ليست الولايات المتحدة القوة الكبرى في الشرق الأوسط وإنما إيران
تاريخ النشر: 14th, January 2024 GMT
ترجمة : أحمد شافعي
تمثل أولى الضربات الجوية الكثيرة ذات القيادة الأمريكية التي تجري لمقاتلي الحوثيين المدعومين من إيران في اليمن علامة مقبضة أخرى في سلسلة الإخفاقات السياسية الغربية في الشرق الأوسط وأبرزها وأهمها الفشل منذ عقود في حل الصراع الإسرائيلي الفلسطيني.
إن حقيقة اضطرار الولايات المتحدة -بدعم من بريطانيا- إلى استعمال القوة ردا على هجمات الحوثيين المعطلة للشحن التجاري في البحر الأحمر لتعكسُ واقعا كريها هو أن نفوذ واشنطن السياسي يضمحل، وأن دبلوماسيتها عقيمة، وسلطتها محتقرة.
يبرز هذا التصعيد المرهق المفتوح على جميع الاحتمالات حقيقة أخرى مزعجة. وهي أن القوة المهيمنة في الشرق الأوسط لم تعد الولايات المتحدة، أو الدول المتحالفة مع الغرب كمصر أو المملكة العربية السعودية أو حتى إسرائيل. وإنما الحليف الأساسي للحوثيين، أي إيران.
من الضحالة بمكان أن نتحدث عن فائزين وخاسرين في مجزرة غزة التي يقول الحوثيون إنها الدافع وراء حملتهم. غير أنه من الواضح -من الناحية الاستراتيجية- من الذي يتقدم في هذه الأزمة. فمن خلال القتال بالوكالة، تتعزز مكانة إيران مع كل ضحية فلسطينية، وكل صاروخ من حزب الله، وكل تفجير عراقي أو سوري، وكل طائرة مسيَّرة حوثية.
لقد عادى الرئيس بايدن الرأي العام العالمي (وأغلب الأمريكي) بتعهده المتهور بالدعم غير المشروط لإسرائيل بعد فظائع حماس واستعماله الفيتو لتعطيل خطط الأمم المتحدة لوقف إطلاق النار. وتبدو سياسته في الشرق الأوسط عتيقة غير مسايرة للواقع. لقد كانت الولايات المتحدة ـ التي لم تحظ قط بشعبية في العالم العربي ـ مقبولة فقط بوصفها شرا لا بد منه. ولكن الأمر لم يعد كذلك. فإيران ـ غير العربية ـ هي التي تتولى الآن مقعد القيادة.
إسرائيل هي الأخرى شهدت صحوة استراتيجية منذ السابع من أكتوبر، على الرغم من أن ساستها الأشد تطرفا لم ينتبهوا إلى ذلك بعد. فقد غيرت أهوال غزة إلى الأبد، وإلى الأسوأ، صورة إسرائيل، وآية ذلك مزاعم الإبادة الجماعية غير المسبوقة في محكمة العدل الدولية. وقد قال خالد بن بندر السفير السعودي في لندن لهيئة الإذاعة البريطانية الأسبوع الماضي إن الدولة اليهودية ما عاد ينبغي أن تلقى معاملة الحالة الخاصة.
وذلك كله من دواعي سرور إيران. فللنظام في إيران ثلاثة أهداف أساسية في السياسة الخارجية: إخراج الولايات المتحدة، أي الخصم الشيطاني لثورة 1979، من الشرق الأوسط، والحفاظ على التفوق الإقليمي، وتقوية التحالفات الأساسية مع الصين وروسيا. ودمار إسرائيل، فعلا أم مجازا، هو الهدف الرابع.
تعمل شبكات المقاتلين الإيرانية ـ أي "محور المقاومة" ـ عن بعد. فالآراء تختلف في ما لو أن الحوثيين المدرَّبين والمسلحين على يد طهران يأتمرون بأوامر منها. إذ يعتقد بعض المحللين أنه لا سيطرة لإيران على الوكلاء اليمنيين. وحزب الله في لبنان يصر هو الآخر أنه مستقل في عملياته.
غير أنه بالنظر إلى حماس في غزة، وفصائل الفلسطينيين في الضفة الغربية، وميليشيات العراق وسوريا، يتبين أن إيران جمعت تحالفا يدار عن بعد رغبة في البقاء بعد الولايات المتحدة. ولن يتغير هذا الواقع من خلال قصف قواعد الحوثيين، بدلا من الدفع إلى وقف إطلاق نار في حرب اليمن الأهلية المستمرة منذ ردح من الزمن. بل الأرجح أنه سوف يؤجج في طهران سردية المقاومة الإقليمية المعادية للغرب والمناهضة لإسرائيل
بذكاء يفوق المعهود من قبل، اتخذت إيران خطوات برجماتية لإصلاح الوضع مع المنافسين في الخليج العربي في العام الماضي، فاستأنفت العلاقات الدبلوماسية مع المملكة العربية السعودية، لكن ما من حب مفقود بين الرياض وطهران. وكان أوضح جوانب الصفقة هو أن الصين هي التي توسطت فيها.
الصين وروسيا هما أفضل الأصدقاء الجدد لإيران. وهذا، قبل أي عامل آخر، هو ما غيَّر من حظوظ إيران، وجعل منها قوة لا يستهان بها. وكان غزو أوكرانيا، ومعاهدة التعاون "بلا حدود" بين الصين وروسيا من قبل، هما الحافز لهذا التحول.
لقد بلورت الحرب وتداعياتها الاعتقاد الناشئ بالفعل في بكين وموسكو بأن القيادة العالمية الأمريكية، في مرحلة ما بعد دونالد ترامب، إنما هي في تراجع، وأن النظام الدولي القائم على القواعد بإشراف واشنطن إنما هو جاهز للتخريب والاستبدال.
منذ أن تولى شي جين بينج السلطة قبل أكثر من عقد، أنشأت الصين مجالات نفوذ جيوسياسي واقتصادي لمنافسة نفوذ الولايات المتحدة، أو للحلول محلها إذا ما أمكن ذلك. وتحتل إيران مكانة مركزية في خطط شي. وفي عام 2021، وقع البلدان اتفاقية استراتيجية للاستثمار والطاقة مدتها خمسة وعشرون عاما. وبرعاية صينية، انضمت إيران إلى مجموعة بريكس ومنظمة شنغهاي للتعاون.
وبالتآمر مع بكين للتحايل على العقوبات، تبيع إيران ملايين البراميل من النفط الخام بأسعار مخفضة إلى الصين كل شهر، وتنتقل إلى هناك عن طريق حاويات النفط في "الأسطول المظلم". وبعد سنوات من الركود والاضطرابات السياسية والاجتماعية العنيفة في الداخل، بدأ اقتصادها ينتعش. وفي فبراير، أخبر شي الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي أن الصين تدعم نضال إيران ضد "الأحادية والبلطجة" الأمريكية.
ومع روسيا، يتعلق الأمر كله بالأسلحة. إذ توفر إيران الطائرات المسيرة المسلحة التي تستخدمها موسكو لقتال الأوكرانيين. ويتردد أن المخابرات الأمريكية تعتقد أن مجموعة فاجنر الروسية تخطط لتزويد حزب الله بنظام دفاع جوي متوسط المدى، وإن صح ذلك فهو استفزاز مذهل.
وإيران، بدورها، قد تقتني عما قريب قاذفات مقاتلة روسية متقدمة من طراز سوخوي إس يو 35، وطائرات هليكوبتر هجومية، وذلك نتاج "شراكة دفاعية غير مسبوقة". وتزدهر الصادرات الروسية إلى إيران. وتعهدت موسكو بمبلغ أربعين مليار دولار لتطوير حقول الغاز الطبيعي فيها.
وعلى رأس هذا كله، يقال إن برنامج التخصيب الإيراني المحظور المرتبط بالأسلحة النووية يتقدم بسرعة ـ وهذا هدف خاص آخر، ويعزى ذلك إلى تدمير ترامب لاتفاق مكافحة انتشار الأسلحة النووية الذي دعمته الأمم المتحدة في عام 2015. وكان بايدن يرجو إحياءه لكنه استسلم. ولم تعد روسيا والصين داعمتين. ولذلك فقد يكون أسوأ كابوس لإسرائيل، أي القنبلة النووية الإيرانية، أقرب من أي وقت مضى.
وكتب المحللان رويل مارك جيرشت وراي تقية يقولان: إن "المزاج العام اليوم، في الجمهورية الإسلامية مزاج انتصاري.. فقد نجت إيران من العقوبات والاحتجاجات الداخلية. وبمساعدة حلفائها من القوى العظمى، تمكنت من ضبط اقتصادها وبدأت في تجديد دفاعاتها. والقنبلة النووية باتت في متناول اليد".
وبعد خمسة وأربعين عاما من المحاولة، أصبحت إيران أخيرا الطفل الكبير في المنطقة. فلم يفلح فرض العقوبات على طهران ونبذها وتهديدها. وتواجه الولايات المتحدة وبريطانيا - وإسرائيل - خصما هائلا، هو جزء من تحالف عالمي ثلاثي تدعمه ميليشيات قوية وقوة اقتصادية. والحاجة الآن ماسة إلى نهج دبلوماسي جديد إذا أردنا تجنب صراع أوسع نطاقا.
• سيمون تيسدال معلق في الشؤون الخارجية، وكان كاتبًا أجنبيًا بارزًا ومحررًا أجنبيًا ومحررًا أمريكيًا لصحيفة الجارديان.
** عن الجارديان البريطانية
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط
إقرأ أيضاً:
ترامب وحقبة الشرق الأوسط الجديد
تتردد شائعات حول انسحاب الولايات المتحدة من سوريا منذ سنوات في أجندة الرأي العام الدولي. وفي فبراير الماضي، كشفت تقارير استخباراتية أن واشنطن تعمل هذه المرة على تسريع العملية بشكل جاد. ورغم أن الانسحاب يتم بشكل تدريجي بحجة مخاوف أمنية تتعلق بقوات سوريا الديمقراطية (قسد)، إلا أن السبب الحقيقي مرتبط مباشرة بالمخاطر والضغوط التي يمارسها الكيان الصهيوني واللوبي اليهودي في أمريكا. فالكيان الصهيوني يخشى من التزام قسد بالاتفاقيات مع حكومة دمشق، ويشعر بقلق بالغ من تزايد نفوذ تركيا، التي تُعتبر الفاعل الوحيد القادر على تحقيق الاستقرار في سوريا.
أما الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي كان على دراية بالخطط القذرة، فقد كان مصمما على عدم الانجراف لهذه اللعبة. فاللوبي الصهيوني يسعى إلى تحريك مسلحي «داعش» والميليشيات الشيعية، وتنظيم وحدات حماية الشعب (YPG) والأقليات الدرزية، أو العلوية في المنطقة، لتحويل سوريا إلى «لبنان جديدة»، ثم جر القيادة المركزية الأمريكية (CENTCOM) إلى هذه الفوضى. لكن يبدو أن إدارة ترامب تقاوم هذا السيناريو بقوة.
حصل ترامب على الفرصة لتنفيذ خطته الاستراتيجية للانسحاب ليس كـ»تراجع»، بل كإعادة تموضع
فعندما أراد ترامب الانسحاب من سوريا في 2019 خلال ولايته الرئاسية الأولى، تمت إعاقة هذه الخطوة من قبل المحافظين الجدد الموالين للكيان الصهيوني، واللوبي اليهودي المؤثرين في الدولة العميقة الأمريكية. وشملت الضغوط على ترامب حججا عدة مفادها، أن الانسحاب سيعود بالنفع على إيران وروسيا، ويعرض أمن الكيان الصهيوني للخطر، بالإضافة إلى مخاطر تدخل تركيا، ضد أي «دولة إرهاب» قد تقام في المناطق الخاضعة لسيطرة وحدات حماية الشعب. في ذلك الوقت، لم يكن ترامب يتمتع بالقوة الكافية لمواجهة هذه الضغوط، فلم يستطع تنفيذ استراتيجية الانسحاب، لكن اليوم، اختفت معظم المبررات التي حالت دون الانسحاب، فقد تم احتواء تهديد «داعش»، وأقامت تركيا توازنا جديدا على الأرض عبر عملياتها العسكرية، كما أصبحت مكاسب إيران وروسيا في سوريا قابلة للتوقع، ولم يتبق سوى عامل واحد، وهو استراتيجيات الكيان الصهيوني المعطلة. حتى الآن، تشكلت خطة «الخروج من سوريا» لصالح ترامب سياسيا داخليا وخارجيا، وقد أضعف ترامب بشكل كبير نفوذ المحافظين الجدد، واللوبي الصهيوني مقارنة بفترته الأولى. كما أن مطالب الكيان الصهيوني المفرطة، يتم تحييدها بفضل الدور المتوازن الذي يلعبه الرئيس أردوغان.
وهكذا، حصل ترامب على الفرصة لتنفيذ خطته الاستراتيجية للانسحاب ليس كـ»تراجع»، بل كإعادة تموضع تتماشى مع الاستراتيجية العالمية الجديدة للولايات المتحدة. لأن «الاستراتيجية الكبرى» لأمريكا تغيرت: فالشرق الأوسط والكيان الصهيوني فقدا أهميتهما السابقة. يعتمد ترامب في سياسة الشرق الأوسط للعصر الجديد على نهج متعدد الأقطاب، لا يقتصر على الكيان الصهيوني فقط، بل يشمل دولا مثل تركيا والسعودية وقطر والإمارات ومصر وحتى إيران. وهذا النهج يمثل مؤشرا واضحا على تراجع تأثير اللوبي اليهودي، الذي ظل يوجه السياسة الخارجية الأمريكية لسنوات طويلة. وإلا، لكانت الولايات المتحدة قد تخلت عن فكرة الانسحاب من سوريا، وعززت وجودها على الأرض لصالح الكيان الصهيوني، ما كان سيؤدي إلى تقسيم البلاد وتفتيتها إلى خمس دويلات فيدرالية على الأقل. لكن ترامب، خلال الاجتماع الذي عُقد في البيت الأبيض في 7 أبريل بحضور رئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو، أعلن للعالم أجمع أن تركيا والرئيس أردوغان هما فقط الطرفان المعتمدان في سوريا. كانت هذه الرسالة الواضحة بمثابة رسم لحدود للكيان الصهيوني واللوبي الصهيوني في أمريكا.
ينبغي عدم الاستهانة بخطوات ترامب، ليس فقط في ما يتعلق بالانسحاب من سوريا، بل أيضا في تحسين العلاقات مع إيران بالتنسيق مع تركيا وروسيا. هذه الخطوات حاسمة، وقد تم اتخاذها، رغم الضغوط الشديدة من اللوبي اليهودي الذي لا يزال مؤثرا في السياسة الأمريكية. ولهذا السبب، يتعرض ترامب اليوم لانتقادات حادة من الأوساط الصهيونية والمحافظين الجدد، سواء داخل أمريكا أو خارجها.
المصدر: القدس العربي