زياد جيوسي دوما كان الشعر يشدني بقوة منذ الطفولة ويجعلني أحلق في الكلمات وما وراء الكلمات، وكلما كان النص أمامي يحفل بالرمزية والفكرة والصور والجرس الموسيقي واللوحات كلما شدني أكثر، فالجمال بالشعر لوحات مرسومة بالكلمات تلونها روح الشاعر وما يريد قوله بتصوير لحكاية أو حدث، وألوانها مشاعر وأحاسيس وأفقها وفضائها الجمال، ومن هذه النصوص التي شدتني بقوة نصين للشاعر اسحق عثمان هما: “في مَكانٍ ما بِقَلبي” و”حنين” والشاعر من الشعراء الذين اقرأ لهم باستمرار وإن لم تسنح الظروف أن نلتقي مواجهة.

وفي النص الأول نجد أن المسرح مكان ما من قلب الشاعر ومحور النص “نَبيٌ يَختَبِئ” ولكنه “يأبى الظهور” بينما في روح الشاعر “نبوءة شفافة كالماء”، ورغم انها كماء شفيف بلا لون ولا طعم ولا رائحة ولا ثبات، إلا أنها “تترك ندوبا من خرير وحرير”، والخرير صوت والحرير ملمس، وفي هذا الوصف للحدث ومسرحه وشخوصه يتألق الشاعر في قصيدة حفلت بالرمزية وصور من جمال، فكأنها لوحات مرسومة بألوان الحروف وريشة الفنان. هي النبوءة في روح الشاعر التي تأخذه إلى سهاد فهي “على الإمساك عصية” ولكنها نبوءة “تستفز التشويق” وتتقمصه فيقول: “أنا الفَضاء ،، وهي الأَثْير” وحين تتقمصه يقول: “أُجَسِّدُ الخَلقَ والواقِعَ”، ليكمل بالقول: ” أَجْمَعُ نَفْسي وما وَقَرَ وَقَرَّ” فيكون من الحياة في حياة، “داعيا الى نجاة”و “ضامرا على فرات”، فيكون بذلك من العين قرير حين يحتك سره بالناموس والغيب بالمبهم المجهول، ويتمازج الذي مضى بواقع الحاضر وحلم الغد الآتي، فعندها فقط “يَنداحُ الضَّبَابُ .. يَتَدَاعَى لَبْس الغُموض”، فالستر والحجب قد رفعت “عن بصيرة نفاذ” ونلاحظ هنا ان الشاعر تحدث عن البصيرة وليس البصر، فالبصر له ما يراه أمامه بالنور، والبصيرة ترى بالقلب والروح ما وراء المحجوب والمستور، فيرى الغد قبل أن يأتي وهو يصحو من سبات، والأهم انه يرى الحقائق، فيكتب الحقيقة شعرا أو نثرا وينشد للنضج والفلق وحب السنابل.. فعندها فقط يكون الحصاد.. وفي النص الثاني “حنين” ورأيت فيه ست لوحات كان الحنين يعصف بالنص، فبدأ اللوحة الأولى بالحديث على لسان تلك المرأة المجهولة التي عرف عليها بقوله: “سيدة في المساء” وهي اشارة انها في سنوات متأخرة من عمرها كما المساء لحظات نهاية النهار وبدء مرحلة العتمة، بقوله: “تقول” وهو فعل مضارع يشير للحظة الآنية وليس للماضي أو المستقبل، فتتحدث عن فهمها للحنين وتصفه أنه “مضغة الشوق، العالقة، على أغصان الضلوع والحنايا”، فالحنين لدى سيدة المساء مرتبط بالحب فهو “بين صهوة الفؤاد وصهيل القلب”، ونلاحظ أن استخدام كلمة “صهيل” وهو صوت الخيول الحرة في البراري مع الخيول الأخرى، بينما يلاحظ أن الخيول حبيسة الاسطبلات قليلة الصهيل بسبب حياتها الرتيبة وبعدها عن حرية البراري، وهذه اشارة رمزية لسيدة المساء بأنها كانت كما الخيل في البراري ولكن قلبها هو من يصهل، والحب يمتطي صهوة الفؤاد بتشبيه قوي للقلب بالجواد، فالانسان يمتطي صهوة الجواد والحب يمتطي صهوة القلب، ويبقى السؤال لماذا هذا الصهيل؟ ويأتي الجواب بسرعة فمشاعر السيدة ” تروَىَ مِن دَمعِ الحِگايَةِ .. وصَحوَةِ الذِّکْرَيات”، بينما ما تبقى لها من هذه الذكريات ومن هذا الحب “صَمْغُ الشَّذَى والحَگايا، مِن مُدِن.. وَجْهُهَا المَاء” وهذا الذي تبقى من ذكريات ” لا تُجْرَحُ فيها الـ مَرآيا !! ولا تَجْرَحُ مِنها الزَّوَايا “. بينما في اللوحة الثانية ينقلنا الشاعر من الحنين الذي تفجر في فؤاد سيدة المساء وصهيل قلبها إلى الواقع الحالي الذي تعيش فيه، فهي الآن “على الأطلالِ تَرسو في الغَدَاةِ” ولا تكف عن الحنين والنداء لمن اعتلى صهوة القلب “شِرعَتُها وشِراعُها نِداء، على سَتائِرِ الرُّوحِ ؛ وقِبْلَةِ النَّوَايا گالشِّعرِ مُعَلَّقات..”، فلا تمتلك إلا الهرب “من ثأر النرجس” فهل أخطأت بحق من اعتلى صهوة قلبها فتخاف من ثأره؟ وخاصة أن النرجس زهرة ربيعية ارتبط اسمها بإسم الفتى المعجب بنفسه الى حد الغرور حتى تحولت صورته التي يتأملها على صفحة الماء إلى زهرة النرجس، وهي تهرب أيضا من “الغَسَقِ المُغْمِض في البَنَفْسجِ” والغسق أول عتمة الليل وظلامه والبنفسج صنف ينتج ورودا بيضاء أو بنفسجية عطرة وأوراقها كما القلب، فهل في قلب من اعتلى صهوة قلبها جمال البنفسج وعطره كما لو أنه “الناضِج على البُرتُقال ..” بسبب “جفاف النهار” برمزية لجفاف الحب، فمات الحب و”ما اسْتَوَى على سُوقِهِ !؟” كما تستوي سنابل القمح ولم يترك سوى الذكريات والحنين. من هذه المراحل التي مرت بها سيدة المساء وشكلت التتالي لمرحلة تمر بها حتى وصلنا للذروة في القصيدة، ينقلنا الشاعر لمرحلة مهمة وهي وقفة السيدة بمواجهة نفسها أمام هذا الحب الذي كان يعصف بها، فتقف وتراجع نفسها في اللوحة الثالثة وتقرر أن لا يدمرها الماضي والتفكير فيه فهي تقف وتهمس بقوة “أعيد تدويري” وهنا مصطلح يستخدم في اعادة تدوير منتوجات سبق أن تمت صناعتها وانتهى دورها فيتم اعادة تدويرها كما اللدائن “البلاستيك” والزجاج وعلب الألمنيوم التي تستخدم بالمشروبات والعصائر والورق سواء العادي من مخلفات المطابع أو المقوى على شكل صناديق لوضع البضائع بها، وهذا يشير أن اعادة التدوير تعتمد على المادة نفسها وتعيد تدويرها بأشكال جديدة بدون أن تفقد خصائصها الأولى، ومن هنا كان الإدهاش بالنص أن سيدة النص ستعيد تدوير نفسها وهي تقصد طبعا الروح والمشاعر والأحاسيس لتتغلب على ما انتهى من مراحل مضت والبدء بمرحلة جديدة، فهي تهمس لنفسها متخذة القرار “أعيد تدويري” والهدف من ذلك “لِـ أَغْدو لُغَة الصَّباحِ الجَديدَة” وهذه اللغة نجدها بصورة جميلة “في النَّدى المَسْكوب مِن گأسِ الزَّنابِق”، فلنتخيل المشهد برؤية زنبقة بالصباح وزهرتها بأوراقها تشبه الكأس والندى الصباحي ينسكب منه “فَـ يَنهَضُ الگرَى عن خَدِّ البَتَلات”، ويهمس الندى أنه أصبح ” زَيتُ الفَوانيسِ المُسْرَج” بمرحلة جديدة حيث الحبيب يبقى “الساکِن في نَبضِ المَدَى”، ويبقى الحنين قائما “في رَجعِ الصَّدى والضَّمير”، دون انفكاك عن مرحلة مرت ويبقى الحنين” دُونَما انْفِگاک عن غِمدِ العُرى في جُمْلَةِ حَوَّاء” ويصبح الغد من جديد خيول برية حرة منطلقة حيث تؤكد سيدة النص أن الاشراقة الجديدة ستكون لها كما “على أَعناقِ صَبابا الصَّهيلِ في غَدي”. في اللوحة الرابعة والتي تبدأ بالسؤال “كيف؟” وتتكرر فيها عملية طرح الأسئلة “في دائِرَةِ النَّاموسِ والأَلْغَاز، ودَورَةِ السِّرّ السُّؤال”، وبعدها “متى؟” نجد أن التساؤلات تنحصر بالحال والزمان حيث “يَؤولُ نِصف وَتَرِ المُجونِ؛ في قَوسِ عُرجُونٍ، يَدنو مِن بُؤْرَةِ َشْرَعُ إلى اقْتِفاءِ البِدايَة ؟؟” حتى نرى سيدة النص “تَجْثو في مِحرابِ السُّکُون” وهناك وفي ذلك المحراب ” تَتَقَمَّصُ الطُّهْرَ” حتى نراها “گما أُقْحُوَانَة” فهي “لَيسَ بِجاذِبَةِ التَّمَاهي” وكأنها تهمس: لا تلوموني “لِئَلّا أُگرِّر الخَطيئَة”. لينقلنا الشاعر للوحة الخامسة ويبدأها بالسؤال على لسان سيدة النص ضمن لوحة مرسومة بالكلمات حافلة بالتشابيه والرمزية: ” هَلْ ..؟ أَتْرُکُ تُفَّاحَةَ النُّدمان ؛ عالِقَةً على صَدرِ المُشْتَهى ؟؟ دُونَما رِداءٍ ،، تُوغِلُ في خُصوبَةِ الحُلْمِ، تَشْكو فَوَران الفُرات”، فتخيلوا معي جمالية هذه اللوحة والتشبيه والرمزية فيها وحجم الصرخات في أعماق سيدة النص التي تكمل برجاء: ” دَعوني ؛ لـِ أَرعىَ ،، أَحتَوي، ثُمَّ أَرتَدي، قَبلَ خَطايا الأرضِ، ثَوبَ السَّماء _ أوَّاب” فسيدة النص هنا في صراع داخلي بين الرغبة والمقاومة فتنهي النداء والرجاء بالحسم: “ولَيسَ كُلُّ مَن اشْتَدَّ بِهِ الجَوَى . أَصَابَ النّواة فَاحتَوَى أنينَ الخَلَجَات” وتؤكد على اصرارها: ” لَن أَتْرُگ القِشْرَ والنَّوى”. في اللوحة السادسة والأخيرة من النص يوصلنا الشاعر الى النهاية بعد أن روى شعرا وعبر النص قصة شعرية، فسيدة النص ترى أن هذه الحياة ليست أكثر من مواسم موت فتقول: “فدَعوني لـِ أَحيَا مَواسِم هَذَا المُوت” وتقول أن الآخرين سواء المتفائل والرحال والفلاح أطلقوا عليه ” مَجَازًا ،، اسمَ الحَياة !؟”، فهي في ترى أن تحيا “بينَ وَمْضَةِ رَجاء وغَفْلَةِ اشْتِهاء” وأيضا ” دُخانِ الاْحتِراق”، ولذا تراها تهمس لنفسها: ” أَعصُرُ شَهْوَةَ أَكْمامي، مِن عُذْرِيّةِ الجَفَاف” وتواصل همساتها: ” أُدَوزِنُ إِيقاعَ اللَّذَّة، وما لَحَنَ مِن إغواء”، وهي ترى من خلال ذلك أنها حلفت بروحها وليس جسدها فتقول: ” أُلْهِمُ السَّنابِلَ ؛ مِن فَيضِ اضاءاتِ روحي” حتى تصل إلى ما تروم اليه من هدفين: ” حَتَّى أَبْلُغ – بِكُلِّ انْشِغاف – أجَل القِطاف، ” أو أصهر ذاتي في بوتقةِ الأنام” وعندها ومن قلب فَراش مهجتها الهائم تصل للنهاية وتختم الحكاية وتقول: ” أَرفَعُ شِراعِيَ المَصلوب، أُنْزِلُ المرساة”. فنجد أنفسنا بين نصين الأول نص فلسفي في البحث عن الحقيقة الغائبة، نرى فيها الشاعر يحمل مصباح ديوجين تحت الشمس ويبحث عن اللامرئي وينشر جناحيه كطائر يشدو للإفصاح والتعبير، وفي الثاني قصة شعرية تجول في أعماق الروح وصراعها بين تضادين، فكان الشاعر في النصين متألقا بقوة اللغة وتكثيف العبارات محلقا في جمالية الفكرة، يرسم بالحروف لوحات حملت الكثير من الجماليات برمزية غير مغرقة ولكنها تحتاج قراءة متأنية ودقيقة، مستخدما التشبيه ليمنح اللوحات جمالية أخرى. “عمَّان 15/7/2023”

المصدر: رأي اليوم

كلمات دلالية: فی الب

إقرأ أيضاً:

النص الكامل لعظة راعي الأبرشية مار بطرس قسيس خلال قداس ليلة عيد الميلاد بحلب

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قال راعي الأبرشية  مار بطرس قسيس في عظة الميلاد والتي القاها خلال القداس في كاتدرائية مار أفرام السرياني بالسليمانية بحلب:

الأحباء الكهنة والشمامسة وأعضاء المجالس الملية واللجان والمؤسسات وعموم أبناء الأبرشية الموقرين

نعمة لكم وسلام من الله أبينا يسوع المسيح إلهنا ومخلصنا.

إنها ليلة الميلاد المجيد، الليلة التي تحققت فيها أولى خطوات الوعد الإلهي بأنَّ نسل المرأة يسحق رأس الحية. الليلة التي تصالحت فيها السماء مع الأرض بميلاد المخلص الذي سيرفع خطيئة العالم. الليلة التي رنمت فيها طغمات الملائكة نشيد الظفر معلنة مد جسر العبور، عبور البشر من الأرض إلى السماء، وعبور النعم والبركات من السماء إلى الأرض.

ولكن الأهم ضمن هذه النعم والبركات التي حصلنا عليها بميلاد رب المجد، معرفتنا الحقة بأن الله يحبنا، كما عبر عن ذلك يوحنا الرسول في رسالته الأولى قائلاً: "بهذه أُظهرت محبة الله فينا: أن الله قد أرسل ابنه الوحيد إلى العالم لكي نحيا به".

محبة الله لخليقته، أيها الأحبة، هي طبيعة الله الحقيقية، لأن الله محبة. 

وقد تجلت هذه المحبة للإنسان منذ البدء بأن هيأ له أفضل الظروف لكي يعيش حياة هانئة وسعيدة، في سلام وخير، مع الآخر، طبيعة كان أو مخلوقات. ولكن سرعان ما ظل الإنسان عن طريق الله ساقطاً في فخ الكبرياء المقيت وخاضعاً لإرادة الشرير ابليس.

ومشت الإنسانية في ظل الخوف والموت زماناً طويلاً، وما كانت تقدم لنفسها إلا مزيداً من السقوط والانحدار، وكأنها تقوم بإفناء نفسها. فأتى الميلاد. ميلاد الكلمة يسوع المسيح. وفي الحقيقة، فإن هذا العمل العظيم هو لائق بدرجة فائقة بصلاح الله. لأنه إذا أسس ملكٌ مدينةً، ثم بسبب إهمال سكانها حاربها اللصوص، فإنه لا يهملها قط، بل ينتقم من اللصوص ويخلّصها لأنها صنعة يديه وهو غير ناظر إلى إهمال سكانها، بل إلى ما يليق به هو ذاته.

هكذا وبالأكثر جداً، فإن كلمة الآب كلي الصلاح، لم يتخلّ عن الجنس البشري الذي خُلق بواسطته، ولم يتركه ينحدر إلى الفناء، بل أبطل الموت الذي حدث نتيجة التعدي، بتقديم جسده الخاص. ثم قوَّم إهمالهم بتعاليمه، وبقوته الخاصة أصلح كل أحوال البشر.   
في هذا يقول القديس أثناسيوس في كتابه تجسد الكلمة: "أنه لم يكن ممكناً أن يُحوِّل الفاسد إلى عدم فساد إلا المخلص نفسه، الذي خلق منذ البدء كل شيء من العدم. ولم يكن ممكناً أن يعيد خلق البشر ليكونوا على صورة الله إلا الذي هو صورة الآب. ولم يكن ممكناً أن يجعل الإنسان المائت غير مائت إلا يسوع المسيح الذي هو الحياة ذاتها. ولم يكن ممكناً أن يُعلِّم البشر عن الآب ويقضي على عبادة الأوثان إلا الكلمة الذي يضبط الأشياء وهو وحده الابن الوحيد الحقيقي".

لذا أيها الأحبة، ليس لنا نحن الترابيون إلا أن نشكر الرب الإله على افتقاده لبشريتنا الضعيفة بهذا الخلاص العظيم الذي قدمه لنا ونحن لسنا بمستحقين. ولنعمل على أن يكون جوابنا له فعلاً يعكس إدراكاً لدعوتنا ورسالتنا في هذه الحياة. كما أرادنا هو أن نكون: ملحاً للأرض ونوراً للعالم وخميرة للعجين. ليس في شرقنا العزيز فقط. بل في كل أنحاء الأرض. حيث الشهادة لمحبة الله للعالم يحتاجها العالم بأجمعه، كل العالم، ووصيته الأخيرة لنا كانت "أحبوا بعضكم بعضاً كما أنا أحببتكم". فلنكن رسلاً حقيقيين لرسالة المحبة الخالصة والباذلة التي سلمنا وعهدنا إياها نحن المخلصين باسمه القدوس.

في الأسابيع الأخيرة شهدت سورية الحبيبة تغييراً جذرياً في نظامها الذي حكمها لأكثر من خمسين عاماً. هذا التغيير كان أشبه بزلزال بشدة عالية جداً، وكان من الممكن أن نعيش اليوم أياماً وتجارب قاسية على كل المستويات. إلا أن رحمة الله ومحبته لنا خففت بأكبر قدر من أثره المدمر. فكان تغييراً سلساً ولم يتم رصد حالات مؤلمة إلا ما ندر. أما ارتدادات هذه الزلزال فهي التي نعيشها اليوم وننزعج من حصول بعض التعديات أو التجاوزات في غير منطقة من الوطن. ولا أود أن أطلق التوصيفات جزافاً على بعض هذه الممارسات، إلا أننا نقول باختصار بأنها لا تبني الوطن الذي نحلم به. لذا يجب أن نرفضها ونستنكرها بشدة ونعمل على وأدها في مهدها.

لا يجب أن تنتهي فقط هذه التعديات، وإنما يجب على كل واحد فينا أن يتطهر ويتغير. يجب علينا أن نقوم بهذه النقلة النوعية للأمام، رافضين الاستمرار بكل ما اعتدنا القيام به من ممارسات وكل ما كنا نقوم به راضين أو مرغمين، مشاركين بذلك في فساد السلطة والمجتمع.

نعم أيها الأحبة، أمامنا اليوم فرصة ذهبية قد لا تتكرر. والفرص التي تعطى للشعوب ليست بكثيرة. أمامنا فرصة حتى نثبت لأنفسنا قبل الآخرين، بأننا شعب يحب الحياة، وعلى هذه الأرض ما يستحق الحياة. باننا شعب مؤمن، وإيماننا يقودنا إلى فعل الخير والفضيلة. بأننا شعب صابر وقد آن أوان افتقاده ونشله من سقطته.

ولننظر جميعنا للأطفال والشبان، أي بلد نود أن نورثهم، وأي مجتمع نحلم أن يعيشوا به. لنؤسس للأجيال القادمة قاعدة وطنية إيمانية إنسانية، بعيداً عن الاختلافات التي لم ولن تزول، ولكننا نستطيع فعل شيء واحد، ألا تكون هذه الاختلافات سبباً أساسياً لخلافات ونزاعات بين أبناء هذا الوطن.

بلدنا فيه من الفقر والبطالة والجوع والجهل والفساد الشيء الكثير، أكثر مما تتحمله أية دولة في العالم مهما عظمت، وهو موروث قديم جديد، لن نستطيع ولا يجب أن نقبل بالاستمرار فيه. ولذلك نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى لفترة من الأمن والسلام والاستقرار، حتى نعالج كل هذه المشاكل وغيرها ونصل إلى واقع أفضل لبلداتنا ومدننا وبشكل عام لوطننا. إنها بحق مسئولية الجميع.

كما أنها مسئولية الجميع الوصول إلى المصالحة الحقيقية بين مكونات هذا الشعب. فما فعله النظام السابق لم يفعله باسم طائفة معينة ولم يحل ظلمه وقمعه على طائفة دون الأخرى. فكلنا عانينا الأمرين وكلنا ضحايا للعهد البائد. ولكننا اليوم ولكي نبني وطننا، لا بد من المصالحة والمسامحة المتبادلة. لا الانتقام أو العدالة الانتقائية. هذا ما علمنا إياه يسوع بقوله لنا:
"يا ابت اغفر لهم لأنهم لا يدرون ما يعملون" 
"لا تقاوموا الشر بالشر" 
"يا رب كم مرة يخطأ إليّ أخي وأغفر له؟ أسبع مرات؟ لا أقول لك سبع مرات بل سبعين مرة سبع مرات" 
"من منكم بلا خطيئة فليكن أوّل من يرميها بحجر" 
"ولكن إن جاع عدوك فأطعمه، وإذا عطش فاسقه، لأنك في عملك هذا تركم على هامته جمرًا متقدًا"

آيات كثيرة تتكلم عن المسامحة والمصالحة، هذا لأنها الطريق الوحيدة التي تقود إلى بناء المجتمعات التي عانت ما عانيناه. وفيها فرصة قوية لكي تقود المخطئ إلى التوبة الحقة. فيرجع عن أعماله الظالمة ويقوم بالتكفير عن أفعاله المشينة بتعويض ضحاياه عما افتعله بهم. لذلك نحن المسيحيون لا نتشفى بالظالمين ولا نطلب الانتقام منهم. بل نصلي من اجلهم حتى يُسكن الرب روحه في عقولهم وأفكارهم فتتقدس أفعالهم ونواياهم.  

هذا وقت الصلاة والتضرع أيها الأحبة. في السابق صلينا كثيراً من أجل حاجات متنوعة. أما اليوم فالصلاة هي من أجل أن يُنقّذ هذا البلد من أيدي أعدائه وأعوانهم. من أجل أن يهيأ الرب الإله لسورية حكاماً صالحين ويخافون الله. من أجل كل من ضحى ويضحي لخير هذا البلد واستقلاله وسيادته على أراضيه. من أجل أن يستطيع الواحد منا أن يقبل الآخر كما هو ويضع الواحد منا يده بيد الآخر لبناء هذا الوطن، الذي يتسع للجميع ويحتاج لجهود الجميع "ولنا هذه الثقة أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا".

أيها الأحبة: نحن ككنيسة سريانية أرثوذكسية نفتخر بأننا من أصل هذه الأرض المباركة. كنا وما زلنا وسنبقى فيها. لغتنا قوميتنا حضارتنا عبادتنا قديسونا، بل وحتى إلهنا المتجسد هم من هذه الأرض. نحن منها وهي منا. فيا سورية القلب والروح. يا معشوقة المغتربين وغرام المقيمين. ويا أرض القداسة والقديسين. لن نبخل عليكي بأي جهد حتى تستعيدي عافيتك وتعودي لتكوني منارة الشرق. برسالتك الأرضية والسماوية. رسالة المحبة والأخوة والسلام بين كل الناس.

وقلناها سابقاً ونكرر، لنا الفخر بأن مطران وراعي هذه الأبرشية هو الحبر الجليل مار غريغوريوس يوحنا إبراهيم، الشخصية الدينية والوطنية، الذي قدم ذاته رخيصة من أجل هذا البلد ومواطنيه. ناطقاً بالحق في زمن غابت فيه الأصوات المنادية بالعدالة والمساواة والتحرر. بخطفه حاولوا اسكات صوته، ولكن بقيت رعيته تنادي باسمه في كل المنابر راجية إطلاق سراحه وتحريره من أسره. واليوم ونحن نذكره من جديد، نصلي من أجله كما فعلنا دائماً كي يعود لنا سالماً ومعه سيادة المطران بولس يازجي والكهنة وكل المخطوفين.    

أخيراً نهلل لصاحب هذا العيد المجيد كما هللت وسبحت الملائكة قائلة: "المجد لله في الأعالى وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر". وليحل أمنه وسلامه في المعمورة أجمع وليعيد إلينا راعينا الجليل مار غريغويوس يوحنا إبراهيم سالماً، وليبارك في حياة وخدمة قداسة سيدنا البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني، الرجل الجبار والحكيم، الذي أرسله الله لكنيستنا ولوطننا في هذه الظروف الصعبة، نعايده ومن خلاله نعايد كل السادة المطارنة أعضاء المجمع الأنطاكي السرياني المقدس. كما ونعايد الآباء كهنة الأبرشية وأعضاء مجالسها الملية ولجانها ومؤسساتها الخدمية والاجتماعية وشمامستها وكورالاتها وكشافاتها وعموم مؤمنيها.

شملتكم العناية الإلهية بشفاعة أمنا القديسة الطاهرة مريم وجميع قديسيه وكل عام وأنتم خير.
بريخ مولوده دموران

مقالات مشابهة

  • بتمويل من منظمة “PAX” الهولندية، مؤسسة عدن للحقوق والتنمية تنفذ ورشة عمل «إضاءات من الميدان – الحماية والوساطة»
  • اختم يومك بأفضل اذكار المساء المأثورة عن النبي.. درع الأمان وسكينة الروح
  • مونولوجات للفلسطينية لداليا طه
  • النص الكامل لعظة راعي الأبرشية مار بطرس قسيس خلال قداس ليلة عيد الميلاد بحلب
  • النص الكامل لتقرير ديوان المحاسبة 2023
  • من أرشيف الكاتب أحمد حسن الزعبي .. أحياء في قاع المدينة
  • انطلاق مؤتمر الرواية والدراما البصرية بالمجلس الأعلى للثقافة غدا
  • أذكار المساء اليوم الثلاثاء 24 ديسمبر 2024‏
  • طريقة قانونية لإلغاء التوكيل عند النص على عدم إلغائه إلا بوجود طرفيه
  • «الإفتاء» توصي بضرورة المواظبة على أذكار المساء: تملأ قلبك بالطمأنينة