ترجمة : أحمد شافعي

تمثل أولى الضربات الجوية الكثيرة ذات القيادة الأمريكية التي تجري لمقاتلي الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن علامة مقبضة أخرى في سلسلة الإخفاقات السياسية الغربية في الشرق الأوسط وأبرزها وأهمها الفشل منذ عقود في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.

إن حقيقة اضطرار الولايات المتحدة -بدعم من بريطانيا- إلى استعمال القوة ردا على هجمات الحوثيين المعطلة للشحن التجاري في البحر الأحمر لتعكسُ واقعا كريها هو أن نفوذ واشنطن السياسي يضمحل، وأن دبلوماسيتها عقيمة، وسلطتها محتقرة.

فقد أعلن الحوثيون في بسالة أن الهجمات سوف تستمر.

يبرز هذا التصعيد المرهق المفتوح على جميع الاحتمالات حقيقة أخرى مزعجة. وهي أن القوة المهيمنة في الشرق الأوسط لم تعد الولايات المتحدة، أو الدول المتحالفة مع الغرب كمصر أو المملكة العربية السعودية أو حتى إسرائيل. وإنما الحليف الأساسي للحوثيين، أي إيران.

من الضحالة بمكان أن نتحدث عن فائزين وخاسرين في مجزرة غزة التي يقول الحوثيون إنها الدافع وراء حملتهم. غير أنه من الواضح -من الناحية الاستراتيجية- من الذي يتقدم في هذه الأزمة. فمن خلال القتال بالوكالة، تتعزز مكانة إيران مع كل ضحية فلسطينية، وكل صاروخ من حزب الله، وكل تفجير عراقي أو سوري، وكل طائرة مسيَّرة حوثية.

لقد عادى الرئيس بايدن الرأي العام العالمي (وأغلب الأمريكي) بتعهده المتهور بالدعم غير المشروط لإسرائيل بعد فظائع حماس واستعماله الفيتو لتعطيل خطط الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار. وتبدو سياسته في الشرق الأوسط عتيقة غير مسايرة للواقع. لقد كانت الولايات المتحدة ـ التي لم تحظ قط بشعبية في العالم العربي ـ مقبولة فقط بوصفها شرا لا بد منه. ولكن الأمر لم يعد كذلك. فإيران ـ غير العربية ـ هي التي تتولى الآن مقعد القيادة.

إسرائيل هي الأخرى شهدت صحوة استراتيجية منذ السابع من أكتوبر، على الرغم من أن ساستها الأشد تطرفا لم ينتبهوا إلى ذلك بعد. فقد غيرت أهوال غزة إلى الأبد، وإلى الأسوأ، صورة إسرائيل، وآية ذلك مزاعم الإبادة الجماعية غير المسبوقة في محكمة العدل الدولية. وقد قال خالد بن بندر السفير السعودي في لندن لهيئة الإذاعة البريطانية الأسبوع الماضي إن الدولة اليهودية ما عاد ينبغي أن تلقى معاملة الحالة الخاصة.

وذلك كله من دواعي سرور إيران. فللنظام في إيران ثلاثة أهداف أساسية في السياسة الخارجية: إخراج الولايات المتحدة، أي الخصم الشيطاني لثورة 1979، من الشرق الأوسط، والحفاظ على التفوق الإقليمي، وتقوية التحالفات الأساسية مع الصين وروسيا. ودمار إسرائيل، فعلا أم مجازا، هو الهدف الرابع.

تعمل شبكات المقاتلين الإيرانية ـ أي "محور المقاومة" ـ عن بعد. فالآراء تختلف في ما لو أن الحوثيين المدرَّبين والمسلحين على يد طهران يأتمرون بأوامر منها. إذ يعتقد بعض المحللين أنه لا سيطرة لإيران على الوكلاء اليمنيين. وحزب الله في لبنان يصر هو الآخر أنه مستقل في عملياته.

غير أنه بالنظر إلى حماس في غزة، وفصائل الفلسطينيين في الضفة الغربية، وميليشيات العراق وسوريا، يتبين أن إيران جمعت تحالفا يدار عن بعد رغبة في البقاء بعد الولايات المتحدة. ولن يتغير هذا الواقع من خلال قصف قواعد الحوثيين، بدلا من الدفع إلى وقف إطلاق نار في حرب اليمن الأهلية المستمرة منذ ردح من الزمن. بل الأرجح أنه سوف يؤجج في طهران سردية المقاومة الإقليمية المعادية للغرب والمناهضة لإسرائيل

بذكاء يفوق المعهود من قبل، اتخذت إيران خطوات برجماتية لإصلاح الوضع مع المنافسين في الخليج العربي في العام الماضي، فاستأنفت العلاقات الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية، لكن ما من حب مفقود بين الرياض وطهران. وكان أوضح جوانب الصفقة هو أن الصين هي التي توسطت فيها.

الصين وروسيا هما أفضل الأصدقاء الجدد لإيران. وهذا، قبل أي عامل آخر، هو ما غيَّر من حظوظ إيران، وجعل منها قوة لا يستهان بها. وكان غزو أوكرانيا، ومعاهدة التعاون "بلا حدود" بين الصين وروسيا من قبل، هما الحافز لهذا التحول.

لقد بلورت الحرب وتداعياتها الاعتقاد الناشئ بالفعل في بكين وموسكو بأن القيادة العالمية الأمريكية، في مرحلة ما بعد دونالد ترامب، إنما هي في تراجع، وأن النظام الدولي القائم على القواعد بإشراف واشنطن إنما هو جاهز للتخريب والاستبدال.

منذ أن تولى شي جين بينج السلطة قبل أكثر من عقد، أنشأت الصين مجالات نفوذ جيوسياسي واقتصادي لمنافسة نفوذ الولايات المتحدة، أو للحلول محلها إذا ما أمكن ذلك. وتحتل إيران مكانة مركزية في خطط شي. وفي عام 2021، وقع البلدان اتفاقية استراتيجية للاستثمار والطاقة مدتها خمسة وعشرون عاما. وبرعاية صينية، انضمت إيران إلى مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون.

وبالتآمر مع بكين للتحايل على العقوبات، تبيع إيران ملايين البراميل من النفط الخام بأسعار مخفضة إلى الصين كل شهر، وتنتقل إلى هناك عن طريق حاويات النفط في "الأسطول المظلم". وبعد سنوات من الركود والاضطرابات السياسية والاجتماعية العنيفة في الداخل، بدأ اقتصادها ينتعش. وفي فبراير، أخبر شي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أن الصين تدعم نضال إيران ضد "الأحادية والبلطجة" الأمريكية.

ومع روسيا، يتعلق الأمر كله بالأسلحة. إذ توفر إيران الطائرات المسيرة المسلحة التي تستخدمها موسكو لقتال الأوكرانيين. ويتردد أن المخابرات الأمريكية تعتقد أن مجموعة فاجنر الروسية تخطط لتزويد حزب الله بنظام دفاع جوي متوسط المدى، وإن صح ذلك فهو استفزاز مذهل.

وإيران، بدورها، قد تقتني عما قريب قاذفات مقاتلة روسية متقدمة من طراز سوخوي إس يو 35، وطائرات هليكوبتر هجومية، وذلك نتاج "شراكة دفاعية غير مسبوقة". وتزدهر الصادرات الروسية إلى إيران. وتعهدت موسكو بمبلغ أربعين مليار دولار لتطوير حقول الغاز الطبيعي فيها.

وعلى رأس هذا كله، يقال إن برنامج التخصيب الإيراني المحظور المرتبط بالأسلحة النووية يتقدم بسرعة ـ وهذا هدف خاص آخر، ويعزى ذلك إلى تدمير ترامب لاتفاق مكافحة انتشار الأسلحة النووية الذي دعمته الأمم المتحدة في عام 2015. وكان بايدن يرجو إحياءه لكنه استسلم. ولم تعد روسيا والصين داعمتين. ولذلك فقد يكون أسوأ كابوس لإسرائيل، أي القنبلة النووية الإيرانية، أقرب من أي وقت مضى.

وكتب المحللان رويل مارك جيرشت وراي تقية يقولان: إن "المزاج العام اليوم، في الجمهورية الإسلامية مزاج انتصاري.. فقد نجت إيران من العقوبات والاحتجاجات الداخلية. وبمساعدة حلفائها من القوى العظمى، تمكنت من ضبط اقتصادها وبدأت في تجديد دفاعاتها. والقنبلة النووية باتت في متناول اليد".

وبعد خمسة وأربعين عاما من المحاولة، أصبحت إيران أخيرا الطفل الكبير في المنطقة. فلم يفلح فرض العقوبات على طهران ونبذها وتهديدها. وتواجه الولايات المتحدة وبريطانيا - وإسرائيل - خصما هائلا، هو جزء من تحالف عالمي ثلاثي تدعمه ميليشيات قوية وقوة اقتصادية. والحاجة الآن ماسة إلى نهج دبلوماسي جديد إذا أردنا تجنب صراع أوسع نطاقا.

• سيمون تيسدال معلق في الشؤون الخارجية، وكان كاتبًا أجنبيًا بارزًا ومحررًا أجنبيًا ومحررًا أمريكيًا لصحيفة الجارديان.

** عن الجارديان البريطانية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط

إقرأ أيضاً:

روسيا وتركيا تبحثان الوضع في سوريا

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

بحث مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط والدول الأفريقية نائب وزير الخارجية ميخائيل بوجدانوف اليوم مع السفير التركي في موسكو تانجو بيلجيتش الوضع في الشرق الأوسط في ضوء التطورات الحالية في سوريا.

وذكرت وزارة الخارجية الروسية -في بيان لها اليوم /الإثنين/- أن الجانبين تبادلا وجهات النظر حول الوضع في الشرق الأوسط مع التركيز على التطورات الحالية في سوريا.

وأكد الدبلوماسيان التزام موسكو وأنقرة بالجهود المنسقة لتعزيز التسوية الشاملة للأزمة السورية، انطلاقا من الحاجة إلى ضمان وحدة سوريا وسلامة أراضيها وسيادتها.

وأضافت أن الجانبين ناقشا أيضا آفاق تسوية الصراع "الفلسطيني-الإسرائيلي" وفقا للقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة، مشيرة إلى أن الاجتماع جاء بناء على طلب الجانب التركي، حسبما نقلت وكالة أنباء "تاس" الروسية.

يذكر أنه في السادس من مارس الماضي، اندلعت اشتباكات في مناطق مختلفة من محافظة اللاذقية بين قوات الأمن السورية وجماعات مسلحة، ووقعت أعنف المعارك في جبلة، موطن طائفة العلويين.

وأرسلت السلطات السورية الجديدة وحدات من الجيش ومركبات مدرعة إلى المحافظات الثلاث، وفرضت حظر التجول في المدن الرئيسية.

مقالات مشابهة

  • روسيا وتركيا تبحثان الوضع في سوريا
  • ويتكوف يتوقع تحقيق تقدم كبير في محادثات أوكرانيا هذا الأسبوع
  • وزير الخارجية يتلقى اتصالًا هاتفيًا من المنسقة الخاصة للأمم المتحدة لعملية السلام في الشرق الأوسط وكبيرة منسقي الشؤون الإنسانية وإعادة الإعمار في غزة
  • فرصة تاريخية أمام أمريكا في الشرق الأوسط
  • عاجل | هيئة البث الإسرائيلية عن مسؤول: إحراز تقدم معين في المحادثات التي أجرتها الولايات المتحدة مع حماس
  • واشنطن: الولايات المتحدة لم تجدد الإعفاء الممنوح للعراق لشراء الكهرباء من إيران
  • مصر تحاصر مخطط الشرق الأوسط ضدها
  • الحرب ليست خيار الأقوياء دائما
  • خالد الجندي: هذه الآية ليست دعوة للكفر وإنما تحدٍ إلهي
  • علي جمعة لفتاة: الفجر والعصر ليست صلوات وإنما هي مواقيت.. فيديو