نرقى السَّلالم لنرى أبعد ونلامس زرقة السَّماء
تاريخ النشر: 13th, January 2024 GMT
محمد بن سليمان الحضرمي
ما من أحد إلا وصعد سلَّم منزله المفضي إلى السطح، ليرى صورة أخرى غير التي اعتاد أن يراها في الأسفل؛ فالصورة في سطح المنزل غير التي بين جدران الحجرات والأسوار، هناك في السطح الصورة تختلف، الرؤية تصبح أبعد، والنظر يحلّق بين ضواحي القرية وشوارع المدينة، بيوت الجيران الجميلة، والأنحاء البعيدة المتوارية، هناك التفاصيل تظهر أفضل وأجمل، ونرى السَّماء قريبة، نرقى السلَّم العالي، لنرى أبعد، حياة أخرى لا نراها ونحن في الأرض، نشعر وكأننا طيور محلقة، أسْرَاب الطيور تصبح في متناول اليد، والسَّحاب البعيد وكأنه يلامس رؤوسنا، والسَّماء الزرقاء تلوِّن الأفق أشبه بلوحة تشكيلية، تحتشد فيها الأبعاد، هناك في السَّطح نرى سطوح الجيران، ونرى الناس من الأعلى أشبه بالدُّمَى المُتحرِّكة، والأشجار الكبيرة تصبح شتلات أصغر.
كبرنا والأيام تزحف بنا إلى سنوات أبعد، وكأنها تحاول أن تأخذنا من حَبْونا، ثم مَشْينا، وجَرْينا بعد ذلك، لنصل إلى سن الشباب، لقد هربنا من سن الطفولة، لو بقينا أطفالا؟ يا له من عمر غض جميل، لو بقينا في سن اليفاعة كالملائكة، كنت أصعد «دُرْجة» البيت، وحين أصل إلى أعلى «رُفصَة»، القريبة من السطح المكشوف، ألبُثُ في مكاني، كطائر يهاب مغادرة عشه، أرفع رأسي قليلا باتجاه السطح المكسو ببياض النهار، وأرى مشاهد لا أراها في الأرض، أرى بيوتًا بعيدة، وقمم النخيل، والطيور المحلقة بين البيوت، أراها تتعانق مع بعض، وتتلاقى بأجنحتها وكأنها تقدم عرْضًا في ميدان مفتوح، ينتهي بتناثر الرِّيش على السطوح، وتتناهى إلى سمعي أصوات تأتي من بعيد، طفل يبكي، امرأة تنادي وليدها، صوت ريح تلامس السطح، وتحرك الأشجار، وتهز جذوع النخيل، فتميس بجذوعها المتأوِّدَة، ثم أخفض رأسي قليلا، وأعود سريعًا إلى الأسفل، لمجرد أن أسمع صوتا في البيت، وقد تلمحني أمي فتسألني كعادتها: من هين جاي؟
كبرت قليلا وأصبح صعود دُرْجَة البيت أشبه بالانعتاق من أسر المكان، ومحاولة الطيران إلى البعيد، أطير بعيوني إلى أقصى حدود النظر، وأحلّق بحِسِّي إلى أقصى أسوار التفكير، أطير بمشاعري، فينفحني عطر الشوق إلى المجهول الغامض، وأشم الهواء الذي يهز الأغصان، لربما رائحة ذكرى تلامس شغاف القلب، سلالم المنازل ليست عالية، لا تزيد عن عشرين «رُفصَة»، هناك سلالم أخرى أكثر من عشرين «رُفصَة»، وأقسى من عشرين رَفسَة، وأصعب من عشرين هرْوَلة، وكأن الحياة التي نعيشها ما هي إلا سلالم نصعدها لنهرب بآلامنا، ونهبط منها حين ننكسر، وكلما تقدم بنا العمر، نحلم أكثر ونأمل أكثر، ونألم أكثر وأكثر، وكأنَّ الحياة ليست إلا «هرولة بين الحزن والأمل»، كما عبّر عن ذلك الغيداق شبُّر الموسوي رحمه الله، في كتاب له يحمل هذا العنوان الشعري الجميل.
وفي حياتنا أكثر من سلّم، وأكثر من درجة، ونحب أن نرقى السلالم، ونعدها، كالمرأة الغامضة في رواية «التي تعدُّ السَّلالم» للمبدعة: هدى حمد، وفي حياتنا أكثر من مكان نعيش فيه، تجمعنا الجدران، وتضمنا الحُجُرات، ثم نهرب إلى السلم، نحاول أن نهرب بأحلامنا إلى البعيد، لنرى أبعد وأجمل، ونشعر بالحياة في حراكها وحيويتها، نحس أن سقفنا السَّماء، وأنه لا حدود للحلم، ولا نهاية للحرية، بساط مفروش تتباعد أطرافه، بساط بحجم البسيطة، بحجم الأرض التي تقلنا، والسماء التي تظلنا، نلاحق أحلامنا كما نلاحق الطيور من شجرة إلى أخرى، هل جربتم ملاحقة الطيور؟
أتذكر صورة عالقة في ذهني، صورة أخي وهو يحبو إلى درجة المنزل، باتجاه السطح الذي كنا نراه حينها بعيدًا وصَعبًا، وفي كل مرة تعيده أمي إلى الأرض، حتى لا يقع، لكنه كان مصرًّا على الحَبْو باتجاه الأعلى، ولم تمض إلا سنوات قليلة، حتى ارتقى إلى عالم الآخرة، هل كان يهرب من الحياة؟ أم كان يبحث عن جنّته؟ تلك الصورة وهو يحبو بقيت محفورة في ذهني، كنقش في لوح حجري لا ينمحي.
وفي إحدى مرات صعودي لدُرْجة بيتنا القديم، بيت من الطين داخل الحارة، وكان أسفل الدرجة قوس أشبه بالمِحراب، نسميه «عَقَدْ»، حَوَّله والدي إلى مطبخ صَغير، كنت كلما صعدت أسمع همهمة تقترب مني أكثر، حتى رأيت جارنا يكلم طفلته، ويتودَّد لها أن تفتح الباب الخشبي المنغلق عليها من الداخل، كانت قد دخلت غرفة علوية بالبيت، لكن تودده لها لم يُجدِ نفعًا، فاضطر والدها إلى إحداث فتحة صغيرة في الجدار، يتمكن منها إخراج طفلته، وصرت كلما نظرت إلى تلك الغرفة، في ذلك البيت الذي أصبح مهجورًا، أتذكر تلك الصورة المحفورة في وجداني، أبٌ يحاول إخراج طفلته من محبسها العلوي، وطفلة تجهش بالبكاء.
سلم آخر في بيت آخر عشنا فيه، أتذكر أني كنت أصعد إليه، وعبثا كأني أبحث عن شيء، كانت تلك الدرجة تفضي إلى غرف علوية، وحين تركنا البيت، عدت إليه بعد سنوات، ووجدت الدُّرْجة قد تصَدَّعت، والغرف العلوية تساقطت أسقفها، وأصبح البيت المهجور خَرِبًا، وبقيت جدرانه تحتفظ بذكريات من تلك الأيام.
هناك سُلَّم آخر صعدت إليه كثيرًا، وهو سلَّم سكن القسم الداخلي، لمدرسة أبي عبيدة بنزوى، عشت فيه ثلاث سنوات، خلال دراستي المرحلة الثانوية، بين أعوام: 1983 - 1986م، وكانت من أجمل أيام العمر، كل عام ننتقل من دور إلى آخر، بدءًا بالدور الأرضي ثم الثاني فالثالث، وكنت أغبط من يعيش في الدور الأعلى، حتى جاء العام المقبل، فانتقلت مع زملائي إلى الدور الأوسط، وفي السنة الأخيرة عشنا في الدور الأخير، طلاب من مدارس شتى، وأنحاء متباعدة، كان ذلك القسم بيتنا الكبير، ولذلك عشنا بين حجرات أدواره وغرفه، وصعدنا سلالمه كثيرًا، كنا نهرول وكأننا نطير، فلا نشعر بضجر ولا تعب، وهناك سلّم آخر يؤدي إلى السطح، صعدته مرة، لأرى نزوى بأنحائها المترامية، الجبال أشبه بسور طويل، وضواحي المدينة بساط أخضر، وكأني أرقب المدينة من أعلى جبل.
وحين صعدت لأول مرة سلّم الطائرة، وشعرت بها تطير في الأفق، كنسر يحلق بجناحين، أحسست أن للسلالم معنى آخر، يشبه بوح المكظوم، ها أنا في الطائرة، وسلمها الصَّغير عرَّج بي على أحشائها، وها هي تحلّق في الأفق، وبأحلامي حلّقت إلى مدى أبعد لا تصل إليه الطائرة، وما أشبه السلالم ببعضها، درجات تعلو وتحبط في نسق واحد، نصعدها مشيًا وهرولة، نصعدها ونحن لاهون بشيء ما، دون النظر في مواطئ أقدامنا، وهناك سلّم في مساجدنا القديمة، الصعود إليه لا يتم إلا تسلقًا باليدين، أخشاب تربط بين جدارين، بينهما 90 درجة قائمة، سلّم يفضي إلى السَّماء، مغطى بقبة مفتوحة تسمى «بُوْمَة»، وكأنها مهبط للوَحْي، ورأيت في بعض المساجد أصْلافًا حجرية على الجدار وكأنها أرفف، وفي كل مكان تتعدد السلالم، وتختلف هندستها، وبتقادم الأيام تحمل ذكرى الأقدام.
هناك سلالم رمزية، نخبئها في داخلنا وعقولنا وقلوبنا، سلّم للوصول إلى وظيفة أو منصب أو هدف ما، يحلم البعض منا أن يحققه، فيبحث عن أسرع وأسهل سلّم يوصله بأمان إلى مبتغاه، وقد يصل سريعًا، أو يظل يكافح سنوات طويلة، للبحث عن غايته المفقودة، وهناك مراقٍ أخرى لفهم الحياة، نقرأ الكتب فنَرْقى، كل صفحة كتاب درجة في سلَّم المعرفة، وكل كتابة سلّم حقيقي، نرقاه لنرى الأبعد والأجمل.
أترككم تحلّقون بخيالكم إلى مدى أبعد، ونرتقي معًا سلالم الأحلام، ما تبقى لنا من عمر، وتمضي بنا الحياة بين ضجيج وهدوء، وقوة وضعف، وترقى بنا الأيام سلالم العمر، من يوم إلى يوم، وعام بعده عام.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
" البيت قبل الأخير"
كان الشارع الذي أسكنه هادئًا، كأنه جزء من عالم منسي. البيوت القديمة المتراصة على جانبيه كانت تحمل قصصًا لا يعرفها أحد، لكن بيتًا واحدًا في نهاية الشارع كان دائمًا يلفت انتباهي. بيت قديم، بابه الخشبي المتآكل ونوافذه المغلقة بإحكام، كأنه يحرس سرًا لا يريد أن يبوح به. كان الرجل العجوز الذي يسكنه لغزًا بحد ذاته. كل صباح، وأنا أتجه إلى صخب الحياة، كنت أراه واقفًا أمام الباب، يحدق في الفراغ بعينين تبدوان وكأنهما تعرفان كل شيء عن هذا العالم.
كان وجهه يحمل سكينة غريبة، كأنه يرسم خيوطا متهالكة بين جفنيه من صخر قديم. لم يكن يتحدث كثيرًا، لكن تحيته الصامتة كل صباح كانت كافية لتجعل يومي يبدأ بسلام غامض. كان صوته، عندما يهمس بتحية خفيفة، كنسيم ربيعي يلامس روحي. لم أكن أعرف عنه شئ حتي القليل: اسمه، عمره، أو حتى ما إذا كان لديه عائلة. كل ما كنت أعرفه أنه يعيش في ذلك البيت القديم، وكأنه حارس لسرٍّ ما.
لكن في أحد الأيام، اختفى. لم أعد أراه واقفًا أمام الباب، ولم أعد أسمع تحيته الصباحية. الشارع بدا أكثر صمتًا من المعتاد، وكأنه فقد جزءًا من روحه. شعرت بفراغ غريب، كأن شيئًا ما يناديني نحو ذلك البيت القديم. قررت أن أطرق بابه، ربما كان مريضًا، أو ربما كان يحتاج إلى مساعدة.
طرقات خفيفة على الباب الخشبي لم تجد أي رد. صمتٌ مطبقٌ كان كل ما في الانتظار. تسللت إلى قلبي قشعريرة، تساءلت: هل غادر بلا وداع؟ أم أن هناك شيئًا آخر يختبئ خلف هذا الباب؟ صعدت إلى الشقة العلوية، حيث سمعت صوتًا خافتًا يتردد من الداخل. طرقت الباب مرة أخرى، وهذه المرة فتحت لي عينان عتيقتان، تتوهجان في الظلام كجمرات منسية. ابتسم لي ابتسامة هادئة، وقال بصوته الأجش: "كنت أعلم أنك ستأتي."
دخلت إلى شقته، التي كانت أشبه بمتحفٍ للذكريات. على الجدران، صور عائلية قديمة معلقة، نظرات أصحابها تلتقي بي من خلف الزجاج، كأنهم يشاهدون حياتي من عالم آخر. في وسط الغرفة، طاولة صغيرة عليها فنجان شاي متبخر، وعروسة قديمة مكسورة الذراع، كأنها ترمز لطفولة ضائعة أو حلم لم يكتمل.
جلست أمامه، وأنا أحاول أن أفهم سر هذا الرجل الغامض. كان صامتًا، يرتشف الشاي ببطء، وكأنه يستحضر ذكريات بعيدة. لم أجرؤ على طرح الأسئلة التي كانت تدور في رأسي، لكنه بدا وكأنه يعرف ما أفكر فيه. فجأة، أشعل سيجارة، وبدأ يتحدث، وكأن الدخان المتصاعد كان جسرًا بين الحاضر والماضي.
"كان الولد حياتي،" قال بصوت خافت، وكأنه يخاطب نفسه أكثر مني. "كان الجنة التي وجدتها على الأرض. كلما رأيته، كنت أشعر أن كل همومي تتبخر. كنت أراه يلعب، وأحسد ألعابه على فرحتها بوجوده. عندما ذهب إلى المدرسة، كنت أنتظره كل يوم أمام الباب، وكأن رؤيته تعيد إليّ شيئًا كنت قد فقدته."
توقف للحظة، وكأنه يستجمع قواه. رأيت دمعة تلمع في عينيه، لكنها لم تسقط، كأنها ترفض أن تتركه. ثم استمر: "كبرت معه، وكبر هو معي. شاركته أحلامه، وشاركني أحزاني. لكن الأقدار... الأقدار كانت لها رأي آخر. تركني وحيدًا، ولم يعرف كم سأعاني بعده."
كانت نبراته مترامية الأطراف بائسة حزينة مجهدة كالذي هوته الريح إلي مكان سحيق شعرت حينها أن الوقت يمضي مسرعاً، وكأن الغرفة تهاوت والهواء أصبح خانقاً، هرولت للمغادرة لكن اوقفتني يديه الدافئة ودموعه الحانية وقال بصوت خافت شكراً "بني".
ابتسمت له، لكن الحزن كان يغمرني. غادرت الشقة وأنا أحمل معي سؤالًا لم أجد له إجابة: من كان هذا الرجل؟ وما السر الذي كان يحمله في قلبه؟ ولماذا شعرت أن لقاءنا لم يكن صدفة، بل جزءًا من قصة أكبر، لم تكتمل بعد؟.
عندما غادرت الشقة، التفتُّ لآخر مرة نحو الباب الخشبي القديم. كان الظلام قد بدأ يلف الشارع، والهواء يحمل رائحة غريبة، كأنها مزيج من التراب القديم وحزنٍ طويل. مشيت بخطوات بطيئة، وأنا أحاول أن أفهم ما حدث. لكن شيئًا ما جعلني أتوقف. صوت خفيض، كأنه همس، جاء من خلفي. التفتُّ بسرعة، لكن لم يكن هناك أحد. فقط ظل طويل يمتد من الباب، وكأنه يتبعني.
عدت إلى بيتي، لكن النوم هرب من عيني. في منتصف الليل، سمعت طرقة خفيفة على الباب. نهضت بقلق، وفتحت الباب، لكن لم يكن هناك أحد. فقط نسيم بارد لمس وجهي، وكأنه يحمل رسالة. على عتبة الباب، وجدت شيئًا صغيرًا: العروسة القديمة المكسورة الذراع التي كانت على طاولته.
في الصباح التالي، ذهبت إليه مرة أخرى. لكن الباب كان مغلقًا، ولم أسمع أي صوت من الداخل. سألت الجيران عنه، فدهشوا لسؤالي. قالوا: "لا أحد يعيش في تلك الشقة منذ سنوات. كانت لرجل عجوز، لكنه مات منذ زمن بعيد."
نظرت إلى العروسة في يدي، وشعرت بقشعريرة تخترق جسدي. من كان ذلك الرجل؟ ولماذا أعطاني هذه العروسة؟ وأين اختفى الآن؟ الأسئلة تدور في رأسي، لكن الإجابات تبدو بعيدة، كأنها محبوسة في مكان ما بين الحلم والواقع.
منذ ذلك اليوم لم أعد أراه. البيت القديم مغلقًا، وكأنه يحتفظ بسرّه إلى الأبد. لكن العروسة المكسورة بقيت معي، تذكرني دائمًا بأن بعض الأسرار لا تُكشف أبدًا. ربما كان الرجل العجوز مجرد شبح من الماضي، أو ربما كان جزءًا من حكاية أكبر، لم أكن سوى شخصية عابرة فيها. لكن شيئًا واحدًا مؤكدًا: ذلك البيت قبل الأخير في الشارع سيظل دائمًا لغزًا، ينتظر من يكتشفه..