الأرض والذاكرة هما التوأمان اللذان لا يزالان متشابكين بشدة حتى يومنا هذا بالنسبة لشعبي الهيريرو والناما، اللذين يسكنان دولة ناميبيا أقصى جنوبي غربي أفريقيا، وألمانيا الواقعة وسط القارة الأوروبية.

قبل مئة عام بالضبط، شدد الاستعمار الألماني حكمه القاسي على ناميبيا، وكانت عمليات القتل على نطاق واسع جزءا من حملة العقاب الجماعي الألمانية بين عامي 1904 و1908، والتي تُعرف اليوم بأنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين، ولكن قصة الاستعمار الألماني بدأت قبل 3 عقود من تلك الحقبة الدامية.

"محميات أفريقيا"

في عام 1884، بعد مؤتمر برلين الذي قسّم الأراضي الأفريقية بين القوى الأوروبية، كانت ناميبيا من نصيب الألمان. بحلول أوائل القرن العشرين، وصل ما يقرب من 5 آلاف مستوطن ألماني، وحكموا حوالي 250 ألفا من السكان الأصليين الأفارقة. مع نمو السيطرة الألمانية، تضاءلت حقوق وحريات الشعوب الأفريقية بسرعة، وتم طرد الهيريرو والمجموعات الأخرى بشكل منهجي من أراضي أجدادهم، وخصص لهم المستعمرون ما سموها بـ"المحميات".

تعرّض الأفارقة الذين اعتبر الألمان أنهم انتهكوا القانون، للجلد والشنق في بعض الأحيان، وحتى السجلات الرسمية الألمانية تظهر حالات عديدة من المستوطنين البيض صدرت بحقهم أحكام مخففة لارتكابهم جرائم اغتصاب وقتل. هذه الوحشية المستمرة، إلى جانب قضية الأرض، فجّرت غضبا واستياءً واسعي النطاق بين السكان المحليين.

بحلول عام 1904، ثار الهيريرو بقيادة زعيمهم صمويل ماهريرو ضد الغزاة الاستعماريين الألمان. وفي 12 يناير/كانون الثاني من العام ذاته، هاجم العديد من مقاتليهم بلدة أوكاهانجا، حيث قُتل أكثر من 120 شخصا، معظمهم من الألمان.

سرعان ما نما الصراع، حيث كانت حركة الهيريرو في البداية ناجحة للغاية، إذ اجتاحت المستوطنات الاستعمارية الضعيفة الدفاع، في وقت كافح فيه الألمان لتنظيم دفاعهم تحت قيادة حاكمهم ثيودور فون ليوتوين.

ولكن في يونيو/حزيران من العام ذاته، أطاح به القيصر من قيادة ساحة المعركة، وعين الجنرال لوثار فون تروثا مكانه، فطبّق على الفور سياسة عسكرية "لا للتهدئة بل الإبادة"، سرعان ما أربكت الهيريرو.

مع بزوغ فجر يوم 11 أغسطس/آب على هضبة ووتربيرغ، استيقظ نحو 50 ألفا أو أكثر من رجال ونساء وأطفال الهيريرو على قصف أكواخهم البسيطة.

اندفع الرجال لقتال الألمان تاركين وراءهم عائلاتهم، فقُتلوا على يد لواء من نحو 6 آلاف مجند ألماني يدعى "شاتزتروب" (Schutztruppe)، وهو الاسم الرسمي للقوات الألمانية في الأراضي الأفريقية لإمبراطوريتها.

وعلى الرغم من قلة الجنود الألمان مقارنة بالمقاومين، فإنهم كانوا يملكون أسلحة متفوقة بما في ذلك مدافع مكسيم الآلية، وسرعان ما دمروا دفاعات الهيريرو.

في وقت مبكر من المعركة، اجتاح مقاتلو الهيريرو مواقع المدفعية الألمانية، لكن الجنرال لوثار فون تروثا أمر بتقديم المدافع الرشاشة إلى الأمام، فدفعت نيرانها السريعة الهيريرو إلى الخلف وقتل الآلاف منهم.

وفرّ الذين نجوا شرقا، من خلال فجوة في الدفاعات الألمانية، إلى صحراء كالاهاري القاسية التي لا تحتوي على مياه والمعروفة باسم "أوماهيكي"، حيث مات عشرات الآلاف عطشا، بينما تم القبض على آخرين ونقلهم إلى معسكرات الاعتقال واستخدامهم في السخرة.

تطهير عرقي

أثناء الرحلة عبر الصحراء، تحولت الحرب الألمانية على الهيريرو إلى سياسة تطهير عرقي متعمدة. إذ أمر الجنرال فون تروثا قواته بإنشاء خط من البؤر الاستيطانية بطول مئات الكيلومترات لمنع الهيريرو من العودة إلى مزارعهم وقراهم المهجورة، وأمر الآخرين بمنعهم من استخدام آبار المياه.

في 3 أكتوبر/تشرين الأول 1904، بالقرب من منطقة بئر المياه الصحراوي "أوسومبو زو ويندميبا" (Osombo zo Windimbe) النائية، قرأ الجنرال الألماني فون تروثا أمر الإبادة (Vernichtungsbefehl) السيئ السمعة: "أنا الجنرال العظيم للجنود الألمان، أرسل هذه الرسالة إلى الهيريرو. لم يعد الهيريرو رعايا ألمانا.. سيتم إطلاق النار على أي هيريرو يتم العثور عليه داخل الحدود الألمانية بمسدس أو من دون مسدس أو من دون ماشية. لن أقبل بعد الآن النساء والأطفال، سأعيدهم إلى شعبهم أو سأسمح لهم بإطلاق النار عليهم. هذه هي كلماتي لشعب الهيريرو".

سجناء من قبائل الهيريرو والناما خلال حرب 1904-1908 ضد ألمانيا (الفرنسية-أرشيف)

تنقل الهيريرو اليائسون على حافة الموت بحثا عن ملاذ وآبار مياه، ومات عشرات الآلاف منهم. أخيرا، أجبر الغضب السياسي في ألمانيا بسبب هذه الوحشية الاستعمارية القيصر على إرسال تلغراف لفون تروثا لسحب الأمر في الثامن من ديسمبر/كانون الأول 1904.

بحلول أواخر عام 1904، رأى شعب الناما، الذين كان بعضهم متحالفا بشكل ما مع الألمان لحماية أراضيهم، ما يكفي من وحشية الأوروبيين، وخافوا من العداء المتزايد والعنصرية المفتوحة التي يظهرها البيض تجاههم آنذاك. استدعى زعيمهم الكاريزمي هندريك ويتبوي -الذي كان في السبعينيات من عمره- مجلس الشيوخ للاستماع إلى تقارير عن الفظائع.

بعد فترة وجيزة، دعا ويتبوي جميع الناما لمحاربة الألمان. استجاب العديد من العشائر، بما في ذلك تلك التي ينتمي إليها زعيم مشهور آخر هو جاكوب (يعقوب) مورينجا، وانضمت إلى حرب على المستعمرين، وقتلوا رجالا بارزين، لكن تجنبوا النساء والأطفال.

كافح الجنود الألمان ضد الحرارة والعطش والإجهاد المستمر لغارات الناما الصاعقة. كانت هناك حوالي 200 غارة ومناوشة قبل إصابة ويتبوي بجروح قاتلة في أواخر عام 1905 بشظية في إحدى هجماته. توفي بعد 3 أيام، وانهار تحالف الناما.

بعد فترة وجيزة، استسلم المشردون منهم، وأحيط بالناما إلى جانب آخر بقايا الهيريرو الهزيلة للمتبقين على قيد الحياة، وتم إرسالهم إلى معسكرات الاعتقال.

تحمل عائلة إيدا هوفمان -وهي ناشطة في حركة الناما قتل الألمان سلفها- قصة مروعة عبر الأجيال. تقول هوفمان "قتل الألمان أيضا ابنة جدي الأكبر سارة سنو".

وتضيف للجزيرة "بحسب التاريخ الشفوي الذي تم نقله لأجيال، كانت سنو حاملا وقت مقتلها، وشق الألمان بطنها وأخذوا الطفل وقتلوه بدم بارد". ولا تزال العائلة تكرّم ذكراها في قبر بالصحراء حيث دفنت.

ويقول أحفاد شهود عيان إنه تم تحويل العديد من الصور العارية (الجنسية) للنساء إلى بطاقات بريدية، وأرسلت إلى ألمانيا. أما أولئك الذين كانوا أقوياء بما فيه الكفاية فنُقلوا للقيام بأعمال السخرة في الميناء والسكك الحديدية المجاورة.

لا أحد يعرف العدد الدقيق لمن تم سجنهم في المعسكرات. السجلات التي توثق ذلك عشوائية أو غير موجودة، لكنها تظهر الآلاف من حالات الوفاة من الهيريرو والناما، أيا ما كان مكان حفظها.

جاكوب مورينجا (وسط) أحد قادة تمرد حركة ناما ضد الاحتلال الألماني (الصورة تعود لما بين عامي 1904 و1907) (ويكيبيديا كومنز)

كما كانت هناك تجارب أخرى غير إنسانية. عانى العديد من السجناء من الإسقربوط (مرض عوز فيتامين سي)، وحقنهم الأطباء بالأفيون والزرنيخ ومواد أخرى ليروا كيف يمكن أن يؤثروا على مرض ناتج عن نقص الطعام الطازج. فتحوا جثث الذين ماتوا نتيجة لذلك من أجل رؤية آثار هذه التجارب.

وانتهى المطاف بالعديد منهم في معهد القيصر فيلهلم، حيث درس جوزيف مينجيل الذي أجرى لاحقا تجارب طبية مميتة على السجناء في أوشفيتز في أوائل الأربعينيات.

الكتاب الأزرق

ما حدث للشعوب الأفريقية في ناميبيا كان نذيرا وحشيا، وكاد أن يُنسى بمحرقة النازيين ضد اليهود والجماعات الأخرى في الحرب العالمية الثانية.

لكن ذكرى هذه الأحداث موضع خلاف في ناميبيا نفسها. كان أول توثيق حقيقي للإبادة الجماعية في "الكتاب الأزرق" الشهير الذي تم تأليفه وإنتاجه بواسطة سلطات جنوب أفريقيا عام 1918 بعد هزيمة الألمان في الحرب العالمية الأولى.

غزا اتحاد جنوب أفريقيا -الذي كان مستعمرة بريطانية في ذلك الوقت- المستعمرة الألمانية "جنوب غرب أفريقيا" عام 1915 بعد هزيمة مبكرة في بداية الحرب، واجتاح الاتحاد بسرعة القوات الألمانية التي استسلمت في يوليو/تموز من العام نفسه.

ويقدر أن نحو 65 ألفا من الهيريرو من أصل 80 ألفا ماتوا، في حين أن حوالي 10 آلاف من الناما (حوالي نصف السكان) لقوا حتفهم.

يزعم البعض أن هذه الإحصائيات مبالغ فيها، بينما يعتقد نشطاء الهيريرو أن الأرقام كانت أكبر بكثير، ويتساءلون "لكن ما أهمية الأرقام الفعلية؟"، قائلين "كانت الأفعال بحد ذاتها إبادة جماعية".

بعد ما يقرب من 120 عاما، لا تزال المصالحة بين الألمان من جهة والهيريرو والناما من جهة أخرى بعيدة المنال.

الأمم المتحدة: "إبادة جماعية"

في عام 1985، صنف "تقرير ويتاكر" الصادر عن الأمم المتحدة ما حدث لشعبي الهيريرو والناما بأنه إبادة جماعية. وفي مايو/أيار 2021، اعترفت الحكومة الألمانية نفسها رسميًا بما حدث بأنه إبادة جماعية.

في إعلان مشترك مع ناميبيا، تعهد الألمان بدفع 1.1 مليار يورو للحكومة الناميبية مساعدة خلال أكثر من 30 عامًا، ونص الاتفاق على ضرورة إنفاقها في المناطق التي يعيش فيها الآن أحفاد ضحايا الفظائع.

محطة كوبوب 1905 فيما كانت تسمى آنذاك جنوب غرب أفريقيا الألمانية (ويكيميديا كومنز)

كان هناك الكثير من الاستياء في ناميبيا بشأن الاتفاق المشترك بين الحكومتين الناميبية والألمانية، إلى جانب مطالب من نشطاء الناما والهيريرو بإعادة التفاوض بشأن الاتفاقية، وتوفير المزيد من الأموال للمجتمعات المتضررة، وإشراكهم مباشرة في المناقشات.

في الواقع، لم توقع أي من الحكومتين على الاتفاقية حتى الآن. وأشارت الحكومة الناميبية إلى رغبتها في مزيد من المفاوضات، في حين رفض البرلمان الألماني إجراء المزيد من المحادثات.

يشعر العديد من الهيريرو والناما أن حزب الأغلبية الحكومي "المنظمة الشعبية لجنوب غرب أفريقيا" (سوابو) لا يمثلهم ولا يمثل شعوبهم بشكل كاف، لأن أقوى دعم للحزب الحاكم يأتي من شعب أوفامبو في النصف الشمالي من البلاد. في حين ترى الحكومة أنها تمثل جميع الناميبيين، وأن الاتفاقية لا يمكن تقييدها بموافقة الهيريرو والناما فقط.

يقول فانويل كاباما، أحد كبار المفاوضين في الحكومة الناميبية، للجزيرة إنه في الوقت الحالي هناك "عملية مشاورات داخلية لبناء توافق في الآراء".

ويؤكد المبعوث الخاص للحكومة الألمانية روبريخت بولينز، في رسالة بالبريد الإلكتروني، أن "الإعلان المشترك تمت مناقشته في ناميبيا منذ مايو/أيار 2021، وغالبا ما يُنظر إليه على أنه مثير للجدل. الحكومة الاتحادية تراقب هذا النقاش وتنتظر النتيجة".

وفي الذكرى المئوية للإبادة في ناميبيا، رفضت الدولة الأفريقية دعم ألمانيا لموقف إسرائيل في محكمة العدل الدولية حيث تواجه تهمة الإبادة الجماعية ضد الفلسطينيين في قطاع غزة.

وأعربت الرئاسة الناميبية -في بيان لها على موقع إكس أمس السبت- عن قلقها العميق إزاء "القرار الصادم" الذي أصدرته ألمانيا قبل يومين، والذي رفضت فيه لائحة الاتهام الأخلاقية التي قدمتها جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضد إسرائيل.

Namibia rejects Germany’s Support of the Genocidal Intent of the Racist Israeli State against Innocent Civilians in Gaza

On Namibian soil, #Germany committed the first genocide of the 20th century in 1904-1908, in which tens of thousands of innocent Namibians died in the most… pic.twitter.com/ZxwWxLv8yt

— Namibian Presidency (@NamPresidency) January 13, 2024

وأعلنت ألمانيا أنها ستتدخل كطرف ثالث أمام محكمة العدل لدعم إسرائيل في قضية الإبادة الجماعية المرفوعة ضدها.

وأشارت ناميبيا إلى ما وصفتها بـ"أول إبادة جماعية" في القرن الـ20 ارتكبتها ألمانيا على الأراضي الناميبية بين عامي 1904 و1908، و"راح ضحيتها عشرات الآلاف من الناميبيين الأبرياء في ظروف لا إنسانية ووحشية".

وقالت إن الحكومة الألمانية لم تقم بالتكفير الكامل بعد عن الإبادة الجماعية التي ارتكبتها على الأراضي الناميبية.

وانتقدت وندهوك تجاهل برلين الوفيات العنيفة التي أدت إلى استشهاد أكثر من 23 ألف فلسطيني في قطاع غزة، كما تجاهلت تقارير الأمم المتحدة التي تسلط الضوء على النزوح الداخلي لنحو 85% من المدنيين في غزة، وسط نقص حاد في الغذاء والخدمات الأساسية.

وكررت الرئاسة الناميبية دعوة الرئيس حاجي جينجوب التي أطلقها في نهاية الشهر الماضي قائلا إنه "لا يمكن لأي إنسان محب للسلام أن يتجاهل المذبحة التي ارتكبت ضد الفلسطينيين في غزة".

وناشد جينجوب الحكومة الألمانية أن تعيد النظر في قرارها غير المناسب بالتدخل كطرف ثالث للدفاع عن "أعمال الإبادة الجماعية" التي ترتكبها إسرائيل، ودعم تل أبيب أمام محكمة العدل الدولية.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: الإبادة الجماعیة إبادة جماعیة محکمة العدل فی نامیبیا الآلاف من العدید من أکثر من

إقرأ أيضاً:

MEE: كيف طبع الإسرائيليون مصطلحات إبادة الفلسطينيين بدون خجل؟

نشر موقع "ميدل إيست آي" مقالا للصحفي الإسرائيلي ميرون رابوبورت٬ قال فيه إن الإسرائيليين لم يعودوا يخجلون من الدعوة لإبادة الفلسطينيين.

وأشار إلى أن مجلة "لوكال كول" نشرت في نهاية تشرين الأول/أكتوبر 2023، خطة كاملة أعدتها غيلا غامليل، وزيرة الاستخبارات الإسرائيلية تدعو فيها لإخلاء السكان المدنيين من غزة. وحظيت الخطة بتغطية واسعة في جميع أنحاء العالم، واعتبرت دليلا على أن الهدف الحقيقي لإسرائيل في حربها في غزة، في ذلك الوقت كان في مرحلة القصف الجوي التي سبقت الغزو البري - لم يكن "القضاء على حماس" بل طرد الفلسطينيين من غزة.

لكن التغطية للخطة في إسرائيل كانت محدودة، ربما لأن وزارة الاستخبارات لم يكن لها سلطة (تم إغلاقها منذ ذلك الحين)، وربما لأن غامليل لم يكن له وزن سياسي حقيقي وربما لأن وسائل الإعلام الإسرائيلية تفضل عدم التعامل مع جرائم الحرب التي تخطط لها إسرائيل.

وذكر الكاتب أنه بعد 16 شهرا أصبحت خطة غامليل وبشكل فعلي الخطة الرسمية للحكومة الإسرائيلية. ويجب أن ينسب الفضل أولا وأخيرا للرئيس دونالد ترامب، ولكن لا يمكن إنكار أن هذه العملية تعكس تطور فكرة عزيزة منذ فترة طويلة على الجمهور الإسرائيلي.

وفي الوقت الذي بدأ فيه ترامب وفريقه بالتخفيف من خطة التهجير ويقولون إنها ليست تهجيرا قسريا، ولكن "توصيات" فقط، استمر  بنيامين نتنياهو، في الإشادة بـ "خطة ترامب الرائدة للسماح بحرية الخروج لسكان غزة". ويقوم وزير الحرب إسرائيل كاتس بإنشاء إدارة "للخروج الطوعي" من غزة. وكل هذه الصيغ موجودة حرفيا في خطة غامليل.


 وأكد رابوبورت٬ لهذا، فعلينا عدم تجاهل دعوة نائب رئيس البرلمان نيسيم فاتوري التي تقول: "يجب فصل الأطفال والنساء وقتل البالغين [الذكور] في غزة". وربما كان فاتوري سياسيا هامشيا أكثر من غامليل، لكنه يشير إلى تطور في الخطاب اليهودي الإسرائيلي.

ويقول رابوبورت إن الدعوات لنكبة ثانية والتي سيطرت على اليمين المتطرف وحتى قبل هجمات 7 تشرين الأول/ أكتوبر ودخلت لاحقا الخطاب السائد اختفت. ولم يعد هناك "خطة الجنرالات" للحصار والتجويع، التي تم تنفيذها بالفعل بطرد سكان شمال غزة وهدم منازلهم ولم تتوقف إلا بسبب وقف إطلاق النار.

بل هناك مخطط للإبادة: من أجل حل نهائي لمشكلة غزة ومشكلة الفلسطينيين بشكل عام. وعليه فتصريحات فاتوري، جديرة بالملاحظة لأنها تأتي على خلفية تطبيع خطاب الإبادة.

وأضاف الكاتب أنه إذا كان وزير التراث عميخاي إلياهو قد أحدث تشنجا بعد أن دعا في بداية الحرب إلى إسقاط قنبلة نووية على غزة وأنها "الطريق الوحيد" للتعامل مع حماس، فإن مثل هذه التصريحات تسمع الآن علانية، دون أي محاولة لإخفائها أو تبييضها.

والأمثلة كثيرة ومتنوعة،  فقد نشرت المحامية كينيرت باراشي، وهي "مؤثرة" بارزة من اليمين والتي تحرص دائما على ذكر أنها كانت تصوت لميرتس، نشرت على منصة إكس أن "يجب أن يمحى كل أثر للتحورات القاتلة في غزة، من غرف الولادة إلى آخر شخص مسن ويجب أن يموت 100٪ في غزة".


وقال الممثل يفتاح كلاين، الذي يصف نفسه بأنه من "جيل أوسلو"، في مقابلة مع مؤسسة "والا" الإعلامية بمناسبة مشاركته في مسرحية جديدة في مسرح هابيما: "أنا لا أصدقهم [الفلسطينيين]. أنا لا أؤمن بهم ولا أريد أن أراهم مرة أخرى طالما أنا حي، إلى الأبد. فليذهبوا إلى ما وراء جبال الظلام وليموتوا هناك".

وبنفس الطريقة قال المغني عوفر ليفي في مقابلة على بودكاست آفي شوشان على موقع صحيفة "معاريف" إنه لو كان جنديا في الجيش فـ "لن يكون هناك المزيد من السجناء. سأقتلهم جميعا وأحرقهم أيضا. سأحضر البنزين وأعطي الأمر بالمضي قدما وأسكبه ثم أشعله، أحرق كل شيء حتى آخر واحد منهم، بما في ذلك الجميع".

ويعلق رابوبورت أن هذا في الحقيقة مجرد غيض من فيض. فمجرد جولة لفترة وجيزة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تؤدي إلى أمثلة أخرى كثيرة، عن  رجال ونساء، عنصريون، كلهم متحدون في جوقة من الإبادة.
وقد اكتسب هذا الخطاب زخما واسعا، وبدون الحاجة إلى دراسات كمية بعد اتفاق وقف إطلاق النار في 19 كانون الثاني/يناير.

ويقول الكاتب إن سبب هذا ربما عاد إلى استعراضات حماس عند إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين. ويرى هؤلاء أن كل هذه الطقوس تقريبا تشكل دليلا، ليس فقط على قسوة حماس والإساءات الجسدية والنفسية التي تلحقها بالأسرى، بل وأيضا على فكرة مفادها أن كل الفلسطينيين في غزة متواطئون في هذه القسوة ويحتفلون بها. بحسب وصفهم.


وفي هذه الاحتفالات، كانت حماس تسعى بوضوح إلى إثبات نفسها أمام الجمهور الفلسطيني وبالطبع لإسرائيل، وأنها لا تزال صامدة بعد الهجوم الإسرائيلي الأكثر تدميرا وفتكا ضد الشعب الفلسطيني (على الأقل منذ عام 1948). ولإظهار أن إسرائيل ونتنياهو فشلوا في المهمة المعلنة للقضاء على حماس.

 أما التفسير الثاني والذي يذهب أبعد من "محو حماس"، فقد أصبح إخلاء قطاع غزة، أو على الأقل مدينة غزة والبلدات الواقعة إلى الشمال منها، هدفا معلنا لكثير من القادة الإسرائيليين من اليمين، مثل بتسلئيل سموتريتش وإيتمار بن غفير والقادة في الجيش.

وكان هذا هو محور "خطة الجنرالات" التي تبناها الجيش بالفعل. وكان هدف القيادة الجنوبية، الذي نشرته صحيفة يديعوت أحرونوت في منتصف كانون الأول/ديسمبر الماضي، "منع عودة سكان غزة إلى ديارهم في جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا". ولكن بعد سريان وقف إطلاق النار، أدرك الإسرائيليون أن حماس لم يتم القضاء عليها فحسب، بل إنها أظهرت في الواقع ثقتها بنفسها، بل إن التطهير العرقي قد فشل أيضا.

صحيح أن جباليا دمرت بالكامل، وكذلك أجزاء كبيرة من مدينة غزة ومحيطها. ولكن صور مئات الآلاف من الفلسطينيين العائدين إلى القطاع الشمالي كانت دليلا ملموسا على أن الفلسطينيين بقوا في غزة وأنهم لم يكن لديهم أي نية للذهاب إلى أي مكان، وبالتأكيد ليس طواعية.

ومن الصعب التحدث من منظور "النصر" عندما تم تدمير غزة بالكامل وبعد مقتل أكثر من 50 ألف شخصا وربما أكثر من ذلك بكثير، ولكن يمكن للمرء أن يفهم لماذا رأى معظم الفلسطينيين، في غزة نفسها وخارجها العودة إلى الشمال كفشل إسرائيلي.


وعليه فإن خطاب الإبادة، وفقا لهذا التفسير، ينبع من الإحباط الإسرائيلي إزاء عدم القدرة على تحقيق الإخلاء الكامل لسكان غزة. وإذا لم يقنع كل هذا الدمار والقصف الفلسطينيين بالمغادرة، فإن الاستنتاج الذي توصل إليه أكثر من بضعة إسرائيليين هو أنه لا يوجد خيار سوى قتل الجميع، من "غرف الولادة إلى آخر شخص مسن".

وهذا هو أحد الأسباب التي جعلت غالبية الجمهور الإسرائيلي تحتضن خطة ترامب لاقتلاع الفلسطينيين من غزة.  وربما لأن الإسرائيليين أكثر دراية بالواقع المحلي من قطب العقارات الجالس في البيت الأبيض، فهم يعرفون أنه لا توجد فرصة حقيقية لخروج الفلسطينيين من القطاع بإرادتهم الحرة. ولهذا توصلوا إلى نتيجة أنك لكي تتخلص من الفلسطينيين، فعليك أن تقتلهم.

وكتب حاييم ليفنسون في صحيفة "هآرتس" أن الخطة التي قدمها وزير الشؤون الاستراتيجية الإسرائيلي رون ديرمر إلى المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف نيابة عن نتنياهو، تنص على أنه إذا فشلت المفاوضات مع حماس، فإن الجيش سوف يحتل القطاع بأكمله و"يدمر المباني التي لا تزال قائمة في معظم أجزاء القطاع، باستثناء مناطق الملاجئ المحددة في جنوب القطاع، وفي تلك المناطق فقط سوف يتم توزيع الغذاء".

كما تحدث يوعاز هيندل، قائد كتيبة الاحتياط في الحرب الحالية ووزير سابق، في مقال بصحيفة "إسرائيل اليوم" عن "مجمعات آمنة" سيتم إنشاؤها في القطاع مع توزيع الطعام والشراب في تلك المواقع فقط. وقال هيندل: "كل شيء خارج هذه المجمعات هو منطقة قتل".


بعبارة أخرى، أي شخص لا يدخل معسكرات الاعتقال هذه، من الصعب أن نطلق عليها أي اسم آخر، سيحكم عليه بالإعدام. ورغم أن التطهير العرقي أصبح أسلوب عمل ــ طرد 40 ألف فلسطينيا من مخيمات اللاجئين في شمال الضفة الغربية وإعلان كاتس أنه لن يسمح لهم بالعودة دليل آخر على ذلك، إلا أن هذا التطهير كان فاشلا حتى الآن.

 لقد دمرت إسرائيل غزة، ولكن الفلسطينيين لم يتركوها، والفلسطينيون الذين أجبروا مؤخرا على ترك منازلهم في جنين ونور شمس وطولكرم لم يتركوا الضفة الغربية أيضاً.

مقالات مشابهة

  • MEE: كيف طبع الإسرائيليون مصطلحات إبادة الفلسطينيين بدون خجل؟
  • وصية الوليد بن محمد بن مصعب في القرن الثالث الهجري
  • ألمانيا .. مجموعة بوش الألمانية تعتزم شطب المزيد من الوظائف بسبب “ظروف السوق الصعبة”
  • الأورومتوسطي: إغلاق معابر غزة تصعيد خطير يكرس التجويع كأداة إبادة جماعية
  • الكاظمي: أنا كشفتُ سرقة القرن.. لكن مَن أطلق سراح المتهم؟
  • فرحة واحتفالات وطقوس متباينة.. تعرّف على أجواء رمضان في بلدان القرن الأفريقي (شاهد)
  • قضاء ناميبيا يحسم الجدل ويرفض طعن المعارضة بنتائج الانتخابات
  • غالبية الألمان تطالب بحكومة اتحادية من المحافظين والاشتراكيين
  • ثَبَتُ فَلَج ذي نَيْم.. وثيقة من القرن الخامس الهجري
  • ناميبيا تشيّع زعيم الاستقلال سام نجوما