في وداعِ القارعِ باب الله .. والعابد الاواه السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد ..
تاريخ النشر: 13th, January 2024 GMT
شَغَل منصب مستشار الرئيس للشؤون الجغرافية والتاريخية والأنسابية، وكان لدينا مسؤول مالي هو الأستاذ أحمد الأهنومي، ومسؤول إعلامي هو الزميل الرائع محمد إسماعيل النعمي، ورغم أن هذه كانت حكومة بلا شعب فإن مسؤولها الإعلامي الذي كان هو (الناطق الرسمي)، كان يُتْحِفُنا بتصريحاته المرتَجَلة والجميلة، لكنه فجأة صمَتَ صمت الحجارة الصماء ولم يشأ أن ينبِس ببنت شفة؛ ذلك حينما أفحَمَتْه جلالة مقام السيد العلامة العابد الزاهد حمود بن عباس المؤيد؛ الأمر الذي جعله يستحق وصف (الصامت الرسمي) على حدِّ قول أستاذنا القدير عبدالحفيظ الخزان حينها.
في ذلك المقام في جامع النهرين .. كنا قد جدَّدنا العهد بسيدي العالم والعابد والزاهد، الذي كان لا يفتأ لحظة واحدة عن الترحيب بزواره ومحبيه وتلامذته والمستفتين الذين يتقاطرون بشكل شبه يومي على هذا المسجد للحصول على فتوى السيد العلامة حمود بن عباس المؤيد، والتي كان كثير منها بمثابةِ حكمٍ نهائيٍّ وبات، ينتظره المختلفون ليضعوا به حدا فاصلا لاختلافٍ كان قد عصف بهم، وربما بلغت قوة فتاواه في التأثير والمقبولية الطوعية أقوى من أحكام المحكمة العليا ذاتها.
شاءت الصدفة أن يحطَّ الرَّحْل برجلٍ عراقي بصري، لم أعُد أتذكَّر اسمَه، جاء للسلام، وبذل التحية والإكرام، ويتذكر والدي العزيز حوارا لطيفا دار بينه وبين سيدي الراحل الحبيب العلامة المؤيد، حيث رحّب به الراحل ترحيب العالِم اليمني المعتزِّ بأرضه، وبصنعانيته، وذهب ليشرح له صنعاء، وكم حوت من كل فن، مستدلا بأن في صنعاء بضعا وعشرين نوعا من أجود أنواع العنب في العالَم، وسائلا عن (تمر البصرة) هل يبلغ عددُ أنواعه مبلغ العنب الصنعاني، فرد البصري سلام بصرته، وحياه بأكثر من أربعين نوعا من أنواع التمر فيها، لكن الحقيقة أن لا البصرة حافظت على (تمرها)، ولا صنعاء حافظت على (عنبها)، في الوقت الذي ظل سيدي المولى الراحل هو هو حتى لقي الله عز وجل.
يعرف معظمُ الناس سيدي المولى الراحل أنه ذاك المفتي الواعظ، الذي عند فتاواه تجثو الركب، وأنه العالم الجهبذ، والزاهد العابد، الذي ركض الدنيا، وقد جاءته مَخطومة مُذعِنة، وحلالا زُلالا، مما ورثه من آبائه؛ لكنهم لا يعرفون كم كان حبه لبلاده اليمن، وكم كان اعتزازه بـ(صنعانيته) المعبِّرة عن نبض الهُويَّة اليمنية الإيمانية، وكم كان يرى في كل منتجات بلاده جمالا ونضارة وجلالة وحضارة.
ذلك وجه وضاء واحد من وجوه سيدي المولى الراحل الجميلة، وجهٌ علق في ذهني على هامش قضية عابرة، أمسكت بخيوطها ذاكرةُ والدي الذي ما فتئ يذكِّرنا بالحادثة والحوار، وكم هي الوجوه الجميلة الأخرى، وكم هي الأبعاد الرائعة التي كان عليها، لا يعرفها إلا من قاده الحظ أو القرب العائلي أو التعليمي أو التربوي إلى جواره الكريم، وفنائه الرحب.
لستُ الوحيدَ الذي انبهر بإخلاصه واستغراق ذاته في الله وما يقرِّب إليه منذ أن رأته عيناي في إحدى فعاليات دورتنا الصيفية في عام 1992م في جامع النهرين، إلى مواعظه الكثيرة والمؤثرة التي حضرناها، وسمعناها في أعوام لاحقة، في جامع الشوكاني، حتى أثقل به كبر العمر عن الحضور، ومنعته الشيخوخة عن الخطابة والإمامة.
إن في رحيل سيدي المولى لعبرة وآية ونذيرا لنا نحن الذين ندعي أننا نسلك ذلك المسلك، ولأن الوقوف على بعض الملامح والدروس التي يمكن استفادتها من سيرته العطرة أمرا ذا أهمية في ظل وضعية خاصة بنا بعد رحيل عمالقة العلم وبقائنا نحن المتعالمين، الذين لا يجيدون التعامل مع بعضهم، فإنني قد آثرت أن أقف مليا حول هذه الشخصية الكريمة، لعلَّ في هذا الوقوف ما يساعدني أنا أولا وآخرين
ثانيا على معالجة بعض الإشكالات الحركية والأخلاقية والسلوكية والدعوية التي بالتأكيد كان سيدي المولى الراحل قد تجاوزها، ولم تكلفه الكثيرَ من العناء.
دراسته نشأ سيدي المولى الراحل في بيئة علمية تقدّس العلم، وتعظِّم الهجرة لطلبه، وترى الفضل كلَّ الفضل في التقلُّب بين ثنايا شظف العيش من أجله وفي سبيله، كان والده السيد العلامة عباس بن عبدالله المؤيد عامل الدولة على منطقة حبور وغربان، من محافظة عمران، وكان رجل دولة من الطراز الأول، حتى قيل في المثل باللهجة الدارجة: (قطع الراس ولا أمر عباس)، غير أن هذا الحاكم الحازم كان ابن زمنه الجميل، ورضيع ثقافته البناءة، فلم يشأْ لأولاده أن يرِثوا مهابة الدولة وجلالة العلم بعقولٍ فارغة من المحتوى المقبول، وأدمغةٍ خاوية على عروشها؛ لذا أرسل بهم إلى هجر العلم النائية عن الدار، والبعيدة القرار، لتعلم القرآن والعلوم الشرعية.
في 1434هـ يقلِّب سيدي المولى الراحل عن جواب لما أثارته مجلة (ثقافتنا)، من بين ركام أشجانه وشجونه عن تلك المرحلة، فإذا به يكشف من غير عمد، أن مرحلة طلبه للعلم كانت مليئة بالمصاعب، والشظف، والغربة، والمشاق، وأنه - وهو ابن عامل دولة - كان يعاني الأمرّين، من انعدامِ الكتاب، وقِلَّـة ذات اليد، فكان ذاك العصاميَّ الهُمام، الذي يَقتَطِع بعضا من أوقاته المكتظَّة بالنشاط والتحصيل، في انتساخ الكتب، ليوفِّر لنفسه أولا الكتاب الذي يقرأ فيه دروسه، ولكي يكسب ثانيا من وراء كلِّ كراسة ينتسخها 8 بقش، كان يُواجِه بها بعض أحواله، ويلبِّي شيئا من احتياجات تعلّمه.
تضم قائمة شيوخه العشرات من أعلام تلك المرحلة، كما تضم قائمة مقروآته الكثير من الكتب في مختلف المجالات العلمية والثقافية، ومن بينها كتاب حياة الحيوان الكبرى للدميري؛ وفي هذا إشارة إلى خطورة مسلكنا اليوم في هذه المرحلة، وتقاعسنا عن طلب العلم، وعن نشره، والاهتمام به، وتبين كم من المسافات الشاسعة الذهنية والتوعوية والثقافية قد طوّحت بنا عن تنكُّب هذه الجادَّة المحمودة التي توارثها هؤلاء السلف كابرا عن كابر، فصرنا (رؤساء جُهالا يُسْألون فيُفتون، فيَضلون ويُضلون) على حد عبارة أحد أحاديث المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم، إلا مَنْ عصم الله، مقارنة بما كان عليه أولئك السلف الكرام.
ولستُ بحاجة إلى سَوقِ القصص وذكر الحوادث التي حث فيها سيدي المولى الراحل طلاب العلم على الاهتمام بطلب العلم، واعتباره "أفضل وظيفة تحت أديم السماء"، فمواعظه الكثيرة تفيض بهذه الفكرة فيضانا، ولا يختلف حولها اثنان.
مواعظه وإرشاده في التسعينات من القرن الماضي وفي العِـقد الأول من القرن الجاري الواحد والعشرين طغَتْ موجاتُ الفكرِ الوهابي والثقافة السلفية المتعصِّبة على صنعاء وغيرها من مدن اليمن، بدعمٍ وتشجيعٍ وتمويلٍ من سلطة صنعاء، وأسيادها في الرياض، وانعكس هذا فرزا طائفيا ومذهبيا بشكل حادٍّ داخل المجتمع، وبات حديث المساجد هو (الضم والسربلة)، وكان سَجْنُ من يقرأ (آية الكرسي) بعد الصلاة جهرا عقوبة من عقوبات أقسام شرطة مذبح في صنعاء، وكذلك عزل مَن أذن بـ(حي على خير العمل)، وغير ذلك، وفي المقابل بدأت تظهر مراكزُ تحاول الانتصار لمذهب أهل البيت عليهم السلام والدفاع عنه في مواجهة هجمة شرسة وعنيفة وضارية، فبدأ الانشداد المذهبي ينعكِس على المساجد وعلى فرز مرتاديها.
غير أن (جامع الشوكاني) كان أندر المساجد التي يؤمها الناس على اختلاف مذاهبهم، وترى فيه المنتسبين إلى جميع المذاهب، والتيارات الدينية والاجتماعية والثقافية؛ ذلك أن بقلم خطاب ومواعظ سيدي المولى الراحل كانت جامعة للقلوب، عاصمة من العيوب، و"من القلب وإلى القلب"، استطاعت أن تكسر القيود المفتعلة من قبل السلطة وأدواتها، وأن تقدِّم نموذجا مختلفا ورائدا للعالِم المسلِم، والخطيب المخلص في عمله لله، الذي يتحرك في مسار الشد إلى الله، وتعزيز حالة الارتباط به تعالى، والثقة فيه، والنظر إليه، والإخلاص له.
لا أحد ينكر لذة تلك المواعظ، ولا أحد ينسى تقاطر الجماعات الكثيرة والكثيفة من أماكن بعيدة لسماعها في يوم الجمعة، وللتبرك بزيارة شيخنا الجليل الوقور، الذي لا تشعُر وأنت تقف بين يديه إلا أنك أمام زين العابدين، أو ولدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسن أو الحسين عليهم السلام.
وشتان بين مسجد كان يدعو مصليه إلى الإخلاص لله وذكر الله في كل أوان وحين، وإلى الأخلاق الفاضلة، والطرائق المحمودة، ومسجدٍ يلعن منبرُه مخالفيه، ويوزِّع التهم، والألقاب والشتائم على كل من لا يروق له، بل ويحرِّض على علماء يمنيين ويفتري عليهم المعائبَ والتشويه، ويعمل على تمكين النفوذ الوهابي في اليمن من ذلك الحين، ليخبِرنا الزمانُ أن ذلك العمل كان يراد منه التهيئة للقبول بهذه الحالة القائمة من العدوان الهمجي الإجرامي. وللحديث بقية في الحلقة الثانية والأخيرة..
*مقالة كتبتها عشية رحيل سيدي العارف بالله قبل سنوات
المصدر: ٢٦ سبتمبر نت
كلمات دلالية: السید العلامة
إقرأ أيضاً:
معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضان.. ومن الذي يوسوس لنا ؟
أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة:"ما معنى تصفيد الشياطين في قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»، وكيف نفسر حصول المعاصي من بعض الناس في شهر رمضان مع كون الشياطين مُصفَّدة؟".
لترد دار الإفتاء المصرية، موضحة: أن معنى عبارة "تصفيد الشياطين" الواردة في الحديث الشريف المسؤول عنه قد تفاوت العلماء في تفسيره على مداركَ متعددةٍ، وإن كانت في جملتها متكاملة متعاضدة، فقد يُرَاد به أنَّ الشياطين مغلولون ومقيدون حقيقةً في هذا الشهر، وقد يكون المراد أنهم ممنوعون من إيذاء المؤمنين وإغوائهم والتزيين لهم، ويحتمل أن المراد أن الله تعالى يحفظ فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي، أو يقصد به نوعٌ مخصوصٌ من الشياطين، وهم: مُسْتَرِقُو السَّمْع منهم، أو مَنْ صُفِّدوا هم غالب الشياطين والمَرَدةُ منهم، وأما غيرهم فغير مُصَفَّد.
وأما حصول المعاصي من بعض الناس في شهر رمضان مع كون الشياطين مُصَفَّدة: فإما أن يكون تصفيدُهم إنما هو في حقِّ الصائم المراعي لشروط الصوم وما ينبغي أن يتحلَّى به من آدابه، أو أنَّ سبب اقتراف الذنوب آتٍ من النفس وخَطراتها.
تفضيل شهر رمضان على غيره من الشهورمما امتاز به شهر رمضان المعظم عن غيره من الشهور الأخرى ما أكدته السُّنَّة النبوية المطهرة من أنه إذا دخل هذا الشهر المُعظم صُفِّدَتِ الشياطين، وقد تواردت نصوص السُّنَّة المشرفة على ذلك، وأهمها:
ما جاء عن أبي هريرة رضي الله عنه أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا جَاءَ رَمَضَانُ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ الْجَنَّةِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» رواه مسلم.
وما ثبت أيضًا عن أبي هريرة رضي الله عنه: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ، وَسُلْسِلَتِ الشَّيَاطِينُ» رواه الشيخان، واللفظ للبخاري.
وما رواه أبو هريرة رضي الله عنه أيضًا أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِذَا كَانَ أَوَّلُ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ، وَمَرَدَةُ الجِنِّ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ النَّارِ، فَلَمْ يُفْتَحْ مِنْهَا بَابٌ، وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، فَلَمْ يُغْلَقْ مِنْهَا بَابٌ، وَيُنَادِي مُنَادٍ: يَا بَاغِيَ الخَيْرِ أَقْبِلْ، وَيَا بَاغِيَ الشَّرِّ أَقْصِرْ، وَلِلَّهِ عُتَقَاءُ مِنَ النَّارِ، وَذَلكَ كُلَّ لَيْلَةٍ» رواه الترمذي، وابن ماجه في "السنن"، والحاكم في "المستدرك".
معنى تصفيد الشياطين في شهر رمضانلفظ «صُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ» الوارد في كلام سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إما أن يكون معناه التصفيد حقيقة، فتكون الشياطين في هذا الشهر مغلولةً مُصَفَّدَةً ممنوعة من التصرف وبعض الأفعال التي لا تُطِيقُهَا إلا مع الانطلاق، والأغلال تكون بالحديد، وإن الشياطين مع ذلك ليست ممتنعةً مِن التصرف جملة؛ لأن الْمُصَفَّدَ المغلول اليد إلى العنق يتصرف بالكلام والرأي وغيرهما، كما ذكر الحافظ ابن حجر العسقلاني في "فتح الباري" (1/ 144، ط. دار المعرفة)، والإمام الباجي في "المنتقى" (2/ 75، ط. مطبعة السعادة).
وإما أن يكون تصفيد الشياطين معناه: أنه مِن شدةِ بركات هذا الشهر فكأنها كالْـمُصفَّدة، وإما أن يكون المراد: أنهم ممنوعون من إيذاء المؤمنين وإغوائهم وتزيين الشهوات لهم في هذا الشهر.
قال القاضي عياض في "شرح صحيح مسلم" (4/ 5-6، ط. دار الوفاء): [«وَصُفِّدَتِ الشَّيَاطِينُ»: قيل: يحتمل الحقيقة... وكذلك تصفيد الشياطين ليمتنعوا من أذى المؤمنين وإغوائهم فيه، وقيل: يحتمل المجاز لكثرة الثواب والعفو، والاستعارة لذلك بفتح أبواب الجنة، وإغلاق أبواب النار، وقد جاء في الحديث الآخر: «وَفُتِّحَتْ أَبْوَابُ الرَّحْمَةِ» وبأن الشياطين كالمصفدة لما لم يتم إغواؤهم بعصمة الله عباده فيه... ويكون معنى "تصفيد الشياطين" هنا خصوصًا عن أشياء دون أشياء، ولبعض دون بعضٍ، أو على الغالب، وجاء في حديث آخر: «صُفِّدَتْ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ»... ومعنى "صُفِّدَتْ": أي: غُلِّلَتْ، والصَّفَد، بفتح الفاء، الغُلُّ، وقد روى في الحديث الآخر: "سُلسِلت"] اهـ.
وقال الإمام ابن عبد البر في "التمهيد" (16/ 153، ط. أوقاف المغرب): [وأما قوله: «وَصُفِّدَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ» أو «سُلْسِلَتْ فِيهِ الشَّيَاطِينُ» فمعناه عندي -والله أعلم-: أن الله يعصم فيه المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي، فلا يخلص إليهم فيه الشياطين كما كانوا يخلصون إليه منهم في سائر السَّنَة] اهـ.
ومن المعاني المحتملَة في "تصفيد الشياطين": أن يكون المراد نوعًا من الشياطين، وهم: مُسْتَرِقُو السمع منهم، والذين يقع تسلسلهم في ليالي رمضان دون أيامه؛ لأن القرآن كان ينزل فيها، وهم قد مُنِعُوا في زمن نزول القرآن مَن استراق السمع، فزيدوا في التصفيد والتسلسل مبالغة في الحفظ. يُنظر: "فتح الباري" للحافظ ابن حجر العسقلاني (4/ 114).
ويحتمل أيضًا أن يكون المراد: أن الشياطين لا يخلصون من افتتان المسلمين إلى ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغالهم بالصيام والطاعات ومما فيه قَمْعٌ للشهوات، فكأنَّ الله تعالى يَعْصم في هذ الشهر المُعَظَّم المسلمين أو أكثرهم في الأغلب من المعاصي.
قال الإمام المُنَاوي في "فيض القدير" (1/ 340، ط. المكتبة التجارية): [لفظ رواية مسلم: "صُفِّدت" (الشياطين)، شُدَّت بالأغلال؛ لئلا يوسوسوا للصائم، وآية ذلك تنزه أكثر المنهمكين في الطغيان عن الذنوب فيه وإنابتهم إليه تعالى] اهـ.
وقال العلامة الطيبي في "شرح الطيبي على مشكاة المصابيح" (5/ 1576، ط. مكتبة نزار مصطفى الباز): [والتصفيد في شهر رمضان مبالغة للحفظ، ويحتمل أن يكون المراد به أَيَّامَهُ وبعده، والمعنى: أن الشياطين لا يخلصون فيه من إفساد الناس ما يخلصون إليه في غيره؛ لاشتغال أكثر المسلمين بالصيام الذي فيه قمع الشهوات، وبقراءة القرآن وسائر العبادات، والله أعلم] اهـ.
تفسير وقوع المعاصي في رمضان مع كون الشياطين مصفدة
أما وقوع المعاصي والذنوب مِن بعض الناس في شهر رمضان مع أن الشياطين مُصَفَّدة، فهذا له تأويلات: فإما أن تصفيدهم إنما هو في حقِّ مَن صام محافظًا على شروط الصوم وما ينبغي أن يتحلَّى به الصائم من آداب، وإما أن هناك أسبابًا أخرى لاقتراف الذنوب والمعاصي، كالنفوس الخبيثة، والعادات الركيكة، والشياطين الإنسية، وإما أن يكون المراد بمن صُفِّدوا هم غالب الشياطين والمردة منهم، وأما غيرهم فقد لا يُصَفَّد، ويكون المعنى المراد حينئذٍ هو: تقليل الشرور، وذلك موجود في رمضان؛ فإن وقوع الشرور والفواحش فيه قليلٌ بالنسبة إلى غيره من الشهور الأخرى.
قال الإمام أبو العباس القرطبي في "المفهم" (3/ 136، ط. دار ابن كثير): [فإن قيل: فنرى الشرور والمعاصي تقع في رمضان كثيرًا؛ فلو كانت الشياطين مُصَفَّدة لما وقع شرٌ؟ فالجواب من أوجه:
أحدها: إنما تُغَلُّ عن الصائمين الصوم الذي حُوفظ على شروطه، ورُوعيت آدابه، أما ما لم يحافظ عليه فلا يُغَل عن فاعله الشيطان.
والثاني: أنا لو سلمنا أنها صُفِّدت عن كل صائم، لكن لا يلزم من تصفيد جميع الشياطين، ألا يقع شرٌ؛ لأن لوقوع الشر أسبابًا أُخَر غير الشياطين، وهي: النفوس الخبيثة، والعادات الرَّكيكة، والشياطين الإنسية.
والثالث: أن يكون هذا الإخبار عن غالب الشياطين، والمردة منهم، وأما من ليس من المردة فقد لا يُصَفَّد. والمقصود: تقليل الشرور. وهذا موجود في شهر رمضان؛ لأن وقوع الشرور والفواحش فيه قليل بالنسبة إلى غيره من الشهور] اهـ.
وقال الإمام المُنَاوي في "فيض القدير" (1/ 340): [وأما ما يوجد فيه من خلاف ذلك في بعض الأفراد فتأثيرات من تسويلات المردة أغرقت في عُمْق تلك النفوس الشريرة وباضت في رؤوسها، وقيل: خُصَّ من عُمومٍ.. تنبيه: عُلم مما تقرر أن تصفيد الشياطين مجازٌ عن امتناع التسويل عليهم واستعصاء النفوس عن قبول وساوسهم وحسم أطماعهم عن الإغواء؛ وذلك لأنه إذا دخل رمضان واشتغل الناس بالصوم وانكسرت فيهم القوة الحيوانية التي هي مبدأ الشهوة والغضب الداعيَيْن إلى أنواع الفسوق وفنون المعاصي وصَفَتْ أذهانهم واشتغلت قرائحهم وصارت نفوسهم كالمرائي المتقابلة المتحاكية وتنبعث من قُواهم العقلية داعية إلى الطاعات ناهية عن المعاصي فتجعلهم مُجمِعين على وظائف العبادات عاكفين عليها مُعرِضين عن صنوف المعاصي عائقين عنها، فتفتح لهم أبواب الجنان وتغلق دونهم أبواب النيران ولا يبقى للشيطان عليهم سلطان فإذا دنوا منهم للوسوسة يكاد يحرقهم نور الطاعة والإيمان] اهـ.