كثير من العلوم الإسلامية – كما هو معلوم لدارسيها – نشأت ونضِجت، قبل أن تكتب قواعدها، ثم بعد فترة من الزمن، بدأ التدوين والتقعيد لها، فنشأ علم القواعد الفقهية، بعد أن انتشر علم الفقه وكتبت تفاصيله ودوّنت، وانتشرت المذاهب الأربعة.

وقد نبغ في تأسيس هذا العلم الأحناف، وذلك على يد أبي طاهر الدباس، ثم بعد ذلك بدأ كل مذهب في تدوين القواعد المتعلقة بمذهبه، أو القواعد الفقهية والأصولية بشكل عام.

لكن الملاحظ أن الوفرة في كتب القواعد عند جميع المذاهب، كانت في الجانب الأصولي والفقهي، فلم يخلُ مذهب- غالبًا- من كتب فيها، فرأينا عددًا من كتب القواعد عند الأحناف، والمالكية، والشافعية، والحنابلة، بل وعند الإمامية الشيعة، والإباضية رأينا ذلك مؤخرًا، ولم يكن لهم من قبلُ كتب معروفة في القواعد الفقهية، فأصدرتها وزارة الأوقاف العُمانية، بعنوان: "القواعد الفقهية الإباضية" في مجلدَين، ثم أصدرت عملًا آخر للقواعد الفقهية الإباضية مقارنًا بالمذاهب الأربعة والمذهب الزيدي، في ستة مجلدات، وقد قام به أيضًا الدكتور محمود مصطفى عبود آل هرموش.

إلا أنه لوحظ خلو جانب العقيدة الإسلامية- على أهميته وخطورته- من إنشاء علم قواعد لها، كما الحال في الفقه والأصول، فبينما نما وترعرع علم القواعد الأصولية والفقهية، في كل المذاهب، وبشكل متكاثر، إلا أنه ندر جدًا، بل لم يكن، في جانب الاعتقاد، رغم الحاجة الماسّة لذلك، فهو جانب يتعلق بالإيمان والكفر، وبقية مفردات العقيدة وتفاصيلها، وكثيرًا ما شطّت عقول، وزلّت أقدام، في هذا الجانب، وكانت فتنة التكفير، وفتنة استحلال دماء الناس، بسبب غياب مثل هذه المنهجية والقواعد عن الدارسين للعقيدة، والعلوم الإسلامية بوجه عام.

تناول الشافعي في كتابه، تاريخ نشأة القواعد بوجه عام، ثم أماكن وجود قواعد الاعتقاد ومظانها، وأهمية صدور عمل عنها، ورغم صدور الكتاب منذ سنوات تصل للعشر، إلا أن شيخنا الشافعي لم يُتبع ما كتبه بعمل يكمل ما بدأه، ولم يبلغنا أن سعيًا قام به نحو المضي قدمًا في هذا الموضوع المهم جدًا

محاولات تراثية

لا نعلم في تراثنا الفقهي والعقدي محاولات في تقعيد الجانب العقدي منها، إلا فيما ورد عن الإمام السُّبْكي في كتابه: (الأشباه والنظائر)، وهو كتاب قواعد على المذهب الشافعي، ولكنه في أحد أبواب الكتاب، وضعَ قواعد أطلق عليها: "في أصول كلامية ينبني عليها فروع فقهية"، وقد نبّه الباحثين لهذه القواعد، الدكتورُ جمال الدين عطية في كتابه: (التنظير الفقهي)، وكذلك الدكتور حسن الشافعي في كتابه: (مقدمة تأسيسية لعلم القواعد الاعتقادية).

سبق السُّبكي إلى ذلك أيضًا من المذهب الشافعي، الإمام أبو حامد الغزالي، في كتابه: (إحياء علوم الدين)، وهو ليس كتاب فقه أو قواعد، بالمعنى الاصطلاحي، ففي كتابه، كتب الغزالي عدة فصول، تحت عنوان: قواعد العقائد، وإن لم تكن بمعنى القواعد الاصطلاحي، لكنه شرح فيها شرحًا متوسطًا بين الاختصار والإسهاب لعقيدة أهل السنة والجماعة، في أسماء الله وصفاته، ثم درجات الاعتقاد، ثم الحديث عن أركان الإيمان على وجه الإجمال.

لم تخلُ بعض كتب القواعد الفقهية الأخرى، من وجود قواعد تتعلّق بالاعتقاد، وبخاصة في القواعد المتعلقة بالكفر، خاصة كتب القواعد التي كتبت بترتيب حروف الهجاء، وابتدأ ذلك الإمام الزركشي في قواعده المسماة بـ: (المنثور في القواعد).

ومن شرحوا هذه القواعد أو كتبوا حواشي عليها، تناولوا نفس القواعد سواء بالشرح أو الاختصار، مثل: الإمام الشعراني، عند تناوله القواعدَ الفقهية، ولم يطلق عليها فقهية، بل سمّى كتابه: (المقاصد السنية في بيان القواعد الشرعية)، وقد تناول مفردة: (كفر)، وما يتعلق بها من قواعد، ووضع عدة قواعد وضوابط في غاية الأهمية، في عدة صفحات قليلة، لكنها مهمة، وكذلك فعل الإمام العبادي في حاشيته على قواعد الزركشي.

أول كتاب تراثي عن القواعد الكلامية

في هذا السياق الزمني- بعد الغزالي، وفي القرن الذي كان فيه العز بن عبد السلام، والقَرَافي، وغيرهما، ممن عنوا بوضع كتب في القواعد الفقهية- وُجد فقيه عني بالقواعد، فكتب كتابًا بعنوان: (كتاب القواعد الكلية.. في جملة من الفنون العلمية)، وهو شمس الدين الأصفهاني، ولم يكن قد نشر من قبل، ثم نشرته مؤخرًا: نشريات وقف الديانة التركي، منذ بضع سنوات، وهو كتاب عن القواعد، تناول عددًا من العلوم وقواعدها، وهي: المنطق، وعلم الخلاف، وأصول الفقه، وأصول الدين. فقد خصص قسمًا من كتابه للقواعد الكلية المتعلقة بأصول الدين، أي: العقيدة.

ويبدو أن أحدًا لم ينتبه للكتاب؛ لأنه ظل طَوال هذه السنوات مخطوطًا، ولم يتيسّر للباحثين الاطلاع عليه إلا منذ بضع سنوات، ويعد الكتاب أول كتاب تراثي يعْنى بالقواعد الاعتقادية، وإن لم يكن أيضًا داخلًا في باب القواعد بالمعنى الاصطلاحي، بل شرح شرحًا عامًا لما يمكن أن يكون نواة لقواعد كلية عن أصول الدين.

محاولة حسن الشافعي

لا نعلم محاولة أو تجربة جادة في الأمر في عصرنا الحديث في الموضوع، سوى عند الدكتور حسن الشافعي، حفظه الله، فقد شغل وعَني منذ فترة بالموضوع، وكتب فيه أكثر من مرّة، بعد أن تبين خلو الساحة العلمية من جهد في هذا المجال، فتارة يكتب مقالًا، وتارة يكتب ورقة بحث تقدم لمجموعة من أهل العلم للنقاش والإثراء، ثم مؤخرًا قام بتوسعة هذه الورقة لتصدر في كتاب متوسط الحجم، بعنوان: (مقدمة تأسيسية لعلم القواعد الاعتقادية).

تناول الشافعي في كتابه، تاريخ نشأة القواعد بوجه عام، ثم أماكن وجود قواعد الاعتقاد ومظانها، وأهمية صدور عمل عنها، ورغم صدور الكتاب منذ سنوات تصل للعشر، إلا أن شيخنا الشافعي لم يُتبع ما كتبه بعمل يكمل ما بدأه، ولم يبلغنا أن سعيًا قام به نحو المضي قدمًا في هذا الموضوع المهم جدًا.

لا شك أن مقدمة الشافعي التأسيسية، مهمة، وكاشفة عن الموضوع، وعن أهميته، وعن خلو المكتبة الإسلامية منه، وعن ضربه نماذجَ لهذه القواعد في كتب القرآن الكريم، وكتب في ذلك مقالًا عن القواعد الاعتقادية في سورة البقرة، كنموذج يبنى عليه، سواء من خلال كتب التفسير التراثية، أو المعاصرة، التي عنيت بتناول حديث القرآن عن العقيدة، سواء من خلال التفسير التحليلي أو الموضوعي للقرآن الكريم.

ثم القواعد في السنة، وفي كتب القواعد الفقهية، وكتب العقيدة، وضرب نماذج لذلك، وللنموذج الموضوعي في القواعد، وهو جهد طيب منه، وبادرة سباقة، فلا نعلم بحثًا أو كتابًا وضع خُطة عمل للبحث في القواعد الاعتقادية، كما بيّن كتاب الدكتور الشافعي.

من يحمل هذا العبء؟

أعتقد أن مثل هذا العبء سيصعب على فرد القيام به وحده، وإن كانت البداية من أفراد غالبًا ما ستكون الأسرع والأكثر إنجازًا، لكن العمل الجماعي هنا مهم، لاتساع الموضوع، وبخاصة من في سنّ فضيلة الدكتور حسن الشافعي، ولا بد أن يخرج الأمر من إطار الأفراد إلى إطار آخر جماعي علمي.

وذلك عن طريق: مجمع الفقه الإسلامي، أو مجمع البحوث الإسلامية، أو المراكز الكبيرة التي أصبحت معنية بالبحث العلمي حاليًا، ولديها ميزانيات كبيرة، تتسع لتكوين فريق عمل كبير يليق بالعمل المطلوب، وأهميته، ويمكن اعتماد ذلك من أقسام العقيدة في الجامعات الإسلامية ليقترح على طلبة الماجستير والدكتوراه، على هيئة أبواب معينة، لكن وَفق خطة متكاملة واضحة لدى القائمين على العمل، ثم بعد ذلك تجمع هذه الأعمال في كتب.

مصادر هذه القواعد

اجتهد الدكتور الشافعي، حفظه الله، في بيان المصادر التي يمكن الرجوع إليها لتدوين هذه القواعد الاعتقادية، وما ذكره من مصادر مهمة، ولكن يضاف إليها مصادر أخرى مهمة، وذلك من خلال جهود سابقة ومعاصرة في مضمار التقعيد الفقهي، وهي تعين وتساعد في التقعيد العقائدي.

فمن المصادر السابقة، كل كتب القواعد الفقهية، أو قواعد التحديث، أو قواعد التفسير، كثير من القواعد التي وردت فيها، تصلح لتكون قواعد عقائدية كذلك، وبخاصة القواعد الكلية في هذه العلوم، والكتب التي اهتمت بالكليات في الشريعة الإسلامية، أو في الفقه الإسلامي.

كما أن تحقيق الكتب المعاصر، اجتهد فيه كثيرون معاصرون، وبدؤُوا في إضافة أنواع جديدة من الفهارس، تتعلق بالفوائد العلمية والعقدية وغيرها للكتب المحققة، لعلماء كبار، مثل كتب: ابن تيمية، وابن القيم، وغيرهما، وبخاصة طبعة: دار الفوائد، والتي كانت وفق خطة وضعها الشيخ بكر أبو زيد، رحمه الله، في كثير منها في نهاية الكتاب، عند وضع الفهارس، تُوضع فهارس للفوائد الاعتقادية، كثير منها يصلح ليكون قواعد اعتقادية.

وكذلك كتب التراجم التي تم تلخيصها، وتهذيبها، قام القائمون عليها بوضع فهارس علمية، كما في أعمال الدكتور محمد موسى الشريف، في تهذيبه لكتاب: (سير أعلام النبلاء)، وقد هذبه واختصره في أربعة مجلدات تحت عنوان: (نزهة الفضلاء.. تهذيب سير أعلام النبلاء)، وقد وَضعَ في نهاية الكتاب فهرسًا عظيمًا، على حسب الموضوعات، ومنها موضوعات الإيمان والعقيدة والكفر، وفيه قواعد مهمة، وردت في تراجم الأعلام، وكثير منهم من أهل العلم والأئمة الكبار، وكذلك بقية كتبه التي اختصرها، في السلسلة التي أصدرها بعنوان: (سلسلة التاريخ والأعلام).

الموسوعة المنشودة

المنشود تجاه هذا الفرع من العلوم الإسلامية، أن يتم البدء فيه، بعمل موسوعة القواعد الاعتقادية، لا يقف الأمر فيها عند القواعد فقط، بل ينضم إليه، الضوابط الاعتقادية كذلك، فتكون موسوعة القواعد والضوابط الاعتقادية، ثم يتسع الأمر ليتناول فيما بعد: الفروق الاعتقادية كذلك، على غرار: الفروق الفقهية.

فهناك مصطلحات ومفردات في العقيدة، تحتاج إلى بيان الفروق بينها؛ لأهميتها، مثل: الفرق بين كفر العمل، وكفر العقيدة، والفرق بين نفاق العمل ونفاق العقيدة، والفرق بين الإيمان والإسلام، والفرق بين الكتابي وغير الكتابي، والفرق بين الكافر والزنديق، وهكذا من المصطلحات والمفردات التي بينهما التقاء وافتراق.

من قبلُ قام مجمع الفقه الإسلامي بعبء الإعداد والتخطيط والإشراف على إصدار موسوعة القواعد والضوابط الفقهية، وسميت باسم: (معلمة زايد)، واستمر العمل سنوات، حتى خرجت في عمل مهم وعظيم، في مجلدات كبيرة فاقت الأربعين مجلدًا، لكنها ظلت مفخرة ومنجزًا علميًا مهمًا، والعمل على موسوعة مماثلة في العقيدة، لا يقل أهمية، لكنه ينتظر من يتبناه، ويقوم على رعايته، وما أكثر الجهات، إذا صح العزم، وصدقت النوايا.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: هذه القواعد فی القواعد والفرق بین فی کتابه فی کتاب کثیر من فی هذا فی کتب إلا أن کتب فی لم یکن کتاب ا

إقرأ أيضاً:

قرن على كتاب هز العقول !

(1)

في السابع من أبريل القادم يكون قد مر قرن كامل على صدور كتاب أثار وما زال يثير نقاشا حيويا وخصبا، يمكن اعتباره الكتاب المؤسس في الثقافة العربية الحديثة؛ وأول كتاب يثير من المعارك والجدال ما زال قائما حتى وقتنا هذا، رغم ما شهده هذا القرن من أحداث مهولة بل أحداث جسام!

عن كتاب «الإسلام وأصول الحكم»، للشيخ الجليل المستنير علي عبد الرازق (1888-1966) الذي أقام الدنيا ولم يقعدها منذ ذلك الحين بكتابه هذا (لم يتجاوز عدد صفحاته الـ136 صفحة من القطع الأقل من المتوسط)، وهو كتاب دشّن (معركة القدامى والمحدثين) أو (صراع المحافظين والمجددين)؛ مرحلة الإعلان عن بنية الثقافة والدولة الحديثة، في مواجهة تصورات وأنظمة بشرية وتجارب تاريخية انتهت ومضت، ولن يعيد التاريخ دورتها لأن التاريخ لا يعيد نفسه مهما جرى!

هذا بالضبط ما حدا بالبعض إلى النظر للكتاب، وقيمته وأهميته، كما يقول المؤرخ القدير الدكتور محمد عفيفي، من ناحية هذا المضمون الفكري "التجديدي" في بيان تاريخية نظام الخلافة وبشريته، في مقابل مَن روَّج إلى قداسة نظام الخلافة؛ إذ أوضح أن الخلافة نظام سياسي ابتدعه المسلمون، وليس نظامًا مقدسًا لا يستقيم الإسلام بدونه.

في نشرته الأولى من الكتاب يقول الدكتور محمد عمارة في تصديره لهذه الطبعة (1971): "منذ أن عرفت الطباعة طريقها إلى بلادنا لم يحدث أن أخرجت المطبعة كتابا أثار من الجدل واللغط والمعارك والصراعات مثلما أثار كتاب «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبد الرازق الذي نشر قبل ما يقرب من نصف قرن" (كتب هذه السطور سنة 1971).

(2)

وها نحن الآن، بدورنا، نؤكد صحة هذه الأسطر بعد مرور مائة عام على صدور الكتاب؛ لأسبابٍ كثيرة جدا منها أن الشيخ المستنير قد قدم وللمرة الأولى في تاريخ الثقافة العربية نقدا منهجيا لتجربة الحكم في ظلال ما سمي بالخلافة الإسلامية؛ وهي نظام للحكم أقيم على أسس حدّدتها سياقات الحكم والسياسة والعمران في وقتها؛ ولم يكن لها أدنى صلة بالعقيدة كعقيدة؛ إنما أريد لها ذلك في أزمنة تالية على نزول الوحي، ومن ثم تم تكريس هذا النظام باعتباره نظاما دينيا.

تاريخيا، وبعد الحرب العالمية الأولى (1914-1918)، وما جرى للدولة العثمانية، رجل أوروبا المريض، ونجاح أتباع تركيا الفتاة، قرر المجلس الوطني الكبير في أنقرة في نوفمبر من سنة اثنتين وعشرين (1922)، إعلان تركيا "جمهورية" وفصلها عن الخلافة، وكان قرار الفصل بين منصب رئيس الجمهورية ومنصب الخليفة، يعني الاعتراف بالاستقلال السياسي الكامل والتام عن الأتراك.

وتصدى بعض الكتاب الأتراك -آنذاك- لتأليف الكتب والدراسات التي تعضد هذا الموقف، فخرج كتاب «الخلافة وسلطة الأمة» لعبد الغني السني بك الذي أعيد نشره، كدراسة فقهية اعتمد عليها الكماليون للفصل بين الخلافة والسلطة، وفي المقابل (خاصة في مصر) كتب آخرون يرفضون هذا الإجراء مثل الشيخ الأصولي محمد رشيد رضا في المنار، وكتاب لمصطفى صبري أحد المعارضين لحزب تركيا الفتاة.

وفي مارس من سنة 1924، أُلغي منصب الخلافة ذاته في تركيا، فسَعَت أطراف عديدة إلى حيازة اللقب وفي القلب منهم ملك مصر آنذاك الملك فؤاد الأول، وكان المؤتمر الإسلامي في القاهرة جزءا من هذه الجهود.

(3)

وفي وسط هذه الموجة المحمومة من التطلع إلى وراثة نظام الخلافة ولقب الخليفة، خرج الشيخ علي عبد الرازق في أبريل من عام 1925 بكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، ليعلن من خلاله أن الخلافة ليست أصلا من أصول الدين، أبدا، بل هي اجتهاد بشري للمسلمين،

واستعرض تاريخ الخلافة والفصل الفعلي بين الخلافة وغيرها منذ العصر العباسي حتى القرن العشرين. وهناك دائما فجوة بين النموذج النظري في كتب العقائد، وبين التحقق الفعلي في التاريخ الاجتماعي للمسلمين. وتلك هي الإشكالية التي يتعرض لها الكتاب. فمشكلة الخلافة ما زال البعض يناقشها من زاوية الدين، لا من زاوية الدنيا، ومن باب العقيدة، لا من باب السياسة.

(4)

إجمالًا -وإذن- يمكن القول إن كتاب «الإسلام وأصول الحكم» قد ظهر في أعقاب إلغاء نظام الخلافة الإسلامية في تركيا عام 1924 حين انقسم الناس فريقين؛ فريق يطالب بإعادتها مرة ثانية (وستكون هذه الفكرة هي النواة التي التف حولها كل دعاة الإسلام السياسي وتسييس الإسلام من الشيخ رشيد رضا ومن بعد حسن البنا مؤسس جماعة الإخوان).. وتيار آخر يعيد النظر تماما ونقديا في نظام الخلافة، ويدعو إلى الحيلولة دون قيامها، ويتزعمه حزب (الأحرار الدستوريين)، الذي ينتمي إليه الشيخ علي عبد الرازق وعائلته، ويرأس تحرير صحيفته الدكتور محمد حسين هيكل (صاحب كتاب «حياة محمد») الذي احتفى بالكتاب احتفاءً كبيرًا في جريدة «السياسة»، لسان حال الحزب.

وقد عالج الكتاب قضية الخلافة من حيث نشأتها، وتاريخها وتطورها، وعلاقتها بالإسلام، كما يعرض لتفاصيل ذلك النظام السياسي الذي أوجده الإسلام منذ قيامه إلى زمن أو عصر المؤلف. وينتهي إلى أن الإسلام لا صلة له بالحكم، ولا بالمجتمع وشؤونه الدنيوية، وأنه يجب إنهاء الخلافة في العالم الإسلامي، بما أنها نظام غريب عن الإسلام، ولا أساس له في المصادر والأصول المعتمدة من كتاب وسنة وإجماع.

والكتاب عبارة عن مقدمة وثلاثة أقسام، القسم الأول بعنوان "الخلافة في الإسلام" تناول فيه طبيعة الخلافة، وحكم الخلافة، والخلافة من الوجهة الاجتماعية، أما القسم الثاني فيدور حول "الحكومة والإسلام" وقد تناول فيه الشيخ علي عبد الرازق نظام الحكم في عصر النبوة، مميزًا بين الرسالة والحكم، طارحًا فيه فكرته عن الإسلام باعتباره "رسالة لا حكم ودين لا دولة"، أما القسم الثالث فيتتبع فيه "الخلافة والحكومة في التاريخ"

ومنذ صدوره، أثار الكتاب جدلًا طويلًا في الأوساط الفكرية، وانقسم المثقفون إلى تيار "ليبرالي" مؤيد يمثله مفكرون ينتمون إلى حزبي (الوفد)، و(الأحرار الدستوريين)، وتيار سلفي معارض يأتي في طليعتهم الشيخ محمد رشيد رضا على صفحات مجلة «المنار»، والشيخ محمد الخضر حسين في كتابه «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»؛ فضلًا عن هيئة كبار علماء الأزهر.

وقد نشرت دراسات كثيرة حول الكتاب، باللغة العربية واللغات الأجنبية، ومن بينها كتابا «الإسلام والخلافة في العصر الحديث» لمحمد ضياء الدين الريس، و«الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبد الرازق «دراسة ووثائق» لمحمد عمارة، وهو الذي نعتمد عليه هنا في هذه الحلقة من مرفأ قراءة والحلقات التالية التي سنفصل فيها القول عن الكتاب وحوله بمشيئة الله.

(5)

لقد أراد الشيخ علي عبد الرازق من كتابه، وبما أعلنه من أفكار حرة جريئة، تحرير العقول الإسلامية؛ لكي يتمكن المسلمون من أن يسابقوا الأمم الأخرى في علوم الاجتماع والسياسة كلها، وأن يهدموا ذلك النظام العتيق الذي ذلوا له واستكانوا إليه، وأن يبنوا قواعد ملكهم ونظام حكومتهم على أحدث ما أنتجت العقول البشرية، وأمتن ما دلت تجارب الأمم على أنه خير أصول الحكم.

وتلك ببساطة -مع ضرورات الاختزال والتكثيف لحدود المساحة- هي أهم الأفكار التي يقوم عليها كتاب الشيخ المستنير علي عبد الرازق الذي كان ثائرًا بحق على الأوتوقراطية والثيوقراطية معا، والذي التقط أسلحته من الإنجاز العقلاني التراثي الإسلامي الأصيل، ومن الإنجاز الموازي لدعاة الدولة المدنية في الغرب الأوروبي الذي كان يعرفه، ولا يتردد في الإفادة منه عملًا بقول الرسول (صلى الله عليه وسلم): «اطلبوا العلم ولو في الصين»، وكان هدفه إعادة فتح أبواب الاجتهاد على مصاريعها، وهو أمر لا يقل عن إيمانه بالدولة المدنية ودفاعه عنها.

مقالات مشابهة

  • ترامب يفرض رسوما جمركية على طيور البطريق
  • دماء تحت النار.. الاحتلال يستهدف الصحفيين والمدنيين في قصف فجري على غزة
  • مسؤول عراقي يوجّه نصيحة للرئيس «ترامب» ويهدد بضرب القواعد الأمريكية
  • كارثة صحية.. 13 ألف مريض في غزة بحاجة لعلاج في الخارج
  • الاتحاد الديمقراطي: سوريا بحاجة لاطراف دولية ونرفض مركزية دمشق
  • دماء على الأسفلت.. التصريح بدفن جثة شخصين توفيا بحادث تصادم مروع بالجيزة
  • قرن على كتاب هز العقول !
  • صيام الست من شوال .. فضلها وحكم صومها متتابعة.. اعرف أحكامها وآراء المذاهب الفقهية
  • الضربات الإسرائيلية في سوريا: الكشف عن السبب الحقيقي وراء استهداف القواعد الجوية التركية
  • الاتحاد الأوروبي يفرض عقوبات «ماليّة» على لاعبي ريال مدريد