عبد الكريم البليخ صدقت مقولة الشاعر عندما قال: مشينا خطىً كتبت علينا … ومن كتبت عليه خطىً مشاها ما أصدقه من بيت شعر عرف قائله كيف يُثير فينا نوازع الغربة وما يصاحبها من ألم وحسرة وضيق حال، وهو يصف حالة الخطى التي أوصلت الكثير منا إلى بلاد قصية طالما كانت تسجل حلماً بالنسبة للكثيرين من جيلنا ومن سبقهم، ومن الشباب الطموح الذي ظل يحلم، مجرد حلم، بزيارة بلاد العم سام والدول الأوربية وغيرها.
وفي هذا المقام، أتذكر مقولة صديق طفولة، قضى أياماً طويلة في دراسة الطبّ في احدى الدول الأوربية، وحاول، وبكل جهد مضني بعد تخرجه من الجامعة أن استقر به الحال في مدينة حلب الشهباء، إلّا أنَّ ظروفه القاهرة وضيق ذات اليد عادت به إلى لوعة الفراق، بغيابه مرة أخرى عن الأهل والأحبّة والأصدقاء، ما اضطرته ظروفه إلى
السفر إلى دول الخليج العربي ليتمكن من شراء شقّة سكنية في حيّ متواضع في مسقط رأسه، و سبق له أن سافر إلى دول أمريكا الجنوبية لفترة وجيزة، واستطاع من تقوية لغته الإنكليزية وتحسين مستواه، ولم تدم فترة إقامته هناك أكثر من ستة أشهر، وعاد مرة أخرى إلى مدينته يَجرُّ ذيول الغربة القاتلة، وها هو اليوم يمضي سنوات بعيداً عن الأهل والأحبّة مقيماً في إحدى دول الخليج العربي، ورئيساً لمركز طبّي هناك يُلملم جراحه!. هذا الصديق الطبيب، لطالما يردّد مقولة: “اللي يُحبّه ربّه يُشوْفُه مُلكُه”، وقد اتضح لي مع مرور الوقت أنَّ ما قاله صديقي المغترب في محله، وتجلى ذلك من خلال السفر، الذي هو في الواقع يُعدّ مدرسة في هذه الحياة التي نعيش أوارها المستعرة!. السفر، كما يقال: “قطعة من النار”، وإن تعددت أوجهه، سواء أكان ذلك بداعي العمل أو السياحة، فهو يثير في النفس مرارة الشوق واللوعة والفراق!. وإن كان هذا الأنموذج لا زال له بريقه بالنسبة لنا، نحن الذين جبلنا على التغنّي بالأسفار والركض وراءها والتمجيد بها، وإن كانت فرصة لمن يريد الاستفادة منها في كثير من الأوجه، إلّا أنَّ ما يمكن أن نجنيه منها يحتاج إلى تركيز وصبر وأناة وحلم كبيرين، وفي النهاية سيكون الحصاد مثمراً، ولكن بقضاء أياماً لا يمكن تصويرها ولا يمكن لها أن تعود. والعودة إليها فيه الكثير من الصعوبة، لأننا فقدناها..! وفي لحظة ما قد يفقد المرء إنسان عزيز، وهو في بلاد الغربة، وهذا الفقدان، وإن كان مؤقتاً بعد أن جمعتهما الأيام، في عمل ما، وترك أحدهما الآخر، فقد يكون ذلك له أثره المباشر في تكوينه، وإن كانت الأيام شهدت على علاقتهما لفترة محدودة، ولكن الألفة والود والاحترام دفعت به إلى التعلّق بذلك الصديق تعلقاً كبيراً، إذا قسنا تلك العلاقة بعلاقته مع صديق طفولته قد لا توازيه محبّة ولا شوق، وهنا يكون الأنموذج، وإن كان وقتي إلا أنّه أثمر صداقة مخلصة، وفية ومبهجة. فالسفر مفتاح الحياة النبيلة، ويفتح أمام المرء آفاقاً غريبة، ويدفع به إلى تعلّم أشياء جديدة، وعبر ونماذج أخرى كانت مغلقة أبوابها أمامه، ومن خلال التجربة والانخراط فيها، وهذا يكرّس إلى تفعيل دورنا في الحياة بدلاً من عدم الانفعال والتفاعل فيها. وهناك العديد من الصور التي تناولت السفر، أبعاده ومحطاته والصعاب التي تواجه المرء للوصول إلى هدفه، ومنها ما أورده الأديب الطبيب عبد السلام العجيلي، طيّب الله ثراه، عندما وصف لنا السفر في كتبه المنشورة، ومنها ما جاء في مجموعته القصصية: “دعوة إلى السفر”، و”حكايات من الرحلات”، وغير ذلك من الكتّاب والمشاهير العظام. وخير من عبر عن ذلك الإمام الشافعي: تغرّب عن الأوطان في طلب العلا، وسافر ففي الأسفار خمس فوائد: “تفريج همٍّ، واكتساب معيشةٍ، وعلمٍ، وآدابٍ، وصحبة ماجد”. وكل ما يهمنا أنَّ الخطى التي بدأناها لا تزال تتقدم، ونأمل أن تظل كذلك حتى يكتب الله أمراً له نتائجه ومنحاه الذي رسمنا له طريقاً مفروشاً بالورود، وسيكون لتلك الخطوات نتائجها الإيجابية على المدى البعيد وإن طالت. صحافي سوري مقيم في النمسا
المصدر: رأي اليوم
إقرأ أيضاً:
خطيب الأوقاف: القرآن الكريم أمرنا بإعمال العقل
قال الشيخ محمد عوض، من علماء الأزهر الشريف، إنه ما أقبح أن يعطل الإنسان ويغيب عقله ويدخل نفسه في دوامة المرضى ويهدم بنيان الرب ويخرج نفسه عن دائرة الآدميين.
وأضاف عوض، في خطبة الجمعة من مسجد العباسي بمحافظة بورسعيد، متحدثا عن موضوع "المخدرات ضياع للإنسان"، أن القرآن الكريم ذكر آيات كريمة في ضرورة إعمال العقل.
وذكر أن من هذه الآيات ما يلي:
(أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
(فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
(كَذَٰلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
(وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ)
(وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ ۖ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ ۗ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ)
(يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا ۖ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي ۚ أَفَلَا تَعْقِلُونَ)
(إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)
كما ذكرت السنة النبوية مجموعة من الأحاديث النبوية عن الحذر والتنفير من كل ما يعطل العقول، فقال رسول الله (لعن الله الخمر وشاربها وعاصرها والمعصورة له وحاملها والمحمولة إليها وبائعها ومبتاعها).
وأشار إلى أن كثيرا من العقلاء نفروا عن تناول المسكرات من قبل أن ينزل تحريمها منهم: قيس بن عاصم، وأبو بكر الصديق، كانوا يقولون (نصون عنها أعراضنا ونحفظ عنها مروءتنا ولا نتناول الجهل بأيدينا فنجعله في أجوافنا).