تدور حول قصة معركة المنصورة العديد من الأقاويل، والتي من بينها أن الفرسيون عاثوا تخريبًا في تلك البلاد ولكن يبدو أن تلك الروايات على عكس الحقيقة بشكل كبير، فأهل المنصورة كانوا مقاومين شجعان، وانضم العديد من المصريين لجيش الصالح نجم الدين أيوب والذي كان قوامه من المماليك البحرية، وفي السطور التالية نكشف عن رواية مؤرخ الحملة الصليبية لموقعة المنصورة، التي فيها كان النصر حليفًا للمصريين.

المعركة 

وقبل أن نبدأ يجب أن نعرف أن المعركة دارت رحاها في مصر بالفترة من 8 لـ 11 فبراير عام 1250م، قاد القوات الصليبية فيها لويس التاسع، ملك فرنسا، والقوات الأيوبية بقيادة الأمير فخر الدين يوسف بن شيخ الشيوخ، وفارس الدين أقطاي الجمدار وركن الدين بيبرس البندقداري.  

وجهة النظر الفرنسية 

كشف الدكتور تامر العراقي المتخصص في الآثار الإسلامية عن وجهة النظر الفرنسية لوقوع لويس التاسع أسيرًا في أيدي المصريين، نقلًا عن كتاب دي جوانفيل (تاريخ القديس لويس)، وجوانفيل هو مؤرخ الحملة الصليبية السابعة وكان مرافقًا للويس التاسع ومعاصر أحداث المعركة.

مؤرخ الحملة الصليبية 

وأشار العراقي في تصريحات إلى الفجر، أن جان دي جوينفيل مؤرخ الحملة الصليبية السابعة ومرافق لويس التاسع أو سان لويس قال: "بدا كما لو أن وكانت كل النجوم تتساقط من السماء"، إلى جانب ذلك كانت الريح ضد السفن المسيحية، وكان الصليبيون البائسون المتجمعون في حالة من الارتباك، بالكاد قادرين على الوقوف وكان معظمهم دون أسلحة، وفي مثل هذا الخطر الكبير، ركزوا أنظارهم بعناية نحو الشاطئ والسهل حيث ارتفعت سحب كبيرة من الغبار في الهواء، على أمل رؤية الجيش المسيحي يأتي لمساعدتهم عندما كان عليه الوصول إلى دمياط عن طريق البر، لكنه كان أملًا عقيمًا، لأن جزءً من الصليبيين كان قد هُزِم بالفعل وتفرق، بينما بذل المؤخرة، بتشجيع من وجود الملك، جهودًا مذهلة وغير مجدية لصد العدد المتزايد باستمرار من المسلمين.

جان دي جوينفيل مؤرخ الحملة الصليبية السابعة 

دفع اليأس المحاربين الفرنسيين إلى القيام بأعمال شجاعة غير عادية، والتي لم تكن فعالة إلا في تحقيق الاستشهاد، ولم يعد غي دي شاتو بورسيان، أسقف سواسون يأمل الوصول إلى دمياط ورؤية فرنسا من جديد، وتبعه بعض الرجال على ظهور الخيل، واندفع إلى صفوف المسلمين، حيث قُتل فورا.

وكان غوشر الرابع دي شاتيلون وجودفري ملك سارجين لا يزالان يقاتلان لإنقاذ حياة الملك: وقف جودفري ملك سارجين إلى جانبه، وطرد أعداءه بضربات سيف عظيمة ويبدو أن الخطر زاد من قوته.

لكن عناد المسلمين في إبادة أعدائهم كان ينمو دائمًا، يغذيه ويحفزه دراويشهم وأئمتهم الذين تجولوا بين صفوف المقاتلين، وباسم النبي محمد والوطن، يحثونهم على عدم التسامح مع أي عدو.

وصلت مؤخرة المسيحيين، التي كانت دائما ملاحقة ومستهدفة، بصعوبات كثيرة إلى قرية منية عبد الله، حيث سُوعِد الملك على النزول من جواده، فيما كان كل من رافقه يخشى أن تفارق روحه بسبب المرض والمرض. التعب.

ظل غوشيه الرابع دي شاتيلون الشجاع يقاتل لإنقاذ الملك، ودافع وحده عن مدخل الزقاق المهيب المؤدي إلى المنزل الذي نُقل إليه الملك المنهك، ويمكن رؤية غوشيه الشجاع وهو يندفع الآن نحو أعدائه ويطردهم، ويتراجع الآن ليستخرج من درعه وأطرافه السهام والسهام التي أمسكت به؛ ثم عاد للقتال من جديد، وكان يصرخ بين الحين والآخر بأعلى صوته: «إلى شاتيلون، أيها الفرسان، إلى شاتيلون! أين رجالي الشجعان؟ غوشيه دي شاتيلون يدافع وحده عن مدخل الزقاق، لضمان سلامة الملك لويس التاسع

لكن بقية الحرس الخلفي لم يصلوا بعد ولم يتمكن أحد من الاندفاع لمساعدة غوشيه الشجاع؛ بل على العكس من ذلك، تزايد عدد المسلمين، وتغلبوا على المدافع عن الملك الذي سقط ومات، وهو مغطى بالجراح ومثقوب بالسهام.

ولم يتمكن أي من الصليبيين من مساعدته، أو على الأقل أن يشهد نهايته البطولية؛ استولى المصريون على حصانه ولم يروي آخر مآثره إلا ذلك المحارب المسلم الذي أظهر سيف غوشيه وتفاخر بقتل أشجع المسيحيين، بعد أن تراجع الحرس الخلفي إلى الصدارة، ظل يدافع عن نفسه بشجاعة.

ووصل فيليب مونتفورت، الذي كان نقيبًا، إلى الملك وأخبره أنه التقى بالأمير الذي تم التفاوض معه على الهدنة في معسكر موروس، وأنه إذا وافق الملك، فسوف يذهب مرة أخرى للتحدث معه في هذا الشأن، ووافق الملك، ووعد بالخضوع للشروط التي سبق أن اقترحها السلطان.

تم إيقاف نحو خمسين فارسًا من الحرس الخلفي عند منية عبد الله، وكثيرون ممن واصلوا طريقهم إلى دمياط، عندما علموا بتوقف الملك، عادوا أدراجهم، بحيث بدا أن المسيحيين ما زالوا يريدون القتال. ولذلك قبل الأمير اقتراح الهدنة.

كان فيليب دي مونتفورت قد أعطى الأمير بالفعل خاتمًا كان يرتديه في إصبعه تعهدًا بكلمته، عندما حدث شيء جعل الاتفاقات موضع تساؤل: بدأ مارسيل، وهو جندي فرنسي أفسده الأعداء، بالصراخ تجاه الأمير، الصليبيون: أيها السادة الفرسان، استسلموا جميعًا كما أمرني الملك أن أفرض عليكم؛ لا تسمح له بالقتل"

وأرعبت هذه الكلمات المسيحيين الذين كانوا مقتنعين بأن حياة الملك ستكون في خطر إذا استمروا في القتال، ثم ألقى القادة والجنود أسلحتهم في نفس الوقت.

الأمير الذي كان على وشك منح الهدنة بالفعل، عندما رأى هذا التغيير، قطع المفاوضات على الفور قائلًا: "لا يمكن عقد هدنة مع أولئك الذين هزموا.

وفي هذه الأثناء دخل الصالحي، أحد خصي السلطان، منية عبد الله، فوجد الملك بين خدمه يحضرونه، فقبض عليه وقيد يديه وقدميه بالسلاسل.

لويس أسيرًا

ومنذ تلك اللحظة لم يكن هناك مفر للصليبيين؛ كما تم أسر الكونت ألفونسو الثالث ملك بواتييه والدوق تشارلز الأول ملك أنجو، إخوة الملك؛ تم الوصول إلى كل من وصلوا إلى فارسكور وقتلوا أو أسروا.

كان الرعب عظيمًا لدرجة أن أولئك الذين كان بإمكانهم إنقاذ أنفسهم بسهولة في دمياط بمواصلة رحلتهم لم تعد لديهم الشجاعة للمضي قدمًا وسمحوا لأنفسهم بأن يتم القبض عليهم وذبحهم. أما الأوريفلاما والأعلام الأخرى والأمتعة، فانتهى بها الأمر إلى أيدي المسلمين.

ولم يكن حظ الصليبيين الذين ركبوا النيل أفضل. غرقت جميع سفنهم، باستثناء سفينة المندوب البابوي، جزئيًا بسبب عاصفة، واحترقت جزئيًا بالنيران اليونانية وجزئيًا استولى عليها المسلمون الذين ذبحوا أكبر عدد ممكن من المسيحيين.

كان جان دي جوينفيل لا يزال منزعجًا من جروحه ومرض الإسقربوط، وقد ركب مع الفارسين المتبقيين وبعض الخدم فقط. اقتربت أربع قوادس مسلمة من سفينته عندما رست في وسط النهر وهددوه بالقتل إذا لم يستسلم على الفور.

وتشاور جان دي جوينفيل مع أتباعه بشأن ما يجب عليه فعله؛ وكان الجميع يرون أنه لا بد من الاستسلام إلا من أراد أن يُقتل «ليذهب مباشرة إلى الجنة».

ثم أخذ جان دي جوينفيل صندوقًا، وأخرج الجواهر والآثار التي كانت بداخله، وألقاها في النهر، واستسلم. وفي تحدٍ لقوانين الحرب، كان جان دي جوينفيل على وشك أن يُقتل؛ ولحسن حظه صاح أحد المنشقين الذين عرفوه: "إنه ابن عم الملك".

لذلك تم اقتياد جان دي جوينفيل إلى سجن للمسلمين ومن ثم نقله إلى منزل كان على الشاطئ. وبعد أن ظل شبه عراة، أعطاه المسلمون الحراس "برنوس" وبطانية قرمزية؛ كان يرتعد في كل مكان، سواء بسبب الشر الذي كان يعذبه أو بسبب الخوف الشديد الذي كان يشعر به.

ولأنه لم يتمكن من ابتلاع كوب من الماء المقدم له، ظن أنه كان على وشك الموت، ودعا خدمه إليه، وودعهم وداعًا أخيرًا. وكان من بين هؤلاء شاب، الابن الطبيعي للورد أماديوس الثالث ملك مونتفوكون، الذي رأى الأشخاص الذين اعتنوا به يموتون، ألقى بنفسه باكيًا في أحضان جان دي جوينفيل، وأوصى بنفسه بحمايته.

وكان منظر هذا الطفل المهجور وهو يبكي بمرارة يثير شفقة بعض الأمراء الحاضرين عليه؛ أحدهم، والذي يسميه جان دي جوينفيل في كتاباته "السارسين الصالح"، أخذ الصبي إلى السجن وعندما ذهب بعيدًا جعله جان دي جوينفيل، قال له: "امسك دائمًا هذا الصبي الصغير بيده وإلا فسوف أكون كذلك". متأكد من أن المسلمين سوف يقتلون ".

واستمرت المجزرة حتى بعد المعارك واستمرت عدة أيام. تم اقتياد السجناء إلى الشاطئ وقد بلغ عدد القتلى من المسيحيين سواء في المعركة أو الذين قتلوا وغرقوا في النيل أكثر من 30 ألفًا.

المصدر: بوابة الفجر

كلمات دلالية: الذی کان

إقرأ أيضاً:

رواية شمهروش العاشق للروائية عرفات كردويش

أهدتني الروائية عرفات كردويش نسخة من روايتها الأخير هذه "شمهروش العاشق" قبل نيفٍ وشهرين-فيما أظن- كان ذلك وقت صدورها تمامًا، لكني كنت في شغلٍ عنها كل تلك الفترة ،وهي الرواية الثانية لها، بعد روايتها الأولى التي صدرت تحت اسم "رصاصة حيَّة" وفعلًا كانت رصاصة أولى حيِّة لها خرقت بها جُدُر الكتاب ووضعتها في داخل دنيا الرواية، فأصابت الهدف،وأنبأت عن ميلاد روائية جديدة، تعرف كيف تسخر إمكاناتها ، ويبدو جليَّاً أنَّها خطت خطوات واسعة بروايتها الثانية هذه، في مدارج عالم الرواية والقصص، وروايتها هذه تصنف بوضوح في الاتجاه الواقعي، وتعكس واقع الحياة التي نحياها، بإشكالاتها وتعقيداتها، وتحدث كلَّ يومٍ في صقع من أصقاع السودان، وفي مدنه وعواصمه، بفضل الجهل الذي ما زال مغروزًا في سويداء هذه الأمة.
وملخص روايتها أنَّ فتاةً يانعة في ذلك الصقع عشقت فتىً من فتيان حيِّها، وتواعدا على الزواج، لكن ظرف العمل بالجيش أبعد العشيق إلى جنوب كردفان، وأتى أحد أقرباء والدها المغتربين الميسورين فطلبها فوهبها أبوها إياه زوجةً دون شورتها؛ حيث لا تشاور البنات هناك في زواجهن، وفي ليلة دخلتها امتنعت عنه، وكشفت له عن تعلقها بآخر، فرمى عليها الطلاق وسافر إلى حيث أتى، لكنه كان نبيلا لم يعلن الطلاق توًا؛ لئلا تذهب بها الظنون كل مذهب، ومع ذلك بدأ الحديث يسرى بين النساء، وتبدل حالها، فحملتها أمها إلى شيخة زار، لكنها لم تجدِ معها، ثم إلى شيخ يدعى فضل المولى الأرباب، زعم الشيخ أن ملكًا من ملوك الجن يسمى شمهروش عشق فتاتهم، ثم قام الشيخ باغتصابها لمرات عديدة مستعينًا في ذلك بالمخدر، وزعم أنَّه أخرجه، ثم عادت إلى دارها، وبعد تسعة أشهر اشتدَّ عليها ألمٌ في بطنها فحُملت إلى الشيخ، فاكتشفت ممرضة تعمل كحوارية عند الشيخ أنَّها حامل، فأولدتها ، وزعم الشيخ لوالد سلمى أن الذي حمَّلها هو شمهروش، وأنَّ شكل المولود لا يُطاق النظر إليه، وأن شمهروش حمله معه. لم تتشافَ سلمى فاستدعى الشيخ دكتورصديق له، فحملها الدكتور إلى الخرطوم وأسعفها وتعهدها حتى تعافت فدفع بها إلى طبيب آخر نفسي صديق لهما، فصار يضع لها المخدر ويعاشرها لمدةحتى ظهر عشيقها الأول وعرف القصة فحضر إلى المستوصف الخاص الذي ترقد فيه وحملها إلى السلاح الطبي وهناك فاجأهم الطبيب بالحقيقة، لكن الشيخ دبر مكيدة لعشيق سلمى أودعته السجن عدة سنين، تشافت عشيقته وواصلت تعليمها وتخرجت من الجامعة.
في السجن التقى العشيق صلاح بالمدعو طارق عبد العزيز(شختة)، وعرف منه الكثير عمَّا يجري في الملجأ، واستطاعوا التعرف على ابن الشيخ الأرباب من سلمى، فلما خرج من السجن حرك إجراءات إدارية أدت إلى القبض على الدكتور، أما الشيخ فوجد مقتولًا مقطوع العضو بيد أحد الصبيان.
هذه هي الحكاية في تسلسلها الطبيعي الذي يسمى المتن الحكائي وقد فرق الناقد الشكلاني الروسي توماتشفسكي بين المتن الحكائي الذي سردناه ملخصًا، والمبنى الحكائي، قال إن المتن الحكائي هو مجموعة الأحداث المتصلة فيما بينها حسب النظام الطبيعي... أي حسب النظام الزمني والسببي، حيث التتابع المنطقي للأحداث في الواقع الافتراضي، بمعنى آخر الحدث الأول تسبب في ظهور الحدث الثاني والحدث الثاني تسبب في الثالث وهكذا ،إذن التسلسل المنطقي للأحداث كما هي في الواقع نسميه المتن الحكائي في مقابل المبنى الحكائي، المبنى الحكائي يتكون من نفس الأحداث لكن بترتيب خاص للكاتب، يعني أن الأحداث المرتبة ترتيبًا منطقيًا متسلسلًا في المتن الحكائي، يقوم الكاتب بأخذها ثم يرتبها بشكل خاص وهذا الشكل ليس له علاقة بالتسلسل المنطقي لها في الواقع، فالكاتب يقدم ويؤخر، يحذف ويضيف، ويمكن للكاتب أن يبدأ من نهاية الأحداث ثم يرجع للبداية، ويمكن أن يبدأ من الوسط، هنا المتن الحكائي يختلف عن المبنى الحكائي، إذ تبدأ الرواية من المنتصف، والشيخ يلهب ظهر الفتاة بسوطه، هذا هو المبنى الحكائي للرواية.وكان قمة الروعة حيث تلاعبت فيه الكاتبة بعنصر الزمن والأحداث تقديمًا وتأخيرًا، وشدَّني استخدامها لتقنية الفلاش باك، فقد بدأت روايتها والبطلة سلمى عند الشيخ الأرباب يعالج فيها، وبعد فصول عرفنا بداية قصة حبها لعشيقها، ثم زواجها من آخر.
ويمكن تصنيف ذلك أيضًا، وفق النظرية السردية البنيوية التي قسمت حبكة النص السردي لثلاثة أنواع: حبكة تقليدية أو مثالية: وهي الحبكة التي لها بداية ووسط ونهاية، حبكة عكسية ويمكن أن نسميها السرد الانعكاسي، أو السرد الاسترجاعي : يعني أن النص السردي يبدأ من نهاية الأحداث، ثم بواسطة الفلاش باك يعود إلى البداية، النوع الثالث من الحبكة تسمى انطلاق من وسط المتن، فتبدأ من منتصف الأحداث، من الذروة، ثم يتحرك الكاتب كما يحب، وهذا هو النوع الذي استخدمته الكاتبة وهو يحتاج إلى براعة، وفقت فيه الكاتبة أيَّما توفيق.
وقد بدأت روايتها بمشهد لشيخ الأرباب يرقى إحدى الفتيات اليافعات ، وهي سلمى بطلة الرواية، وقد أرعبت عبارتها القارئ، إذ حملته لداخل الغرفة التي تجري فيها الرقية، وأول ما يلحظه القارئ تأثير المكان على الشخصيات والأحداث، فالقرية التي جرت فيها أحداث القصة، قرية نائية من قرى السودان، يضعف فيها التعليم وتنتشر فيها الخرافة والجهل والدجل والشعوذة، ومثل هذه القصة تحدث حتى في العاصمة ذاتها لكن بنسبٍ أقل كثيرًا وبتفاصيل غير هذه التفاصيل بسبب التعليم،. والمشهد الذي افتتحت به مشاهد القصة، هو صورة متكررة في جميع نواحي السودان، وفي هذا الزمان، الزمان بقسميه زمان كتابة النص، وزمان حدوث الرواية، وكلاهما متحد إذ أنه لا يختلف هنا فذات الممارسات تحدث الآن، في ذات زمن كتابة الرواية. شيخ يأتي بسماعات، يخرج منها القرآن، ويبدأ في ضرب الضحية واستجوابه، ويدَّعي الصلاح والولاية، وهو أبعد الناس عن ذلك، كما كشفت الرواية عن زندقته وفسقه، وشهدنا كثيرًا من الفواجع في مجتمعنا حدثت من هؤلاء المدعين، جراء طريقتهم هذه.
وقد صورت المكان خير تصوير "أصوات العصافير تملأ الفضاء الرحب في غدوها ورواحها... الخضرة منتشرة في كل مكان حتى الطرقات... وروائح أشجار الليمون مختلطة بأبخرة جذور الأوراق اليابسة...وروث البهائم يملأ صدرك، ويسد أنفك، فهي خليط عجيب، وهو ما يميز قرية ود السائر... وصيفها حار ، وشتاؤها قارص، رغم ذلك تجده مناسبة جيدة ليجتمع الصغار والكبار على نار التدفئة حيث يحلو السمر وتحكي فيه الجدات القصص والحكايات، ويرسلن عبرها المواعظ والحكم المليحة" لقد أبدعت في وصف المكان حتى جعلتنا نشمه ونشاهده ونسمعه، أي حملتنا داخله.
رسمت الكاتبة صورة ناطقة لبعض شخصياتها الرئيسة خاصة شيخ فضل المولى الأرباب، وهذا ملمح مهم، في تصوير طبيعته الجسمانية والنفسية، ولعل مظهره الأنثوي الذي ورثه عن أمه- كما أوضحت الكاتبة- انعكس في تكوينه النفسي الغارق في حب الجنس والنساء، ينتقم لشكله، ويثأر، أو يتخذ من أفعاله التي تحاكي الفحولة سلوكًا تعويضيًا لشكله الأنثوي، هذه من الأشياء التي تلقي بها الكاتبة لمحًا أو رمزًا، ويحللها ويستنبطها المتلقي، فالكاتب لا يضع كلَّ شيءٍ أمامك جاهزًا، إنَّما عليك أن تجتهد وتستخرج مرادات للكاتب دسَّها في تجاويف عباراته وأحداثه. لكن إن جرى وصف شيخ فضل المولى الأرباب على لسان أحد شخصياتها، أو جعلتنا نستنتج بعضه من الأحداث لكان أفضل.
كان الإيقاع سريعًا مواكبا لسرعة الأحداث، مشوِّقًا، إلا ما أوقفه وصفٌ، أو بطَّأه حوار، وكان منسابًا منضبطًا، فلم تكن فيه افتعالات ظاهرة إنماحدث يتلوه حدث نتيجة له، وهكذا. فلا يشعر القارئ أنَّ الكاتبة قد أقحمت حدثًا إقحامًا، بل تتداعى الأحداث تداعيًا منطقيَّاً.
انظر لحركة الحدث في هذا المشهد وروعته لوالد سلمى: "تململ في جلسته، هم بالوقوف، تحرك في سرعة، ثم أبطأ كمن يفكر في اتخاذ قرار" تجده حدثا نابضا بقدرة تصويرية عالية، تكفيك عن المشاهدة، وسرعة تناسب معنى الحدث.
النص السردي يواجه مشكلة كبيرة في تلقيه، هي حالة الملل والرتابة التي يمكن أن تصيب المتلقي عند قراءة النص السردي، يواجه الكاتب هذه المشكلة بتوظيف بعض الحيل والتقنيات. ومن أسباب ذلك أحادية الصوت: فالمتلقي أو القارئ يسمع صوتًا واحدا وهو صوت السارد، وسبب آخر وهو غياب عنصر التشويق والإثارة والغموض، وكذلك فتحس أن هناك مناطق في النص السردي طويلة، هذه بعض الأسباب لكن هناك أسباب كثيرة يمكن أن تصرف القارئ عن متابعة النص السردي
وقد لجأت الكاتب إلى بعض تقنيات السرد لطرد الملل والرتابة وأهملت بعضهاومما استخدمته ما يعرف بالخلاصة " الخلاصة تعتمد على سرد أحداث من المفترض أنها جرت في سنوات أو أشهر أو أيام، باختزالها في أسطر أو كلمات قليلة" من دون أن نتعرض إلى التفاصيل التي قد تسبب الملل والرتابة نحو قولها " مضت تسعة أشهر من حادثة مرض سلمى) ص 60 وقولها " مضت ثلاثة أعوام"
ومن ذلك استخدمت الحوار لقطع الصوت الأحادي كحوار الشيخ مع حواره يوسف بعد سرد طويل أتى قوله: "عليَّ الطلاق ما شفت انتاية زي دي مرة. .." ويستمر الحوار طويلًا، والحوار يمثل الزمن الحالي.
كانت لغة الحوار بالعامية، وهذا هو المذهب المختار عند أكثر نقاد الرواية، ليحاكي الواقع ، وأفلحت أن جعلت اللغة تناسب شخصياتها حتى في اللهجات والإمالات الخاصة ببعض المناطق فقد حاكتها ببراعة نحو"ماك طالبني حليفة"،"أياهو الجنا الكتل أبوهو... الخرابا"، لكن في بعض الأحايين كانت لا تلتزم ذلك فتنحو للفصحى.
الرمز: ومن استخدامها للرمز الذي تودعه النص ليتحقق في المستقبل قولها "أخذ القلق والتوتر يجوسان داخل قلب أم سلمى حاجة نفيسة، فصاحت فجأة كمن لدغته عقرب بزوجها أبو سلمى، دحين الجلسة دي ما تأخرت، البنية لا حس لا خبر، يا ربي الحاصل شنو عليها، كدي قوم يا راجل أسأل الشيخ عن خبرها" فكان هذا القلق رمزًا لمآل الأشياء التي حدثت لاحقا كأنها رأت المستقبل في هذه اللحظة.
الفكرة التي تناولتها الرواية جيدة ومعاشة، قد تكون مكررة لكن العبرة في طريقة التناول، وقد أدت وظيفتها ، وكانت واضحة غير مشوشة، واستطاعت الكاتبة ايصالها للقارئ بوضوح
ملاحظات: في بعض أجزاء الرواية لم تكن الحبكة محكمة، فمثلا بعد أن قضى الشيخ وطره من سلمى أتى حواره شيخ يوسف مبشرًا بانتهاء الجلسة، وقائلًا" إنَّ ابنتهما نائمة الآن بفضل التلاوة العطرة، وعليهم عدم إيقاظها، وعليهم الانصراف والعودة غدًا، وسلمى ستظل في غرفة حريم الشيخ" فهذا الكلام غير مقتع، فلا يعقل أن تترك أم بنتها في منزل غريب ولو كان شيخًا، على الأقل ستبيت بجنبها ولن تتزحزح عنها، خاصة وأنَّ في البيت نساء أخريات يمكن أن تبيت معهنَّ، لكنها انصرفت عنها. ومن ذلك أيضا كيف لسلمى ألا تحس بعد أن ذهبت مع أمها، بعد أن قضى الشيخ منها الوطر، كيف لا تحس بأن الشيخ قد وطأها. ثم كيف لا تحسُّ أن حملًا في بطنها، قال الراوي: "مضت تسعة أشهر منذ أن جاء مرض سلمى" ودخولها لمسيد شيخ الأرباب وخروجها منه لم تحك حتى أعراض الحمل في هذه التسعة أشهر، إنها كفيلة بولادتها لا بظهور الأعراض ص (60) فللحمل حتى نهاياته بالمخاض وآلامه علامات لا تخفى على أحد، أبرزها انتفاخ البطن، لكن الكاتبة جعلت قصة آلام المخاض التي فاجأت سلمى غير معروفة لسلمى، بل لم تعرف سلمى ولا أمها أن هناك حملًا، ولا الشيخ ولا الحوار أن هذا مخاض حمل، فقد قطع الشيخ علاج إحدى البنات، ونهض وفي لحظات كانوا "أمام الوضع الغريب الذي لم يعرفوا تفسيره" كما زعمت الكاتبة، ثم أحضروا ممرضة لإسكات الألم ...هكذا... أيعقل هذا الممرضة هي فقط الذي عرف ماهيَّة هذا الألم أنَّه مخاض، وربما يخرج الجنين في أي لحظة، ، هذا غير مقنع للقراء... وقبل أن تنتهي دهشتنا تفاجئنا الكاتبة بأن هناك غرفة طبية مجهزة بشكل كامل للولادة، أمسيد هذا أم مستوصف؟، وتدخل فيها سلمى للوضوع، ثم تندهش سلمى حينما تقول لها الممرضة زينب -التي كانت قبل قليل كانت حوارية ومدلكة في خضم الرواية- حين تقول لها إنها ستنجب طفلًا، فتندهش سلمى!!! أوما أحست سلمى طوال تلك الشهور الماضية أن هناك كائنًا في بطنها، وكون أن المولود يشبه الشيخ منذ اليوم الأول لميلاده أمرٌ بعيد فالشبه يظهر لاحقًا. ومازالت حسلمى نفساء لم يبرأ جرحها تحدثنا الكاتبة بوقوع دكتور بابكر عليها،أينزو على جرح، فكرة غير مُتَقبلة.
من الملاحظات المهمة أن طارق عبد العزيز بدأ سرد قصته من ص150 حتى ص 170 دون توقف، مما خلق جوا من الرتابة، ولم تستخدم تقنيات السرد هنا لقطع أحادية الصوت والشعور بالرتابة
كَثُر وقوع الجنس في الرواية، فالجنس في الخلوة بين الشيخ ومرضاه، وجنس جماعي في ليالي الشيخ الشهرية أول كل شهر عربي، مختلطا بالخمر والحشيش والغلمان، وفي مستوصف دكتور بابكر، وفي دار المايقوما بين طارق عبد العزيو وأستاذة عفاف، ومحاولة اغتصاب الصبي، وفي مقتل الشيخ وقطع عضوه..، قد يدعو إلى التساؤل، لكنها ما كانت تصفه لتثير الشهوات به، بل تذكره ذكرًا، مما ينفي عنها تهمة الإثارة الرخيصة.
رغم قناعة الكاتبة بدجل شيخ الأرباب إلا أنها أثبتت له كرامات، مثل أنه قرأ لدكتور حاتم في يده فنجح في الامتحان بامتياز بعد أن سقط في ذلك الامتحان ثلاث مرات من قبل وغير ذلك، هي مختارة في شأنه، لكن -عندي- لتخدم هذه الرواية قضية كان على الكاتبة تجريده من أي كرامة يستدرج بها الآخرين.
نلاحظ انحيازها لقضايا المرأة فهي نصيرة بنات جنسها، وتميل ميلًا دائمًا إلى جانبهن في المواقف، وكذلك نرى اقتدارًا ظاهرًا لها حينما تتحدث عن شيء يتعلق بالمرأة وهذا طبيعي.
سيميائية الأسماء: لم تكن كل أسماء أبطالها وضعت اعتباطًا، فنجد أن اختيارها لاسم بطلتها سلمى إنما يرمز إلى سلامة قلبها، وإلى سلامة مآلها وهو ما حدث. وتسميتها عشيق سلمى صلاحًا، فكان صلاحًا لها من بعد فجيعة وانكسار.
توجد الكثير من الأخطاء النحوية والإملائية، وإن كانت اجتهدت لتجاوزها لكان أحسن، فمثل هذه الأخطاء تقلل من قيمة العمل هذا العمل الكبير، خاصة إذا كانت واضحة، والغريب أنَّ النص قد مرَّ على ثلاثة مصححين كما زعمت الكاتبة، فإن كان مر عليه مصحح واحد حاسبته على ما ترك من خطأ لكان أفضل، ولا أجد تفسيرًا لوجود أخطاء إلا أن أحدهم كان يصحح والآخر يمحو ما أثبته الأول وهكذا، وإلا كيف نبرر مرور ثلاثة مصححين على الكتاب وما تزال أخطاؤه بارزة.
أخيرًا عليَّ أن أقول إنَّ الرواية ماتعة للغاية ومحبوكة بشكل جيد، وتخدم قضية مهمة وأنها قد سجلت بها نجاحًا كبيرًا، وأنَّ ما بها من ملاحظات لا يقصِّر بها بل إظهارها ضرورة لتجنبها في قادم الروايات، وبذا تظل نبوءتي ببروز هذه الروائية تثبت رواية إثر رواية.

gasim1969@gmail.com  

مقالات مشابهة

  • ماكرون في مصر| ما الذي تقدمه هذه الزيارة؟.. محمد أبو شامة يوضح
  • البيوضي: تدخل الولايات المتحدة في ليبيا “سلبي”.. وكان أمامها فرصة لتثبت حسن نواياها
  • رحم الله صديق أحمد وكل الذين وهبونا أجمل ساعاتنا
  • فضيحة العجز العسكري.. عندما يُوثّق الفشل بأيدي مُرتكبيه
  • شاهد .. نيويورك تايمز تنشر فيديو يدحض رواية الاحتلال حول مجزرة المسعفين في رفح
  • رواية شمهروش العاشق للروائية عرفات كردويش
  • مناوى: الشكر لكل ابناء الشعب السوداني الذين يقدمون الغالي والنفيس في الفاشر
  • السفير الروماني بجورجيا يشهد العرض المسرحي كنت وكان
  • دار ابن لقمان بالمنصورة تخلد 775 عامًا على الانتصار على الحملة الصليبية وأسر لويس التاسع ملك فرنسا
  • بعد تعرفة ترامب.. معلومة سريعة عمّا هو الركود الاقتصادي الذي يخشاه الخبراء وماذا يختلف عن الكساد؟