الموسم الخامس من فارغو.. الوجه الآخر للرأسمالية الأميركية
تاريخ النشر: 14th, January 2024 GMT
قدم المخرج والمؤلف نواه هاولي تجربة تلفزيونية مختلفة للغاية على مدى 10 سنوات من خلال مسلسل "فارغو" (Fargo)، الذي استلهم من فيلم سينمائي بالاسم ذاته، قدمه الأخوان "كوين" عام 1996.
وعُرض الموسم الأول من "فارغو" في 2014، وحقق نجاحا نقديا وجماهيريا. أعجب المخرجان إيثيل وجويل وكوين بالعمل الجديد، وانضما إليه منتجين تنفيذين، ثم توالت المواسم بعد ذلك، كلّ منها منفصل بأحداثه وشخصياته والحقبة الزمنية التي يغطيها، ولكن يجمع بينها كثيرا من السمات المتشابهة، التي ترجع في الأساس إلى الفيلم الأصلي.
ويُعرض، حاليا، الموسم الخامس من المسلسل، بطولة "جون هام" و"جونو تمبل" اللذين رشحا لجائزة غولدن غلوب في فئة التمثيل، بينما رشح المسلسل بالكامل لجائزة أفضل مسلسل قصير.
مينيسوتا بلد الجرائم التلفزيونيةتدور أحداث فيلم ومسلسل "فارغو" في ولاية مينيسوتا بالولايات المتحدة، وهي منطقة ذات طقس قاس وشديد البرودة، مما انعكس على سلوك سكانها في شكل قسوة وحذر وكثير من عدم المبالاة تجاه ما يحدث في حياتهم، فأيامهم تبدو متشابهة بنهارها القصير وليلها الذي لا ينتهي.
يبدأ كل موسم بشخص عادي لا يمكن أن تتخيل قيامه بجريمة أكبر من عدم اتباع إشارات المرور، ولكن يتقاطع طريقه مع قوى شريرة، مما يدخله رغما عن أنفه في صراع يجعله يتخلى عن كثير من مبادئه في بعض الأحيان.
لا يغير الموسم الخامس من المسلسل هذه الافتتاحية، إذ نتعرف في البداية على "دورثي" ربة المنزل التي تحيا في الضواحي مع زوجها وابنتها، ويشتد الجدل في أحد لقاءات مجلس أولياء الأمور، ويصل إلى التشابك بالأيدي، فيتم اقتيادها إلى مخفر الشرطة، وهناك، بعد أخذ بصمات أصابعها، تدخل حياتها الهادئة في منعطف جديد، حيث يعود إليها، من الماضي، عدو ظنت أنها ضللته نهائيا.
تبدأ الحبكة في التكشف بالتدريج، فعلى عكس المواسم السابقة التي يتعرف فيها المشاهد على كل العلاقات بين الشخصيات، ويقع الحدث الأهم خلال الحلقتين الأولى والثانية، ثم يتابع المشاهد النتائج على مدار الحلقات الثماني الباقية يحدث هنا كل ذلك بالاتجاه المخالف.
يتابع المشاهد خطين سرديين متوازيين، الأول تدور أحداثه في الحاضر، ويقدم محاولة دورثي الهرب من زوجها السابق والشرطة ووالدة زوجها الجديد في آن واحد، بينما الخط الثاني يستكشف ماضي الشخصيات باستخدام الفلاش باك والحوار.
ترامب الحاضر الغائبأجاد صناع المسلسل تمثيل الحقب الزمنية التي قدموها في المواسم السابقة مثل بداية الألفية في الموسم الأول وما بعد حرب فيتنام في الموسم الثاني، وكذلك في الموسم الخامس، أعاد قراءة تاريخ الولايات المتحدة في حقبة ترامب وعالم ما قبل "كوفيد-19" بشكل شديد الذكاء، وجعل هذه التفاصيل تظهر ببساطة ضمن الأحداث.
وتدور أحداث الموسم الخامس من مسلسل "فارغو" عام 2019 في الشهور السابقة لوباء الكورونا، ولكن الأهم أنها تدور خلال حكم الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب، الذي ظهر على شاشة تلفاز كإحدى الشخصيات خلال واحدة من خطبه.
لم يكن ذلك التوقيت عشوائيا، فقائد الشرطة روي تليمان بالمدينة الريفية، التي هجرتها دورثي، وهو في الوقت نفسه زوجها الذي هربت منه، يؤمن بالقيم المحافظة التي تميل إلى التمييز على أساس الجنس والعرق واللون، ويمثلها الرئيس السابق، واستخدم ذات الأفكار في تعذيب زوجاته وحكم مدينته بالحديد والنار تحت سمع وبصر السلطات الأعلى منه.
ركز المسلسل أيضا على الأزمة الاقتصادية الأميركية التي يعيشها أبناء الطبقة الوسطى، وتكبلهم بديون التعليم العالي والرهن العقاري، فوالدة زوج البطلة الثاني تمتلك شركة عملاقة تستفيد من هذا الوضع الاقتصادي المتردي، وتتضاعف ثروتها عبر إعادة شراء الديون وزيادة فوائدها وتحصيلها بطرق ملتوية.
تمثل هذه المرأة وقائد الشرطة، الجريمة المنظمة وهي الثيمة المتكررة في المواسم الأخرى من المسلسل، ولكنها هنا جريمة تكتسب وجودها من التلاعب بالقانون والدستور الأميركي، الذي يمكن إعادة تطويعه واستغلال ثغراته بشكل يجعل بلدة صغيرة تبدو كما لو أنها ذات حكم مستقل نتيجة لقوة واستبداد حاكمها، وامرأة صاحبة شركة تجارية تتعامل كمالكة لعدد لا ينتهي من العبيد التي تستغل ديونهم في تطويعهم.
خليط من الحنين والتجديدورغم تغيير الحقبة الزمنية التي يتناولها المسلسل واختلاف طاقم الممثلين، فإن هناك العديد من الروابط التي تصل بين هذا الموسم "فارغو" والمواسم السابقة والفيلم السينمائي، أولها بناء الحبكة نفسها واختيار بطلة من الطبقة الوسطى، ومشهد اختطافها في الحلقة الأولى الذي يماثل مشهد اختطاف الزوجة في فيلم الأخوين كوين.
بالإضافة إلى الشرطية التي تحقق في هذه الجرائم التي تعتبر وريثة الممثلة فرانسيس ماكدورماند – أولى شرطيات "فارغو" -، وهو ما يقود إلى المزيد من التشابهات مثل زوج الشرطية المسالم، ومعرض السيارات الذي يمتلكه زوج الضحية، والأهم القاتل المختل الذي يرتكب الجريمة حبا فيها بدون أي حوافز مادية الأمر الذي يجعل تصرفاته غير متوقعة للجميع.
تمثل هذه التشابهات الأحجية أو لعبة البحث عن القطع المخفية التي تجذب المشاهدين المحبين للسلسلة، فهي تجعلهم يتوقعون جزءا مما يشاهدونه، ولكن في الوقت نفسه لا تفصح عن كثير بسبب التغيرات في استخدام مفاتيح اللغز، مما يجعل حلقات المسلسل متجددة وذكية، وتستدعي إحساسا بالحنين في آن واحد.
لم يعتمد مسلسل "فارغو" في موسمه الخامس على الحبكة المثيرة أو الشعور بالحنين لدى المشاهدين لبقية السلسلة فقط، ولكن أيضا على أداء الممثلين، فكل من جون هام وجونو تيمبل وجينفر جيسون لي قدم أداء مميزا في دور مختلف ومعقد، سواء "دورثي" المرأة التي لا تتمنى سوى السلام مع أسرتها الجديدة، ولكنها تتحول إلى نمرة شرسة عندما تدافع عن هذه السعادة، أو قائد الشرطة روي تيلمان الذي يقلب أسطورة راعي البقر الأميركي شديدة الرومانسية ليظهر الوجه الآخر لها متمثل في الشخصية النرجسية ذات القيم المضطربة والقوة الغاشمة، وأخيرا لورين ليون أم الزوج الرأسمالية العنيفة التي لا تتحدث سوى لغة المال.
حاز الموسم الخامس من "فارغو" على إعجاب كل من النقاد والمشاهدين بمعدل 96% و93% على الترتيب من موقع "روتن توماتوز"، ولكن الأهم من الأرقام أنه أثبت قدرة المخرج والمؤلف نواه هاولي على إبداع حبكات جديدة ضمن الإطار ذاته للمرة الخامسة.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: الموسم الخامس من
إقرأ أيضاً:
سامح قاسم يكتب | ضي رحمي.. أن تترجم لتكون القصيدة قلبك الآخر
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
في عالمٍ تُستنزف فيه الكلمات كما تُستنزف الأعمار، تبدو الترجمة أحيانًا فعلًا باردًا، مجرّد جسر صامت بين لغتين. لكن حين تمر القصائد من بين يدي ضي رحمي، تصبح الترجمة طقسًا شعريًا قائمًا بذاته، كأن النص الأصلي لم يوجد إلا ليُولد من جديد بلغتها. ليست ضي رحمي مترجمة تقف على الحياد بين الشاعر وقارئه العربي، بل هي عاشقة تختار قصائدها كما تختار روحٌ عاشقٌ مَن يهواه، بعين تمسّ، وقلب يُنصت، وضمير لا يُهادن.
ضي رحمي لا تضع نفسها في مصاف "المترجمين المحترفين". تصرّ، بتواضع متوهج، على أنها "مترجمة هاوية". وهذا في ذاته مفتاح لفهم صوتها الخاص: ليست ضي أسيرة قواعد النشر ولا شروط المؤسسات، بل أسيرة الدهشة وحدها. لا تترجم ما يُطلب منها، بل ما يطلبها. ما يمسّها كما لو أن القصيدة سُرّبت لها من حلم سابق.
في هذا المعنى، فإن ترجماتها ليست نقلًا من لغة إلى أخرى، بل استعادة. كأنّ ضي تعثر على قصيدة في لغتها الأم وقد كُتبت أصلًا بها، فتُعيدها إلى أهلها. ليس غريبًا إذًا أن تجد الكثيرين يظنون أن تلك الكلمات التي قرأوها لها هي شعر عربي خالص، لا ترجمة.
ليس من السهل أن تختار قصيدة لتترجمها. فالنصوص، كما الناس، تحمل أعمارًا وأقنعة وثقافات قد تنفر منها الروح أو لا تجد فيها ما يشبهها. غير أن ضي رحمي تمتلك حسًّا نادرًا في هذا الاختيار. تختار القصائد التي تنتمي إلى عوالم هشّة، إلى تلك الفجوات الدقيقة بين الحب والخسارة، الوحدة والحنين، الغضب والرقة. تنجذب إلى الشعراء الذين يكتبون كمن يربّت على كتف العالم: لانج لييف، نيكيتا جيل، رودي فرانسيسكو، وآخرون ممن يُقال عنهم شعراء المشاعر الدقيقة.
وتنجح ضي في أن تنقل هذه المشاعر لا باعتبارها معاني لغوية، بل باعتبارها أصداءً داخلية. فهي تعرف كيف تحفظ موسيقى النص، كيف تُبقي على رعشة الجملة، وعلى ذلك الفراغ النبيل الذي يتخلل بعض القصائد ويمنحها عمقًا لا يُفسَّر.
في ترجماتها، يظهر صوت أنثوي واضح، لكنه غير شعاري. لا تخوض ضي في قضايا النسوية من بوابة المباشرة، بل تفتح بابًا خلفيًا للقارئ كي يرى هشاشة النساء، غضبهن، صمتهن، توقهن للحب، وانهياراتهن الصغيرة، من دون أن تقول ذلك بصوت عالٍ. تترك اللغة تفعل ذلك.
في ترجمتها لقصيدة عن امرأة وحيدة تُحدّث ظلالها، لا يبدو أن ثمّة شيء يحدث سوى أن القارئ يشعر أنه هو تلك المرأة. هنا تتجلى قوة ضي: لا تسرد الشعر، بل تجعلك تعيش داخله، كأنك كنت دومًا هناك.
ضي لا تكتفي بالترجمة المكتوبة. على ساوند كلاود، نسمع بصوتها أو بصوت متعاونين معها ترجمات مسموعة لقصائدها المختارة. الصوت هنا ليس مجرد أداة قراءة، بل امتداد للقصيدة. نبرة الصوت، طريقة الوقف، وحتى الأنفاس الصغيرة بين السطور، كلها تشكّل طبقة إضافية من الترجمة، تجعل من القصيدة حدثًا سمعيًّا، لا قرائيًّا فقط.
هذه القدرة على المزج بين الكلمة والموسيقى الداخلية للصوت تجعل من ترجماتها لحظة حميمية، كما لو أنك جالس قبالة صديقة تخبرك شيئًا سريًّا عن العالم.
ما يعمق هذا البعد الإنساني في أعمال ضي هو أنها ليست فقط مترجمة، بل فاعلة في العمل الاجتماعي والإنساني. عملها من أجل ضحايا العنف يمنحها حساسية لا يمتلكها كثيرون. الترجمة هنا ليست فعل ترف ثقافي، بل امتداد للرغبة في فهم الألم الإنساني بكل لغاته. لذلك نجد في ترجماتها إصرارًا على منح الألم صوتًا ناعمًا، لا يصرخ، بل يشير بإصبعه إلى قلبك، ويصمت.
لو جاز لنا أن نكتب قصيدة عن ضي رحمي، لربما قلنا إنها تلك اليد التي تُمسك بالقصيدة المترجمة كما لو كانت دمًا طازجًا خرج لتوّه من الوريد. لا تضعه في قارورة محكمة، بل تتركه يسيل في اللغة العربية كأنه لم يكن غريبًا قط.
ربما ليست ضي مترجمة بالمعنى التقليدي، لكنها بالتأكيد شاعرة تتنكر في زي مترجمة. شاعرة لا تكتب القصيدة، بل تبحث عنها في لغات الآخرين، وتعيد كتابتها بلغة تشبه قلبها.