الغرب وحقوق الإنسان
تاريخ النشر: 13th, January 2024 GMT
د. إسماعيل بن صالح الأغبري
منذ أن اندلعت الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين عقب أحداث السابع من أكتوبر 2023، وما تشهده تلك الحرب من اغتيال للحياة، ووأد للطفولة في مهدها وإزهاق لروح الطفل الرضيع والقتل البشع للشيخ الطاعن في السن، والتهجير لمن بقي من النساء، بدعم غربي مطلق وواسع معنوي ومادي وإعلامي لإسرائيل، والعقلاء من سائر الأمم والشعوب وعلى مختلف مستوياتهم وتخصصاتهم واختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية والدينية يتساءلون عن مصير المجالس والأمم والمنظمات التي تأسست عقب الحرب العالمية الثانية لسن تشريعات وقوانين تضبط شأن الحروب نحو البشر والحجر، وتجنيب غير المقاتلين مخازي ما وقع في الحرب العالمية الثانية من إهلاك للحرث والنسل بسبب استخدام الولايات المتحدة الأمريكية للقنبلة النووية والعنف المفرط للدول الغربية المتخاصمة ضد بعضها البعض في انتهاك منها صارخ للبيئة والإنسان.
هؤلاء العقلاء يتساءلون ما مصير الجمعيات الإقليمية والدولية ذات الاختصاص بحقوق الإنسان عامة وحقوق الطفل والمرأة خاصة؟ وأين صوت الدول الغربية الضاغط على كل من يخالفها؟ وأين صولتها وجولتها للذود عن الإنسان أينما كان وفي أي بقعة كان؟ وفي السلم والحرب معًا؟
طالما رفعت الدول الغربية عقيرتها مُنَظِّرة عن حقوق الإنسان، وتشهر سيف ما ورد في المواثيق الدولية الحقوقية، وتتحاكم إلى مواد تلك المواثيق خاصة في تعاملها مع دول العالم الثالث وبالأخص مع دول منظمة التعاون الإسلامي واليوم تتجلى الانتقائية في تطبيق تلك القوانين، وكأن الإنسان من ذوي البشرة البيضاء والحمراء هو الذي يستحق الحقوق وحفظ الكرامة أما غيره فلا يُعبأ به ولا يلتفت إليه، وكأنه من سقط المتاع.
استمرت بعض الدول الغربية تراقب حقوق الإنسان والطفل والمرأة في عدد من البلاد العربية وترصد حركة المجتمع، وتتبع ما يسن من تشريعات لتضمن حسب إدعائها ملاءمة ذلك للتشريعات العالمية المتعلقة بحقوق الإنسان والحقيقة لا صلة لأكثر دول العالم في صياغة تلك القوانين ولا دخل لها في سنها، وإنما صاغتها الدول الغربية وفق ما أتت به من أفعال خلال الحرب العالمية الثانية وحسب منظورها الثقافي وما هو سائد في بيئتها، وتريد من العالم الإسلامي والعالم الثالث التسليم بها والخضوع لها والتحاكم إليها والحكم بها ولو ضاد ذلك خصوصية المجتمعات وتشريعات الإسلام والقيم والأعراف والعادات والتقاليد أي أنها تريد حمل دول العالم على ما ترى وما تصنع، وهذا الصنيع منها يناقض دعوى حرية الإنسان وعدم إكراهه على أمر عقدي أو سياسي أو ثقافي! ويناقض حرية التعبير التي ترفع هذه الدول عقيرتها بها! إنها بذلك ترفع شعارا استبداديا طالما رفعه الفراعنة أولي الطول من قبل وهو ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد! فكيف صار المنتهك لحقوق الإنسان خلال الحرب العالمية الثانية قبلة وكعبة لحقوق الإنسان والطفل والمرأة وهو يكره أكثر من نصف سكان العالم على ما يراه!
العالم الغربي يصدر تقاريره عن حقوق الأقليات الدينية والعرقية واللغوية وأوضاعها في العالم الإسلامي، بينما هو ذاته يدعم حروبًا قائمة على أُسس دينية أو يدعم حكومات تضم وزراء بالغي التطرف، يدعون إلى التخلص من شعب بأسره ولو برميه في البحر أو تهجيره أو إعادة تشريده! وينصر حكومات يهدد بعض وزرائها بإمكانية استخدام القنابل النووية للتخلص من شعب أو أمة! وهو يقف بصلابة مع حكومات تنطلق دولها في تأسيسها من منطلقات دينية متطرفة!
إن عددًا من البلدان الغربية يضع أنفه في كل شأن من شؤون دول العالم الإسلامي، فتتدخل في العملية التعليمية والمناهج الدراسية لتنتقد محتوياتها الدينية والتاريخية والاجتماعية أي تستهدف من ذلك خلخلة قيم المجتمعات وترابطها الأسري وتسعى للمساس بالأعراف والتقاليد والعادات. كما توغل هذه الدول الغربية في ترصد نُظم التعليم العالي ولوائح مؤسساته وتقوم بعملية تقييم هذه المؤسسات فإن رأت منها تماهياً معها رفعت التصنيف عاليًا، وإن أبت تلك المؤسسات مسايرتها حطت من أقدارها؛ بل تضع أنفها عند تقييم المؤسسات والجامعات والكليات حتى في طريقة جلوس الطلبة والطالبات، هل هم مختلطون متداخلون أو مفصولون عن بعض، الطلاب في جهة والطالبات في أخرى، وهل للطلاب مدخل خاص بهم وللطالبات مدخل آخر أو للجميع مدخل واحد؟ فإن رأت الفصل بينهما وضعت تلك المؤسسة دون المستوى، وإن رأت الدمج اعتبرت تلك المؤسسة على درجة عالية من المستوى! بل تتدخل الدول الغربية حتى في مسألة ما تنص عليه لوائح وأنظمة مؤسسات التعليم من اللباس المحتشم بالنسبة للمرأة فتعتبر ذلك قيدا على المرأة؟! وكان الأجدر بها احترام خصوصيات المجتمعات والأولى بها إن لم يكن من ذلك بد أن تركز على قوة المناهج التعليمية وليس التركيز على الخصوصيات ما يدل على أنَّ القصد هو عولمة المجتمعات وتبعيتها وإكراه الدول لتسير سير دول الغرب فأين الحرية المزعومة؟!
يا ترى لماذا يقلق الغرب من تفوق الطالب العربي في الفيزياء والذرة والعمليات الحسابية ذات الصلة ببعض العلوم؟! ولماذا يخشى من التفوق في بعض المعارف والعلوم والتقنيات.
ظن كثير من مثقفي دولنا إما بإعجاب منهم وذوبان في الغرب وثقافته والتصاقاً به وبشعاراته وإما بسذاجة وسطحية، أن الدول الغربية كعبة للحقوق ومقصد للحريات وقدوة لعالم خالٍ من الاعتداء على الإنسان والكلمة والبيئة وموئلًا لكل "مظلوم" مزعوم في بلاده أو مضطهد أو ممنوع من حق التعبير في وطنه! خاصة وأن الدول الغربية فتحت لما يسمى بالمعارضة أبوابها، فصارت مأوى ومقرًا، كما أذنت لهؤلاء بالتسويق لأفكارهم ورؤاهم بدعوى حرية التعبير السياسي والديني والثقافي، إلّا أن الأزمة الروسية الأوكرانية فضحت تلك الشعارات وكشفت عن ذلك العوار الذي عليه العالم الغربي فهو منع التعبير وحرية الكلمة وحجب قنوات مخالفة لرؤيته حول الأزمة الروسية الأوكرانية وقامت بمضايقات لرؤساء تحرير صحف ومجلات وتم فصل صحفيين ومعلقين عقاباً لهم على اختلاف رأيهم مع رأي حكوماتهم!
ثم أقبلت الحرب الإسرائيلية على الفلسطينيين، فانكشفت شعارات الغرب في حرية التعبير فمارس الإعلام الغربي ازدواجية الحقوق وتزوير الحقائق وكتم حقيقة ما يجري، كما تعمد التضييق على من يخرج على المنهج الغربي ملصقا بكل صادع بالحقيقة أو منتقد لإسرائيل بأنه معادٍ للسامية مع أن الانتقاد كان للسياسة الإسرائيلية وليس للعرق أو الجنس أو الأصل أو الدين!
إنَّ الدول الغربية عندما تؤوي المعارضات وتتيح لها حرية الحديث والحركة إنما تريد منها أن تجعلها بمثابة حصان طروادة فهي تستثمرها لتلوح بها عصا غليظة ضد بلدانها، إما لتحقيق مآرب سياسية أو تضغط بها لتحقيق مكاسب اقتصادية أو ثقافية فالمقصود من الإيواء ليس نصرة "المظلوم" المزعوم! بل اتخاذ هؤلاء مطايا للضغط على تلك البلدان لتحقيق أهداف الغرب! إن الدول الغربية عندما تؤوي المعارضات إنما تؤويها لتكون لديها أوراق ضاغطة على دولهم من أجل رسو صفقات اقتصادية أو تسليحية ولا تؤويهم من أجل الحقوق والحريات.
إن التمييز العنصري في دول غربية على أشده وساسة الغرب أنفسهم يتفوهون بذلك فكيف صار الغرب نصيرا للمساواة؟ وقادة غربيون يمنعون ويسعون لسن قوانين تمنع الحجاب بالنسبة للمسلمات فكيف يزعمون الحريات وهم يسنون من التشريعات ما يناقضها أما كان يمكنهم ترك المرأة وحرية ما تلبس؟!
لقد صوَّر بعض مثقفي العالم الإسلامي الغرب وكأنه جنة المأوى ومستودع الحريات وموئل كرامة الإنسان، إلّا أن الأحداث الواقعة في العالم كشفت زيف الادعاء، وما تلك المؤسسات سوى أذرع للدول الغربية لتنفيذ الاستعمار الثقافي بدلًا من الاستعمار العسكري.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
تأثير فوز ترامب على القضية الفلسطينية والعلاقات العربية
أحمد بن محمد العامري
ahmedalameri@live.com
تعود الولايات المتحدة كفاعل رئيسي في الشرق الأوسط كلما شهدت تغييرات في إدارتها، لا سيما حين تكون هذه الإدارة عائدة إلى البيت الأبيض بنهج وسياسات غير تقليدية مثلما هو الحال مع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب.
فوز ترامب بولاية رئاسية ثانية سيحمل تداعيات عميقة على القضايا العربية، وبالأخص القضية الفلسطينية، التي تأثرت بشكل كبير خلال فترة ولايته الأولى، فماذا قد يحمل فوز ترامب لهذه القضية المحورية؟ وما انعكاسات ذلك على العلاقات العربية والدولية؟
1. تقوية الدعم الأمريكي لإسرائيل على حساب الحقوق الفلسطينية
إن عودة ترامب إلى السلطة قد تكون بمثابة تعزيز للمواقف المتشددة تجاه القضية الفلسطينية، حيث يُتوقع أن يعيد ترامب دعمه اللامحدود لإسرائيل، بما في ذلك سيادتها على الأراضي المحتلة -سبق أن اعترفت إدارته بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقلت السفارة الأمريكية إليها- كما دعمت شرعنة المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية. هذه الخطوات تعتبر محاولة لتغيير الحقائق على الأرض وتكريس الاحتلال، مما يجعل أي حل سياسي مستقبلي أكثر صعوبة.
بالإضافة إلى ذلك، قد يسعى ترامب إلى تهميش دور المؤسسات الدولية، مثل الأمم المتحدة ومجلس حقوق الإنسان، التي تقدم دعمًا للحقوق الفلسطينية وتدعو إلى حل الدولتين، هذا التوجه سيعزز من موقف إسرائيل في المحافل الدولية ويقلل من الضغوط عليها لإيجاد تسوية عادلة.
2. التطبيع العربي الإسرائيلي وتداعياته على القضية الفلسطينية
خلال فترة رئاسة ترامب الأولى، شهدنا تطبيع عدد من الدول العربية لعلاقاتها مع إسرائيل عبر "اتفاقيات أبراهام". ومع العودة للبيت الأبيض قد يضغط ترامب على دول عربية أخرى من أجل السير في هذا الاتجاه، في ظل تشجيع أمريكي للتعاون بين إسرائيل والعالم العربي على أسس اقتصادية وأمنية.
إلا أن هذه الخطوات قد تؤدي إلى شعور الفلسطينيين بالعزلة، إذ قد يجدون أنفسهم في موقف ضعيف دبلوماسياً أمام انفتاح عربي متزايد على إسرائيل دون وجود تقدم حقيقي في ملف حقوقهم الوطنية.
ومثل هذا السيناريو سيضعف الموقف العربي حول القضية الفلسطينية، وقد يجعلها قضية ثانوية على جدول الأولويات الإقليمية.
3. الضغوط المالية والسياسية على السلطة الفلسطينية
سبق أن قطعت إدارة ترامب السابقة الدعم المالي عن وكالة الأونروا ومؤسسات دولية وفلسطينية، وسياسة كهذه قد تتكرر، مما يضاعف الأعباء الاقتصادية على الفلسطينيين ويؤدي إلى تدهور الأوضاع الإنسانية في غزة والضفة الغربية، إن تقليص الدعم قد يدفع السلطة الفلسطينية إلى اتخاذ قرارات صعبة ويزيد من صعوبة تقديم الخدمات الأساسية للمواطنين، ما يؤدي إلى مزيد من التوترات الداخلية.
كذلك، قد يتعرض الفلسطينيون لعزلة دبلوماسية في حال تجاهلت الإدارة الأمريكية الجديدة طلباتهم، وقلصت من دعمها للهيئات الدولية التي تسهم في تحسين أوضاعهم، مما يضعف من أوراق الضغط السياسي المتاحة لهم.
4. تصاعد الاستقطاب الإقليمي وتفاقم التوتر مع إيران
عودة ترامب قد تعني إعادة التركيز على مواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة، حيث من المتوقع أن يدفع بحلفائه العرب إلى تبني مواقف أكثر تشدداً تجاه إيران، هذا التصعيد قد يساهم في خلق حالة استقطاب إقليمي بين الدول العربية المؤيدة لهذا المحور والمناهضة له.
وتداعيات هذا الاستقطاب قد تكون كارثية، حيث يمكن أن يتسبب في توترات عسكرية أو حتى صراعات داخل بعض الدول العربية مثل العراق وسوريا ولبنان واليمن، مما يعمّق من أزمات هذه الدول ويزيد من معاناة شعوبها.
5. تجاهل حقوق الإنسان وتدعيم سياسات الاستبداد
تميل سياسات ترامب إلى إعطاء الأولوية للمصالح الاقتصادية والأمنية على حساب حقوق الإنسان، وهذا النهج قد يشجع بعض الأنظمة العربية على اتخاذ إجراءات قمعية ضد المعارضة والتضييق على الحريات.
قد تجد بعض الأنظمة العربية في غياب الضغوط الأمريكية بشأن حقوق الإنسان فرصة لتوسيع سيطرتها وتقوية نفوذها الداخلي، خاصةً إذا استمر الدعم الأمريكي المباشر لها.
وهذه السياسة قد تؤدي إلى تراجع الحريات العامة وتفاقم قضايا حقوق الإنسان في بعض الدول العربية، مما يؤثر على استقرار المجتمعات بشكل عام.
6. تعزيز الصفقات الاقتصادية على حساب الحلول السياسية
تعكس سياسة ترامب في الشرق الأوسط تفضيله للصفقات التجارية والعقود الاقتصادية، ومن المحتمل أن يركز في حال فوزه على تعزيز صفقات اقتصادية كوسيلة لتحقيق الاستقرار السياسي، بدلاً من الضغط لحل القضية الفلسطينية بطرق دبلوماسية مستدامة.
هذا النهج التجاري قد يحقق مكاسب اقتصادية قصيرة الأمد للدول العربية، إلا أن غياب الحلول السياسية الدائمة سيتسبب بتفاقم الأزمات على المدى الطويل، فالاقتصاد وحده لا يمكن أن يكون بديلاً عن تحقيق العدالة والحلول الشاملة، وقد يؤدي هذا إلى زيادة التوترات في المستقبل بسبب غياب رؤية سياسية متكاملة.
الخلاصة.. أنه مع عودة ترامب للرئاسة الأمريكية، من المرجح أن يواجه الفلسطينيون تحديات أكبر في ظل دعم أمريكي غير محدود لإسرائيل، وتزايد التطبيع العربي معها. وهذا الدعم قد يعزز من حالة الانقسام العربي ويزيد من تدهور الأوضاع في بعض الدول العربية.
إن عودة ترامب قد تجعل الحلول السياسية بعيدة المنال وتدفع باتجاه تفاقم الأزمات الإنسانية والسياسية في المنطقة.