حُرّاس القانون الدولي: التطبيق يفضح التنظير
تاريخ النشر: 14th, January 2024 GMT
قدر من الله أن ننتمي دولا وأفرادا لمنطقة جغرافية لا تهدأ ولا تنتهي تحدياتها، فلم يعد اختيارا (كما قد يظن بعض المتوهمين) اختيار العيش بعيدا عن السياسة؛ إذ تتدخل السياسة في كل شيء، «كل شيء» هذه ليست مجازية يراد بها المبالغة، وإنما توصيف دقيق لتأثيرات السياسة على عدد المواليد وعلى الصحة والتعليم والوظيفة والعلاقات وحتى الوفيات حين يثبت بأن الصراعات السياسية الاقتصادية بدأت بالمساس بأعداد البشر وآليات مختلفة لتقليص هذا العدد إما باختلاق الكوارث أو بتصنيع الأمراض والمتاجرة بالدواء، أو بتصنيع الحروب في آلية معروفة وقديمة بيد الأقوى.
ولأننا نعيش في «الشرق الأوسط» الذي تأثر ويتأثر بالسياسة حتى في هذا المصطلح الاستعماري الموضوع والذي بتنا نكرره معززين فكرة التقسيم والطبقية ومركزية الأقوى، نعيش في هذا الشرق معاصرين بعض نكباته التاريخية وتحدياته المرحلية التي نعبر إليها من إرث طويل عتيق من استهداف المستعمرين مهما تلونت أعلامهم، وتقنعت جيوشهم، وتبدلت أزياؤهم، نعرفها ونحن المستنزفين طاقات بشرية وموارد طبيعية ورؤى جبارة لمستقبل أفضل وأجمل لهذا الشرق المنهوب.
ضمن ما نعيش من تحديات اليوم المحيطة بالشرق الذي يسكننا نعايش عدوا داخليا لا خلاف حوله، هو إسرائيل المزروعة لأسباب شتى في قلب الشرق، إضافة إلى أعداء آخرين لم تعد وجوههم خافية ولا أقنعتهم محكمة؛ إذ يكشف الوقت عن كل ذلك في يقين جماعي أسهم التقدم الرقمي في إدراكه وانتشاره، ومن المؤسف المحزن أن يتكشف ذلك اليقين مع حقائق أخرى تُقلِّص نوافذ الأمل والرجاء لدى شباب الشرق الطامحين إلى الأفضل، حين يدركون بأن الحقَّ مُوكَّلٌ للأقوى مهما عظمت جريرته أو قبحت أعذاره، وأن العدل -مطلب الضعفاء والفقراء- ناصروه قلة مهما تجلّت آياتُه أو جَمُل منطقُه.
يعيش شباب اليوم صدمة انتصار المادة على القيم بشكل عالمي بالغ القسوة، خصوصا أن مساحة الفقر تتسع في كل دول العالم، وقصص المعاناة اليومية تجمع أصحابها بعدما تقلصت أسوار البعد كاللغة أو الوسيلة، يتبدى في هذا العالم الرقمي المفتوح كل شيء بصورته غير المعدلة بـ«فلاتر التجميل» فلا يمكن لأي «فلتر رقمي» تجميل القتل أو تزيين الإبادة الجماعية لشعب مناضل مقهور، ومن اعتقد واهمًا بأنه ينجو بعيدا عن كل ذلك فليتأكد بأنه الهدف القادم، هكذا يعلمنا التاريخ الذي لا نُحسن قراءته، وهو ذاته التاريخ الذي جعل دولة كجنوب أفريقيا تنهض بمهمة إنسانية قانونية في استعدادها لأشهر كاملة مستحضرة معاناتها التاريخية في معايشة إبادة جماعية معاصرة تحت بصر وسمع العالم، قراءة التاريخ التي جعلتها تستشعر دون مراء خطة الاحتلال للإبادة والتهجير هي التي حملتها لتكون حاملة لواء نصرة المظلوم الذي لا يملك ثمن محركات القوى العالمية، ولا يركن إلا لعدالة قضيته، التاريخ الذي يكتبه الأقوياء كتب في بعض أوراقه كذلك أن ليس كل ضعيف مهزوم، وليس كل مظلوم ضعيف.
ومع فريق من المحامين المؤمنين بقضية إنسانية قيمية ينشغل العالم أجمع بصوت جنوب أفريقيا الذي رجّع أصداء أصوات شهداء غزة ومهجري فلسطين، ضد فريق آخر من القامات القانونية الحقوقية العالمية المستأجرة لصالح الخصم (إسرائيل) الذين أعدّوا ما استطاعوا من أدوات التجميل، وأساليب التضليل للتعمية على الجريمة الدولية التي ارتكبت منتهكة حرية شعب كامل، وكرامة البشر وأرواحهم وسط تصفيق القوى العظمى ومساندتها، وبعد كل ما مرت به هذه المرحلة من ازدواج المعايير وسقوط المفاهيم لن يكون صادما للعالم أجمع أن يكون البروفيسور البريطاني مالكولم شو ممثلا لإسرائيل أمام محكمة العدل الدولية حيث تقدمت جنوب أفريقيا بالتماس تتهم فيه إسرائيل بارتكاب جرائم إبادة جماعية، إذا ما عرفنا أن قائد فريق دفاع إسرائيل في محكمة العدل الدولية، الذي تندَّر العالم على ضياع أوراقه أثناء الترافع، وتعليقه «هنالك شخص ما خلط أوراقي؟» هو ذاته الأكاديمي والخبير الدولي في التأسيس للقانون الدولي ومكافحة جرائم الإرهاب والإبادة، ومؤسس أول مركز من مراكز حقوق الإنسان في جامعة إسكس البريطانية منذ عام 1983م، كتابه المطبوع عدة طبعات هو الكتاب الأكاديمي الذي يدرّس في القانون الدولي! فهل بعد كل ذلك إلا التأكيد على يقين المعايير المزدوجة، وتسيد المال على القيم لغة للعصر؟!
ويعلق بعض الكسالى وبعض الشامتين أن ليس لحكم محكمة العدل الدولية أي صفة إلزامية، متناسين ما يمكن أن يتحقق من مجرد إثبات الحالة، وإرهاق الخصم في كل مرة قد تتقدم بها أي دولة لسحب إسرائيل لجلسات محكمة العدل الدولية، وما يمكن خسارته مستقبلا كذلك في حال تجاهل هذه الدعوى من سقوط مصداقية محكمة العدل الدولية ومؤسسيها وممثليها في أي قضايا مستقبلية قد تعرض عليها، إضافة إلى الأثر المعنوي الثقافي غير المسبوق الذي سيضع جنوب أفريقيا حتما في الجانب الإنساني المنتصر لقضية عادلة ليست قضيته إلا في المشاركة الإنسانية والقناعة الفكرية الحقيقية بعيدا عن الرياء والتلون.
إلى أين تسير بنا هذه الحروب المحدقة؟ لا نعلم ولا يمكن تخيل أن يحترق الجار ونحن بأمان وسلام، لكننا نعلم يقينا أن المكاسب المادية لا يُعوّل عليها ولا رهان على ديمومتها إن غابت القيم وضعف الإيمان بالوحدة سبيلا للتكامل وسببا للقوة.
حصة البادية أكاديمية وشاعرة عمانية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
السؤال الذي يعرف الغرب الإجابة عنه مسبقا
لا يُمكن فصل السّيَاسات الدولية اليوم تجاه فلسطين أو تجاه كافة دول العالم الإسلامي عن الموقف من الإسلام في حد ذاته. تحكم السياساتِ الدولية بشكل عامّ مصالح وصراعاتٌ اقتصادية، ولكن عندما يتعلق الأمر بالعالم الإسلامي يُلاحَظ أن هناك عاملا خفيا يُغلِّف كل هذه السياسات له علاقة بكون هذه الدولة بها غالبية من المسلمين أم لا، بغضِّ النظر عن المذهب أو طبيعة نظام الحكم أو التاريخ أو الجغرافيا لتلك الدولة.
في آخر المطاف تجد اتفاقا بين الدول الغربية في أسلوب التعامل مع أي منها يقوم على فكرة مركزية مفادها ضرورة إذعان هذه الدولة للنظام العالمي الغربي والقَبول بهيمنة القواعد المتحكِّمة فيه وعدم الخروج عنها بأيِّ صفة كانت، وإلا فإنها ستُحارَب بكافة الوسائل والطرق. لا يهم إن كانت هذه الدولة فقيرة مثل الصومال أو غنيّة مثل السعودية أو تركيا أو إيران. جميعهم في نظر السياسات الغربية واحد، فقط هي أساليب التعامل مع كل منهم التي تختلف. بعضهم يحتاج إلى القوة وآخر إلى الحصار وثالث إلى التّهديد ورابع إلى تحريك الصراعات الداخلية إلى حد الاقتتال وسادس إلى إثارة خلافات حدودية مع جيرانه… الخ، أي أنها ينبغي جميعا أن تبقى في حالة توتر وخوف وقلق من المستقبل.
تكفي نظرة شاملة إلى المساحة الجغرافية التي ينتشر بها المسلمون عبر العالمتكفي نظرة شاملة إلى المساحة الجغرافية التي ينتشر بها المسلمون عبر العالم للتأكد من ذلك، فحيث لا يوجد إخضاع تام من خلال القواعد العسكرية المباشرة والقَبول كرها بخدمة المصالح الغربية، يوجد إخضاع غير مباشر من خلال الحروب الأهلية أو اصطناع الجماعات الإرهابية أو إثارة النّعرات القبلية والعرقية أو تحريك مشكلات الحدود الجغرافية.. نادرا ما تُترك فرصة لِدولة من دولنا لتتحرّك بعيدا عن هذه الضغوط. السيناريوهات فقط هي التي تتبدّل أما الغاية فباستمرار واحدة: ينبغي ألا تستقلّ دول العالم الإسلامي بقرارها، ومن الممنوعات الإستراتيجية أن تُعيد التفكير في مشروع وحدة على طريق جمال الدين الأفغاني في القرن التاسع عشر مثلا!
وهنا تبرز فلسطين كحلقة مركزية في هذا العالم الإسلامي، ويتحدد إقليم غزة بالتحديد كمكان يتكثف فيه الصراع.
ما يحدث في غزة اليوم ليس المستهدَف منه سكان فلسطين وحدهم، إنما كل كتلة العالم الإسلامي المفترض وجودها كذلك. أيّ إبادة لسكان هذا القطاع إنما تحمل في معناها العميق تهديد أي دولة من دول العالم الإسلامي تُريد الخروج عن هيمنة النظام العالمي الغربي المفروض بالقوة اليوم على جميع الشعوب غير الغربية، وبالدرجة الأولى على الشعوب الإسلامية.. وكذلك الأمر بالنسبة للحصار والتجويع والقهر بجميع أنواعه. إنها ممارساتٌ تحمل رسائل مُوجَّهة لكافة المسلمين ولكافة دول الجنوب الفقير وليس فقط للفلسطينيين في قطاع غزة بمفردهم. محتوى هذه الرسائل واحد: الغرب بمختلف اتجاهاته يستخدم اليد الضاربة للصهيونية في قلب أمة الإسلام، ليس فقط لإخضاع غزة إنما إخضاع كل هذه المساحة الجيوستراتيجية الشاسعة لسيطرته الكاملة ثم إخضاع بقية العالم.
يُخطِئ من يحاول إقناع نفسه بأنه بمنأى عن هذا الخطر! أو أن الغرب هو ضد حماس فقط
وعليه، فإن السلوك المُشتَّت اليوم للمسلمين، وبقاء نظرتهم المُجزّأة للصراع، كل يسعى لإنقاذ نفسه، إنما هو في الواقع إنقاذٌ مؤقت إلى حين تتحول البوصلة نحو بلد آخر يُحاصَر أو يُقَسَّم أو تُثار به أنواع أخرى من الفتن… ويُخطِئ من يحاول إقناع نفسه بأنه بمنأى عن هذا الخطر! أو أن الغرب هو ضد حماس فقط أو ضد حركة الجهاد في فلسطين، ذلك أن كل الاتجاهات الإسلامية هي في نظر الاستراتيجي الغربي واحدة، تختلف فقط من حيث الشكل أو من حيث الحدة والأسلوب. لذلك فجميعها موضوعة على القائمة للتصفية يوما من الأيام، بما في ذلك تلك التي تعلن أنها مسلمة لائكية حداثية أو عصرية!.. لا خلاف سوى مرحليًّا بينها، لا فرق عند الغربيين بين المُعمَّم بالعمامة السوداء أو البيضاء أو صاحب ربطة العنق أو الدشداش أو الكوفية أو الشاش، ولا فرق عندهم بين جميع أشكال الحجاب أو الخمار أو ألوانها في كل بقعة من العالم الإسلامي، جميعها تدل على الأمر ذاته.
وفي هذه المسألة بالذات هم متّحدون، وإن أبدوا بعض الليونة المؤقتة تجاه هذا أو ذاك إلى حين.
فهل تصل الشعوب والحكومات في البلدان الإسلامية إلى مثل هذه القناعة وتتحرّك ككتلة واحدة تجاه الآخرين كما يفعل الغرب الذي يتصرّف بشكل موحد تجاه المسلمين وإنْ تنافس على النيل منهم؟
ذلك هو السؤال الذي تحكم طبيعة الإجابة عنه مصير غزة وفلسطين.. ومادام الغرب يعرف الإجابة اليوم، فإنه سيستمرّ في سياسته إلى حين يقضي الله تعالى أمرا كان مفعولا وتتبدَّل الموازين.
(نقلا عن صحيفة الشروق الجزائرية)