جريدة الرؤية العمانية:
2024-12-26@02:19:12 GMT

حرية التعبير في دولة المؤسسات

تاريخ النشر: 13th, January 2024 GMT

حرية التعبير في دولة المؤسسات

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

عند الاطلاع ودراسة الأنظمة السياسية بتعمق في العصور الحديثة وخاصة الحكومات التي تمارس السلطة والحكم بين الرعية، فإنَّ أول ما يتبادر إلى الذاكرة وأذهان المراقبين والمؤرخين سقف الحرية الممنوحة لأفراد المجتمع الذين هم تحت مظلة ورعاية تلك السلطات؛ فحرية التعبير- التي هي أشمل من حرية الإعلام، وإن كانت تُفهم لدى العامة بأنَّها مرادفة لها- تمثل مقياسًا ورمزًا للتسامح السياسي للدولة ووجهًا مُهمًا لثقة النظام وقناعته السياسية بممارساته اليومية للحكم الرشيد في إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على المستوى المحلي.

الحرية أثمن ما في هذا الوجود؛ فالإنسان إذا فقد حُريته يصبح مثل الطائر المذبوح؛ بل يفقد إنسانيته وحقه في الحياة.. الحرية مثل الماء والهواء والرئة التي نستنشق من خلالها لضمان استمرارية الحياة. ولا يمكن أن يتحقق الرأي الحر والنزيه إلّا بوجود إعلام حر، وقبل ذلك كله تأسيس ما يُعرف بدولة المؤسسات، التي تعتمد بالدرجة الأولى على الفصل بين السلطات الثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية. والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، تُذكِّر زعماء العالم الشرفاء في الشرق والغرب بأهمية الوفاء بالتزاماتهم تجاه حرية الصحافة، وقبل ذلك كله تذكير الضمير الإنساني بحرية التعبير وعدم مُصادرة الفكر من أي كائنٍ كان على ظهر هذا الكوكب، انطلاقًا من المبدأ الذي يقول "لا قيمة للحياة دون حرية مسؤولة"، تنتهي بأصحابها عندما تبدأ حرية الآخرين من الشركاء في هذا العالم المترامي الأطراف؛ فالإعلام الحر الذي يعتمد في عمله على معايير الصدق والتوازن والحرية؛ يحرص دائمًا على كشف تجاوزات أصحاب السلطة والنفوذ في كل زاوية من زوايا الكرة الأرضية.

ومن أهم الأسباب التي تواجه حرية التعبير، عدم استجابة الجهات التشريعية والتنفيذية في البلد لإصدار قانون جديد للإعلام والنشر الإلكتروني؛ فالقانون الحالي يُعد واحدًا من أقدم القوانين في العالم؛ إذ إن معظم دول المنطقة أعطت الضوء الأخصر للمُشرِّعين لإصدار قوانين وتشريعات تناسب الانفجار المعرفي الذي يعيشه العالم في ظل الثورة الرقمية واسعة الانتشار.

لا شك أن سقف الحرية المرسوم للصحافة العمانية، وكذلك المنصات الرقمية والإذاعات المحلية في إطار النهضة العمانية المتجددة التي يقودها بحكمة واقتدار سلطان الفكر حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- قد تجاوزت التشريعات والقوانين المُطبَّقة في السلطنة، والتي تعود إلى الحقب التاريخية الصعبة التي تعمل على تقييد المضامين والرسائل الإعلامية ذات الطابع السياسي.

ولعل ما يأتي لنا من الرأي العام العُماني من تعليقات وملاحظات على بعض المقالات النقدية المنشورة في الصحافة المحلية أو البرامج الجماهيرية خلال السنوات القليلة الماضية خير دليل على ذلك، ودائمًا ما تأتينا إفادات تُسعدنا على الدوام، ونعتبرها رجع صدى على ما نكتبه في مجال رضا الجمهور وتفاعله مع تلك الكتابات التي نعدها مرآة صادقة وعاكسة للحقائق الدامغة لإخفاقات بعض المسؤولين الذين اجتهدوا ولم يُحالفهم الحظ في قراراتهم تجاه الوطن والمواطن، ومن العبارات المتكررة التي يُسطِّرها القراء لنا "هذه بعض ثمار الحرية".    

ومن أهم الملفات الساخنة التي تحدثنا عنها مرارا وتكرارا عبر هذه النافذة، تحقيق أحلام وأماني مرحلة، متمثلة في تحقيق مبدأ المحاسبة والمساءلة للجميع، سواء كان هذا الشخص مواطنًا عاديًا أو مسؤولًا كبيرًا، فلا يمكن أن تستقيم أمور المجتمع إلا بتطبيق القانون دون استثناء، فقد كانت نهاية معظم الأنظمة السياسية وانهيار كثير من الدول عبر التاريخ؛ هو غض النظر عن تجاوزات البعض من يصنفون بأنهم من علية القوم، ومجاملتهم على حساب مستقبل الوطن وطموحات المجتمع في عيش حياة كريمة تسودها العدالة لكل أفراد المجتمع دون تمييز.    

العدالة الاجتماعية والنزاهة لا يمكن لهما أن يتحققا بأي حال من الأحوال بحسن نية المسؤولين في أي بلد من بلدان العالم؛ بل نحتاج إلى تأسيس قواعد واضحة ومنهجية قوية، تقوم بالدرجة الأولى على التدقيق في اختيار قيادات نزيهة وأمينة، تحمل ضميرًا حيًا ووازعًا دينيًا وولاءً وطنيًا. وكذلك تتمتع بكفاءات علمية رفيعة، ونظرة ثاقبة في التخطيط، والتنفيذ السليم للخطط والمشاريع، والتوظيف في المناصب والإدارات في الوزارات والشركات الحكومية؛ إذ إن البعد عن المحسوبية والعلاقات الشخصية التي كانت سائدة في بعض تعيينات المسؤولين خلال العقود الماضية، أصبح من الضروريات التي يجب الوقوف عليها والتخلص منها في هذه المرحلة المُهمة من تاريخ الوطن.

يبدو لي أن هناك فجوة بين بعض صُنّاع القرار الذين يتعرّضون للنقد البنّاء الذي يهدف إلى تصحيح المسار وتجنُّب الوقوع في الأخطاء والاخفاقات المتكررة في الشأن العام، وبين ما يُنشر في وسائل الإعلام العمانية ويُناقش في الإذاعات المحلية عبر أثير البرامج الجماهيرية، إلى جانب منصات الإعلام الرقمي، والسبب المعروف هو ثقافة المسؤول الذي يعتقد أنه على صواب دائمًا!

ومن المفارقات العجيبة، عند ما تكشف وسائل الإعلام عن بعض الظواهر السلبية أو إخفاقات في السياسات المتبعة، تُبادِر الجهات الحكومية ذات العلاقة إلى مخاصمة من يقول كلمة حق من أجل الوطن؛ بل هناك من الوزارات والشركات الحكومية من يواصل المشوار إلى طريق مجهول. ويعود ذلك في اعتقادي إلى غياب ما يُعرف بثقافة "الاعتراف بالذنب" أو الإقرار بالخطأ، في مجتمعاتنا العربية، وعدم قبول النقد تحت أي ظرف أو بأي طريقة كانت.

في الختام.. يجب تذكير الجميع بأن هناك ثوابت وطنية وخطوط حمراء، يحرص الإعلاميون والكُتّاب على الالتزام بها، وهي قائمة منذ فترة مُبكّرة من النهضة العُمانية المعاصرة التي انطلقت في فجر السبعين من القرن الماضي، ولا يمكن تجاوز أو العبث بتلك الثوابت الوطنية أو حتى التعرض لها بسوء من بعيد أو قريب بأي حال من الأحوال؛ وذلك انطلاقًا من الأسس والقيم التي تُدرّس في الحقل الأكاديمي لطلبة الإعلام في جامعة السلطان قابوس؛ باعتبارها المؤسسة الرائدة في إعداد القيادات الإعلامية في هذا البلد العزيز، وكذلك الكوادر الإعلامية التي تنضم إلى الأسرة الإعلامية العمانية من مختلف جامعات العالم؛ لكون تلك الثوابت الوطنية تشكل صمام الأمان لحاضر ومستقبل الوطن والمواطن على حد سواء؛ وهي: الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف في كل ما يُنشر أو يُذاع في وسائل الإعلام، واحترام المذاهب والمدارس الإسلامية بالمجمل، وتجنب مناقشة القضايا الخلافية بين تلك المذاهب، خاصة تلك التي تثير الفتن بين المُلسمين، والمحافظة على الوحدة الوطنية والإيمان بالله والولاء للوطن والسلطان، واحترام وتقدير جلالة السلطان وأسرته الكريمة ومكانته الرفيعة؛ باعتباره الضامن لوحدة الأمة والرمز المُصان بين أفراد المجتمع العماني، فضلًا عن المحافظة على الأمن الوطني للبلاد من الفتن والنعرات القبلية والتحزُّب، وكذلك تجنُّب نشر معلومات مُصنفة في النطاق السري من جهات الاختصاص، وعلى وجه الخصوص تلك التي قد تضر باستقرار الوطن وأمنه.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام الاتصال الجماهيري

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

بالفيديو .. خديجة بن قنة: حين أستعد للظهور على الشاشة لا أملك حرية اختيار ملابسي

سرايا - رصد - تحدثت الإعلامية الجزائرية خديجة بن قنة، في مقابلة، عن تجربتها الشخصية في العمل التلفزيوني، وقالت إنها في كثير من الأحيان لا تستطيع اختيار ملابسها والألوان التي ترغبها عندما تستعد للظهور على الشاشة، نتيجة لوجود قوانين وضوابط صارمة فيما يتعلق بملابس المذيعين والمعايير المهنية المرتبطة بذلك.


تالياً الفيديو عبر موقعنا:





تابع قناتنا على يوتيوب تابع صفحتنا على فيسبوك تابع منصة ترند سرايا


طباعة المشاهدات: 385  
1 - ترحب "سرايا" بتعليقاتكم الإيجابية في هذه الزاوية ، ونتمنى أن تبتعد تعليقاتكم الكريمة عن الشخصنة لتحقيق الهدف منها وهو التفاعل الهادف مع ما يتم نشره في زاويتكم هذه. 23-12-2024 07:15 PM

سرايا

لا يوجد تعليقات
رد على :
الرد على تعليق
الاسم : *
البريد الالكتروني :
التعليق : *
رمز التحقق : تحديث الرمز
أكتب الرمز :
اضافة
عمره 500 عام .. اكتشاف أول قبقاب من خشب البتولا في هولندا الطهي 5 أيام دون توقف يُدخل طاهية إيفوارية موسوعة غينيس اليابان تدرس جعل الحياة على القمر حقيقة عالم مصريات ألماني يكشف أسرار مقبرة عمرها 4000 عام .. اكتشفها فريقه بأسيوط اسم يتردد مجددا .. ما هو دور فاروق الشرع في سوريا... "خامنئي" يهاجم الإدارة الجديدة في سوريا... الاحتلال يعتقل طبيبا أردنيا خلال توجهه إلى غزة النائب ديمة طهبوب في ردها على جواب الحكومة: "... تلقّاها بصدر رحب .. أشهر إهانات روسيا لبشار الأسد نتنياهو: تقدم في صفقة استعادة الأسرى بعد غياب السنوارالكرملين: أسماء الاسد لم تطلب مغادرة روسياالشرع: سوريا تريد علاقات طيبة مع الأردننائب أمريكي: ماسك رئيس وزراء غير منتخب للبلادالكرملين يكشف حقيقة طلب زوجة بشار الأسد الطلاقاعتقال ناشطتين خلال وقفة للمطالبة بصفقة تبادل قرب...تلقّاها بصدر رحب .. أشهر إهانات روسيا لبشار الأسد"لم يولد في أميركا ولن يصبح رئيساً" .....البرغوثي ليس بينهم .. "إسرائيل" توافق... نيكول كيدمان تكشف تفاصيل تعرضها لـ"أزمة... أمل بوشوشة تكشف أسباب غيابها عن الساحة الفنية "ده شغل رخيص" .. رسالة غاضبة من ياسمين... فضيحة جديدة في السينما المصرية: كاتبة توأم روحي... عبير فؤاد تحذر من انفصال 3 من أشهر أزواج الفن في... مانشيني : ترك إيطاليا لتدريب السعودية كان خطأ مبابي يعترف: خاب أملي .. ووصلت إلى "القاع" في مدريد بعد أزمته مع يونايتد .. صديقة راشفورد "تهجره" وتلغي متابعته "كرتي الأفضل" .. الأرجنتين وأوروجواي تخوضان أغرب مباراة في التاريخ! تشكيل لجنة مؤقتة لاتحاد الكيك بوكسينغ "تمائم وحرباء حية" .. توقيف رجلين بتهمة السحر ضد رئيس دولة إفريقية الطهي 5 أيام دون توقف يُدخل طاهية إيفوارية "موسوعة غينيس" «ساعات العمر» .. توظيف علامات الدم للتنبؤ بالصحة وعمر الإنسان تعرف على الدول التي تضم أطول الرجال والنساء في العالم ما هي توقعات عائلة سيمبسون لأمريكا في 2025؟ ضرورة العصر: كيف تضمن تطورك المهني في عالم متغير؟ "الجدة الخارقة" ترفع الأثقال في سن التسعين قصة فتاة سعودية أبلغت سلطات ألمانيا عن منفذ حادثة الدهس الولايات المتحدة .. رجل يرتكب "جريمة وحشية" بحق ابنه الرضيع خطط لاستهداف السفير السعودي .. منفذ حادثة ألمانيا عرض مكافأة لتحديد موقعه

الصفحة الرئيسية الأردن اليوم أخبار سياسية أخبار رياضية أخبار فنية شكاوى وفيات الاردن مناسبات أريد حلا لا مانع من الاقتباس وإعادة النشر شريطة ذكر المصدر(وكالة سرايا الإخبارية) saraynews.com
الآراء والتعليقات المنشورة تعبر عن آراء أصحابها فقط
جميع حقوق النشر محفوظة لدى موقع وكالة سرايا الإخبارية © 2024
سياسة الخصوصية برمجة و استضافة يونكس هوست test الرجاء الانتظار ...

مقالات مشابهة

  • تحليل عبري: هل تحارب إسرائيل الحوثيين أم دولة اليمن.. وما الصعوبات التي تواجه السعودية والإمارات؟ (ترجمة خاصة)
  • المتفوقون فخر الوطن
  • القائد العام في ذكرى الاستقلال: تجاوز الخلافات ووحدة ليبيا أولوية لبناء دولة حرة وقوية
  • المركز الدولي للقيم الإنسانية يدعو الإعلام إلى دعم أخلاقيات التعايش السلمي
  • المركز الدولي للقيم الإنسانية يدعو الإعلام لدعم أخلاقيات التعايش السلمي
  • وفد قطري في سوريا للتأكيد على دعم بناء دولة المؤسسات
  • بالفيديو .. خديجة بن قنة: حين أستعد للظهور على الشاشة لا أملك حرية اختيار ملابسي
  • لاعبو كرة القدم: تعبنا من كثرة المباريات.. وبطولة الفيفا الجديدة هي القشة التي قصمت ظهر البعير
  • ماذا قال العالم عن لقاء فيدان والشرع في جبل قاسيون؟
  • نشأت الديهي: المرتزقة في الخارج يتهمون الإعلام المصري بالتطبيل