يعلو صوت الأغنية الشعبية الفلسطينية على أبواب الفرح في أحد فصول مدرسة، في حين تقف شابة جميلة أمام مرآة مكسورة من بعض أطرافها، وتضع طوقا من الورد على رأسها لتكمل بذلك زينتها استعدادا لحفل زفافها الذي ستقرع طبوله بعد دقائق في باحة المدرسة ذاتها.

أليس غريبا هذا المشهد؟، لماذا تتزين الشابة الفلسطينية في فصل دراسي؟، ولماذا يقام الفرح في فناء المدرسة؟.

. لا لم يعد هذا غريبا. فكل ذلك يحدث في قطاع غزة الذي يواجه حربا إسرائيلية شرسة منذ نحو 100 يوم ومئات آلاف الفلسطينيين دمرت الطائرات والدبابات الإسرائيلية منازلهم، واضطروا للنزوح إلى مدارس وخيام بات معظمها في مدينة رفح أقصى جنوبي القطاع.

على هذه الأرض ما يستحق الحياة

وحطمت العروس الفلسطينية أفنان جبريل بحكايتها كل قيد فرضته الحرب الإسرائيلية على غزة، وقررت مع عريسها إدخال لمسة من الفرح على حياة النزوح القاسية التي يعيشونها منذ 3 أشهر، وتصيب هذه اللمسة مئات النازحين معهم في مدرسة السلام بمدينة رفح.

ذلك المشهد الذي كانت تتزين فيه الشابة أفنان كان في خلفيته أصوات زغاريد أطلقتها والدتها والنساء النازحات معهم في المدرسة نفسها، وفي الخلفية الأبعد كان هناك صوت آخر اعتاد عليه الفلسطينيون في غزة، فهو يرافقهم منذ سنوات.. إنه صوت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية المعروفة محليا باسم الزنانة.

اكتملت زينة العروس أفنان، التي لم تزد شيئا على تاج الورود الحمراء والبيضاء والثوب الفلسطيني التقليدي المطرز باللون الوردي والمزركش بنقوش شعبية تعبر عن الفرح، ومنها رسوم لزهرة النرجس الشهيرة في شتاء فلسطين، وهذا كان بديلا عن الفستان الأبيض الخاص بالعروس التي منعت ظروف الحرب توفيره.

واشتعل الفصل الدراسي، الذي بات مكانا لسكن عائلة العروس الفلسطينية، بالتصفيق من شقيقات أفنان وجاراتها النازحات بالمدرسة نفسها، في الوقت الذي كانت تعلو فيه أصوات الموسيقى والأغاني الشعبية ولم تتوقف النسوة عن إطلاق زغاريد الفرح.

وتروي العروس أفنان قصتها قائلة إنها "بدأت قبل الحرب بيومين عندما خطبني مصطفى، وكنت سعيدة للغاية، وقررنا يوم السبت أن يصحبني خطيبي إلى بيت أسرته ليعرفني عليهم وأقضي يومي كله هناك".

"لكن في صباح ذلك اليوم اندلعت الحرب فجأة، ولم تتوقف إلى يومنا هذا، ونزحنا عدة مرات من حي الزيتون (جنوبي شرق مدينة غزة) حتى وصلنا قبل عدة أسابيع إلى مدرسة السلام التابعة للأونروا في مدينة رفح، وما زلنا نعيش في ظروف قاسية لا تتوفر فيها أدنى متطلبات الحياة"، تكمل العروس الفلسطينية.

أقارب وجيران أفنان احتفلوا بعرسها على صعوبة ظروف النزوح (الأناضول) حياة وسط معالم الموت

وبابتسامة حاولت الحفاظ عليها طوال وقت الزفاف القصير، تضيف العروس أفنان "اتفق أهل خطيبي مع أسرتي على أن نتمم زواجنا حتى تدور عجلة الحياة فلا شيء بالأفق يلوح حول انتهاء هذه الحرب المدمرة وبذلك قررنا إقامة حفل زفاف بسيط، رغم الصعوبات والمآسي التي نعيشها".

وبنبرة حملت كثيرا من معاني الإصرار على الفرح والبحث عن ملمح حياة وسط كل معالم الموت التي تشهدها المدينة الفلسطينية المنكوبة، تواصل الشابة الغزية حديثها "حتى الصواريخ والحرب لن تمنعنا عن فرحتنا. إن شاء الله ستكون حياتنا أفضل".

وتصف الشابة عرسها "هو فرح بسيط اجتمعت المدرسة في حفلة وغنت لي. شغلنا أغاني وفرحنا المدرسة وغيرنا نفسيتنا ونفسية النازحين هنا. كان نفسي أفرح مثل أي شابة، وأرتدي البدلة البيضاء، ولكن الظروف منعتنا من ذلك، فاشتريت هذا الثوب حتى يكون الحفل فلسطينيا بامتياز ولنعبر عن حبنا لفلسطين وفخرنا بأننا فلسطينيون".

دقائق فرح ليست طويلة بما يكفي مرت قبل أن يأتي العريس مصطفى شملخ ليصطحب عروسه من الفصل الدراسي ليحتفل بها مع عائلته وعائلتها وبقية النازحين على أنغام الأغاني والموسيقى الشعبية الفلسطينية.

العروسان سيسكنان في خيمة من القماش في منطقة قريبة من المدرسة التي لم تعد تتسع للنازحين (الأناضول) سكن مؤقت

وبعد إتمام مراسم حفل الزفاف انتقلت العروس إلى مكان سكنها المؤقت إلى حين انتهاء الحرب والعودة إلى مدينة غزة، وهو أمل ما زال يقطن قلوب أكثر من نصف مليون فلسطيني نزح من المدينة إلى مناطق جنوبي القطاع.

والمنزل الجديد للعروس الفلسطينية عبارة عن خيمة من القماش، وقطع النايلون أقامها العريس في منطقة قريبة من المدرسة التي لم تعد تتسع للنازحين.

لم يكن الشاب الفلسطيني يرغب بالحديث عن تجربته هذه، لكن والده فايز شملخ تحدث برسالة تؤكد إصرار الفلسطينيين على البحث عن الحياة والسلام والفرح، وقال "مصطفى حاله مثل بقية الشباب أسس حياة له، وقام ببناء منزل، وكان موعد زفافه في منتصف أكتوبر/تشرين الأول الماضي، ولكن اندلعت الحرب".

ويضيف شملخ "نزحنا بعد أيام قليلة من الحرب، وهدمت منازلنا ودمرت الطائرات الإسرائيلية منزل ابني الجديد، وانتهى بنا الحال نازحين في هذه الخيام، وطالت الحرب، ولا نعرف متى ستنتهي".

ويتابع شملخ "وجدنا أن الحل الأنسب أن يتم هذا الزواج، ويقيم العروسان في خيمة إلى حين أن تنتهي هذه الحرب. والد العروس رحب بالفكرة، وأتممنا الزفاف بفضل الله.. لدينا شهداء ولدى عائلة العروس شهداء والجرح واحد، ولكن هذا الكون لا بد أن يعمر ويجب أن نتعايش مع هذه الظروف المؤلمة، وإن شاء الله تنتهي الحرب، وتعود الحياة لطبيعتها".

ومنذ 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يشن الجيش الإسرائيلي حربا مدمرة على غزة خلّفت حتى السبت 23 ألفا و843 شهيدا و60 ألفا و317 مصابا معظمهم أطفال ونساء، ودمارا هائلا في البنية التحتية وكارثة إنسانية غير مسبوقة، وفقا لسلطات القطاع والأمم المتحدة.

المصدر: الجزيرة

إقرأ أيضاً:

المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا

في ظهيرة يوم شديد الصعوبة من أبريل/ نيسان عام 1975، بثت إذاعة الجيش الأميركي خبراً مفاده أن "درجة الحرارة في سايغون تبلغ 105 درجات وترتفع"، كانت تلك رسالة مشفرة تعني أن الوضع قد وصل إلى حد الانفلات التام في أعقاب هجوم واسع لقوات حكومة فيتنام الشمالية، وأنه قد بدأ الإجلاء الفوري لجميع الأميركيين المتبقين في فيتنام، بعدما كانت الولايات المتحدة قد سحبت قواتها القتالية من فيتنام وفقا للاتفاقية الموقعة في باريس عام 1973، تاركة نحو 5000 أميركي في مهام دبلوماسية واستخباراتية.

وخلال ساعات؛ وثقت الكاميرات مشهد عشرات الأميركيين والجنود الفيتناميين الجنوبيين واقفين على سطح مبنى في سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية)، أعينهم معلقة بطائرة هليكوبتر أميركية تهبط على عجل. رجال ونساء وأطفال يصطفون على درج معدني ضيق، يتدافعون بحذر وخوف نحو الطائرة التي لا تسع إلا عدداً قليلاً.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟list 2 of 2في حال وقع المحظور النووي هل ستنحاز أميركا للهند أم باكستان؟end of list

كان ذلك المشهد ذروة عملية الإجلاء السريع التي عُرفت باسم "عملية الريح المتكررة" (Operation Frequent Wind)، وأصبحت رمزًا مريرًا لنهاية أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في القرن العشرين.


لكن كيف وصلت فييتنام إلى هذه اللحظة؟ وكيف تحوّل بلد زراعي صغير على هامش خريطة آسيا إلى ساحة صراعٍ دوليّ دمويّ، وإلى اختبارٍ عسير لطموحات القوى الكبرى ومرآة لانكساراتها؟ ولفهم هذه التحولات التي باتت تمثل واحدة من أهم المعارك العسكرية في القرن العشرين؛ لا بد من العودة إلى البدايات؛ إلى الحسابات الجيوسياسية لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وماقبل ذلك في زمن الاستعمار القديم، تلك الحسابات التي تجاوزت حدود فيتنام الضيقة وجعلت منها ساحةً لصراع استمر أكثر من عقدين من الزمن.

منذ القرن التاسع عشر؛ كانت فيتنام جزءًا من المستعمرات الفرنسية (الفرنسية) المحطة الأولى: فيتنام تحت الظل الاستعماري

منذ القرن التاسع عشر؛ كانت فيتنام جزءًا من المستعمرات الفرنسية، إلى جانب لاوس وكمبوديا (كانت الدول الثلاث تعرف باسم الهند الصينية). وكانت البلاد أشبه بساحة خلفية للإمبراطورية الفرنسية، حيث نُهبت ثرواتها الطبيعية، وقُمعت حركاتها الشعبية، وزُرعت فيها بذور الانقسام الطبقي والثقافي.

إعلان

لم تكن فيتنام تحديدا مجرد مستعمرة بعيدة، بل كانت عقدة حيوية في خريطة النفوذ الفرنسي في آسيا. ميناء "هايفونغ" التجاري الأهم في فيتنام، والمزارع التي كانت تنتج الأرز والمطاط، وخطوط السكك الحديدية التي تربط الهضاب بالمرافئ، كلها كانت تُدار لخدمة باريس، وليس لخدمة هانوي.

المحطة الثانية: فرصة خاطفة للاستقلال

في منتصف القرن العشرين، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ بدأ التوازن الاستعماري القديم يتصدع. اجتاحت اليابان الهند الصينية عام 1940، تاركة الإدارة الاسمية لفرنسا الفيشية، لكنها عمليًا أضعفت القبضة الفرنسية وأفسحت المجال لنمو تيارات المقاومة المحلية. من بين هذه التيارات، برزت شخصية استثنائية ستغيّر وجه آسيا، ويحمل الفيتناميون صورته اليوم وهم يحتفلون بالذكرى الخمسين لتوحيد بلادهم: هو تشي منه.

أسّس هو تشي منه "رابطة استقلال فييتنام" أو "الفييت مينه"، وهي حركة قومية شيوعية، مزجت بين الكفاح المسلح والتحريض الشعبي. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945، وإعلان استسلام اليابان، كانت الفرصة سانحة أمام هو تشي منه، فأعلن استقلال فيتنام عن الامبراطورية اليابانية في ساحة "با دينه" بهانوي.

جنود فيتناميين خلال حرب الهند الصينية الأولى (غيتي) المحطة الثالثة: عودة الاحتلال الفرنسي

لم يعمر حلم الاستقلال طويلًا. فرنسا، التي خرجت مدمّرة من الحرب العالمية الثانية، أرادت استعادة "هيبتها" من خلال إعادة بسط نفوذها على مستعمراتها القديمة. تجاهلت إعلان الاستقلال في هانوي، ونزلت قواتها مجددًا إلى الأراضي الفيتنامية، لتبدأ بذلك حربًا دموية جديدة. وبذلك؛ وُلدت حرب الهند الصينية الأولى، والتي ستُشكّل الأساس لحرب فيتنام القادمة.

لم يكن الاستعمار هذه المرة مثل الاستعمار القديم منحصرا فقط في استغلال الموارد؛ بل برز في قلبه صراع أيديولوجي ناشئ حول رؤيتين للعالم: فرنسا التي تمثّل الغرب الرأسمالي الإمبريالي، وفيتنام التي بدأت تتجه نحو الفكر الشيوعي، مدفوعة بإرث الاحتلال، وبحلم العدالة الاجتماعية.

إعلان

كانت التربة الفيتنامية قد تشبعت بما يكفي من الغضب، وكان المشهد الإقليمي والعالمي مهيأً لانفجار طويل الأمد، لن ينتهي إلا بعد ثلاثة عقود من الدم والنار.

المحطة الرابعة: "ديان بيان فو" حيث دفنت فرنسا رايتها وورثت أمريكا عبء الإمبراطورية

في وادٍ بعيد تحيط به التلال شمالي غرب فيتنام، خسرت فرنسا آخر رهاناتها الاستعمارية الكبرى. بدأت المعركة في مارس 1954، واستمرت 57 يومًا من القصف والحصار والنار. حاصرت المقاومة الفيتنامية بقيادة  فو نغوين جياب الجنود الفرنسيين. واعتبرت المعركة لاحقا  أحد الدروس التاريخية المذهلة في فنون وتكتيكات حرب العصابات وقدرتها على التفوق على الجيوش النظامية.

وفي السابع من مايو 1954، استسلمت القوات الفرنسية في ديان بيان فو، بينما كانت قادة فرنسا يبحثون في جنيف عن مخرج مشرّف. وفي يوليو 1954، اجتمع القوى الكبرى في العالم في مؤتمر جنيف، حيث تقرر تقسيم فييتنام مؤقتًا على طول خط العرض 17، الشمال بقيادة هو تشي منه الشيوعي، عاصمته هانوي. والجنوب بقيادة نظام مدعوم من الغرب، برئاسة إمبراطور صوري ثم رئيس فعلي هو نغو دينه ديم. لكن الاتفاق نص أيضًا على إجراء انتخابات وطنية موحدة عام 1956، لكنها لم تحدث، لأن الولايات المتحدة خشيت من فوز الشيوعيين.

من هنا، بدأت واشنطن تتدخل في فييتنام. لم يكن هناك إنزال عسكري بعد، وكانت الولايات المتحدة آنذاك تخشى من ما يسمى "تأثير الدومينو": إذا سقطت فييتنام في يد الشيوعية، ستتبعها لاوس وكمبوديا وتايلاند، وربما تصل العدوى إلى أستراليا! وهكذا، تحوّلت فييتنام من ساحة استعمار قديم إلى مسرح للصراع الأيديولوجي العالمي الذي تصاعد بعد الحرب الباردة.

كانت الولايات المتحدة آنذاك تخشى من ما يسمى "تأثير الدومينو"، فإذا سقطت فييتنام في يد الشيوعية، ستتبعها لاوس وكمبوديا وتايلاند، وربما تصل العدوى إلى أستراليا (غيتي) المحطة الخامسة: تقسيم البلاد وصعود ديان دينه ديم

انتهى الوجود الفرنسي رسميًا في جنوب فييتنام في أبريل 1956، وبقيت البلاد منقسمة بحكم الواقع بين حكومة “جمهورية فييتنام” في الجنوب، وحكومة “جمهورية فييتنام الديمقراطية” بقيادة هو تشي منه في الشمال.

إعلان

دشن ديان دينه ديم (حليف أمريكي) سياسة أيديولوجية قومية وعنيفة ضد المعارضين داخليًا، معطياً امتيازات واسعة للكاثوليك وهو ما أشعل اضطرابات اجتماعية وانتفاضات بوذية ضد حكمه. عام 1960 تأسست «جبهة التحرير الوطني» المعروفة بـ"الفيت كونغ" لإعادة توحيد كل قوى المعارضة في الجنوب تحت قيادة الشمال​. اعتمدت الفيت كونغ على تكتيكات حرب العصابات وبنية تحتية سرية في الدول المجاورة من الهند الصينية لتأمين الإمداد اللوجيستي.

المحطة السادسة: خليج تونكين؛ الذريعة التي فتحت أبواب الجحيم

في أغسطس من عام 1964، زعمت البحرية الأمريكية أن مدمّرتها يو إس إس مادوكس تعرّضت لهجوم من زوارق طوربيد فيتنامية شمالية في خليج تونكين. لم تكن التفاصيل واضحة، والصور غير حاسمة، لكن الرئيس ليندون جونسون لم يحتج لأكثر من هذه الشرارة لطلب تفويض مطلق من الكونغرس لاستخدام القوة في فييتنام. وهكذا، صدر قرار خليج تونكين، الذي منح البيت الأبيض يدًا طليقة لشن الحرب دون إعلان رسمي.

كانت الحادثة التي لا يزال الجدل قائمًا حول صحتها الكاملة نقطة تحوّل فاصلة، إذ انتقلت أمريكا من دور المستشار والراعي في الظل إلى قوة محتلة، تمطر الأدغال الفيتنامية بعشرات الآلاف من الجنود والقنابل.

وبحلول عام 1965، بدأ التصعيد العسكري الكبير: إرسال أولى وحدات القتال، ثم القصف الجوي المكثف على شمال فييتنام في حملة سُمّيت "رعد متواصل" (Operation Rolling Thunder).

مع تصاعد عدد القتلى، وغياب أفق النصر، بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب تدريجيًا على الحرب (أسوشيتد برس) المحطة السابعة: أميركا ضد نفسها

مع تصاعد عدد القتلى، وغياب أفق النصر، بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب تدريجيًا على الحرب. اللحظة المفصلية جاءت عام 1968، بعد هجوم مفاجئ شنّه الفيتكونغ في رأس السنة القمرية (هجوم تيت) على عشرات المدن في الجنوب، بما فيها سايغون نفسها. ورغم أن الهجوم ألحق خسائر هائلة بالمقاومين الفيتناميين وربما يعتبر خسارة عسكرية، إلا أنه زلزل ثقة الأمريكيين بقدرتهم علي تحقيق النصر. فقد بدا لهم كأن العدو "المنهك" لا يزال قادرًا على الضرب بقوة في عمق المناطق الآمنة، سيظل كذلك.
المحطة الثامنة: "فتنمة الحرب".

إعلان

حين تولّى ريتشارد نيكسون الرئاسة في الولايات المتحدة عام 1969، كانت فييتنام قد أصبحت كابوسًا سياسيًا وعسكريًا. أدرك نيكسون أن النصر الكامل مستحيل، لكنه لم يشأ الانسحاب فجأة. فطرح استراتيجية سمّاها: "فتنمة الحرب" (Vietnamization)، أي تحويل عبء القتال إلى الجيش الفيتنامي الجنوبي، بينما تبدأ القوات الأمريكية بالانسحاب التدريجي.

المرحلة التاسعة: رحيل آخر الجنود المقاتلين

لم تكن "فتنمة الحرب" أكثر من محاولة لتأجيل الهزيمة، لا تجنّبها. فالجيش الجنوبي كان ضعيف التدريب، ويفتقر للحافز القتالي، في حين كان الشمال يزداد صلابة. في الوقت نفسه، وسّع نيكسون الحرب عبر قصف كمبوديا ولاوس بحجة ضرب خطوط الإمداد الفيتنامية (طريق هو تشي منه)، ما أدى إلى توسيع رقعة الصراع، وخلق المزيد من الفوضى في المنطقة، وأشعل المعارضة داخل الولايات المتحدة.

لم يستجب الفيتناميون لرغبة الأمريكان في التفاوض مباشرة، واستمروا في إلحاق الخسائر بهم، حتى عام 1973 حين وقّعت أميركا اتفاقية باريس للسلام مع حكومة فيتنام الشمالية، معلنة انسحابها الرسمي من الحرب، بعد أن خسرت أكثر من 58 ألف جندي، وأبقت على نحو 5000 آلاف جندي فقط في مهام غير قتالية.

 

المحطة العاشرة: سقوط سايجون

في ربيع عام 1975، بدأ الجيش الشمالي الزحف النهائي نحو العاصمة الجنوبية سايغون. كانت القوات الفيتنامية الشمالية مدعومة بخبرة طويلة، وعقيدة قتالية متماسكة، بينما كان الجنوب، رغم الأسلحة الأمريكية المتروكة، منهارًا معنويًا. سقطت المدن الواحدة تلو الأخرى، بلا مقاومة تُذكر. أما واشنطن، فقد اكتفت بالمراقبة، بعد أن قطعت المساعدات العسكرية.

في 30 أبريل 1975، دخلت دبابات الشمال سايغون. لم تكن هناك معركة حقيقية. رفع الجنود علمهم الأحمر بنجمة صفراء فوق القصر الرئاسي، وانتهت الجمهورية الفيتنامية الجنوبية إلى الأبد. لم يُعلن عن هزيمة أمريكية رسميًا، لكنها بقيت محفورة ومستقرة في التاريخ العسكري والاستراتيجي: أن الفيتناميين هزموا الولايات المتحدة.

إعلان

 

مقالات مشابهة

  • أمريكا.. السجن 53 عاما لرجل قتل طفلا من أصل فلسطيني وأصاب والدته
  • التغير المناخي يشكل الخطر الأكبر لانقراض الحياة على الأرض
  • حملة "دوووس"..لعبة الحياة التي تُعيد القيم المفقودة للشباب المصري من طلاب إعلام عين شمس
  • حصاد الموت المتصاعد.. أكثر من 62 ألف فلسطيني ضحايا الحرب وإسرائيل تهدد
  • هل معادن أوكرانيا النادرة التي أشعلت الحرب ستوقفها؟
  • الصحة الفلسطينية: 52.418 شهيدًا حصيلة ضحايا القصف الإسرائيلي على القطاع
  • بورقية: هدفنا إيصال الحقائق حول المدرسة والجامعة بالموضوعية التي لا تزعج ولكنها لا تجامل
  • المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا
  • رسالة من قلب الخرطوم… حكاية الصامدين في زمن الحرب
  • 50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم