛ بغاية تمسيحهم وتربيتهم وفق المعايير والقيم البروتستانتية الأنجلو-ساكسونية. وتولّت هوليوود ترسيخ الصورة التي يريدها لهم البيض: بدائيين وهمجا وقتلة.

وهذه الصورة مطابقة لصورة الفلسطيني في السينما الإسرائيلية تقريبا. فقد ["تمثلت الصورة السينمائية للعربي الفلسطيني في الموجة الأولى من الأفلام الصهيونية بالذي "لا صورة له". فالحديث عنه ضمنيٌّ وبرؤية مبتورة مشوهة وشاحبة ولا أهمية لها. "كانوا عشرة (1961)" و"الخروج (1960)" نماذجٌ على تلك الأفلام. فمثلًا يحاكي فيلم "عمود النار (1959)" نمط أفلام الغرب الأمريكي. ويحكي قصة كيبوتس صغير في الجنوب يُصدم ساكنوه بمواجهة دبابات مصرية يعاونها مجموعة من الفدائيين الفلسطينيين لا يظهرون بطريقة مباشرة. وتندلع المواجهة على طريقة مطاردة راعي البقر الأبيض للهندي الأحمر الهمجي. ولم يفت على السينما الإسرائيلية صورة الفلسطيني الهمجي. إذ يُظهر الفلم الوثائقي "قصة فلسطين (1962)" العرب في أعين المهاجرين الصهاينة كقبيلة وثنية شديدة البدائية. ويعلق الراوي على جهلهم استخدام الآليات الزراعية، ويطرَح بحسرة سؤاله: "أهذه هي أرضنا المشتهاة؟" فيجيب: "لا، ما دام هؤلاء فيها".

وفي فيلم "لقد مشى عبر الحقول (1967)" كان لا وجود للفلسطيني أصلًا. فقدم حرب 1948 كحرب تستهدف البريطانيين حصرًا. ويروي الفيلم قصة أوري، أول طفل يولد في فلسطين. يصبح محاربًا في البالماخ، سلاح العاصفة في الهاقانا [الهجاناه]، ويقع في حب فتاة مهاجرة"]. [والفقرة بأسرها مقتبسة عن مصطفى علي، موقع https://thmanyah.com/)

6 ـ  التقاء الخطين المتوازيين عند الدّم الفلسطيني

تعود بدايات التحالف الرّسمي بين الصهاينة والولايات المتّحدة الأمريكية إلى المؤتمر اليهودي  بنيويورك عام 1942. فقد اجتمعت 600 شخصية صهيونية وازنة في المؤتمر الذي ترأسه كل من حاييم وايزمن ممثلا للمنظمة الصهيونية ودايفد بن غوريون ممثلا للوكالة اليهودية. وقررت نقل التنسيق اليهودي من بريطانيا إلى الولايات المتحدة التي أضحت تتزعّم العالم. وفي مؤتمرها اللاحق بعد سنتين طالبت بإخراج بريطانيا التي باتت تتراجع حضاريا وعسكريا وباتت الشمس تغرب عنها من فلسطين توفير حماية دولية لليهود وإنشاء كومنويلث على كامل الأراضي الفلسطينية "يكون مخلصا لمصالح الولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط". وليضمنوا ولاء الساسة الأمريكيين لفكرة الصهيونية ركزوا لوبي قويا واسع النفوذ الاقتصادي والسياسي والإعلامي. فتمكّنوا من السيطرة على مفاصل الدّولة. وأقاموا العلاقات المتينة بالحزبين الكبيرين. وهيمنوا على أصحاب القرار فيهما. وحولوا الولاء إلى فكرة الوطن القومي لليهود إلى مصعد يعتمد عليه كل ذي طموح سياسي. وهذا ما جعل العلاقة بين البلدين لاحقا قائمة على مفارقة. فالولايات المتحدة، البلد الأقوى أصبحت تابعة لإسرائيل مرتهنة في قرارها الوطني لمصالحها. أما إسرائيل فتتقمص باستمرار دور الولايات المتحدة في علاقتها بالسكّان الأصليين. فتمعن في بطشها بهم بغطاء دولي تفرضه الولايات المتحدة وحلفاؤها فرضا.

7 ـ  المرايا المحدّبة

لهذه العلاقة القلّب ما يفسّرها موضوعيا. فإسرائيل تمثل موطئ قدم لأمريكا يخوّل لها مراقبة الشرق عامة وفي الآن نفسه تمثّل ضمانة لإخضاع العرب أعداء الغرب الحضاريين المحتملين.. والاستيلاء على فلسطين عمل إمبريالي ذو عمق عسكري واقتصادي في جوهره يتخفى بالدين. ولكن في مفهوم التّقمص الذي طوّره علم النّفس التّحليلي زاوية أخرى قد تفسّر هذه العلاقة. فقد أخرج علم النفس التحليلي هذا المفهوم من خلفياته الميتافيزيقية لفهم نمو البناء النرجسي للفرد. فاتخذه فرويد أداة لتفسير النمو النفسي والعقلي للأطفال. وقدّر أنّ الطفل يتأثر بذات أخرى من محيطه، فيراقبها ويعجب بما تفعل أو بكيفية تفكيرها.

تواصل التطهير العرقي إثر النكبة. وتمّ تنفيذ خطته في نحشون ودیر یاسین وحيفا وعكا وبيسان ويافا. فارتكبت المذابح ومات الكثير من المهجرين عطشا. ومما تذكر المصادر الإسرائيلية نفسها أن الفلسطينيين كانوا يُرغمون على حفر الخنادق التي سيدفنون فيها لاحقا. طُرد نحو مليون نسمة من بيوتهم بقوة السلاح.ثم يعيد إنتاج حاصل هذه المراقبة. فيتجاوز الأمر تقليد هذه السّمات ومحاكاتها، لتصبح عنصرا فاعلا في بناء شخصيّته هو، وفي اكتسابه لهويّته الخاصّة. ثم تكون النّرجسية الثّانوية. فتمثّل مرحلة لاحقة، تنقطع فيها الذات عن اتّجاهها إلى ذاتها وتكتسب القدرة على الاتّجاه إلى العالم الخارجي. ثمّ طوّر جاك لاكان  هذه الآلية التفسيرية. فاصطلح على التّقمص الأوّلي بمرحلة المرآة. وجعل مدارها على اكتشاف الأطفال لذواتهم وتمثّل هويّاتهم الجسديّة عبر تقمّص شبيه بإدراك صورهم من خلال مرآة حقيقيّة أو ما يشبهها من الآليات الرّمزية التي تسهم في إدراك الذات لذاتها.

ولا تُعدّ عنده المرآة مرحلة في حياة الرّضيع تنتهي بتجاوزها، وإنّما يتواصل أثرها. فهي تسهم في توفير الهويّة المرئيّة التي يتمّ الحصول عليها من المرآة باعتبارها "شكلًا" خياليًا لتجربة حقيقية مجزّأة. وتتعلّق بإدراك الذّات انطلاقا من الآخر. وعلى هذا النّحو يتحوّل التقمّص من خلق أنا مرآتية إلى إيجاد أنا اجتماعيّة. فيتحقّق البناء النرّجسي لينطلق المرء من صورة الذّات حتّى يدرك الآخر ضمانا لبعده الاجتماعي.

ونحن نستعرض مسار تأسيس إسرائيل الذي قام على الاستيلاء على أراضي السكان الأصليين واضطهادهم وممارسة التهجير القسري والتطهير العرقي ضدّهم. فنجد فيه إعادة لمسار تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، يطرح والسؤال: ألا يجوز أن نسحب مفهوم التقمّص من تشكيل الهوية الفردية إلى تشكيل الهوية الجماعية؟ ألا نجد فيه ما يفسّر التركيبة النفسية للجماعات وما يجعلنا نفهم شيئا من "العشق المتبادل" بين الولايات المتحدة وإسرائيل؟ فعلى نحو ما تتقمص إسرائيل دور الولايات المتحدة وهي تعيد إنتاج تاريخها القذر. وتنظر الولايات المتّحدة بالمقابل، إلى هذه القصّة وهي تتشكّل بكثير من الذاتية. فترى نفسها وتاريخها في كل ما تفعله إسرائيل. ولا تملك إلاّ أن تصادق عليه لتضفي شرعية على تاريخها الإجرامي.

ليس ما نذكره غير انطباع ما، بشأن أحداث من التاريخ تبدو متباعدة وبشأن العلاقة المعقّدة بين الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل لا أكثر. ولكننا نميل إليه، وبه نبرّر اشتهار رقصة الهندي الأحمر والفلسطيني إثر الغزو الإسرائيلي لغزة. ففي اشتهاره إقرار ضمني بتوازي مساري المغتصبين على نحو مرآتي وتماثل مصير الضحايا على نحو درامي.

مقالات مشابهة

  • الجيش الأمريكي يعلن تدمير موقعي رادار وزورقين للحوثيين في البحر الأحمر
  • بريطانيا تعلن عن تعرض إقتصادها لخسائر فادحة منذ مشاركتها في التحالف الأمريكي في البحر الأحمر
  • "ميرسك": الشركة قد تعتمد على "رأس الرجاء الصالح" طوال 2024
  • فورين بوليسي: البحرية الأمريكية فشلت في البحر الأحمر
  • القيادة المركزية العسكرية الأمريكية: تدمير موقع رادار بمنطقة يسيطر عليها الحوثيون باليمن
  • رُب ضارة نافعة.. هجمات البحر الأحمر تُدر الملايين على سفن الحاويات
  • أمريكا وإسرائيل.. حكاية حبّ يجب أن تُروى.. في السياسة لا بدّ من الإيضاح
  • تقرير أمريكي يكشف عجز قدرات واشنطن البحرية
  • الحوثيون يعلنون تنفيذ 4 عمليات عسكرية ضد سفن إسرائيلية وأمريكية وبريطانية
  • لم نخض مثلها منذ الحرب العالمية.. قبطان أمريكي يكشف خطورة الوضع بالبحر الأحمر