ذكريات مكبوتة.. 3 روائيين أردنيين يستذكرون الطفولة
تاريخ النشر: 15th, January 2024 GMT
عمّان – المألوف أن الروايات على اختلاف بيئاتها تتناول قضايا متباينة، لكن أن ينبري روائيون أردنيون لتناول ذكرى الطفولة ويركزوا عليها في كتاباتهم؛ هو تجربة فريدة تستحق التأمل.
الدكتور زياد أبو لبن صاحب "أنفاس مكبوتة"، ومحمد العامري صاحب "شجرة الليف"، والدكتور محمد القواسمة صاحب "أصوات في المخيم " و"شارع الثلاثين"، عادوا مجددا -في أعمالهم الأدبية- إلى ذكريات طفولتهم التي تبعث في الإنسان الحنين لحضن الأم الدافئ وأمنياتهم بأن "يعودوا أطفالا يتربعون في الطشت وينعمون بطقوس الاستحمام العبقة برائحة الأم"؛ وهذه قضية جديرة بالبحث والتمحيص.
ومن تلك الذكريات تبرز أسئلة تبحث عن إجابة؛ أبرزها لماذا يعود هؤلاء الروائيون للماضي، هل لجماله كما يبدو أم ربما لبشاعة الحاضر؛ كونهم جميعا لم يأكلوا في صغرهم بملاعق ذهبية بل كانت لهم حكايات مع شظف الحياة بدرجات متفاوتة؟
فهل يختزن هؤلاء صرخة مقموعة أو مخزّنة أو مشاعر مطمورة صاحبت مشوارهم الحياتي كندوب حانت اللحظة المناسبة للبوح بها؟
هذا ما نحاول اكتشافه في هذا التقرير.
أنفاس مكتومةالدكتور زياد أبو لبن صاحب "أنفاس مكتومة وقصص أخرى" امتاز بسردية متماسكة وأمسك بشخوصه على مدى 119 قصة لكنه تركها تتحرك بحرية تامة ضمن تسلسل الأحداث بدون توجيه أو تدخل؛ فهي تتزين بواقعيتها في معاناتها مع الحياة بلغة سلسة وواضحة في عمل أدبي مميز لا يقدر القارئ على مغادرته .
فالبطلات منهن 11 فتاة بأسماء مختلفة والأم هي البطلة أو المحرك الرئيس، واعتبرها المراقبة لسلوكهن والموجهة لهن بصفتها الأكثر خبرة ودراية، واكتفى بمراقبة حركاتهن وكسر التابوهات المحرمة في مساحات ضيقة، فالزمان والمكان محدودان بحركة بطلاته.
وحول دور الأم يقول: "بالتأكيد الأم محرك رئيسي في القصص جميعها، فالأم المدرسة التي تربي وتُنشئ جيلا قادرا على مواجهة الحياة في انفتاحه على كل ما هو ممكن وغير ممكن، فهي تدرك سلوك أطفالها بالفطرة، وإن خبرت الحياة ومعتركها إلا أن نزوع الفطرة ينبهها على الخطر المحدق بالطفل من انحراف سلوكي بفعل ما تتيحه شبكات التواصل الاجتماعي والفضاء التكنولوجي، ففي قصص "أنفاس مكتومة" هي المحرك الرئيس لأحداث القصص؛ بل هي مركزية تلك الأحداث".
الآباء وأسئلة الأبناءواعتبر أبو لبن أن الآباء يقعون بإحراج بائنٍ أمام أسئلة أبنائهم، خاصة أن الأسئلة تصدر عن طفولة بريئة وجريئة، فالأطفال هم أقوى على طرح الأسئلة الجريئة، هذه البراءة تتلوث حينما يكبرون وتصبح الأسئلة مصدر خوفهم في مواجهة ثقافة العيب أو في مواجهة الغيبيات، ولقلة وعي الآباء غير المتسلحين بالعلم يقفون عاجزين عن الإجابة عن أسئلة أطفالهم، وأحيانا يجيبونهم بإجابات فيها لبوس أو مُلبسة تثير في أذهانهم أسئلة أخرى فتبقى معلّقة، فيكبرون وتصغر الأسئلة، بحسب وصفه.
ويضيف موضحا: "عندما تعجز إحدى شخصيات القصة (سعاد الطفلة الصغيرة) أمام الموت الذي يزحف إلى أبيها ببطء، ومتسللا من خلال السرطان الذي يفتك بعظمه الهش، تكتب رسالة إلى الله لينقذهم من الجوع، وبكل براءة الطفولة تضع الرسالة على قبر أبيها ليوصلها إلى الله، كما حال الطفل "خليل" الذي يقترب من ماء البحر ويهمس "بدي ماما"، تلك الأم التي ماتت بمرض الكورونا… هؤلاء الأطفال يمتلكون وعيا كبيرا بالعالم، وعيا غير مزيف أو ملوث بخطايا الكبار".
وختم حديثه للجزيرة نت قائلا إن "قصص المجموعة تبقى الأكثر جراءة في طرح ثقافة العيب عند الأطفال، جاءت بأسلوب يحمل جماليات اللغة بكل ما تحمله اللغة الشعرية، وهي قصص تحمل رؤية جديدة لعالم الصغار أو الفتيان، وتنهض بهذا العالم المسكون بالخوف".
حمّام الجمعة عذاب قسريوبأسلوبه السلس ولغته الرشيقة وحسه الإنساني في نتاجه الإبداعي يتجول الدكتور محمد القواسمة في أروقة الفقر والبؤس؛ ففي روايته "أصوات في المخيم" التي صدرت في جزأين "النشور" و"الحشر"، تقوم الأم بدور مهم في بناء الرواية التي تتحدث عن الحياة في المخيمات الفلسطينية والمشاهد التي تعبر عن بؤس الحياة وما كان يحدث في يوم الجمعة عادة، عندما كانت تقوم الأم بعملية تحميم أولادها.
وتقدم الرواية وفق القواسمة تفاصيل هذه العملية المضنية لها ولابنها الذي تقوم بتحميمه، فصالح بطل الرواية كان يحسب ألف حساب لهذا اليوم، ويحاول أن يهرب ويخلق معاذيره كي ينجو من العذاب القسري الذي يتعرض له ويهرب إلى الشارع ولكن إلى أين؟ تنطلق أمه خلفه وتأتي به إلى المطبخ الذي تتم فيه عادة أعمال كثيرة من طهي وغسيل ومذاكرة واستحمام.
ويرى القواسمة أن صورة الاستحمام التي تظهر تدل على أن الإنسان يستطيع أن يتكيف مع البؤس والفقر والعذاب وأن يصنع الفرح من أبسط الأعمال، أما مظاهر القسوة التي تظهر تعامل الأم مع طفلها في أثناء عملية التحميم فهي انعكاس لبؤس الحياة.
"شجرة الليف".. تسريد للذاكرة وتوصف رواية "شجرة الليف" الصادرة عن فضاءات للنشر، بـ170 صفحة، التي أطلق عليها محمد العامري "تسريد الذاكرة"؛ بأنها "جردة لذاكرته" ومجموعة من المقاطع الطفولية المكتوبة بلغة شعرية تصور حياة طفل كما لو أنه يكتب بالكاميرا، حيث كان "حمام الجمعة" طقسا خاصا وعذابات خاصة، فأمه تتعامل مع جسده كما تتعامل مع الأواني النحاسية المنزلية، إذ تسخن المياه على بابور الكاز والبطل صابون أبو مفتاحين النابلسي، "شيء حاد وخشن يجرف ظهري.. كنت أحاول الهروب.. أشبه بمعتقل تحت وطأة الليفة"، والليفة من شجرة الليف التي تزرع أمام البيت وكأنها من أهله لكنها لا تؤكل.
كما توثق الرواية -حسب العامري- ذكريات طفل عايش المشاغبات الطلابية وأحداث المنطقة بسردية مزينة بالصور الحياتية كجلب الماء مع جدته، وتدوّن علاقاته مع رفاق الصبا والجيران الذين هم أبطال "شجرة الليف"، وتصور ما سماه رعشة الشلال والأفراح القروية وحفلات الختان التي وصفها العامري بأنها حفلة إعدام لثوري لا يخشى الإعدام.
الطفولة وتلوين الطيوروفي حديثه للجزيرة نت يقول العامري "الطفولة هي مؤونة أو خزان من الذكريات اللذيذة التي اتكأ عليها في السرد والشعر والأشياء البكر التي لم تلوث بعد، وأعتقد جازما أن ذاكرة الطفل عبارة عن كاميرا غير مشوشة تمتلك من القوة الصارخة التي لا يمكن أن تنسى".
وقال إنه عايش في طفولته "أحداثا وذكريات؛ منها الغرائبي كتلوين الطيور.. كنت وأخي علي نصطاد الطيور ونلونها ونعيد إطلاق سراحها وكل منّا يعرف طيوره، ولا تلبث أن تعود بغير ألوانها لتقف على شجرة العنب (الدالية)".
ويتابع: "كما عايشت في سن الخامسة معركة الكرامة، حيث كان جيش الكيان الصهيوني يقصفنا بالصواريخ والقنابل في الأغوار الشمالية كونها كانت قواعد للفدائيين الفلسطينيين وأجبرنا على الرحيل إلى بلدة الصريح قرب مدينة إربد عروس الشمال".
ويواصل سرد ذكرياته: "وفي شمال المملكة شاهدت لأول مرة البئر.. هذه المفردة لم تكن موجودة في بلدتي "القليعات"، حيث الينابيع والشلالات.. وأول مرة لي داخل البئر كانت أكثر المشاهد رعبا لأن قاعه مرآة سوداء.. بدأت أتحسس تقاليد جديدة تختلف تماما عن الأغوار الشمالية.. ولمّا كانت طفولتي زراعية ارتبطت بالنهر والشلال الساقط من سد "زقلاب" كأنه رغوة من الصابون الأبيض نستحم بها غالبا في نهاية الأسبوع".
ما زلت أشم رائحة الطفولةويقول: "حتى اللحظة أهبط للأغوار الشمالية للقاء أمي، وحين تحضنني رغم هذا العمر أشم رائحة حليب الطفولة، وذلك الطفل الصغير في حضنها وأحاول دائما أن أستفز ذاكرتها لتحدثني عن تلك المفارقات لتقول "رأيتك قبل الولادة"، وهذه الحكاية تشغلني حتى اللحظة، وتزيد "وأنا حامل بك وصفتك للجارات بدقة متناهية وخصلة شعر تختلف عن لون شعري.. رأيتك تقف على قبة مقام سعد بن أبي وقاص وتقرأ من كتاب كبير"، وحين ولدتني كانت الصفات نفسها، فذبح أبي "عقيقة" ولبّس المقام قماشا أخضر، فهرع أهل القرية وأخذوا قطعا من القماش كأساور وقلادات، من باب التبريك".
ويضيف: "هذه الحادثة تشتغل في ذاكرتي بكثير من التساؤلات عن علاقة الأم بجنينها، وهي صورة لم يكشفها العلم بعد، فمن الممكن أن تحس الأم بحركاته لكن أمي عرفت شكلي قبل أن تراني".
"وأود القول إن القرى تمتلك ذكريات سحرية واقعية لم تكتب بالشكل الصحيح بعد، فمثلا كانت جدتي خبيرة في قنص طير "البوم".. تقطع ريشه وتضعه في المكحلة ثم تكحل عيون البوم، وتضع طوقا من الخرز الصغير في عنقه وتمتم بكلام لم أفهمه وتطيره باتجاه الشمس لكي تتقي شرّه، لأن هذا الطائر في الموروث العربي يرمي للشؤم".
الأم وطنوعلى صعيد متصل يرى الناقد والشاعر راشد عيسى أن الأم خارج معنى النساء، "فهي وطنك الذي لا يطلب جواز سفر ولا ضرائب.. إنه يطلب منك الإقامة ليستمتع بمنحك الحنان والمحبة والكائن الوحيد الذي يعطيك مهجة قلبه ولا يتوقع منك شكرا أو رد معروف".
وفسّر عيسى للجزيرة نت قائلا: "لذلك تناول الأدباء في مختلف بلاد الدنيا ثيمة الأم تناولا مقدسا منزها عن رغبات دنيوية، ولعّل ظاهرة استدعاء الطفولة في الأدب أعظم دليل على "تعالق" الابن بأمه تعالقا سرمديا، فالأمومة تعني الحرية التي لا تعادلها حرية".
وأضاف: "عندما لعب الشتات بالراحل محمود درويش صرخ بنبضات فؤاده الجريح: أحن إلى خبز أمي ولمسة أمي وقهوة أمي، إنه الحنين للأمن العاطفي والغذائي، وكذلك في أغلب الروايات العربية والعالمية نجد ظاهرة التوجع بسبب الابتعاد عن الأم، فهي المصدر الأول للطمأنينة وما سواها مشكوك فيه وقابل للخداع".
ويردف: "نحن نرنو للزمكان الطفولي خوفا من الموت واستياء من متاعب الرشد والوعي.. نريد أن نظل أطفالا منذورين للعب والأحلام والجهل فحضن الأم هو الذي نطمئن لوفائه المطلق، لذلك نصبو إليه كلما كبرنا".
ووصف راشد عيسى الأم بفردوس الفراديس وسط صحراء الآمال الخائبة، وقال "حتى أعظم السلاطين حين تغم عليه الهموم يتذكر حضن أمه".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: أبو لبن
إقرأ أيضاً:
مزنة... التخوّف من الوصمة المجتمعيَّة
عتبة...
تقول الراوية عزيزة:
"فيه خوف يصيبك بالشلل وخوف يزيد عزمك".
وتقول كذلك: "في أشياء تنكسر بالغلط بين أيادينا ونعيش عمرا كاملا نحاول نصلحها، وفي أشياء نتعمد نكسرها ونحن مسلّمون بالظن إننا نقدر نرجعها مثلما كانت. طيب القلب اللي ينكسر في أمل يتصلح؟ ومن يصلحه؟".
مسلسل شارع الأعشى
في زمن السبعينيات، لم يكن الحديث عن حق الفتاة الخليجية في الاختيار الشخصي للزواج مطروحا أصلا. فالقوانين المدنية لم تكن تشجع زواج المرأة من خارج وطنها، وكانت تفرض لوائح داخلية صارمة تجعل هذا الخيار محفوفا بالعقبات. وعبر هذا السياق، يفتح مفهوم الاختيار الشخصي، الذي استعرته من كتاب (هويات متغيرة: تحدي الجيل الجديد في السعودية)، للباحثة مي يماني، بابا للحديث عن قضايا المرأة الخليجية في التعليم والسياسة، ناهيك عن حقها في الحب والارتباط.
يقدّم مسلسل شارع الأعشى للمؤلفة بدرية البشر تجسيدا دراميا مؤثرا لهذا الواقع، من خلال شخصية مزنة الفتاة الشجاعة الصادقة التي وقعت في حب شاب فلسطيني يُدعى رياض، وأرادت الزواج به.
مزنة التي قدَمَت إلى شارع الأعشى برفقة أمها وأشقائها متعب وضاري والجازية، كانت مثالا للفتاة التي تحلم بحب نقي، بعلاقة تنصف قلبها وتكافئ طيبتها. شهدت قصصا كثيرة من حولها: صديقتها عزيزة التي وقعت في حب أحد الشباب العاملين في تجارة الأقمشة، وكيف غدرت بها امرأة لعوب فخطفته. أختها الجازية وهي تتزوج برجل لا يُحبها، فعاشت معه أسوأ حياة زوجية، وأخوها ضاري الذي وقع هو الآخر في الحب. مزنة لم تكن تختلف عنهم، لكنها اصطدمت بجدار الأعراف السميك.
كانت مزنة تعيش في مجتمع محافظ، حيث يُمنع على النساء الغناء أو العمل أو حتى الوجود في سوق الحريم إلا ضمن ضوابط صارمة. في هذا السياق، تعرفت على رياض، الذي أعرب عن رغبته في الزواج بها. ورغم ترددها وافقت بعد أن رأت فيه حريتها، وانعتاقها من سلطة الأخوين والمجتمع الرافض.
تقدم رياض وأهله رسميا، لكن الأم رفضت، خاصة بعد أن رآها ضاري تتحدث معه في السوق، وظن بها السوء. أقسم أن يمنع هذا الزواج، معلنا أن رياض "غريب لا يعرف عاداتهم"، وهكذا مُنعت مزنة من الخروج.
في لحظة يأس، قررت الانتحار، واضعة سكينا على عنقها. ضربها ضاري وهو يصرخ: "إلا الشرف! عقرب الثرى! تريد تذبح عمرها عشانه؟ أنا اللي بذبحها".
لترد الأم بحزن: "هذه بنيتي، ولا أحد له قول بعد قولي وأنتَ لا تمسّ شعرة منها...".
وفي مواجهة بين الأم وابنتها، تسألها الأم بمرارة: "لم أتوقعك هكذا".
فترد عليها: "ماني خايفة من الموت".
لترد الأم:" كل هذا عشق! ما خفتي تخسرين عمرش؟ تخسرين دينش عشانه؟ ما هجيتك كذيه يا مزنة، قوية... شجاعة".
ترد عليها مزنة بإصرار: "ما خفت من الموت ولا ني خايفة منه".
لكن الأم، رغم صدمتها، لم تفقد رجاحة عقلها، تحاول إقناع ابنتها بأن الحب وحده لا يكفي: "... وهو. هجوتك بيذبح عمره عشانش؟ بيتحمل أخوانش، بيتحمل ضاري والطج والطعن؟ اسمعي يا مزنة هالعشق يخصكم أنتم الاثنين، الخطر منه علينا الجميع، ما حدن يأخذ إلا من ربعه ومن جماعته. أنا اليوم حميتش من أخوانش، أما هو فمن يفكه منهم، وهذا اللي عندي".
ومع تصاعد التوتر، يتقدم رجل آخر يُدعى مطلق بن نافل لخطبتها، ويبدأ الحديث داخل العائلة عن فكرة الستر والخلاص الشرعي من هذه الفضيحة. تُرمي الكرة في ملعب مزنة، فتوافق على الزواج به ظاهريا، لكنها تخطط سرًا للهروب مع رياض. في لحظة الذروة، وفي حضور شيخ المسجد والمتشددين الذين واجهوا الثلاثي رياض ومزنة وعزيزة ليلا في شارع الأعشى، أنقذت الأم الموقف بذكاء: "البنت هذي بنيتي، والذي معها رجالها والبنت الثانية من جماعتنا جاءت تودعها قبل لا يسافرون. هذا سعد نسيبنا ماخذ أختها"، ثم قالت لرياض: "باكر تمرنا أنتَ وأهلك، وشوف من يسعى لك في التصريح".
فيرد عليها رياض: "أنا معي الجنسية، وما يصير إلا اللي تبينه".
في نهاية الأمر، تقرر الأم تزويج مزنة من رياض، بعد أن تأكدت مِن أن معه تصريحا رسميا. لكن ذلك لا يمنع ضاري من رفض الزواج والتهديد بدفنها. المشهد يكشف عمق الأزمة؛ بين القانون والتقليد، بين حب يُريد الحياة وخوف من العار المجتمعي. في خلفية هذه القصة، يَسكن خطاب ديني واجتماعي مشترك، يُشيطن المرأة ويصور حريتها كفتنة واختلاطها كفضيحة. كما في خطبة الإمام: "...الفتن أصبحت تحيط بنا من جميع الجهات ونحن في غفلة. كان المسلم يطأطئ رأسه في سَيره وهو يمشي في الطريق حتى إذا التقى امرأة لا يراها؛ لأن الله -عز وجل- أمر الرجال بأن يغضوا من أبصارهم. أما الآن فأصبح نظرهُ في الشارع، وفي المجلة والتلفاز والفيلم، وكلها في حكم زنا البصر والعياذ بالله".
إنه الخطاب المتكرر بلسان المتشددين: "يا عباد الله الحذر ثم الحذر يا أخوات. زينة المرأة في سترها، اتقوا الله يا أخوات وحافظوا على حجابكم. والمزامير من الشيطان ولا يجوز عزفها ولا سماعها ولا تداولها". هذا الخطاب التقليدي يصوّر المرأة كجوهرة، والرجل كذئب، ويحكم على الحب النقي بأنه تهديد لحصن العائلة، وليس فرصة للحياة.
إن قصة مزنة ليست قصة فتاة أحبت رجلا من خارج قبيلتها، بل هي مأساة مجتمع يخشى الحب أكثر مما يخشى الظلم. إنها اختناق متكرر لحلم مشروع، يحاصر المرأة من الجهات كلها، ويصنع من الوصمة عدوا لا يُرى، لكنه حاضر في كل قرار.
قصة مزنة أيضا، ليست مجرد دراما تلفزيونية، بل تعكس واقعا تعيشه العديد من النساء الخليجيات. فزواج المرأة الخليجية من أجنبي لا يزال يواجه تحديات قانونية وعراقيل اجتماعية متعددة. ففي المملكة العربية السعودية، يتطلّب زواج المرأة من أجنبي "الحصول على موافقة وزارة الداخلية، مع شروط تتعلق بالاستقرار المالي والفارق العمري والفحوصات الطبية والسجل الجنائي للزوج، وعدم استيفاء هذه الشروط قد يؤدي إلى رفض الطلب"، وفي معظم دول الخليج، لا تَمنح المرأة المتزوجة من أجنبي جنسيتها لأطفالها، مما يؤدي إلى مشكلات في الإقامة والتعليم والرعاية الصحية تصل إلى المحاكم، وينطبق الحال على جميع دول الخليج. ورغم التطور القانوني في بعض دول الخليج، إلا أن الوصمة الاجتماعية لا تزال قائمة.
ما عاشته مزنة في شارع الأعشى، بكل ما فيه من حب مكبوت ومقاومة خافتة وضغوط عائلية ودينية ليس مجرد حالة معاصرة، بل هو تكرار لصورة المرأة في السرد العربي القديم منذ الجاهلية، مرورا بالعصور الإسلامية وصولا إلى أدب النهضة. في السرد العربي القديم كانت المرأة تمثل الفتنة أو المَتاع، إما معبودة تقاتل القبائل لأجلها أو مصدر بلاء يجب ضبطه أو أداة للصلح والنسب (عنتر وعبلة)، ومزنة في هذا الامتداد، ليست بعيدة عن تلك الصور وتمثيلاتها الرمزية، فهي محكومة بسلطات ثلاث كبرى: سلطة الأخ، وسلطة الأم، وسلطة المجتمع والفتاوى وخطبة الصلاة وتهمة التجريم. ومثل بطلات السرد العربي القديم، فإنّ كل تمرّد منها يُقابل بالعنف أو الخنق أو التهديد بالموت كما لو أن حياتها لا تُحتمل إلا ضمن حدود يقرّها الذكور المتشددون.
لكن المختلف هنا، أن مزنة تقف على حافة التغيير. فهي لا تموت كما ماتت ليلى الأخيلية قهرًا، ولا تُمنع من الحب كما مُنعت بلقيس في الأسطورة، بل تصرخ، تحاول، تجرّب، تفكر في الانتحار، لكنها في نهاية الأمر تنتزع شبه اعتراف من الأم، وتضع الجميع أمام خيار أخير: إما أن أكون أو لا أكون.
إن قصة مزنة في الحقيقة ليست بعيدة عن قصص النساء العربيات منذ فجر السرد: نساء يُحببن لكن لا يُصدقن، يُردن لكن لا يُمنحن، يُفكرن لكن لا يُسألن. ومزنة بهذا تمثّل لحظة تقاطع بين الماضي الثقيل والحاضر الذي سيأتي متأخرا.