مر تأسيس إسرائيل بحملة لا رحمة فيها لتهجير الفلسطينيين ورسم حدود يمكن الدفاع عنها، ولكن العالم قد تغير، وترفض إسرائيل وحلفاؤها الغربيون أن يفهموا أن هذا النوع من العنف سوف يخلف تكاليف هائلة بالنسبة لهم، فإما أن يضطروا إلى الاستجابة للقانون الدولي الذي يزعمون أنهم يجسدونه أو أن ينتهي بهم الأمر إلى إنكار هذا الحق، وفي كلتا الحالتين ستكون النتائج كارثية على شرعيتهم وعلى مصالحهم أيضا.

تكاد هذه الفقرة تلخص ما توصل إليه الباحث بيتر هارلينغ مؤسس مركز أبحاث سينابس في بيروت، وذلك من خلال نقاشه في مقابلة مع موقع "ميديا بارت" مخاطر انتشار الحرب الإسرائيلية على غزة إلى حدود أخرى، وما سينتج عن ذلك من عواقب وخيمة على شرعية إسرائيل وداعميها.

بدأت المقابلة -التي أجراها جوزيف كونفافرو- بالسؤال: كيف تسمي ما يحدث أمام أعيننا في غزة؟ ليرد الباحث -الذي عمل طويلا في العالم العربي- بأن المشكلة برمتها في هذه الحرب هي أنها تخلط بين سجلات مختلفة، فهي الحرب ضد الإرهاب، وهي الانتقام الجماعي، وهي حرب الحضارات، والأزمة الإنسانية وإغراءات الإبادة الجماعية، وهذا يعني أن كل أحد يمكنه تفسيرها بطريقته الخاصة، مما يسمح بكل التجاوزات.

والغريب -كما يقول الباحث- هو أننا أمام صراع قديم ومألوف وسهل التعريف نسبيا، فهو صراع على الأرض بين طرفين يتمتعان بقوى غير متكافئة، ولم تتغير "جولاته" العديدة إلا قليلا، مما ساعد في دفن عملية السلام، ليصبح البحث عن حل قابل للتطبيق أقل أهمية.

سابقة غزة

ويوافق الكاتب على أن هذا الصراع القديم أعيد تشكيله من خلال منظور الحرب على الإرهاب باعتبارها هي المخرج السهل، خاصة أن "الإرهاب" يمكن أن يصف أعمال العنف التي تهدف بشكل أساسي إلى ترويع الخصم أو إضعاف معنوياته أو دفعه إلى ارتكاب جرائم في المقابل، لكنه بهذا المفهوم ينطبق على العديد من الأعمال العسكرية التي ليست حكرا على "الجماعات الإرهابية".

وعند السؤال: هل دخلنا مرحلة الختام؟ يرد الخبير بأن غزة توشك أن تظل جرحا غائرا وسط البحر الأبيض المتوسط، لأنه من الصعب للغاية أن نتصور كيف يمكن حل الأزمة الإنسانية دون إعادة إعمار هذه المنطقة المدمرة إلى حد كبير الآن، لأن أي عملية إعادة إعمار تتضمن مسبقا صيغة حكم مقبولة لدى إسرائيل، وإلا فإننا نتوقع أشكالا دائمة من الاحتلال وبالتالي حرب عصابات وإجراءات أمنية ومفاوضات لا نهاية لها وربما عودة الاستيطان.

وتوشك غزة أيضا أن تشكل سابقة من المرجح أن تعيد إسرائيل إنتاجها يوما ما في لبنان والضفة الغربية حسب العواقب الدولية لإستراتيجية القصف الشامل هذه، فإذا ظلت غير مكلفة بالنسبة لإسرائيل فسوف تكرر السيناريو نفسه.

وبشأن امتداد الحرب إلى الشرق الأوسط، يرى هارلينغ أن احتمالات اندلاع "حريق إقليمي" أمر مبالغ فيه، مشيرا إلى أن خطر التصعيد الرئيسي في هذه المرحلة يتعلق بلبنان، حيث كان حزب الله يستعد منذ فترة طويلة لحرب حاسمة مع إسرائيل، ولكنه لا يريد أن يطلقها في السياق الحالي.

مواقف العرب والغرب

أما موقف الحكومات العربية فيلخصه الباحث في أنها غير مهتمة بالقضية الفلسطينية مثل أغلبية الحكومات في الغرب، لأنها بالنسبة لها قضية خاسرة وبقايا من الماضي، وصرف للانتباه عن الأولويات الأخرى الأكثر واقعية وإيجابية، وعلى هذا الموقف تراهن الإدارة الأميركية لاستئناف عملية التطبيع بين إسرائيل والسعودية عند انتهاء حرب غزة.

وطالما أن معاناة الفلسطينيين تحشد الرأي العام العربي أثناء الأزمات فقط فإن الحكومات العربية تستطيع أن تكتفي بالمواقف الخطابية في انتظار أن تهدأ المشاعر، لكن السؤال الحقيقي بالنسبة للباحث هو "هل سيتغير وضع إسرائيل في هذه الحرب؟"، وهو ما ليس مستحيلا إذا تواصل التحرك نحو المزيد من الفظائع.

وعند سؤاله عن دعم الرئيس الأميركي جو بايدن لإسرائيل وأنه يمكن أن يؤدي إلى خسارته في الانتخابات القريبة، وضع الباحث الأمر في سياق أوسع من السلوكيات الهستيرية حسب وصفه، مثل ترحيل بريطانيا المهاجرين إلى رواندا وتمويل الاتحاد الأوروبي مليشيات ليبية تعذب وتبتز السكان، وسآمة أوروبا من الحرب في أوكرانيا، وتنديد المؤسسات الألمانية باليهود الذين ينتقدون بعض السياسات الإسرائيلية، ليرد ذلك إلى غياب البنية السياسية، كالأيديولوجيا والأحزاب السياسية الحقيقية واحترام المؤسسات والأخلاق والثقافة.

واعتبر هارلينغ في محاضرة له أن الشرق الأوسط هو "جوارنا المباشر في منطقة البحر الأبيض المتوسط التي تمثل البوتقة الحقيقية لهويتنا، ويشكل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني جزءا لا يتجزأ من تاريخنا الأوروبي، وبالتالي فإن مساره لا يمكن إلا أن يتردد صداه بقوة في مجتمعاتنا".

لكن الشرق الأوسط أيضا -حسب الباحث- منطقة تود حكومات الغرب أن تنظر إليها باعتبارها منطقة أجنبية، كما تميل إلى فهمها من خلال تصورين متناقضين يحجبان عنها حقيقتها، التصور الأول قاتم يصورها مناطق تعاني من صراعات لا يمكن حلها ولا تجاوزها، بل يجب احتواؤها أو تجاهلها.

أما التصور الآخر فهو متفائل للغاية، فهي أماكن الأمل حيث يمكننا التحدث عن التقدم والابتكار والتمويل والاستثمارات والأرباح والشباب والرياضة والطاقة، والاندماج المثالي في العولمة كما هو الحال في دبي والسعودية، ومشاريع البنية التحتية للطاقة الشمسية في تونس، وحقول الأفوكادو في المغرب.

أما الشرق الأوسط الذي يهمنا حقا -حسب تعبير الباحث- فهو ذلك الشرق الذي يعيش فيه نصف مليار من جيراننا المغلوبين على أمرهم، والذي يجب أن علينا استكشاف ما يربطنا وما يوحدنا معهم، خاصة أن العالم العربي مليء بالديناميكيات التي نعرفها أيضا في أوروبا، وطموحات مجتمعاته هي طموحاتنا.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

ما الذي يمكن خسارته من تشكيل حكومة مدنية موازية لحكومة بورتسودان؟

بقلم: إبراهيم سليمان

ما الذي يمكن خسارته من تشكيل حكومة مدنية موازية لحكومة بورتسودان؟
عند الحديث عن خسارة أمرٍ ما، لابد من توضيح الحساب بكافة المعطيات، ورصد الناتج والمحصلة النهائية التي لا تقبل الجدل، ورغم ذلك هنالك تقديرات، يمكن النظر إليها من زوايا مختلفة، ولا يحمد السوق إلا من ربح. وقديما قيل، "الجمرة بتحّرق واطيها" وقيل أيضا "من يده في الماء ليس كمن يده في النار"

يبدو أن حكومة بورتسودان، بقيادة الجنرال البرهان، تشمر، للتعري من ثيابها، وتستعد للخروج عن طورها، من خلال اتخاذها عدة إجراءات تعسفية، تنم عن اليأس وعدم المسؤولية الوطنية، منذ اندلاع الحرب الحالية، قطعت خدمات الاتصالات عن أقاليم غرب السودان، وحرمت مواطنين على الهوية من الأوراق الثبوتية، حظرت عليهم خدمات السجل المدني، وأخيراً عمدت الإتلاف الإجمالي للعملة والوطنية في حوالي أكثر من ثلثي أقاليم البلاد، من خلال تغيرها في مناطق سيطرة الجيش على ضآلتها، حرمان الآخرين منها، وأخراً الإصرار على إجراء امتحانات الشهادة السودانية لحوالي مائتي ألف طالب طالبة، وحرمان حوالي أربعمائة آخرين في بقية أرجاء البلاد!

بهذه الخطوات المتهورة، وغير المسؤولة، لم تترك حكومة بورتسودان، للمستهدفين من أبناء الشعب السوداني، الذين يمثلون الغالبية العظمي، سوى المضي قدماً ودون التردد أو الالتفات إلى الوراء، في المناطق التي تقع خارج سيطرة الجيش، والمحررة من عنف وظلم دولةـــ 56 لتضلع بمهام توفير الخدمات الضرورية لحياتهم اليومية والملحة لأن يعيشوا بكرامة وعدالة. وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية للذين يستحقونها، بدلاً من المتاجرة فيها من قبل تجار الحرب في بورتسودان.

لماذا يدفع أبناء الولايات، التي يستهدفها الطيران الحرب لحكومة بورتسوان، وتحرمها من حقوقها الإنسانية والدستورية، تكاليف بقاء السودان موحداً؟ طالما أن هذه الحكومة غير الشرعية تدفع بعنف وإصرار لتمزيق وحدة البلاد!، وما هي قيمة الوحدة الوطنية، التي تزهق أرواح عشرات الملايين من مكونات بعينها؟ وطالما أن هنالك خمس ولايات فقط، بإدارة مواطنيها أو بغيرها، غير مباليين، بهموم وآهات بقية الإقليم، فلينفصلوا هم إن أرادوا ويتركوا الآخرين وشأنهم.

وليس هناك ما هو أغلى من أرواح الأبرياء، والحفاظ عليها، وحقن دماء أبناء الشعب السوداني مقدم على أي اعتبارات أخرى بما فيها والوحدة الوطنية القسرية. لذا نرى أن تشكيل حكومة مدنية في المناطق المحررة والتي هي الآن خارج سيطرة الجيش، وهي المناطق التي لا تعني شيئا لحكومة بورتسودان الانقلابية، ضرورة حياتية، ويعتبر التقاعس عنه، أو التردد فيه حماقة، وخذلان في حق عشرات الملايين المستهدفين، من قبل الحكومة العنصرية في بورتسودان، وجيشها القاتل.

المنوط بالحكومة المدنية المرتقبة، توفير خدمات التربية والتعليم، وخدمات السجل المدني والأوراق الثبوتية، وفتح معابر تجارية لتصدير المنتجات واسترداد كافة الضروريات المنقذة للحياة، وطباعة عملة وطنية مبرأة للذمة، استباقاً للكارثة الاقتصادية التي تلح في الأفق، ونزع الشرعية من حكومة بورتسودان التي تصر على استمرار الحرب، وترفض كافة النداءات الوطنية الدولية للجلوس للتفاوض بشأن وقف الحرب وإحلال السلام في البلاد، وتقول أنها مسعدة لمواصلة الحرب مائة عام!

وطالما أن هنالك صراع بين قوتين عسكريتين، فليكن هنالك تنازع بين حكوميتين، لتتعادل الكفتتين، وربما يسرع ذلك إيجاد حلول للحكومتين، لكن لا ينبغي أن تتوقف حياة أغلبية الشعب السوداني، من أجل خاطر الحفاظ على وحدة البلاد، التي لم يحرص عليها دعاة الحرب.

ولا نظن أن تشكيل الحكومة المدنية المرتقبة في الخرطوم، ستضر بوحدة البلاد، أكثر حرب كسر العظام الدائرة حالياً، وتأجيج نيران خطاب الكراهية الممنهجة، من دعاة دويلة النهر والبحر، الذين يعادون كافة مكونات البلاد، يرفضون المساواة بين مكوناتها!

ليس هناك ما يمكن خسارته، من تشكيل حكومة موازية مرتقبة بالخرطوم، حتى إن لم يعترف بها أحد، يكفي أن المأمول منها، فك ارتهان مصير غالبة مكونات الشعب السوداني، لمزاج ورعونة حكومة بورتسودان غير المسؤولة. ومما لا شك فيها أن الأوضاع الإنسانية في ليبيا واليمن، وحتى جمهورية أرض الصومال، أفضل ألف مرة منها في معظم أرجاء البلاد. تمزيق وحدة السودان المسؤول عنه حكومة بورتسودان بإجراءاتها التعسفية وقائد الجيش، الذي أعلن على رؤوس الأشهاد، استهداف حواضن قوات الدعم السريع، ويظل يمطرهم بالبراميل المتفجرية بشكل يومي.

وفي الحقيقة، فإن حكومة بورتسودان المعزولة دولياً، قد مزّقت وحدة البلاد فعلياً، بالتصعيد المنتظم من قبلها بشأن اتخاذ إجراءات مست جوهر قومية الدولة السودانية، وأن تشكيل الحكومة المدنية المرتقبة ما هو إلا تحصيل حاصل.
والغريق لا يخشى البلل.
ebraheemsu@gmail.com
//إقلام متّحدة ــ العدد ــ 181//  

مقالات مشابهة

  • هل يمكن إعفاء الحاصل على الدعم النقدي دون وجه حق من رد المبالغ التي صرفها؟.. الضمان الاجتماعي يوضح
  • موقع عبري: الحوثيون لا يمكن ردعهم.. الجماعة التي تتحدى الولايات المتحدة وتتحدى العالم
  • بسبب إسرائيل وعصابات محلية..الأمم المتحدة: ظروف المعيشة في غزة لا يمكن تحملها
  • حزب المؤتمر يحذر من خطورة الزيادة السكانية ويدعو إلى حلول جذرية
  • ما الذي يمكن خسارته من تشكيل حكومة مدنية موازية لحكومة بورتسودان؟
  • التقدم والاشتراكية يحذر من المخاطر  التي تهدد المرفق العمومي في عهد حكومة أخنوش
  • معهد واشنطن: هذه مصالح إسرائيل في سوريا وهكذا يمكن أن تتحقق
  • كارثة غير مدروسة.. بوتين يحذر من اندلاع الحرب العالمية الثالثة
  • بوتين يحذر من اقتراب اندلاع الحرب العالمية الثالثة
  • قد تؤدى لشلل الأمعاء.. أستاذ أمراض كبد يحذر من خطورة حقن التخسيس