لجريدة عمان:
2025-11-09@04:25:48 GMT

أَنَّى يحميك الذَّليلُ..

تاريخ النشر: 14th, January 2024 GMT

تتيح الأحداث الكبيرة والجسيمة منها؛ الكثير من فرص التأمل والتمعن، بل قد تجبرك على تقمص مجمل المسارات الوجدانية لأشخاصها في كلا الطرفين، وذلك حتى تستشعر خطورتها، ومآلاتها، ولتتيح لنفسك إجراء مقاربات مفاهيمية بين ما يدور في هذه الأحداث، وبين واقعك أنت كفرد في مجتمع ما، ومحاولة ربط الأمرين بالتاريخ، سواء عبر سردياته الكثيرة، أو عبر مفهوم الحتميات التي تتكئ عليها أحداثه، وفي كل هذه التوليفة عبر مساراتها الثلاثة: (التقمص، المقاربة، التاريخ) عليك أن تمسك العصا من الوسط، لتوجد لنفسك مسافة من الكل لكي تصل إلى نتيجة معينة تتيح لك التقييم، والتأمل، ومن ثم إصدار الحكم «القناعة» الذي تصل إليه، فمن خلال ذلك يمكن أن يتاح لك بأن تعقد مقاربات؛ تظل؛ هي أقرب إلى الحقيقة.

فالحدث الجلل في غزة اليوم؛ على سبيل المثال؛ لا يتجاوز أهميته عاقل، ولا تغمض عما يقع فيه عين إنسان يشعر بحقية نفسه أنه «إنسان» ومن يكون بخلاف ذلك، فهو؛ بلا شك؛ معتوه، والمعتوه يظل في حكم من رُفع عنه القلم، حتى يعود إلى رشده، هذا من جانب، أما الجانب الآخر؛ وهو الذاهب نحو مفهوم «الفزعة» فهذه؛ هي الأخرى؛ تحتاج إلى كثير من الاستحقاقات المعنوية والمادية، وفي مقدمة ذلك هي البيئة التي ينشأ فيها الأفراد، فليست أية بيئة قادرة على صناعة «بطل» ولكن أية بيئة يمكن أن يتناسل فيها «ذليل» لأن الذليل هو نفس الحالة؛ يحال إلى بيئة المعتوهين، وهي البيئات ذات الطبيعة المترفة، التي من جملة تموضعاتها؛ تذويب الهويات وتمييعها، وتتصادم مع القيم وتبيدها، ولا تتسع أمامها المعرفة إلا بقدر ملء البطن، وإرواء الفرج، والوصول إلى حالات من الإشباعات الشهوانية المختلفة (وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا) -الآية (16): الإسراء. وهنا يبقى سريان الرغبة قائما أكثر من غيره؛ فالرغبة ذاهبة إلى الشراهة ومزيد من الترف.

ولذا لن يعي مسوغ الدفاع عن الحق في غزة وفلسطين عموما إلا من يعيش الظروف نفسها التي يعيشها أبناء غزة، والظروف نفسها التي يعيشها البسطاء في أي بقعة في العالم، وقصة غزة الماثلة اليوم أمام العالم كله؛ كما كانت عبر التاريخ؛ هي قصة الإنسان وكفاحه نحو الحياة، ونحو الحرية، ونحو الأمل، حيث البذل والعطاء، وحيث الصدق والوفاء، وحيث السمو عن حياة الدعة والرخاء، ومن يرى الأحداث الصادمة والنتائج القاسية؛ يقينا؛ لن تشغله اللحظة الزمنية في التقييم والتقدير، بقدر ما تحفز فيه ذلك النداء الداخلي الموسوم بهذه الصورة «المجابهة» للمخاطر، فصناعة التاريخ لن تكون بالصورة التي يتكئ عليها المترفون على الأرائك؛ حيث الدعة والراحة والهدوء، ومن كان هذه حالته، فهو لا يرتقي أكثر عن كونه مملوء البطن، والفرج لا أكثر، ولذلك هناك من يخطئ، وخاصة في حالة غزة اليوم، من يعتب على من اختار الجلوس على الكراسي الخلفية لمسرح الأحداث، ومراقبة المشهد، والانتظار لما سوف تؤول إليه النتائج من المعركة القائمة بين الخير والشر، وبعد مثل هؤلاء عن الالتحام المباشر في المشهد ذاته هو نجاح حقيقي للحق، ولو بعد حين، فنجاعة الحقوق لا تدنس بالخبائث، والروائح الكريهة، والتطعيمات المسمومة؛ إطلاقا؛ فالتاريخ يكتب صفحاته بأحرف من نور، ولا يمكن أن يكون النور في مثل هذه الخلطة المشوهة لشكل ناصع البياض، ولا يمكن للنور أن يكون متوغلا في مجموعة من التشوهات الخلقية، فهذا سوف يشوه هذا التوغل، ويضفي على الصورة نوعا من الخربشات التي لا تقدم معنى حقيقيا لحقيقة ما يجري، وما سوف تؤول إليه النتائج، ولو بعد حين، فالانتصار لا تحققه الأنفس المستسلمة لشهواتها، وتحيط بها الأجدُر العالية السميكة؛ حيث الخوف تتوزع شحناته على أوصال الجسد، وحيث تختزل القيمة الإنسانية للكرامة في محيطها الضيق، الذي يحقق كل متع الحياة، وهذا أمر؛ أيضا؛ ليس يسيرا التخلص منه، حيث يحتاج إلى مجاهدة نفس تسل ذاتها من كل التجاذبات الخاصة، وتقدم نفسها مشروعا عقائديا وإنسانيا واجتماعيا، وهذه تحتاج إلى تركيبة بنيوية تبدأ منذ نعومة أظفار التنشئة، ولا يمكن إنزالها بـ «براشوت» لحالة طارئة، فهذا ضرب من السخف الوضيع؛ لو حدث مثل ذلك.

النفوس المعززة بمفاهيم النضال، لا يمكن أن تستوطن مناخات الدعة والخمول، والصور الاحتفالية لا تصنع أنفسا جبارة في مواجهة أعدائها؛ فالمسألة تحتاج إلى كثير من التجريد من مظاهر الترف والرغبة، وهما العاملان الأساسيان في تغريب النفوس عن العيش في الواقع الحقيقي، وهذه مسألة خطيرة جدا، وخطورتها أنها تذهب؛ ليس فقط؛ بالمصالح الفردية للأمة، بل توقع الأوطان في مآزق التردي، ولا تقدم لها مشروعات تعزز واقعها، وأهميتها، وقدرتها على مجابهة الأزمات في مختلف الظروف، بل تقدم أوطانا خانعة، مستسلمة، متخاذلة «منبطحة» لا تملك رؤى مستقبلية، ولا تحقيق أهداف جوهرية، وعندما تصل حالة الأوطان إلى هذا المستوى من التردي، فإنها تصبح لقمة سائغة وسهلة الهضم للمتربص بها، وما أكثر المتربصين بالأوطان.

ليس شرطا أن تستشعر أن هناك خطرا قادما لكي تعقد مع نفسك صفقة من المقاربات الإنسانية: الصدق، العزم، الشجاعة، الأمانة، التجرد من أحمال المسؤولية الوطنية؛ فالتمسك بتحقيق ذلك، والعمل على تنميته وتنشئته في نفوس الناشئة من المسؤوليات الوطنية المهمة، والأكيدة، والتي يجب ألا يخلو منها أي منهج في كل المراحل الدراسية، كما تصبح منهج حياة لدى كافة أبناء الوطن، الوطن الذي يحرص على تحقيقه الجميع، كما يحرص على أركان دينه؛ فالمحافظة على الأوطان هو من الدين بالضرورة القصوى، وليس فرض كفاية، بل تظل هذه المعززات الإنسانية المهمة في مشروع الوطن، بمثابة مجسات مستمرة في مختلف مناخات الحياة اليومية، ومراقبتها، وتقييم أدائها، وتأثيراتها على سلوكيات أبناء المجتمع، والنظر بجدية المسؤولية عند تراجعها عن ذلك، وبحث الأسباب والمسببات، بحيث تظل فاعلة، ومؤثرة، وعلى قدر كبير من المتابعة، والاحترام، ولا يمنع من استحضار «شعور بالخوف» ولو بجزئية صغيرة؛ لأن ذلك هو الذي يدفع إلى التطلع للأفضل، كحال الطالب الذي يعد نفسه للدخول إلى قاعة الامتحان، فإذا لم يستشعر الخوف من الإخفاق لما دفعه ذلك إلى مضاعفة الجهد والاجتهاد، ومعنى هذا فالأوطان مشروعات من الامتحانات والاختبارات المستمرة، والأوطان تختلف عن أي مقاربات أخرى في مسألة النجاح أو الإخفاق لأنها لا تراهن إلا على النجاحات، وبامتياز؛ لأن مشاريعها مقدسة، وتنبثق قداستها من أنها لا تقبل السقوط، أو الانتهاء من خريطتها الجغرافية، ولذلك فهي التي تملي أوامرها، وواجباتها، واستحقاقاتها على جميع المواطنين، وليس العكس، وفيها يصدق قول أحمد شوقي: «وللأوطان في دم كل حر؛ يد سلفت ودين مستحق». يقول الكاتب العماني عادل المعولي في كتابه «لماذا تقدم العلم وتأخر الوعي»؛ ج3؛ ما نصه: «إذا أمن الإنسان من الخوف؛ تحررت في نفسه دوافع التطلع، وعوامل الإبداع والإنشاء، وبعدئذ لا تنفك الحوافز الطبيعية تستنهضه للمضي في طريقه إلى فهم الحياة والازدهار» والمقاربة ذاتها في مقولة: «إذا أمن العقاب؛ أساء الأدب» فالعقاب؛ وفق هذه المقولة؛ هو «الخوف» كيفما يمكن تخيل هذا الخوف المتوقع من العقاب، وأهمية تحاشيه هو الإمساك عن الاستمرار في سوء السلوك، وفي المقابل أن الأمن هو الاطمئنان، وخطورته أنه يحفز النفس على الاستمرار في السلوك السيئ، حيث لا عقاب.

أختم هنا؛ بهذه المقاربات الرائعة التي قرأتها؛ ونصها - حسب ما وصلني: «كان الناس إذا أصبحوا في زمان الحجَّاج وتلاقَوا يتساءلون: مَنْ قُتِل البارحة؟ ومن صُلِبَ؟ ومن جُلِدَ؟ ومن قطع؟ وأمثالُ ذلك.

وكان الوليدُ بن عبدالملك صاحِبُ ضِيَاعٍ واتِّخاذِ مصَانِعَ، فكان الناس يتساءلونَ في زمانه عن البُنْيَان والمصانع والضِّياع وشَقِّ الأنهار وغرس الأشجار.

ولمّا وَلِيَ سُليمانُ بن عبدِالملك، وكان صاحبُ نِكاحٍ وطعام، فكان الناس يتحدثون في الأطعمةِ الرفيعةِ ويتوَسَّعون في الأنْكِحَةِ والسراري، ويغْمُرون مجالسَهم بذكر ذلك.

ولمَّا وَلِيَ عمرُ بنُ عبدِالعزيزِ كان النَّاس يتساءلون، كمْ تحفظُ من القرآن؟ وكمْ وُرْدُك في كل ليلة؟ وكم يحفظ فلان؟ ومتى يَخْتِم؟ وكم يصوم من الشهر؟ وأمثال ذلك» - انتهى النص.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: یمکن أن لا یمکن

إقرأ أيضاً:

رئيس الوزراء العراقي: لا يمكن نزع السلاح طالما التحالف الدولي موجود

قال رئيس الوزراء العراقي، محمد شياع السوداني، اليوم السبت، إنه لا يمكن للعراق نزع سلاح الفصائل المسلحة بشكل فعّال طالما أن وجود التحالف الدولي لا يزال مستمراً في البلاد.

وأضاف أن بعض الفصائل تعتبر هذا الوجود نوعاً من الاحتلال، مشيراً إلى أن التهديد الذي فرض وجود التحالف قد تراجع بشكل كبير في السنوات الأخيرة.

السوداني أوضح في تصريحاته أن العراق لا يرى ضرورة لاستمرار وجود 86 دولة في التحالف الدولي ضد “داعش”، قائلاً: “لا داعي لوجود 86 دولة داخل التحالف هنا”، في إشارة إلى عدد الدول التي شاركت في التحالف منذ عام 2014.

وأشار رئيس الوزراء إلى أن البرنامج المخطط له يتضمن انتهاء مهمة التحالف في العراق بحلول سبتمبر 2026، وبعد ذلك سيتحول التعاون إلى علاقات أمنية ثنائية بين العراق ودول التحالف، مع التأكيد على “هيمنة الدولة على السلاح” كطلب رئيسي بعد انتهاء مبررات وجود التحالف في العراق.

في السياق ذاته، أعلنت القيادة المركزية الأمريكية (سنتكوم) في وقت سابق من هذا الأسبوع عن تفويض القوات الجوية العراقية بتنفيذ ضربات جوية مستقلة بعد اجتيازها تدريبات مكثفة استمرت ثمانية أسابيع.

وذكرت قوة المهام المشتركة التابعة للتحالف الدولي أن القوات العراقية أظهرت قدرة عالية في دقة الاستهداف بنسبة 100% باستخدام طائرات “إف-16” و”أس-208″، ما يُعد إنجازاً مهماً في استعدادها لقيادة العمليات الجوية بشكل مستقل.

ويعد هذا التطور جزءاً من عملية التحول التدريجي للعراق نحو دور قيادي في الحفاظ على الأمن المحلي والإقليمي، حيث تم إعلان جاهزية القوات العراقية لإدارة عملياتها الهجومية دون الحاجة إلى دعم مباشر من القوات الأمريكية أو قوات التحالف الدولي.

يُذكر أن الاتفاق بين بغداد وواشنطن في أواخر سبتمبر 2024، حدد نهاية عام 2026 موعداً رسمياً لإنهاء مهمة التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش”، وقد شهدت الأشهر الماضية انسحاب بعض الأرتال العسكرية الأمريكية من قواعد في العراق، وهو ما اعتُبر بداية عملية “الانسحاب” الفعلي، في إطار تنفيذ الخطة الموضوعة لهذا الانسحاب التدريجي.

هذا التوقيت يتزامن مع تزايد الدعوات من الفصائل المسلحة العراقية إلى إنهاء الوجود الأجنبي في البلاد، خاصة بعد تراجع تهديد “داعش” بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.

مقالات مشابهة

  • الأمم المتحدة: المدنيون في الفاشر يعيشون فظائع لا يمكن تصورها
  • هل يمكن للخوارزميات إنقاذ البيئة؟
  • طارق نور: لا يمكن توقع من سيدير الإعلام مستقبلاً في ظل تطور التكنولوجيا
  • رئيس الوزراء العراقي: لا يمكن نزع السلاح طالما التحالف الدولي موجود
  • الجوازات: يمكن تحويل تأشيرة الزيارة إلى إقامة لأبناء المقيمين بشرط
  • بعد تصويت مساهموتسلا.. ما الذي يمكن أن يشتريه إيلون ماسك بتريليون دولار؟
  • دار الإفتاء توضح حكم من نسي صيام الأيام البيض وهل يمكن قضاؤها
  • صحيفة: لا يمكن لأموال ضرائب الأمريكيين الاستمرار بتمويل "إسرائيل" ضد غزة
  • هل يمكن للشباب الاعتماد على التداول كمصدر دخل رئيسي؟
  • الأيام البيض.. حكم من نسي صيامها وهل يمكن قضاؤها؟