الجزيرة:
2024-07-08@11:41:36 GMT

المسيري متأملًا شعر المقاومة الفلسطيني

تاريخ النشر: 13th, January 2024 GMT

المسيري متأملًا شعر المقاومة الفلسطيني

كما كتب المفكّر عبد الوهاب المسيري موسوعته عن الصهيونيّة، فقد وقف مطولًا – وهو أستاذ الأدب الإنجليزي -مع الشعر الفلسطيني متأملًا، ومحللًا، ومقدمًا معانيَ تثير الخيال، يجدر بنا الوقوف عندها، وذلك في كتابه: "فلسطينية كانت ولم تزل".

يبرر المسيري اختياره الشعرَ كمجال للدراسة؛ بأنه فن أدبي يشغل مكانة خاصة في تراث العرب الحضاري؛ فهو الشكل الفني الذي صاحبهم عبر تاريخهم؛ معبرًا عن انتصاراتهم وانكساراتهم، وكان العرب القدامى يظنون أن العبقرية العربية تعبر عن نفسها بشكل كامل من خلاله، وخاصة الغنائي منه؛ ولذا لم يكن من قبيل الصدفة أن يكون هذا الشعر هو لسان المقاومة الفلسطينية.

الشاعر الفارس والهُوية!

يَعتبر المسيري أنّ الغنائية في الشعر تعبّر عن الانتماء الإنساني والعربي لشعر المقاومة الفلسطيني؛ فالمبالغة في الغنائية، والإفراط فيها، من خصائص الفارس المنتصر، أو المؤمل في الانتصار الواثق منه ومن نفسه.

ولا يمكن فهم هذه الغنائية المتدفّقة؛ إلا في إطار تلك الشخصية البطولية المعطاءة؛ التي تكتسب مضمونها، لا من تأكيد الذات الضيقة، وإنما عبر التمسك بقوميّتها وتاريخها.. لذلك لا يستسلم الشاعر الفلسطيني للهزيمة؛ لأنه يتمسّك بكرامته العربية، وبانتمائه واستمراره.

ويبرهن على ذلك بقول توفيق زياد:

"حملت دمي على كفي

وما نكست أعلامي

وضعت العشب فوق قبور أسلافي"

ويضيف المسيري: لعلّ هذا الإيمان العميق بالاستمرار العربي، هو الذي يُعين الشاعرة ليلى علوش في إحدى لحظات محنتها وإحساسها بالغربة.. ففي قصيدة "درب المودة" تنظر من نافذة سيارتها في الأرض المحتلة، فترى الأرض الحبيبة السليبة، لكنها لا تستسلم للأحزان، لأنها تخترق ببصيرتِها الأقنعة والدعاية والأصوات الحديثة، لتسمع صوت التاريخ العربي؛ فتقول:

"كل شيء عربي رغم تغير اللسان

رغم كل اللافتات الخضر والزرق الهجينة

شجر الحور وبيارات أجدادي الرزينة

كلها كانت – يمين الله – تضحك لي بود عربي"

بين فلسطين والعروبة

وعروبة هذا الشعر -حسب رأيه- لا تقتصر على الموضوعات السياسية الظاهرة، وإنما هي كامنة في اللغة التي يستخدمها الشاعر، وفي الصورة التي يرسمها لنفسه، وفي إدراكه لنفسه كإنسان وشاعر.

توضح ذلك قصيدة عبد اللطيف عقل " عن وجه واحد فقط":

"وأنت هنا جدائل شعرك العربي في عيني

عيناك المبللتان بالأحزان

ساكنتان في ألمي وفي صمتي"

الشاعر المحارب الشهيد

يقول المسيري: "إن الإنسان عندما يصبح تجسيدًا لكلمته؛ أي حينما يستشهد، فموته يتجاوز الحروف والكلمات.. ويقف الشهيد شامخًا كجدار بيت في غزة؛ فالشهيد يتحول إلى الكلمة الحلم.. والقصيدة تتخطى لحظة الهزيمة الحاضرة، لتصل إلى لحظة الانتصار المقبلة، فليس هناك قضية أخرى استشهد من أجلها كل هذا العدد من الشعراء".

لاحظ المسيري أن شعر المقاومة متفائل، فالمقاومة تنطلق من إيمان بأن لحظة الهيمنة لحظة عابرة، وأن الكيان الصهيوني الاستيطاني ليس له مستقبل رغم كل انتصاراته.

وتوضح قراءته المتعمقة للشعر الفلسطيني نمطًا متكررًا في قصائد المقاومة: فالواقع الظالم يحدق بالمقاوم، لكنه يتجاوزه، فينهض ويقاتل وينتصر، وينكسر لكنه لا يستسلم أبدًا.. وهنا يسأل أسئلة هامة: كيف يتجاوز هذا الشعب واقعه وظروفه؟ وكيف تخرج من مخيمات اللاجئين كل تلك الأغاني والألوان؟ وكل هؤلاء المقاتلين والشهداء، ما الذي يجعلهم يتماسكون، وماذا يشد أزرهم؟ وماذا يجعل أطفالًا في عمر الزهور يذهبون لإلقاء الحجارة على العدو؟ وما الذي يجعل هذا الشاب يذهب إلى أمه بعد أن يكون قد توضأ ليخبرها أنه سيذهب للقتال وربما للاستشهاد، فلا تعترض ولا تمانع؛ بل تقدم أبناءها الشهيد تلو الآخر؟

والإجابات التي يقدمها تتحدى الفكر الغربي؛ حيث يرى أننا لا يمكن أن نجد لذلك تفسيرًا ماديًا، حتى لو كان جدليًا، فمثل هذه القوة لا يمكن أن تستند إلى الحسابات الرشيدة، أو إلى شواهد مادية توجد في عالم الحواس الخمس؛ فلابد أن نبحث عن شيء وراء السطح، وراء المعطى المادي.

ويقدم على ذلك من شعر محمود درويش، يقول:

"أفلست الحواس وأصبحت قيدًا

على أحلامنا

وعلى حدود القدس

أفلست الحواس، وحاسة الدم أينعت فيهم

وقادتهم إلى الوجه البعيد"

فدرويش يطلب من عالم الأشياء المادي، عالم الأمر الواقع، أن ينزاح عن أفقه؛ لأنه قيد على رؤى الإنسان وأحلامه، إنه عالم مفلس؛ وبدلًا من ذلك تظهر حاسّة الدم، وهي ليست من الحواس الخمس، فهي تتحرك في عالم ما وراء الطبيعة.. لذلك يقول:

"والحلم أصدق دائمًا

لا فرق بين الحلم والوطن المرابط خلفه

الحلم أصدق دائمًا

لا فرق بين الحلم

والجسد المخبأ في شظية

والحلم أكثر واقعية "

يقول المسيري: "ما في الغيب هو الوعد والمكتوب، أما ما هو ظاهر للحواس، فهو أكاذيب الإعلام ودبابات الجيش الإسرائيلي.. هذا ما يعرفه المظلومون والمقهورون، لكنهم يعرفون أيضًا أن الله عادل، وأنهم يرجون من الله ما لا يرجو أتباع الطاغوت.. لذلك كان شعر المقاومة الفلسطينية – رغم قناعات الشعراء المعلنة – شعرًا عميق الإيمان".

الغناء في حب فلسطين

ويلفت المسيري إلى أن حب فلسطين كان الموضوع الكامن المتواتر في الشعر الفلسطيني، وكل شاعر فلسطيني يعبر عن حبه للمدينة الفلسطينية التي نشأ فيها، ويظل وفيًا ثابتًا على حبه لها، وفي ذلك يقول فوزي الأسمر في قصيدة "الناي المتجول":

" ماذا ينتفع الإنسان لو ربح العالم كله

وخسر اللوز الأخضر من كرم أبيه؟

ماذا ينتفع الإنسان

لو شرب القهوة في باريس

وخسرها في منزل أبيه؟

ماذا ينتفع الإنسان لو جاب العالم كله

وخسر الأزهار على تل بلاده؟

لا يربح غير الصمت الميت في جوف

البشر الأحياء "

أما يوسف حمدان فالقدس في قصائده هي الحبيبة، لكنه لن يقابل تلك الحبيبة إلا بعد أن يحررها ليصبح جديرًا بحبها.

كما لاحظ أن "شعر المقاومة مليء بالإشارات لأشجار اللوز والزيتون، والبرتقال والياسمين والزعتر.. وفلسطين هي الحبيبة التي تستوعب كل حب الشعراء، وتحتكر لنفسها كلمات العشق والغرام.. وهنا يظهر الامتزاج الكامل بين الشاعر ومحبوبته، وهو امتزاج يؤدي إلى تآكل المسافة والحدود الفاصلة بينهما، وهو حب يجعل المحب جسورًا قادرًا على أن يمزج كلمات الغرام والعشق الرقيقة، بكلمات خشنة مستقاة من عالم السجون والتعذيب".

يقول عبد اللطيف عقل:

 

"أسافر عبر التخوم وأنت الحبيبة

وأزهو بتهريب عينيك

عند الحدود

وأزهو وأزهو وأفخر

وحين يهشم رأسي الجنود

وأشرب برد السجون

لأنساك، أهواك أكثر "

الصمود والجذور

وتستنتج دراسة المسيري أن شعراء فلسطين يدركون أن الصهاينة لا يعرفون الطمأنينة الداخلية التي يأتي بها الحب الحقيقي والالتصاق بالأرض. إن ما يفتقده الصهاينة هو التجذر في الأرض، والارتباط بها، وهذا ما يمتلكه الفلسطيني بوفرة، وهو أحد أسباب صموده الرائع.

ويحتفي شعر المقاومة بالصمود، فهو شكل فريد من أشكال المقاومة الفلسطينية، فرغم أنّ الشعر الثوري عادة ما يدعو إلى التغيير والحركة، فإن التصاق الشعراء المتطرف بالأرض يعبّر عن نفسه في كثير من صور الثبات.

ويفسر المسيري ذلك بأن الصمود شكل صامت من أشكال الرفض والمقاومة الإيجابية، والشاعر الفلسطيني يعرف أن ثمنًا فادحًا لا بد أن يُدفع، لكن المناضل يقوم بالبذل والعطاء في هدوء وسكينة؛ لأن إيمانه يشد أزره.

إنّ فلسطين ذلك الوطن المفقود لا يزال الحقيقة الأساسية في وجدان الشعراء.. لذلك يعبر الشعراء عن الشهادة باعتبارها الحرية الناتجة عن الإيمان، والشهيد يتحول إلى رمز للصمود، فهو في استشهاده يشبه الشاعر الحق الذي لا يلقي كلماته جزافًا، وهو ينزف من دمه ليضفي مصداقية عليها، والدماء الفلسطينية لا تتوقف عن النزيف، وبذا تصبح أنشودة الانتصار الفلسطينية أنشودة انتصار للإنسان.

يقول توفيق زياد:

"هنا على صدوركم باقون كالجدار

نجوع نعرى نتحدى

ننشد الأشعار

ونملأ الشوارع بالمظاهرات

ونملأ السجون كبرياء

ونصنع الأطفال جيلًا ثائرًا وراء جيل

كأننا عشرون مستحيل

إنا هاهنا باقون

فلتشربوا البحرَ

نحرس ظل التين والزيتون

ونزرع الأفكار كالخمير في العجين

يا جذرنا الحي تشبث

واضربي في القاع يا أصول".

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: المقاومة الفلسطینی شعر المقاومة

إقرأ أيضاً:

التغير المناخي يرفع أسعار الغذاء ويثير قلق البنوك المركزية

قبل ستين عاما عندما افتتح أجداد جوسيبي ديفيتا معصرة زيت الزيتون في بلدة كيارامونتي جولفي بصقلية كان المناخ في تلك الجزيرة الإيطالية مثاليا لإنتاجه. لكن لم تعد تلك هي الحال الآن، كما يقول ديفيتا الذي يدير مع شقيقه شركة أوليفيشو جوتشوني والتي لديها اليوم مزرعتها الخاصة بها إلى جانب المعصرة. فمع ارتفاع المتوسط السنوي لدرجات الحرارة وتراجع هطول الأمطار يصبح إنتاج الزيتون وتحويله إلى زيت أكثر صعوبة. حول منطقة البحر المتوسط دفع تدنِّي الغلة وارتفاع تكلفة المدخلات بالأسعار إلى أعلى مستوى لها خلال 20 عاما. ويتوقع ديفيتا تفاقم مشاكل الإنتاج مع ازدياد حدة آثار التغير المناخي. على مدى آلاف السنين ظل إنتاج الغذاء وأسعاره عُرضة لتقلبات الطقس. فحدث مناخي فريد كموجات الحرارة والجفاف والفيضانات والصقيع يقلل الإنتاج ويرفع الأسعار. الحروب والأمراض أيضا عوامل أخرى كما شاهد العالم ذلك مؤخرا بعد اندلاع الحرب في أوكرانيا وتفشي حمى الخنازير التي اجتاحت مزارع تربيتها في الصين.

تحوّل أنماط الطقس

لكن هنالك خيط آخر أكثر استدامة ينتظم العديد من الزيادات الحادة في أسعار الغذاء. فمن البرتقال في البرازيل وإلى الكاكاو في غرب إفريقيا ومن الزيتون في جنوب أوروبا وإلى البن في فيتنام تقود أنماط الطقس المتقلبة دائما بسبب التغير المناخي إلى ضعف الغلة وخفض الإمدادات وارتفاع الأسعار. يعتقد آدم ديفِس المؤسس المشارك لصندوق التحوط الزراعي العالمي "فاريير كابيتال" أن التغير المناخي ساهم في ارتفاع أسعار قائمة طويلة من السلع الغذائية التي يتم تداولها عند مستويات مرتفعة هذا العام. يقول "سعر القمح ارتفع بنسبة 17% وزيت النخيل بنسبة 23% والسكر بنسبة 9% ولحم الخنازير بنسبة 21%". وبالنسبة للمستهلكين "الأثر المتأخر لارتفاع أسعار هذه السلع لن يختفي". يعود ثلث الزيادات في أسعار الغذاء ببريطانيا في عام 2023 إلى التغير المناخي، وفقا لمركز الأبحاث "وحدة معلومات الطاقة والمناخ". يقول فريدريك نيومان، كبير خبراء اقتصاد آسيا ببنك اتش اس بي سي "يوجد تأثير مادي للتغير المناخي على أسعار الغذاء العالمية. من اليسير الاستخفاف بالأحداث المناخية النادرة واعتبارها حالات معزولة. لكننا شهدنا لتونا سلسلة من الأحداث المناخية غير الطبيعية واضطرابات زادت بالطبع من تأثير التغيّر المناخي". مثل هذه الأحداث المتكررة ينتج عنها "أثر دائم على قدرتنا على توفير إمدادات الغذاء" حسبما يرى نيومان. والزيادات في أسعار الغذاء التي كانت تعد في وقت ما مؤقتة تتحول إلى مصدر ضغوطات تضخمية مستمرة. عالميا، يمكن أن ترتفع المعدلات السنوية لتضخم أسعار الغذاء بما يصل إلى 3.2% خلال العقد القادم أو نحو ذلك نتيجة لارتفاع درجات الحرارة، حسب دراسة صدرت مؤخرا عن البنك المركزي الأوربي ومعهد بوتسدام لأبحاث الآثار المناخية.

ضغوطات تضخمية

هذا سيعني ارتفاعا في معدلات التضخم العام السنوي بنسبة 1.18% بحلول عام 2035، وفقا للدراسة التي استخدمت بيانات تاريخية من 121 بلدا في الفترة من 1996 إلى 2021 لوضع سيناريوهات للتضخم في المستقبل. وسيكون جنوب العالم الأكثر تضررا. السؤال هو كيف يجب على السياسة النقدية عكس ذلك؟ تستبعد بنوك مركزية عديدة أسعار الغذاء والطاقة من معدل التضخم الأساسي. وهو مقياس تراقبه هذه البنوك عن كثب بسبب تقلبها. لكن الآن بعد أن بدأ التغير المناخي في إحداث ضغوطات تضخمية مستدامة يشتد الجدل حول ما إذا صار من اللازم لواضعي معدلات التضخم إبداء المزيد من الاهتمام، ليس أقله لأن ارتفاع أسعار الغذاء يؤثر بشدة على المواطنين العاديين. يقول ديفيد بارمز، زميل السياسات بمعهد جرانثام لأبحاث التغير المناخي والبيئة التابع لمدرسة لندن للاقتصاد إن اعتبار القفزات في أسعار الغذاء ومعدلات التضخم ظاهرة مؤقتة "لم يعد حقا مقاربة مفيدة إذا تكررت صدمات الأسعار وأصبحت متواترة وتؤثر على معدل التضخم الرئيسي على نحو أكثر استدامة". ويتنبأ نيومان بأن الاختلالات الأكثر تواترا لإمدادات الغذاء "ستجبر البنوك المركزية على الاستجابة مما سيقود إلى المزيد من التقلب في أسعار الفائدة وربما إلى معدلات أعلى بمرور الوقت". وحسب تقرير نشر مؤخرا بواسطة البرنامج البيئي للأمم المتحدة فإن درجة حرارة الكوكب في سبيلها للارتفاع بحوالي 2.9 درجة مئوية فوق مستوياتها التي كانت سائدة قبل الثورة الصناعية أو ضِعف المستوى الذي اعتُمِد في محادثات المناخ بباريس في عام 2015.

ارتفاع درجات الحرارة وقلة الأمطار

وتيرة هذا الاحترار تزداد أيضا خلافا حتى لتوقعات علماء المناخ؛ فالعام الماضي كان الأشد حرارة على الإطلاق. لكن ربما سيفوقه العام الحالي مع ارتفاع درجة الحرارة إلى ما يقرب من 50 درجة مئوية في الهند. وتُعِدُّ أوروبا نفسَها لصيف حارق آخر. الزراعة من القطاعات الأكثر تأثرا بشكل مباشر. وخلال العقد القادم ربما سيكون هنالك نقص في إمدادات معظم المحاصيل الأكثر أهمية في العالم مع ارتفاع درجات الحرارة وتضرر الحصاد من أحداث تطرف الطقس الأكثر تواترا. غلة القمح على سبيل المثال تنخفض بشدة عندما تتجاوز درجات الحرارة في الربيع 27.8 مئوية. لكن دراسة حديثة وجدت أن المناطق الرئيسية لزراعة القمح في الصين والولايات المتحدة تشهد درجات حرارة تزيد كثيرا عن ذلك وعلى نحو يتكرر باطراد. موجات الحرارة التي كان من المتوقع حدوثها مرة واحدة كل مائة عام في عام 1981 قد تحدث الآن مرة كل ستة أعوام في الغرب الأوسط الأمريكي وكل 16 عاما في شمال شرق الصين، وفقا لبحث أجرته مدرسة فريدمان لعلوم وسياسات التغذية بجامعة تافتس. الأرز وفول الصويا والذرة والبطاطس من بين المحاصيل الغذائية الرئيسية التي يمكن أن تتدهور غلتها. فبالنسبة لمحاصيل عديدة ارتفاع درجات الحرارة يعني إنتاجا أقل. تقول فريدريكي كويك وهي اقتصادية قادت دراسة البنك المركزي الأوروبي "لدى هذه المحاصيل إنتاجية مستقرة جدا عند درجات حرارة تتراوح ما بين 20 - 30 درجة مئوية حسب نوع المحصول. أما إذا زادت عن ذلك فسنشهد تدهورا حادا في الإنتاجية". هذا الهبوط في الإنتاجية يقود إلى ارتفاع أسعار الغذاء. وتضيف كويك "إنها ببساطة مسألة عرض وطلب". أحداث الطقس المتطرف بما في ذلك موجات الجفاف والفيضانات والعواصف والتي تزداد وتيرتها لها أيضا تداعياتها.

فالفيضانات في باكستان في عام 2022 قضت على حقول الأرز. والتغير المناخي فاقم ظاهرة ارتفاع حرارة البحر (النينو) التي عادت في العام الماضي ونتج عنها تدني إنتاجية السكّر والبن والكاكاو.

ازدياد التكلفة

التحولات في أنماط المناخ والطقس تغيِّر أيضا المواسم الزراعية وتوجِد ضغوطا جديدة من الآفات والأمراض. ففي غانا وساحل العاج -وهما تنتجان معا ثلثي محصول العالم من الكاكاو- أوجدت الأمطار الغزيرة في العام الماضي رطوبة مثالية لتفشي مرض قرون الثمار السوداء. وهي عدوى فطريات ينتج عنها تعفن ثمار الكاكاو. ذلك، إلى جانب أمراض أخرى ورداءة الطقس، أضعفت الغلة وقلَّصت الإنتاج العالمي بأكثر من 10% مقارنة بالعام السابق. تعني التحديات التي يفرضها التغير المناخي للمزارعين ارتفاع تكاليف مدخلات الإنتاج؛ فالأرض التي كانت تنتج في السابق محاصيل وفيرة من مياه الأمطار تحتاج الآن إلى الري. وزادت الحاجة إلى المبيدات الحشرية لمكافحة الأمراض والآفات. في صقلية مع ارتفاع الحرارة إلى 40 درجة مئوية أثناء الحصاد توجب على الإخوة ديفيتا استخدام أجهزة تبريد خاصة. والطقس الحار يؤثر أيضا على إنتاجية العمل ويزيد تكلفة الإنتاج التي يتم تمريرها للمستهلكين من خلال ارتفاع الأسعار. يقول ويليام هاينز، كبير الاقتصاديين المختصين بالتغير المناخي في البنك الدولي، إن تقدير مدى ذلك التأثير يشكل تحديا. وكما هي الحال مع دراسة البنك المركزي الأوروبي، تدرس معظم الأدبيات التجريبية الارتفاع في درجات الحرارة لأن البيانات عنها متاحة ويسهل الحصول عليها. لكن هاينز يقول هنالك طرق أخرى كثيرة يؤثر بها التغير المناخي على غلة المحاصيل وأسعار الغذاء. يقول "النظام بأكمله يتغير". إنتاج المحاصيل لن يتأثر في كل المناطق. قد يكون بمقدور بعض المناطق أو البلدان زراعة المزيد من محاصيل معينة نتيجة للتغيرات في المناخ، حسبما يقول هاينز، مشيرا إلى صناعة النبيذ في إنجلترا من بين أمثلة أخرى. وقد يكون بإمكان أجزاء أخرى من العالم التكيف بالتحول إلى محاصيل أكثر تحمُّلا أو إنتاج المزيد من الأصناف الجديدة المقاومة للجفاف. بالرغم من مثل هذه الأنماط من التكيف يشرع التغير المناخي في عرقلة وليس تعزيز إمدادات العالم من الغذاء، بحسب بول ايكنز، أستاذ الموارد والسياسات البيئية بكلية لندن الجامعية. وهذا يقود إلى ازدياد الضغوط التضخمية العامة مع تسرب ارتفاع أسعار الغذاء إلى تكاليف المعيشة. لكن مدى هذه الضغوطات يتفاوت. فباحثو البنك المركزي الأوروبي على سبيل المثال وجدوا أن ارتفاع درجات الحرارة عندما تجاوز عتبة معينة أدّى إلى تدهور في الإنتاجية وزيادة في التضخم. وحسب نوع المحصول، قد يكون لارتفاع درجات الحرارة بحوالي 5 درجات من 20 درجة مئوية إلى 25 درجة مئوية أثر أقل على غلة المحصول والتضخم مقارنة بارتفاعها بمعدل درجتين من 34 درجة إلى 36 درجة مئوية على سبيل المثال. وتقول فريدريكا كويك إن "مناطق مثل أمريكا الجنوبية وإفريقيا تتعرّض سلفا وبانتظام إلى درجات حرارة قريبة من المستويات التي تصبح فيها مضرَّة بالمحاصيل". لذلك ارتفاع درجات الحرارة في هذه المناطق هو الذي له أثر أكبر على أسعار الغذاء.

الإنفاق على الغذاء

بالمقارنة تميل أوروبا المعتدلة الطقس إلى تحمّل أسوأ آثار التغير المناخي (وأثر التضخم الذي يترافق معها) خلال أشهر الصيف. وجد باحثو البنك المركزي الأوروبي أن تضخم أسعار الغذاء في أوروبا عام 2022 ارتفع بحوالي 0.6 نقطة مئوية نتيجة لصيف القارة الحار. يشكّل الغذاء أيضا حصة كبيرة من الإنفاق العائلي في البلدان النامية (يصل أحيانا إلى حوالي 50% من مؤشر أسعار المستهلك) مما يعني أن أية زيادة في الأسعار يتعاظم أثرُها على التضخم الإجمالي، بحسب فريدريك نيومان. ارتفاع أسعار الغذاء أيضا يقلل المال المتاح لشراء الأصناف الأخرى. وهذا يضر بالإنفاق الاستهلاكي بشكل عام. يقول نيومان "مؤشر أسعار المستهلك للغذاء أيضا أكثر حساسية إلى حد بعيد تجاه الاختلالات والتقلبات في أسعار المدخلات". فالقمح قد يشكّل 70% من تكلفة الخبز في بلدان الدخل المنخفض والمتوسط لكنه يمثل 10% فقط في البلدان الغنية التي ترتفع فيها تكاليف العمالة والطاقة والنقل. على نحو مماثل، البلدان الغنية المتكاملة على نحو جيد مع الأسواق العالمية أفضل قدرة على التعامل مع الحصاد الضعيف. يقول نيومان "إذا فشل حصاد القمح في ألمانيا يمكنهم هناك شراءه من السوق العالمية. لكن البلد الأكثر فقرا قد لا يكون بمقدوره الذهاب إلى جهة أخرى، كما لا يملك البنية التحتية الوافية لاستيراد كميات كبيرة من الغذاء". لكن بلدان الاقتصادات المتقدمة ليست بمنجاة، حسب جيرت بيرسمان، أستاذ الاقتصاد بجامعة جينت البلجيكية؛ فأبحاثه تشير إلى أن ما يصل إلى 30% من التقلب في معدل التضخم بمنطقة اليورو في الأجل المتوسط سببه التغيرات في أسعار الغذاء العالمية والتي تنشأ عن صدمات حصاد عالمية غير متوقعة. وعلى الرغم من أن الغذاء يمثل حصة أصغر كثيرا من النفقات العائلية في البلدان الغنية فإن معظم الناس "ينظرون إلى أسعار الغذاء لتشكيل توقعاتهم عن التضخم"، حسبما يقول بيرسمان. ويحاجج هو واقتصاديون آخرون بأن ذلك يقود إلى تضخم "فعلي" إذ يدفع الناس إلى المطالبة بأجور أعلى.

يتّفق ديفيد بارمز معه قائلا إن المستهلكين "حساسون جدا لأسعار الغذاء، لذلك إذا كان التغير المناخي يعني أن أسعار الغذاء سترتفع باستمرار سيكون لذلك تأثير أكبر على توقعاتهم عن التضخم. يقول بعض خبراء الاقتصاد إن الشركات التي لديها نفوذ كبير في أسواق الاقتصادات المتقدمة يمكنها مفاقمة التضخم في أوقات اضطراب الإمدادات؛ فالتضخم في السنوات القليلة الماضية، تقول ايزابيلا ويبر، أستاذة الاقتصاد المساعد بجامعة ماساشوستس اميرست، "أطلقته صدمات في قطاعات ضرورية (كالغذاء والطاقة) ثم أشاعته بعد ذلك القرارات التسعيرية التي اتخذتها الشركات".

دور البنوك المركزية

يجدد الأثر المتعاظم للتغير المناخي على الزراعة جدلا حول ما إذا كان يتوجب على البنوك المركزية التعامل مع صدمات أسعار الغذاء برفع أسعار الفائدة كما تفعل مع زيادات الأسعار المعممة. يقول مارك بوروي، أستاذ الاقتصاد المشارك بجامعة بواتيه في فرنسا، إن الإجماع وسط خبراء الاقتصاد ظل لفترة طويلة هو وجوب امتناع البنوك عن رفعها. والسبب في ذلك اعتبار تضخم أسعار الغذاء مؤقتا ومتقلبا. يقول "أنت لا تريد أن تكون أسعار فائدتك متقلبة". هنالك عوامل عالمية خارجية تنحو إلى تحريك تضخم أسعار الغذاء أيضا وليس للاقتصادات الصغيرة خصوصا تأثير عليها. يقول بارمز "رفع أسعار الفائدة لا يعالج صدمات جانب العرض السلبية". ويضيف أنه من الممكن في الواقع أن تكون له نتيجة عكسية لأنه يمكن أن يفاقم انخفاض الإنتاج. كما لا يزيد إمدادات الغذاء، حسبما جادل اقتصاديون ومحللون آخرون لأوضاع السوق عندما تعرّضت السياسة النقدية التقليدية للنقد بعد صدمات أسعار الغذاء في 2008 و2011. لكن يلاحظ الاقتصاديون أن محددات الجدل تغيّرت هذه المرة بسبب التغير المناخي. يقول راجورام راجان، الذي تولى منصب محافظ البنك المركزي الهندي في الفترة من 2013 إلى 2016: لقد توجب على البنوك المركزية في بلدان الاقتصادات النامية دائما أن تكون أكثر اهتماما بأسعار الغذاء. ومع ترسخ التغير المناخي وإضعافه غلة المحاصيل من المرجح أيضا أن تتجه الحكومات أكثر وأكثر إلى السياسات الحمائية والتي يمكن أن تفاقم الأثر التضخمي. في العام الماضي على سبيل المثال فرض رئيس وزراء الهند ناريندرا مودي قيودا على صادرات الأرز الأبيض المكسور وغير البسمتي مما قاد إلى ارتفاع الأسعار. كيفية التعامل مع ذلك أمر إشكالي. يقول بارمز إن هنالك حاجة إلى أدوات بديلة لضبط التضخم في مواجهة ضغوط التغير المناخي. قد تشمل هذه الأدوات التي تستخدمها السلطات المالية والصناعية وليس البنوك المركزية ضوابط على الأسعار ودعومات موجهة لأهداف محددة. يضيف بارمز أن هنالك حاجة أيضا لسياسة تنافسية وإجراءات ضد التضخم أكثر تشددا لمنع الشركات التي لديها حصة سوقية كبيرة من استغلال الوضع والتربح أثناء فترات التضخم وبالتالي تعقيد المشكلة. تعتقد ايزابيلا ويبر في ورقة حديثة أن على البلدان تكوين مخزونات احتياطية من السلع الغذائية لامتصاص أثر تقلبات الأسعار وفرض ضرائب على الأرباح الفجائية على الشركات العاملة في القطاعات الضرورية مثل الغذاء لمنع التلاعب بالأسعار. يقر فريدريك نيومان بأن رفع أسعار الفائدة في وقت يشهد أيضا ارتفاع الأسعار ينطوي على مخاطر وقد لا يكون دائما فعالا. لكنه يضيف قائلا في معظم السياقات "لا يمكنك تجاهل صدمات أسعار الغذاء تماما. وسيلزمك رفع أسعار الفائدة". يتفق معه راجورام راجان في ذلك بقوله "يجب أن تكون حريصا قليلا في التعامل مع أشياء مثل الارتفاع الحاد والمؤقت في سعر البصل". إنه صدمة قصيرة الأجل سرعان ما تزول عندما تصل المزيد من الإمدادات. لكن راجان يستدرك قائلا "لا يمكنك تجاهل أسعار الغذاء" خصوصا عندما لا تكون مرتفعة لبعض الوقت؛ فالبنوك المركزية يجب عليها رفع أسعار الفائدة "ليس للقضاء على ارتفاع الأسعار أساسا ولكن لتجنب ارتفاع كل شيء آخر معها". بالنسبة لبلدان الاقتصادات الأصغر يعتقد مارك بوروي أن ذلك على الأقل يرفع من قيمة عملاتها ويسهم في خفض أسعار الواردات. يقول "على البنوك المركزية عدم المبالغة في ردود أفعالها" لكن مع رسوخ آثار التغير المناخي سيكون تضخم أسعار الغذاء أهم للاقتصاد وللناس بحيث يلزمها أن تفعل شيئا".

مقالات مشابهة

  • حسن نصر الله: لن نتراجع لحظة واحدة عن نصرة فلسطين
  • رسائل أبو عبيدة للاحتلال الإسرائيلي بعد 9 أشهر من طوفان الأقصى
  • أبو عبيدة: الاحتلال سيخرج مهزوماً وسنكشف كيف خدعناه لسنوات
  • خسائر هائلة.. كيف استنزف المقاوم الفلسطيني في غزة جيش الاحتلال الإسرائيلي؟ 
  • تفاصيل لقاء قيادة حماس مع الديمقراطية في الدوحة
  • هنية يستقبل قيادة "الديمقراطية" ويبحثون تطورات "طوفان الأقصى" والمشهد الوطني
  • لجان المقاومة: أي محاولة لنشر قوات دولية بغزة بمثابة العدوان وسنتعامل معها كما الاحتلال
  • التغير المناخي يرفع أسعار الغذاء ويثير قلق البنوك المركزية
  • الحديدة.. مسيرات جماهيرية في 26 ساحة تضامناً مع الشعب الفلسطيني
  • البيضاء تشهد مسيرة جماهيرية تحت شعار “مع غزة.. جبهات الإسناد ثبات وجهاد”