بين الواقعية والتجريد.. ما هو فن الحياة الصامتة؟
تاريخ النشر: 17th, July 2023 GMT
يعد فن الطبيعة الصامتة أو الساكنة (Still Life) واحدا من أكثر مذاهب الفن التشكيلي التي استمرت في جذب ممارسي وهواة الفنون حول العالم، لما ينطوي عليه من تصوير الأشياء الثابتة، مثل الفواكه والزهور وأدوات الحياة اليومية، أو حتى التكوينات المجردة المرتبة على الأرفف، بشكل جيد يبعث على الشعور بالهدوء وتقدير الجمال الموجود في الأشياء العادية.
ويعود رسم الحياة الساكنة إلى قرون مضت، وقد تطور مع الوقت، مشكلاً مذهبًا ضارب في القدم وعظيم القيمة بعالم الفنون التشكيلية متعدد المذاهب والمدارس.
والسبب في ذلك أنه يحتاج كامل انتباه الفنان للتفاصيل الدقيقة، ومراقبة النور والظل طوال الوقت كي يتمكن من التقاط جوهر وجمال الأشياء والعناصر محل الرسم.
لذلك نرى أن لوحات هذا المذهب تتميز بالعرض الدقيق للأنسجة وترتيب الأجسام في تكوينات مثيرة ومتوازنة بصريًا، واستخدام الألوان والأقمشة لإنشاء تمثيل واقعي أو خيالي يُثري من قيمة الأشياء البسيطة.
وإحدى السمات المميزة لفن الطبيعة الصامتة أو الساكنة هي قدرته القبض على لحظة زمنية شديدة الانفلات، وتجميدها على قماش اللوحة مُخلدًا إياها إلى الأبد.
فمثلا في لوحة "الحياة الساكنة لطعام وأكواب وأبريق على منضدة" Still Life Food.. Glasses and a Jug on a Table -للفنان الهولندي بيتر كلايس (1597-1660) الذي كان رسامًا محترفًا للوحات الحياة الساكنة- تصوير آسر يسبر فيه أغوار عالم الرفاهية الذي كانت تعيشه الطبقات الأرستقراطية الهولندية في القرن 17.
لوحة" الحياة الساكنة لطعام وأكواب وأبريق على منضدة" للفنان بيتر كلايس (غيتي إيميجز)وتعرض اللوحة مجموعة من الأطباق الفاخرة، الكمثرى وغير ذلك من الفاكهة، والمحار النضرة والخبز المعروض بشكل جميل. وأولى كلايس اهتمامًا خاصًا ودقيقًا بالتفاصيل كي يضفي لمسة من الحيوية للألوان النابضة بالحياة ليجذب بالتبعية عين المشاهد إلى هذا العالم من الوفرة.
وإلى جانب الطعام، هناك مجموعة من أدوات المائدة المصنوعة بدقة وإبريق فضي لامع يرمز إلى الرقي والفخامة. وكل هذا يعطي إحساسًا بالهدوء أثناء تأمل العناصر التي تتخلل التكوين.
ومن خلال هذا العمل البارع، لا يدعونا كلايس لتذوق تلك اللحظة الثرية فحسب، بل يدفعنا للتفكير في الطبيعة العابرة للممتلكات المادية والجمال العابر للحياة نفسها.
وعلى نفس المنوال، نرى في لوحة "الحياة الساكنة لسمك وقط Visstilleven met kat"، مرسومة عام 1620، للرسامة البلجيكية كلارا بيترز، حالة التربص والغموض التي تكتنف القط والتي تخلف إحساسًا بالواقعية والمكائد.
وتُظهر اللوحة أيضًا اهتمام الرسامة الشديد بالتفاصيل ومهارتها في إتقان الحياة الساكنة خاصة بالطريقة التي صورت بها جلد وألوان السمك، إلى جانب تكوين وترتيب الأشياء الموجودة على نحو يبث الحياة في العناصر المعروضة.
وتستعرض اللوحة أيضا تغير شكل وطبيعة القط والمأكولات بين الظل والنور، من الألوان الداكنة للألوان الدافئة ثم الزاهية، بشكل يعزز الشعور بالهدوء وتقدير قيمة وسحر اللحظات العابرة.
وتحوّل بيترز بهذا العمل الأشياء العادية إلى مواضيع استثنائية لتحفز المشاهدين على رؤية العالم من حولهم بنظرة جديدة، فيها تقدير للجماليات الموجودة في الأشياء البسيطة التي نتجاهلها في كثير من الأحيان.
الخروج عن المألوفعمل فن الطبيعة الصامتة مطلع القرن العشرين كمنصة تجريبية أتاحت لرواد مدارس الفن الحديث -مثل الانطباعية والتعبيرية والتكعيبية- دفع حدود التمثيل التقليدي للحياة الساكنة إلى عالم آخر. ففي حين اختار بعض الفنانين الواقعية في تمثيل وتشكيل الحياة الساكنة، مال آخرون نحو التجريد والعبث بالشكل واللون والفرشاة.
زهور ووعاء من الفاكهة على طاولة للفنان بول غوغان (غيتي إيميجز)وقد احتضن فن الطبيعة الصامتة هذا التنوع في النهج الذي انتشر منذ مطلع القرن الماضي، وحتى الوقت الراهن بسبب مرونته. وكان هذا المذهب قادرًا على التكيف والتطور مع التغيرات الزمنية والحركات الفنية، سواء التقليدي منها أو الطليعي وحتى المعاصر.
فمثلا في لوحة "سلة التفاح" (Basket of Apples) للرسام الانطباعي الفرنسي بول سيزان (1839-1906) تتويج مبهج لعبقريته، وتم الانتهاء من هذه الحياة الساكنة عام 1893.
وتمثل هذه اللوحة انعكاسًا قويًا لأسلوب سيزان ما بعد الانطباعي، حيث يعتمد رسم العناصر والمواضيع على إيحاء انسيابي بأن هذا يبدو وكأنه تفاح بعيدا عن المعايير الواقعية الصارمة.
سلة التفاح لبول سيزان (غيتي إيميجز)وتتميز اللوحة بترتيب كمية التفاح الموضوع بعناية في سلة من الخيزران على مفرش طاولة ريفي وخلفية محايدة. ويؤدي استخدام سيزان الفرشاة بشكل تمويهي -الأسلوب الذي عرفت به ما بعد الانطباعية- وتوظيف الألوان إلى تفاعل آسر بين الأشكال الهندسية والطبيعة العضوية للفاكهة.
ويلتقط الفنان ببراعة جوهر كل تفاحة، ويعرض بعناية القوام والأشكال والألوان الفردية مما يخلف توترًا ديناميكيًا داخل التكوين، بينما تترك المستويات المجزأة إحساسًا بعدة وجهات وزوايا نظر متنوعة. وتضيف هذه التقنية عمقًا وتعقيدًا للوحة، مما يدعو المشاهد إلى الانخراط في اللوحة.
وكما جرت العادة في لوحات الطبيعة الصامتة، فإن واحدا من أكثر جوانب "سلة التفاح" اللافتة للنظر هي مسرحية الضوء والظل، حيث حقق سيزان تباينًا رائعًا بين الظلال الداكنة للوعاء والألوان النابضة بالحياة للتفاح، وجعلها تنبض بالحياة.
وعليه، يمكن القول إن لوحات الطبيعة الصامتة تتمتع بمكانة رفيعة في عالم الفنون الجميلة حيث تقدم نظرة فريدة للأشياء العادية البسيطة، وتفسح المجال نحو تقدير الجمال الموجود بأبسط الأشياء. فالشعور بالسلام والروعة والجمال لا يقتضيان عيش حياة فارهة بالضرورة.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
وزيرة البيئة تناقش مع نظيرها الألماني التعاون في مبادرة حلول الطبيعة واتفاق البلاستيك
التقت الدكتورة ياسمين فؤاد وزيرة البيئة مع يان نيكلاس جيسنهوس، وزير الدولة للبيئة وحماية الطبيعة والسلامة النووية وحماية المستهلك بألمانيا، والسفير يورجن شولتس، سفير ألمانيا بالقاهرة، والوفد المرافق لهما، وذلك فى ختام مشاركتها في فعاليات المنتدى الحضرى العالمى فى نسخته الـ12 بالقاهرة، حيث بحثا التعاون المشترك في تسريع مبادرة الحلول القائمة على الطبيعة، والاتفاق العالمي للبلاستيك المنتظر الوصول له في نهاية العام .
وناقشت وزيرة البيئة مع نظيرها الألماني نتائج مؤتمر التنوع البيولوجي بكالي COP16، والتي لم تلبى آمال الدول النامية في التمويل، والحاجة لإصلاح النظام التمويلي العالمي ككل، وذلك رغم رفع طموح الدول بعد الموافقة على الإطار العالمي للتنوع البيولوجي في مونتريال COP15، ورغم مشاركتها في الصندوق الجديد للإطار العالمي للتنوع العالمي الذي أطلقته الصين وطرح الحزمة الأولى لمشروعات للتمويل منه، والتي أظهرت أننا جميعا نتقاسم المسئولية للمضي قدما في أجندة التنوع البيولوجي.
وأضافت وزيرة البيئة انه رغم عدم الوصول إلى التمويل المتوقع للتنوع البيولوجي، إلا أن بعض الدول النامية قد قدمت خططها الوطنية المحدثة للتنوع البيولوجي قبل المؤتمر، ستنتقل إلى مؤتمر المناخ COP29 في باكو، والمسمى بمؤتمر التنفيذ، بآمال في الوصول لهدف جمعي كمّي جديد لتمويل المناخ.
وشددت دكتورة ياسمين فؤاد على أهمية ضمان وصول الدول للتمويل المتاح لتنفيذ أولوياتها الوطنية، وحاجة بعض الدول النامية لبناء القدرات الوطنية لتعبئة التمويل المطلوب وادارته ، مشيرة لمحادثاتها مؤخرا مع ممثل مرفق البيئة العالمية GEF حول ضرورة العمل على إعادة بناء الثقة وضمان وصول الدول للتمويل، مما يتطلب اصلاح نظام المرفق، مع ضرورة توفير تمويل وإصلاحات حقيقية لرفع الطموح في تحقيق الأهداف .
وقد ثمنت وزيرة البيئة خلال لقائها مع نظيرها الألماني التعاون المشترك في مبادرة الحلول القائمة على الطبيعة ENACT، والتي تعد واحدة من ٣ مبادرات أطلقت في مؤتمر المناخ COP27 ، وتتميز بكونها تحقق هدف تسعى له مصر منذ ٢٠١٨، عندما أطلقت خلال رئاستها لمؤتمر التنوع البيولوجي COP14 مبادرة استعادة التآزر بين اتفاقيات ريو الثلاث، حيث قدمت مبادرة ENACT خلال التقرير الأول لها والوثيقة الأخيرة الصادرة خلال مؤتمر كالي COP16 ، نماذج لتنفيذ حقيقي للربط بين اتفاقيات ريو الثلاث، ونعمل على استكمال جهود المبادرة والتعاون خلال مؤتمر التصحر COP16 بالرياض للحفاظ على الزخم حولها.
وأضافت د. ياسمين فؤاد أنها تبحث حاليا مع الاتحاد الدولي لصون الطبيعة تخصيص تمويل أو صندوق للحلول القائمة على الطبيعة لتحقيق الربط بيّن التنوع البيولوجي والأراضي والمناخ، من خلال ربط السياسات والتنفيذ الحقيقي للمجتمعات المهددة، مستندة لما رصده التقرير الأول للمبادرة من حالات حقيقية من مناطق مختلفة في العالم تبرهن على فاعلية هذه الحلول وإمكانية تكرارها والبناء عليها .
وأوضحت وزيرة البيئة أن مصر من منطلق دورها القيادي في التعاون متعدد الأطراف تؤمن ان الوقت حان لربط حقيقي بين اتفاقيات ريو الثلاث، وضرورة التركيز على تدهور الأراضي الذي يرتبط باستعادة النظام البيئي ليس فقط من منطلق استخدامات الأراضي وإدارتها ولكن النظام البيئي ككل، والاستفادة من هذا الزخم في مؤتمر التصحر بالرياض COP16 في نهاية العام، لتحقيق تنفيذ فعال لهذا الربط، خاصة مع تأهل العالم لتقبل فكرة التآزر بين الاتفاقيات الثلاث والفرصة الكبيرة التي خلقتها مبادرة ENACT.
كما ناقش الجانبان الموقف الحالي لمفاوضات اتفاق البلاستيك المنتظر، حيث أبدت الوزيرة تطلعها للوصول لاتفاق عالمي للتلوث البلاستيكي، مشيرة إلى إمكانية البدء في الاتفاق بالتركيز على المجالات ذات الأولوية، مثل تعريف البلاستيك والتلوث الخاص به والبوليمرات، ووضع هدف واضح لتدوير البلاستيك.
ومن جانبه، اكد وزير البيئة الألماني أن مبادرة الحلول القائمة على الطبيعة ENACT كانت من النقاط المضيئة في مؤتمر التنوع COP16 بكالي، مع التقدم المتواصل لها، ونجاحها في الربط بين التخفيف والتكيف، والسعي لتقديم المبادرة نموذجا جيدا في مؤتمر المناخ القادم COP29 بباكو، مشيدا بالخطوات المحققة في الصندوق الجديد لتمويل التنوع البيولوجي، وكيفية تعبئة الموارد لتخطي فجوة التمويل الحالية مع الحاجة لإعادة هيكلة الأدوات التمويلية الحالية.
واضاف ان ألمانيا تسعى لتنفيذ آلية لتسريع الحلول القائمة على الطبيعة بالتعاون مع كولومبيا، يتم خلالها تحديد الفجوات التكنولوجية والتمويلية، وحشد شراكات مع دول أخرى على المستوى الثنائي والإقليمي والدولي ، حيث اشارت وزيرة البيئة المصرية باعتبارها رئيس الدورة الحالية لمجلس أمناء الهيئة الإقليمية للبحر الأحمر وخليج عدن (برسيجا)، الى إمكانية الاستفادة من هذه الآلية في تمويل الحلول القائمة على الطبيعة في ساحل البحر الأحمر الذى من المنتظر إعلانه منطقة خاصة.