أولادكم أمانة في أعناقكم
تاريخ النشر: 14th, January 2024 GMT
حمد الحضرمي **
الإحسان إلى الأولاد والحرص على رعايتهم وحسن تربيتهم، يعتبر من أعظم الأمانات وأهم المسؤوليات على الوالدين، وأي إهمال في جانب منها يعد خيانة للأمانة، ويؤكد الله سبحانه وتعالى هذا الحق بقوله "يوصيكم الله في أولادكم" (النساء: 11) وقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث " فالإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ في أهله ومسؤول عن رعيته ".
والولد قبل أن تربيه المدرسة والمجتمع، يربيه البيت والأسرة، يقول الإمام ابن القيم يرحمه الله: "فمن أهمل تعليم ولده ما ينفعه وتركه سدى، فقد أساء إليه غاية الإساءة" وأكثر الأولاد إنما جاء فسادهم من قبل الآباء وإهمالهم، وترك تعليمهم فرائض الدين وسنته، فأضاعوهم صغارًا، فلم ينفعوا آباءهم كبارًا، وقد عاتب أحد الآباء ولده على العقوق، فقال الولد: يا أبتِ إنك عققتني صغيرًا فعققتك كبيرًا، وأضعتني وليدًا وأضعتك شيخًا. والأسرة كانت وما زالت ركيزة المجتمع وأساس بنائه، وهي العامل الأساس في تماسك المجتمع وقوته وصلاحه، وعلى الاسرة واجبات ومسؤوليات كبيرة يتوجب عليهم القيام بها في تربية الأولاد، لأن الأولاد هم عصب الحياة في أي مجتمع، وأصل الأمة ومستقبلها وعنوان قوتها وعزتها.
ومن أهم الواجبات على الآباء والأمهات لأولادهم في المرحلة الأولى بعد الولادة: رعاية المولود من الناحية الجسمية، وذلك بالحرص على إعطائه حقه من الرضاعة الطبيعية، لأن حليب الأم يعتبر أفضل غذاء للطفل من حيث الطهارة والتعقيم والمناعة من الأمراض، ويمنح الطفل الحب والحنان والأمان. والتنشئة المبكرة على قواعد الإسلام وآدابه، فعلى الآباء والأمهات أن يغرسوا في نفوس أولادهم القيم الدينية وهم صغار السن ويؤدبوهم بآداب الإسلام ومحاسن الأخلاق. ويجب على الوالدين أن يعودوا أولادهم على ممارسة العبادات، كأداء الصلاة في وقتها، لأنها عماد الدين وقوام الحياة والصلة الدائمة بين الإنسان وربه، فتكون للأولاد وقاية من كل فساد وشر.
إن أفضل عمل يقدمه الوالد لابنه وابنته هو احترامهم وتقديرهم، فعامل ولدك بود ومحبة، واحذر أن تعنفه أو تضربه أمام أصحابه أو تسخر منه أمام إخوانه، واحذر من إهانته، وأشعره بأنه كبير وأعطه الثقة بالنفس حتى لا يظل صغيرًا. والولد والبنت بحاجة لحنان وعطف الأب والأم، فكونوا معهم أصدقاء حتى لا يبحثوا عن ذلك خارج البيت، واعلموا بأننا في زمن صعب أصبح الأب والأم منشغلون بوظائفهم وأعمالهم ولا يجدون وقتًا للجلوس مع الأولاد وسماع مشاكلهم، فالواجب على الوالدين تحمل المسؤولية ومحبة الأولاد والعطف عليهم، حتى يعيش الأولاد مع والديهما في محبة وود ووئام وسلام. وتجنبوا معاملة الأولاد بقسوة، لأن المعاملة القاسية من الوالدين على الأولاد كالضرب والشتم والتحقير تؤثر في نفسياتهم وعلى سلوكياتهم وأخلاقهم، فالمعاملة القاسية تمهد الطريق لانحراف الأولاد وعقوقهم وتمردهم، فالواجب على الآباء والأمهات معاملة الأولاد بالرحمة والكلمة الطيبة والتشجيع ولين الجانب مع التوجيه الحازم والرحيم، لأن بعض المواقف تستدعي الشدة والصرامة بتوازن.
ومن الواجب على الوالدين المساواة والعدل بين الأولاد في الرعاية والمحبة والاهتمام والمعاملة، وأن لا يميزوا أحد الأولاد على الآخر بالعاطفة أو الهدية أو المحبة، حتى لا يكون ذلك سببًا في نزاع وحقد وحسد مستمر بين الأبناء، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث " أعدلوا بين أولادكم في النحل والعطايا، كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف " والعدل يشمل الذكور والإناث على حد سواء دون تمييز في ميراث أو هبة أو عطية أو غيره، لأن هذا يعتبر ظلمًا.
ويتوجب على الوالدين توجيه الأولاد إلى حسن اختيار الصديق الصالح، لأن الصديق يؤثر على صديقه تأثيرًا كبيرًا في الإصلاح أو الإفساد، وعلى الآباء أن يراقبوا أولادهم مراقبة تامة خاصة في سن التمييز والمراهقة ليعرفوا من يخالطون ويصاحبون وإلى أي الأماكن يذهبون أو يرتادون. ومن المهم تعويد الأولاد على الخشونة في الحياة والجد والاجتهاد، مع الحرص على إبعادهم عن الكسل والخمول والدلع والميوعة لتجعل منهم رجالًا في المواقف ووقت المحن والشدائد. وأن من أهم الأمور على الوالدين تربية الأولاد بالقدوة الحسنة، لأن التقليد وسيلة تربوية ناجحة خاصة في الصغر، فالطفل يبدأ أولًا بتقليد والديه ومن يحيط به في صغره، ويحاول محاكاتهم في كل صغيرة وكبيرة، والتربية بالقدوة الحسنة هي الأساس في تعليم الأولاد الفضائل والآداب والأخلاق الإسلامية، ولا قيمة لنصائح الوالدين إذا خالفت أقوالهم أفعالهم، وإذا أردنا أن نربي أولادنا تربية صحيحة، فإن علينا أن نطبق تعاليم الإسلام في أداء الواجبات، وإتقان العمل.
إن مسؤولية الوالدين تجاه الحياة في البيت مسؤولية كبيرة، إلا أن مسؤولية الأم أعظم، لما لها من تأثير في صلاح البيت ورعاية الأولاد أضعاف ما يكون للأب الذي يمكث معظم وقته خارج البيت للعمل، ومن هنا كانت الأمانة على الأم عظيمة لأهمية موقعها ودورها، فعلى الأم أن تدرك ذلك جيدًا، وأن تتوجه إلى بيتها وأولادها بالعناية والرعاية والتربية الصالحة، وتجعل ذلك أول اهتماماتها، ولكن نجد في هذا الزمان بعض الأمهات انشغلن عن تربية الأولاد وتركن هذه المهمة والأمانة في يد الخادمات، فيتربى الأولاد تربية ضعيفة في الصحة وفي الأخلاق، وتتشكل شخصيته ويشب ويترعرع على ما تقدمه بعض المحطات الفضائية وبرامجها الفاسدة، وعلى ما تزوده به الخادمة من سلبيات، والنتيجة وجود جيل ضعيف في كل شيء، فلا يستطيع تحمل مسؤولياته ولا حماية نفسه.
أيها الآباء والأمهات.. تجنبوا النزاع والشقاق والطلاق، واحرصوا على أن يكون التفاهم قائمًا بينكما، واسلكوا جميع السبل الموصّلة إلى التوافق بينهم، وعليهم أن تتجنبا الوسائل المؤدية إلى الشقاق، واحرصوا أن يظل العتاب والخلافات فيما بينكم بعيدًا عن الأولاد، حتى لا يسمع بها، فتظل ذاكرتهم تحتفظ بالكلمات الجارحة والنظرات القاسية، وهذا له عواقب خطيرة على نفسية الأطفال، وعلى الآباء الحرص على عدم الوصول في حالة تطور الخلافات الزوجية إلى الطلاق وتجنب أسبابه؛ حيث إن الولد عندما يفتح عينيه على الدنيا ولا يجد الأم التي تحنو عليه ولا الأب الذي يقوم على أمره ويرعاه، فإنه لا شك مع الأيام سيندفع نحو طريق الخطأ والفساد، ونصيحتي إلى للزوجين أن اصبروا على الحياة الأسرية من أجل الأولاد، وتذكروا وعد الله العلي القدير للصابرين، قال تعالى "إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب" (الزمر: 10).
أيها الأباء والأمهات.. ساعدوا أبناءكم على اختيار الزوجات الصالحات، ووجهوا بناتكم إلى اختيار الأزواج الصالحين، والحذر كل الحذر من إجبار أي منهما على الزواج بمن لا يريد الزواج منه، أو التدخل السافر في حياة الأبناء بعد الزواج، لأن ذلك يؤدي في النهاية إلى انهيار الحياة الأسرية. واعلموا بأن الحياة الزوجية رحلة طويلة تحتاج من الأب والأم الصبر والتحمل والتضحية والعطاء والوفاء والسيطرة على الانفعالات والبحث عن الحلول بدل إلقاء اللوم على الطرف الآخر، والقدرة على التعايش والنظر إلى الأمور بعين الحكمة والتسامح وتأليف القلوب، والمرونة في التعامل لحياة أكثر إشراقًا، وعليكم بالتحاور والتشاور في الأمور وتقوية العلاقة بينكم بالمحبة والود والوئام والثقة وعدم الشك، وعدم فتح المجال للتدخلات الخارجية من الأهل على حياتكم، وتحمل المسؤولية معا والاهتمام بتربية ورعاية الأولاد والدعاء لهم، لأن دعوة الوالدين لا ترد، ولا تدعو على أولادكم عند الغضب عليهم، بل اصبروا وادعو لهم بالصلاح والهداية والسداد، وسوف يرزقكم الله السعادة والتوفيق في حياتكم الزوجية وتعيشوا سعداء برفقة أولادكم الصالحين.
** محامٍ ومستشار قانوني
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ملامح من الحياة في كندا (10)
ملامح من الحياة في كندا (10)
الي الصديقة لودميلا
في الحلقات السابقة تعرضتُ بشيئ من الأسهاب الي جزء من الحياة التي عشتها في كندا . تخللتها كثير من المشاق والمعاناة والفقر كغيرها من حالات المهاجرين الأوائل . مرتْ فيها العلاقات الأسرية بصعود وهبوط أوشك أن يؤدي الي الهزيمة وأنهيار التجربة . وبعودة الي الوراء قليلاً ، أري أن الألهام علي الصمود أمام هذه العقبات مرده الي عدة عوامل أولها التربية والمثل والأخلاق الشيوعية التي كانت منارة لي وجعلت مني سفيراً لوطني وثانياً الأرث العائلي الذي فرض علي عدم الرسوب في هذه التجربة علي المستوي الخاص والعام وثالثاً طفلّي العزيزين وفوق كل هذا صديقتي العزيزة ووالدة أطفالنا لودميلا التي كان لها الفضل في كل النجاحات المتواضعة التي تحققت .
التربية والنشأة في المجتمع الشرقي الذكوري ، لها عين ساهرة تقف بالمرصاد لكل من يخطر بباله مدح الزوجة أو ذكر محاسنها وفضائلها علي الملأ ، فما بالك من توثيقها الذي يُعد من المحرمات . علي الرغم من أن القرآن الكريم نزل بسورة كاملة أسماها سورة (النساء) ، علاوة علي الأحاديث النبوية عن الأم والوصية بها كما قال(ص) ، إضافة الي الشعر الجاهلي والمعاصر اللذين أسهما بقدر كبير في الغزل بدأً من المعلقات وأنتهاءً بالأغاني العاطفية ، برغم هذا الإرث الأ أننا لا زلنا في عالمنا العربي والأسلامي نعتبر الكتابة عن الزوجة ومدحها في الحياة قبل الممات نقيصة وللمفارقة نمجد ونعز الأم علي الرغم من علمنا أنه قبل أن تكون أماً ، كانت زوجه فاضله وهي التي أنجبتْ . وبناءً علي هذا الواقع الذي يتم تجاهله عمداً أو سهواً قررت أن يكون موضوع هذه الحلقة تكريماً وأعتزازاً وفخراً بزوجتي التي خاضت معي تجارب الحياة لفترة أوشكت أن تصل الي الأربعين عاماً .
تعرفت علي زميلتي في الدراسة بموسكو في أوائل عام 1985 حيث كانت الحياة سهلة ورخية في الدولة الأشتراكية قبل إنهيار المنظومة . كنا شهوداً علي أحداث تاريخية هزت العالم وشغلت الناس ، عاصرنا تجربة البرسترويكا والقلاسنست . " الحقيقة " و" أعادة البناء" التي قادها قرباشوف وكنا من مؤيديها. بعد أن أشترك والدها في الحرب العالمية الثانية أُرسل الي معسكرات الأعتقال تحت المادة 54 بتهمة "عدو الشعب" لفترة عشرة أعوام أعقبتها خمسة أعوام بدون حق العمل وكذلك والدتها التي زُج بها أيضاً لخمسة أعوام كحال الملايين الذين هزموا النازية كالقائد العسكري " جوكوف" و العالم النووي "سخاروف" الحائز علي جائزة نوبل للسلام . بعدها ظهرت "لودميلا" الي الوجود . قد يكون هذا التاريخ الستاليني الملئ بالأعدامات والمعسكرات الذي عاشت فيه زوجتي أحدي الأسباب التي جعلتها تبني حائطاً منيعاً بينها والسياسة . علي الرغم من كل هذا لم تحمل حقداً علي سلطة الدولة السوفيتيه ولا حتي علي الحقبة الستالينية . لا زالت تدافع في الصفوف الأمامية عن الأتحاد السوفيتي السابق وتفخر بأنها نتاج لتلك الحقبة التاريخية . عاشت وأسرتها في الجزء الشرقي من أوكراينا بمنطقة الدنباس التي تستعر فيها الحرب الأوكراينية الروسية الآن ، وأبتعثتْ للدراسة بموسكو حيث تعرفتُ عليها في الكلية . تم زواجنا في ديسمبر 1990 وأحيا الحفل صديقنا المرحوم مصطفي سيد أحمد عندما حضر للعلاج . وقد تكون هذه من الحفلات النادرة التي أقامها الفنان مصطفي تفضلاً منه لأصدقائه . ومن غرائب الصدف لا زلتُ أحتفظ بتسجيل هذا الحفل في قرصٍ اليكتروني يرافقني في حلي وترحالي .
بوصولنا الي كندا في خواتيم 1991 حيث هاجرنا اليها بعد أن أغلقت كل السبل والدروب في الحصول علي وطن . أستحالت العودة للسودان بعد إنقلاب الجبهة القومية الأسلامية ، بعدها طرقتُ أبواب الهجرة الي دول الخليج وبوصولي لدولة الكويت أندلعت حرب الخليج حينها كانت قوانين الأتحاد السوفيتي السابق لا تسمح ببقاء الأجانب حتي لو كانوا متزوجين من مواطنات سوفيتيات ، هذه هي الأسباب التي دعتني للهجرة الي كندا. العشرية الأولي بكندا كانت من أصعب المراحل وتم تدوين أجزاء منها في الحلقات السابقة . تفرغت "لودميلا" لتربية الأطفال وكان مطلبها الأساسي يتمثل في تقديم المساعدة المرجوة التي تتلخص في معاونتها في تجهيز الأطفال والخروج معهم من سكن الشقق الضيقة التي لا تسمح بالحركة الدؤوبة للأطفال الي براح الفضاء الواسع في الحدائق والشوارع العريضة تحت درجة حرارة تصل في بعض الأحيان الي عشرين تحت الصفر ومشاركة الأطفال في العابهم وأهتماماتهم ، أعباء النظافة وتوصيلهم الي المدارس مع عدم وجود سيارة . تشاركنا معاً مساعدتهم في مراجعة الدروس ، أهتمتْ بالحاقهم في المناشط الرياضة المختلفة وخضتُ معهم تجربة التزحلق علي الجليد في الجبال التي تعلمتها في سن متأخرة . كانت تدرك بحسها ، بأن توسيع مدارك الأطفال يتم بإخراجهم من المنزل حينما يتلمسون الأشياء علي الطبيعة ويشاهدون واقع الحياة اليومي . هذه الفترة أحتاجت الي تنازلات كبيرة من الطرفين تحملتْ كل هذا العبء إضافة الي محاولاتي اليومية في البحث عن عمل ومردودها السلبي الذي يفاقم الأحباط . هذا الظرف الذي يتطلب التنازلات ووضع الأولويات في المكان الصحيح ساعد في الحفاظ علي الوضع العائلي ، أطلقتُ عليه أسم (المساومة التاريخية) في تعبير شائع للزميل الشفيع خضر . في هذا المناخ يعصرك الألم وأنت تفكر وتجتهد في الكيفية التي تقدم فيها يد المساعدة لأفراد العائلة الممتدة الذين تركتهم خلفك في السودان . "لودميلا" كانت ولا زالت مدبرة للحد البعيد . ساعدها في ذلك الجو الأوكرايني حيث نشأت وترعرعت في منطقة زراعية ومناخ شتوي قاسي يجبر الجميع علي الزراعة وتخزين الحصاد لفصل الشتاء . هذه العقلية هي في مخزون ذاكرة المواطن السوفيتي الذي عاش في تلك الفترة قبل أن تأتي رأسمالية الدولة . أمرأة من طراز فريد ، قنوعة بما تيسر ، أهم الأشياء التي ورثتها من بيئتها هو تربية الأبناء وتعليمهم وغرس السلوك القويم فيهم . هذه هي أهدافها وقيمها في الحياة بعد الأنجاب ، إضافة الي قناعتها بأن هؤلاء الأبناء أتوا الي هذه الدنيا ليس بمحض إختيارهم وإنما برغبتنا لذا واجبنا كآباء وأمهات أن نلبي رغباتهم بقدر الأمكان .
من أكثر الأشياء التي أزعجتها وأقلقتها طيلة هذه المدة ، السبهللية التي نتعامل بها مع المال ، ليس وحدي وإنما كل السودان ، وذلك مرده في رأيها للحياة السهلة التي كنا نعيشها . في علاقتها معي لم تستوعب أني أتيت من بيئة مختلفة ، مجتمع عشائري وشبه أقطاعي . قبل الوصول الي كندا لم تشغلني الحسابات البنكية وتعاملي مع البنوك كان محدوداً ولم تكن لي حتي محفظة . أتيت من حي في أمدرمان يسمي العباسية والمنزل الذي نشأت فيه كان عبارة عن داخلية و"مسيد" في آن واحد. الفرد الواحد يعول مجموعة أشخاص و العمل ليس حقاً وأنما فضلٌ للمحظوظين خاصة بعد وصول الأنقاذ . الفرد العامل مسؤول عن إعاشة الجماعة التي لم تتيسر لها سبل كسب العيش . بهذه الخلفية "الغير طبيعية" بالنسبة لها كان حسابنا البنكي في كندا مشترك تماشياً مع طبيعة البلد حيث كل أو معظم الأسر لها حساب واحد مشترك . كانت شاهدة عيان علي بعثرت الدخل المحدود من جانبي والديون التي صارت تنمو في الحساب من دون علمها وأستشارتها أو حتي أن تكون لها أدني معرفة بالأشخاص الذين تتم مساعدتهم والقيام بالواجب تجاههم . وبناءً علي هذا الوضع تقدمتْ بطلب رسمي لفصل الحساب المشترك حتي لا تتورط في دين لا شأن لها به . كنت أمني النفس بأن تزور السودان حتي تقف علي الحقيقة وتدرك معني " الله كريم " التي تقال صباح مساء مِن مَن لا يملك قوت يومه . قبل هذه الحرب اللعينة الجميع كانوا يعيشون في سلام وأمان الذي يعمل والذي بدون عمل . برغم هذه الظروف في عام 2005 شجعتني لأصطحاب الأطفال في زيارتي للسودان وأبتاعت لهم التذاكر لكي يرافقوني ويتعرفوا علي جذروهم . وقبل السفر وقفتْ علي تجهيز كل الحقائب حتي شنطة الأسعافات والمواد التمونية التي يحتاج لها الأطفال قبل أن يتعودوا علي الطعام السوداني . و حقيقةً كانت لها الرغبة بمرافقتنا الأ أن الظروف المالية لم تسمح بذلك حيث كانت تعمل بالمشاهرة . زيارة الأطفال الي موطن أجدادهم كانت مهمة ، تعرفوا فيها علي السودان ولا زالت الأنطباعات والمشاهد باقية في ذاكرتهم . ركبوا كل أنواع الدواب من حميرٍ وجمالٍ وزاروا البجراوية والمصورات وشاركوا في حولية الشيخ حمدالنيل وتشرفوا بزيارة قبة الجد الأمام المهدي . من المفارقات عن هذه الزيارة الي الآن يعتبرون (الأيسكريم ) الذي تناولوه في (عفراء مول) لا يوجد له مثيل . ووالدتهم تشهد بأن المانجو السوداني ليس له منافس من كل الأنواع التي تذوقتها .
لا يفوتني ذكر بعض المواقف المستعصية التي واجهتني في تعاملي مع زوجتي والتي لا زلت أجد صعوبة في أستيعابها . الآ وهي الأحتفال بأعياد الميلاد . أتضح أن جزءً مقدراً من هذه البشرية ملم بتاريخ ميلاده وبعضهم يعلم الساعة التي تم فيها أستقباله في هذه الدنيا . أما أنا فأتيت الي هذا العالم وليس لي معرفة بمكان ميلادي ، يقال أنها أحدي القري التي تقع علي النيل الأبيض ناهيك عن التاريخ والساعة . عيد الميلاد والأحتفال والتهنئة به يعتبر من الواجبات المقدسة في هذا الجزء من العالم . يفرحون بقدومهم الي هذا العالم العجيب رغم مصائب الدهر التي تأتيك من حيث لا تدري. زوجتي تتذكر تاريخ ميلاد جميع أفراد أسرتها وأصدقائها المقربين وأحياناً كثيرة تسألني عن تاريخ ميلاد أمي وابي وأخوتي فتجدني ليس لي معرفة حتي بالسنين التي ولدوا فيها . ليت المعضلة أنتهت بأستذكار هذا اليوم وأنما المطلوب مني أن أختار هدية لهذه المناسب وهنا تكمن الصعوبة . الهدية يحبذ أن لا تكون من مستلزمات المنزل وأنما تكون هدية شخصية تعبر عن معرفتك بأحتياجات الشخص المقدمَ له الهدية . يزيد الطين بلّه ، ليس لي معرفة بمقاسات زوجتي ولا بالألوان التي تفضلها ولا حتي بلون شعرها ، خاصة وأني من غمار الناس الذين لا يمشون في الأسواق . هي زوجتي والسلام ، أخترتها لمعايير تختلف عن كل هذا . أما بالنسبة للأبناء ، حينما عجزتُ عما يلزم تقديمه في أعياد ميلادهم تم أتفاق غير مكتوب أن تتولي هي مسألة الأختيار. رغم هذه العشرة والسنين ، لم يتاح لي حظي العاثر أن أشتري "للودميلا" أي من أنواع الثياب أو الحلي الذهبية بخلاف خاتم الزواج . أعاني من غصة في الحلق وذنبٌ يلاحقني بعدم الوفاء بالوعد الذي قطعته عليها بأن أزورها بيت المقدس وكل ما طلبته هو المرافقة . بعد أن تحسن وضعنا المالي نسبياً وشرعت في التفكير في الزيارة أندلعت الحرب في غزه وفلسطين ولبنان . أخاف أن يتبدد الوعد والحلم .
حرب السودان كان لها تأثير مادي كبير علي الميزانية التي يُدار بها أمر المنزل إضافةً للعامل النفسي . صديقتي وزوجتي "لودميلا" تفهمت الوضع المأساوي الذي يمر به السودان فأستقبلت الألتزامات المالية الجديدة التي فرضتها الحرب بروح أنسانية عالية بالرغم من أنها ليست من بنات عمومتي . لها الشكر والتقدير في جميل صنعها وفي تفهم بيئتي التي لم تنشأ فيها . التحية الي كل الزوجات اللاتي تفهمن هذا الظرف الأستثنائي واللأنساني الذي يمر به السودان .
وختاماً هذه هي الحلقة الأخيرة من سلسلة "ملامح من الحياة في كندا"
حامد بشري
12 نوفمبر 2024
hamedbushra6@gmail.com