حرية التعبير في دولة المؤسسات
تاريخ النشر: 13th, January 2024 GMT
د. محمد بن عوض المشيخي **
عند الاطلاع ودراسة الأنظمة السياسية بتعمق في العصور الحديثة وخاصة الحكومات التي تمارس السلطة والحكم بين الرعية، فإنَّ أول ما يتبادر إلى الذاكرة وأذهان المراقبين والمؤرخين سقف الحرية الممنوحة لأفراد المجتمع الذين هم تحت مظلة ورعاية تلك السلطات؛ فحرية التعبير- التي هي أشمل من حرية الإعلام، وإن كانت تُفهم لدى العامة بأنَّها مرادفة لها- تمثل مقياسًا ورمزًا للتسامح السياسي للدولة ووجهًا مُهمًا لثقة النظام وقناعته السياسية بممارساته اليومية للحكم الرشيد في إرساء مبادئ العدالة الاجتماعية والسياسية والاقتصادية على المستوى المحلي.
الحرية أثمن ما في هذا الوجود؛ فالإنسان إذا فقد حُريته يصبح مثل الطائر المذبوح؛ بل يفقد إنسانيته وحقه في الحياة.. الحرية مثل الماء والهواء والرئة التي نستنشق من خلالها لضمان استمرارية الحياة. ولا يمكن أن يتحقق الرأي الحر والنزيه إلّا بوجود إعلام حر، وقبل ذلك كله تأسيس ما يُعرف بدولة المؤسسات، التي تعتمد بالدرجة الأولى على الفصل بين السلطات الثلاثة: التشريعية والتنفيذية والقضائية. والمنظمات الدولية المعنية بحقوق الإنسان، تُذكِّر زعماء العالم الشرفاء في الشرق والغرب بأهمية الوفاء بالتزاماتهم تجاه حرية الصحافة، وقبل ذلك كله تذكير الضمير الإنساني بحرية التعبير وعدم مُصادرة الفكر من أي كائنٍ كان على ظهر هذا الكوكب، انطلاقًا من المبدأ الذي يقول "لا قيمة للحياة دون حرية مسؤولة"، تنتهي بأصحابها عندما تبدأ حرية الآخرين من الشركاء في هذا العالم المترامي الأطراف؛ فالإعلام الحر الذي يعتمد في عمله على معايير الصدق والتوازن والحرية؛ يحرص دائمًا على كشف تجاوزات أصحاب السلطة والنفوذ في كل زاوية من زوايا الكرة الأرضية.
ومن أهم الأسباب التي تواجه حرية التعبير، عدم استجابة الجهات التشريعية والتنفيذية في البلد لإصدار قانون جديد للإعلام والنشر الإلكتروني؛ فالقانون الحالي يُعد واحدًا من أقدم القوانين في العالم؛ إذ إن معظم دول المنطقة أعطت الضوء الأخصر للمُشرِّعين لإصدار قوانين وتشريعات تناسب الانفجار المعرفي الذي يعيشه العالم في ظل الثورة الرقمية واسعة الانتشار.
لا شك أن سقف الحرية المرسوم للصحافة العمانية، وكذلك المنصات الرقمية والإذاعات المحلية في إطار النهضة العمانية المتجددة التي يقودها بحكمة واقتدار سلطان الفكر حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- قد تجاوزت التشريعات والقوانين المُطبَّقة في السلطنة، والتي تعود إلى الحقب التاريخية الصعبة التي تعمل على تقييد المضامين والرسائل الإعلامية ذات الطابع السياسي.
ولعل ما يأتي لنا من الرأي العام العُماني من تعليقات وملاحظات على بعض المقالات النقدية المنشورة في الصحافة المحلية أو البرامج الجماهيرية خلال السنوات القليلة الماضية خير دليل على ذلك، ودائمًا ما تأتينا إفادات تُسعدنا على الدوام، ونعتبرها رجع صدى على ما نكتبه في مجال رضا الجمهور وتفاعله مع تلك الكتابات التي نعدها مرآة صادقة وعاكسة للحقائق الدامغة لإخفاقات بعض المسؤولين الذين اجتهدوا ولم يُحالفهم الحظ في قراراتهم تجاه الوطن والمواطن، ومن العبارات المتكررة التي يُسطِّرها القراء لنا "هذه بعض ثمار الحرية".
ومن أهم الملفات الساخنة التي تحدثنا عنها مرارا وتكرارا عبر هذه النافذة، تحقيق أحلام وأماني مرحلة، متمثلة في تحقيق مبدأ المحاسبة والمساءلة للجميع، سواء كان هذا الشخص مواطنًا عاديًا أو مسؤولًا كبيرًا، فلا يمكن أن تستقيم أمور المجتمع إلا بتطبيق القانون دون استثناء، فقد كانت نهاية معظم الأنظمة السياسية وانهيار كثير من الدول عبر التاريخ؛ هو غض النظر عن تجاوزات البعض من يصنفون بأنهم من علية القوم، ومجاملتهم على حساب مستقبل الوطن وطموحات المجتمع في عيش حياة كريمة تسودها العدالة لكل أفراد المجتمع دون تمييز.
العدالة الاجتماعية والنزاهة لا يمكن لهما أن يتحققا بأي حال من الأحوال بحسن نية المسؤولين في أي بلد من بلدان العالم؛ بل نحتاج إلى تأسيس قواعد واضحة ومنهجية قوية، تقوم بالدرجة الأولى على التدقيق في اختيار قيادات نزيهة وأمينة، تحمل ضميرًا حيًا ووازعًا دينيًا وولاءً وطنيًا. وكذلك تتمتع بكفاءات علمية رفيعة، ونظرة ثاقبة في التخطيط، والتنفيذ السليم للخطط والمشاريع، والتوظيف في المناصب والإدارات في الوزارات والشركات الحكومية؛ إذ إن البعد عن المحسوبية والعلاقات الشخصية التي كانت سائدة في بعض تعيينات المسؤولين خلال العقود الماضية، أصبح من الضروريات التي يجب الوقوف عليها والتخلص منها في هذه المرحلة المُهمة من تاريخ الوطن.
يبدو لي أن هناك فجوة بين بعض صُنّاع القرار الذين يتعرّضون للنقد البنّاء الذي يهدف إلى تصحيح المسار وتجنُّب الوقوع في الأخطاء والاخفاقات المتكررة في الشأن العام، وبين ما يُنشر في وسائل الإعلام العمانية ويُناقش في الإذاعات المحلية عبر أثير البرامج الجماهيرية، إلى جانب منصات الإعلام الرقمي، والسبب المعروف هو ثقافة المسؤول الذي يعتقد أنه على صواب دائمًا!
ومن المفارقات العجيبة، عند ما تكشف وسائل الإعلام عن بعض الظواهر السلبية أو إخفاقات في السياسات المتبعة، تُبادِر الجهات الحكومية ذات العلاقة إلى مخاصمة من يقول كلمة حق من أجل الوطن؛ بل هناك من الوزارات والشركات الحكومية من يواصل المشوار إلى طريق مجهول. ويعود ذلك في اعتقادي إلى غياب ما يُعرف بثقافة "الاعتراف بالذنب" أو الإقرار بالخطأ، في مجتمعاتنا العربية، وعدم قبول النقد تحت أي ظرف أو بأي طريقة كانت.
في الختام.. يجب تذكير الجميع بأن هناك ثوابت وطنية وخطوط حمراء، يحرص الإعلاميون والكُتّاب على الالتزام بها، وهي قائمة منذ فترة مُبكّرة من النهضة العُمانية المعاصرة التي انطلقت في فجر السبعين من القرن الماضي، ولا يمكن تجاوز أو العبث بتلك الثوابت الوطنية أو حتى التعرض لها بسوء من بعيد أو قريب بأي حال من الأحوال؛ وذلك انطلاقًا من الأسس والقيم التي تُدرّس في الحقل الأكاديمي لطلبة الإعلام في جامعة السلطان قابوس؛ باعتبارها المؤسسة الرائدة في إعداد القيادات الإعلامية في هذا البلد العزيز، وكذلك الكوادر الإعلامية التي تنضم إلى الأسرة الإعلامية العمانية من مختلف جامعات العالم؛ لكون تلك الثوابت الوطنية تشكل صمام الأمان لحاضر ومستقبل الوطن والمواطن على حد سواء؛ وهي: الالتزام بتعاليم الدين الإسلامي الحنيف في كل ما يُنشر أو يُذاع في وسائل الإعلام، واحترام المذاهب والمدارس الإسلامية بالمجمل، وتجنب مناقشة القضايا الخلافية بين تلك المذاهب، خاصة تلك التي تثير الفتن بين المُلسمين، والمحافظة على الوحدة الوطنية والإيمان بالله والولاء للوطن والسلطان، واحترام وتقدير جلالة السلطان وأسرته الكريمة ومكانته الرفيعة؛ باعتباره الضامن لوحدة الأمة والرمز المُصان بين أفراد المجتمع العماني، فضلًا عن المحافظة على الأمن الوطني للبلاد من الفتن والنعرات القبلية والتحزُّب، وكذلك تجنُّب نشر معلومات مُصنفة في النطاق السري من جهات الاختصاص، وعلى وجه الخصوص تلك التي قد تضر باستقرار الوطن وأمنه.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام الاتصال الجماهيري
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ترامب الذي انتصر أم هوليوود التي هزمت؟
ما دمنا لم نفارق بعد نظام القطب الواحد المهيمن على العالم تظل النظرية القديمة التي نقول إن الشعب الأمريكي عندما يختار رئيسه فهو يختار أيضا رئيسا للعالم نظرية صحيحة. ويصبح لتوجه هذا الرئيس في فترة حكمه تأثير حاسم على نظام العلاقات الدولية وحالة الحرب والسلم في العالم كله.
ولهذا فإن فوز دونالد ترامب اليميني الإنجيلي القومي المتشدد يتجاوز مغزاه الساحة الداخلية الأمريكي وحصره في أنه يمثل هزيمة تاريخية للحزب الديمقراطي أمام الحزب الجمهوري تجعله عاجزا تقريبا لمدة ٤ أعوام قادمة عن منع ترامب من تمرير أي سياسة في كونجرس يسيطر تماما على مجلسيه.
هذا المقال يتفق بالتالي مع وجهة النظر التي تقول إن اختيار الشعب الأمريكي لدونالد ترامب رئيسا للمرة الثانية ـ رغم خطابه السياسي المتطرف ـ هو دليل على أن التيار الذي يعبر عنه هو تيار رئيسي متجذر متنامٍ في المجتمع الأمريكي وليس تيارا هامشيا.
فكرة الصدفة أو الخروج عن المألوف التي روج لها الديمقراطيون عن فوز ترامب في المرة الأولى ٢٠١٦ ثبت خطأها الفادح بعد أن حصل في ٢٠٢٤ على تفويض سلطة شبه مطلق واستثنائي في الانتخابات الأخيرة بعد فوزه بالتصويت الشعبي وتصويت المجمع الانتخابي وبفارق مخيف.
لكن الذي يطرح الأسئلة الكبرى عن أمريكا والعالم هو ليس بأي فارق من الأصوات فاز ترامب ولكن كيف فاز ترامب؟ بعبارة أوضح أن الأهم من الـ٧٥ مليون صوت الشعبية والـ٣١٢ التي حصل عليها في المجمع الانتخابي هو السياق الاجتماعي الثقافي الذي أعاد ترامب إلى البيت الأبيض في واقعة لم تتكرر كثيرا في التاريخ الأمريكي.
أهم شيء في هذا السياق هو أن ترامب لم يخض الانتخابات ضد هاريس والحزب الديمقراطي فقط بل خاضه ضد قوة أمريكا الناعمة بأكملها.. فلقد وقفت ضد ترامب أهم مؤسستين للقوة الناعمة في أمريكا بل وفي العالم كله وهما مؤسستا الإعلام ومؤسسة هوليوود لصناعة السينما. كل نجوم هوليوود الكبار، تقريبا، من الممثلين الحائزين على الأوسكار وكبار مخرجيها ومنتجيها العظام، وأساطير الغناء والحاصلين على جوائز جرامي وبروداوي وأغلبية الفائزين ببوليتزر ومعظم الأمريكيين الحائزين على نوبل كل هؤلاء كانوا ضده ومع منافسته هاريس... يمكن القول باختصار إن نحو ٩٠٪ من النخبة الأمريكية وقفت ضد ترامب واعتبرته خطرا على الديمقراطية وعنصريا وفاشيا ومستبدا سيعصف بمنجز النظام السياسي الأمريكي منذ جورج واشنطن. الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام الرئيسية التي شكلت عقل الأمريكيين من محطات التلفزة الكبرى إلي الصحف والمجلات والدوريات الرصينة كلها وقفت ضد ترامب وحتى وسائل التواصل الاجتماعي لم ينحز منها صراحة لترامب غير موقع إكس «تويتر سابقا». هذه القوة الناعمة ذات السحر الأسطوري عجزت عن أن تقنع الشعب الأمريكي بإسقاط ترامب. صحيح أن ترامب فاز ولكن من انهزم ليس هاريس. أتذكر إن أول تعبير قفز إلى ذهني بعد إعلان نتائج الانتخابات هو أن ترامب انتصر على هوليوود. من انهزم هم هوليوود والثقافة وصناعة الإعلام في الولايات المتحدة. لم يكن البروفيسور جوزيف ناي أحد أهم منظري القوة الناعمة في العلوم السياسية مخطئا منذ أن دق أجراس الخطر منذ ٢٠١٦ بأن نجاح ترامب في الولاية الأولى هو مؤشر خطير على تآكل حاد في القوة الناعمة الأمريكية. وعاد بعد فوزه هذا الشهر ليؤكد أنه تآكل مرشح للاستمرار بسرعة في ولايته الثانية التي تبدأ بعد سبعة أسابيع تقريبا وتستمر تقريبا حتى نهاية العقد الحالي.
وهذا هو مربط الفرس في السؤال الكبير الأول هل يدعم هذا المؤشر الخطير التيار المتزايد حتى داخل بعض دوائر الفكر والأكاديميا الأمريكية نفسها الذي يرى أن الإمبراطورية ومعها الغرب كله هو في حالة أفول تدريجي؟
في أي تقدير منصف فإن هذا التآكل في قوة أمريكا الناعمة يدعم التيار الذي يؤكد أن الامبراطورية الأمريكية وربما معها الحضارة الغربية المهيمنة منذ نحو٤ قرون على البشرية هي في حالة انحدار نحو الأفول. الإمبراطورية الأمريكية تختلف عن إمبراطوريات الاستعمار القديم الأوروبية فبينما كان نفوذ الأولى (خاصة الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية) على العالم يبدأ بالقوة الخشنة وبالتحديد الغزو والاحتلال العسكري وبعدها يأتي وعلى المدى الطويل تأثير قوتها الناعمة ولغتها وثقافتها ونظمها الإدارية والتعليمية على شعوب المستعمرات فإن أمريكا كاستعمار إمبريالي جديد بدأ وتسلل أولا بالقوة الناعمة عبر تقدم علمي وتكنولوجي انتزع من أوروبا سبق الاختراعات الكبرى التي أفادت البشرية ومن أفلام هوليوود عرف العالم أمريكا في البداية بحريات ويلسون الأربع الديمقراطية وأفلام هوليوود وجامعات هارفارد و برينستون ومؤسسات فولبرايت وفورد التي تطبع الكتب الرخيصة وتقدم المنح وعلى عكس صورة المستعمر القبيح الأوروبي في أفريقيا وآسيا ظلت نخب وشعوب العالم الثالث حتى أوائل الخمسينات تعتقد أن أمريكا بلد تقدمي يدعم التحرر والاستقلال وتبارى بعض نخبها في تسويق الحلم الأمريكي منذ الأربعينيات مثل كتاب مصطفى أمين الشهير «أمريكا الضاحكة». وهناك اتفاق شبه عام على أن نمط الحياة الأمريكي والصورة الذهنية عن أمريكا أرض الأحلام وما تقدمه من فنون في هوليوود وبروداوي وغيرها هي شاركت في سقوط الاتحاد السوفييتي والمعسكر الشيوعي بنفس القدر الذي ساهمت به القوة العسكرية الأمريكية. إذا وضعنا الانهيار الأخلاقي والمستوى المخجل من المعايير المزدوجة في دعم حرب الإبادة الإسرائيلية الجارية للفلسطينيين واللبنانيين والاستخدام المفرط للقوة العسكرية والعقوبات الاقتصادية كأدوات قوة خشنة للإمبراطورية الأمريكية فإن واشنطن تدمر القوة الناعمة وجاذبية الحياة والنظام الأمريكيين للشعوب الأخرى وهي واحدة من أهم القواعد الأساسية التي قامت عليها إمبراطورتيها.
إضافة إلى دعم مسار الأفول للإمبراطورية وبالتالي تأكيد أن العالم آجلا أو عاجلا متجه نحو نظام متعدد الأقطاب مهما بلغت وحشية القوة العسكرية الأمريكية الساعية لمنع حدوثه.. فإن تطورا دوليا خطيرا يحمله في ثناياه فوز ترامب وتياره. خاصة عندما تلقفه الغرب ودول غنية في المنطقة. يمكن معرفة حجم خطر انتشار اليمين المتطرف ذي الجذر الديني إذا كان المجتمع الذي يصدره هو المجتمع الذي تقود دولته العالم. المسألة ليست تقديرات وتخمينات يري الجميع بأم أعينهم كيف أدي وصول ترامب في ولايته الأولى إلى صعود اليمين المتطرف في أوروبا وتمكنه في الوقت الراهن من السيطرة على حكومات العديد من الدول الأوروبية بعضها دول كبيرة مثل إيطاليا.
لهذا الصعود المحتمل لتيارات اليمين المسيحي المرتبط بالصهيونية العالمية مخاطر على السلم الدولي منها عودة سيناريوهات صراع الحضارات وتذكية نيران الحروب والصراعات الثقافية وربما العسكرية بين الحضارة الغربية وحضارات أخرى مثل الحضارة الإسلامية والصينية والروسية.. إلخ كل أطرافها تقريبا يمتلكون الأسلحة النووية!!
حسين عبد الغني كاتب وإعلامي مصري