ذات يوم من عام 2012، شاهد المخرج المسرحي الفرنسي هيرفي لويشيمول صورة مكتوبًا عليها «مترو غزة» فابتسم معتقدًا أنها مجرد نكتة، لكنه بعد سنوات اكتشف أن هذه الصورة مستلّة من معرض لفنان تشكيليّ فلسطيني من سكان غزة اسمه محمد أبو سلّ قدم خلاله عملًا تركيبيًّا متعدد الوسائط، وكان قد صمّمه بعد بحث طويل بهدف طرح إمكانية إنشاء شبكة قطارات تحت الأرض تصل الضفة الغربية بقطاع غزة من جهة، وتصل مدن غزة ببعضها البعض من جهة أخرى.
بلغت مدة العرض المسرحي ساعة وبضع دقائق، والتقط فيه المخرج الفرنسي أهم ثيمة في عمل الفنان الفلسطيني وهي الحُلم؛ الحلم بحياة أفضل، أو لنقل بتعبير أكثر دقة الحلم بحياة أقل تنغيصًا ومكابدات من تلك التي يعيشها الغزيّون منذ عام 2007 حين فُرِض عليهم الحصار الجائر. «الحلم أداة سياسية لتذكير العالم بطريقة مختلفة، فالحلم نوع من محاولات التغيير»، هكذا قال لويشيمول في أحد تصريحاته الصحفية، ولذا فقد اعتمد في مسرحيته التي شاركته كتابتها خولة إبراهيم على ثلاث شخصيات حالمة؛ رجل المترو (أدى دوره الفنان أحمد طوباسي) الذي يحلم بتقصير المسافات بين مدن غزة ومستشفياتها عن طريق مترو يربط بينها من تحت الأرض، والفتاة القادمة من مدينة حيفا (أدت دورها الفنانة شادن سليم) بحثًا عن صديقها الغزّيّ المجهول الذي لا تعرف منه إلا اسمه الأول «جميل» (ولا تخفى هنا رمزية الاسم)، والفتاة الأخرى (أدت دورها الفنانة ياسمين شلالدة) التي وجدت هاتفا جميلا ملقى في أنقاض مجزرة من المجازر الكثيرة التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، والتي نعرف من سردها أيضًا أنها فقدت أفرادًا من عائلتها في المجازر اليومية.
وإذن؛ فالعرض أساسه هذه الشخصيات الثلاث، ويمكن أن نضيف إليها شخصية جميل الصامت الذي لا يظهر إلا بظهره وهو على كرسيّه المتحرك. ونتعرف على حكايات هذه الشخصيات بطريقة مسرح بيكيت؛ الكاتب الإيرلندي الشهير، الذي يقوم مسرحه على شخصيات قليلة بلا صراع درامي واضح، ولا حبكة بمعناها التقليدي، وبتقشف في السينوغرافيا. هذا التقشف رأيناه أيضًا في سينوغرافيا «مترو غزة»، إذ لم تزد عن مقاعد شبيهة بمقاعد انتظار المترو، وخلفية بيضاء تبدو حينًا كجدار، وحينًا آخر ينفتح فيها باب يدخل منه الممثلون، وحينًا ثالثًا تتحوّل إلى شاشة عرض تظهر عليها مقاطع فيديو تتضمن مشاهد حقيقية مما تعانيه غزة من اعتداءات وقصف وتدمير بمؤثرات صوتية لقنابل تنفجر، أو صواريخ تدك أراضي القطاع.
وعلى ذكر بيكيت فقد ورد اسمه في واحد من أجمل حوارات المسرحية، حين سألت فتاةُ حيفا رجلَ المترو ماذا ينتظر فأجابها: «جودو»، في إشارة إلى مسرحية بيكيت الأشهر «في انتظار جودو» فكان أن اندهشت وسألتْه: «أنت تعرف بيكيت؟»، أجابها غاضبًا بكلام مفاده أن الفلسطينيين ليسوا فقط كما نُمِّطوا في الموت والأسر والعذابات، فهم أيضًا يحبون الحياة ويدخلون الجامعات ويقرأون ويعرفون أدباء العالم بمن فيهم بيكيت وكافكا، وهذا الأخير لا يكتفون بقراءته فقط بل يعيشون عوالمه في فلسطين المحتلة.
ولأن الشيء بالشيء يُذكر فإن هذا التنميط للفلسطينيين كان أحد محفزات الروائي الفلسطيني إبراهيم نصر الله - الذي كان في مسقط الأسبوع الماضي- على الكتابة المغايرة عن حياة الفلسطينيين، كما هي الحال في روايته «أعراس آمنة»، وله حوار قديم لموقع «إيلاف» يقول فيه: «ما نكتبه هو مقاومة لفكرة تسعى إلى تنميطنا وتحويلنا إلى تماثيل تمتشق السيوف أو الحجارة في أيديها الملوِّحة، وإذا كان من مهمة للأدب الفلسطيني فهي أن يقول: إن الفلسطيني كائن بشري له قلبه وأحلامه الصغيرة وله أفراحه وأحزانه، أن يقول: إن الأم التي تزغرد في جنازة ابنها الشهيد هي الأم التي تبكيه بكاء لا يتصوره العقل حين يغادر الناس. وفي اعتقادي ما كان يمكن لهذا الشعب أن يقاتل أعداءه، أو أولئك الذين يتناسلون من رحم أعدائه، لو لم يكن يحب الحياة فعلا، وإلا عن أي شيء يدافع هذا الشعب منذ أكثر من مائة عام، إن لم يكن يدافع عن جمال هذه الأشياء؟».
وبالعودة إلى الفنان الفلسطيني الغزّاوي محمد أبو سلّ الذي كُتِب اسمه أيضًا كمعدٍّ للمسرحية، فقد دأب هذا الفنّان على توثيق انتهاكات الاحتلال الإسرائيلي لغزة في أعماله الفنية، إذْ أقام عام 2017 معرضا آخر في غزة بعنوان «راحة الآلام» هو عبارة عن سبعة أعمال متعددة الوسائط تعيد بصريا بناء البيت/ المكان الغزّي الذي دمرته اعتداءات إسرائيل المتكررة خلال أقل من عقد. كما وثق بواسطة مشروعه الفني «منتجات بشعة لا تفي بحقوقكم» عام 2021 أدوات الاحتلال الإسرائيلي كالقنابل الفتاكة وجدار الفصل العنصري وغيرها. ومن المحزن والمؤسف أنه فقد بيته والأستديو الخاص به خلال حرب الإبادة الجماعية الأخيرة التي تشنها إسرائيل على غزة، لكن عزاءه -وعزاءنا أيضًا- أن أعماله الفنية لم تذهب سدى، وأن حلم مترو غزة تحقق بالفن وإن لم يتجسد بعدُ على أرض الواقع.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: مترو غزة
إقرأ أيضاً:
وقفات في حجة تأكيداً على الاستمرار في نصرة الشعب الفلسطيني
الثورة نت/..
نظمت في محافظة حجة اليوم الجمعة، وقفات تأكيدا على الاستمرار في التضامن مع الشعب الفلسطيني وتنديدا بجرائم الجماعات التكفيرية في سوريا.
وأدان المشاركون في الوقفات في مركز المحافظة والمديريات خروقات واعتداءات وجرائم الكيان الصهيوني بحق الأشقاء في فلسطين.
واستنكروا الجرائم المروعة التي ترتكبها الجماعات التكفيرية بحق المدنيين والمسالمين والعزل في الساحل السوري خدمة للصهاينة وتشويها صورة الإسلام والمسلمين.
وثمن بيان صادر عن الوقفات، المواقف المشرفة للقيادة الثورية الحكيمة والقوات المسلحة والشعب اليمني في نصرة الأشقاء الفلسطينيين.. مؤكدا التسليم المطلق والاستعداد الكامل لتنفيذ ما يوجه به قائد الثورة السيد عبدالملك بدرالدين الحوثي لنصرة الشعب الفلسطيني المظلوم.
واستنكر بأشد العبارات ما تقوم به الجماعات التكفيرية من قتل بحق المدنيين في سوريا.. مؤكدا ان هذه الجرائم لا تمثل الإسلام ولا تمت للدين بصلة وإنما تخدم أعداء الإسلام.
ودعا البيان العلماء إلى فضح الفكر التكفيري وكشف ارتباط الجماعات التكفيرية بالمشاريع الأمريكية والإسرائيلية، والتحذير من مخاطر هذا الفكر وأهمية مواجهته.
وأكد على أهمية الإنفاق في سبيل الله، والاستمرار في دعم القوة الصاروخية والجوية والبحرية وتكثيف برامج الإحسان وتعزيز التكافل الاجتماعي والاهتمام بالفقراء والمساكين.