الخميس 11 يناير الجارى، يوم مشهود في محكمة العدل الدولية.. جنوب أفريقيا قدمت نفسها كدولة تتحدث باسم ضمير الإنسانية.. دفوع قانونية محددة، أدلة دامغة، وغلق لكل الدفوع التي قد تستخدمها إسرائيل.
لقد لفتت دولة جنوب أفريقيا الأنظار إليها بعد إقدامها على رفع قضية أمام محكمة العدل الدولية ومقرها لاهاى فى هولندا، ضد دولة إسرائيل لما ارتكبه جيشها فى قطاع غزة، من أعمال وحشية تعادل الإبادة الجماعية والتطهير العرقي.
أقدمت دولة جنوب أفريقيا على هذه الخطوة الجريئة بعد فشل مجلس الأمن الدولى فى اتخاذ قرار بوقف الحرب وإدانة إسرائيل مرتين، بسبب الفيتو الأمريكي. أقدمت جنوب أفريقيا على رفع القضية أمام المحكمة الدولية والتى لايوجد فيها حق النقض (الفيتو)، ونظرت المحكمة يومى ١١-١٢ يناير الجارى القضية. هذه الخطوة الشجاعة من جنوب أفريقيا، حتى ولو انتهت بحفظ القضية، قد يكون لها تأثير سياسى ومعنوى كبير على صورة إسرائيل أمام المجتمع الدولى كدولة معتدية، ارتكبت جرائم ضد المواطنين العُزّل فى قطاع غزة، تدمى لها القلوب، وتقترب من جرائم النازى فى الحرب العالمية الثانية، والتى استغلتها إسرائيل لابتزاز العالم على مدى العقود الماضية. ماقامت به دولة جنوب أفريقيا أعاد إلى ذاكرتى الكثير عن هذا البلد الأفريقى الذى يتشابه مع مصر فى الكثير من الخصائص المشتركة. تذكرت زيارة الرئيس الفائز بجائزة نوبل للسلام نيلسون مانديلا، الى جامعة اكسفورد فى انجلترا فى شهر يوليو سنة ١٩٩٧. أثناء الزيارة شهدت جامعة أكسفورد العريقة تجمعًا كبيرا من كل دول العالم، جاءوا للاحتفاء بنيلسون مانديلا، مع لافتات ترحيب بالرجل الذى كان يُمثل الضمير العالمى (Man of the world).
الاحترام والتقدير الذى قُوبل به مانديلا فى اكسفورد، جعل الجامعة العريقة تسمح للطلاب والطالبات من جنوب افريقيا الحضور وإلقاء كلمة للترحيب بالرئيس مانديلا، وكانت المرة الأولى التى تسمح فيها الجامعة العريقة بكسر البروتوكول والسماح للطلاب (بالرقص الأفريقى مع مانديلا) داخل الجامعة، فى إشارة إلى تخلى الجامعة عن تقاليدها العريقة احترامًا وتقديرًا للضيف العظيم. كلمات مانديلا كانت مؤثرة جدا خاصة قوله "إن الغنى الفاحش هنا (يقصد فى النصف الشمالى من الكرة الأرضية)، والفقر الشديد هناك (يقصد فى الجنوب) يحمل خطورة على السلم والأمن الدوليين. مانديلا تحدث بشجاعة وصراحة عن القضية الفلسطينية، وحق الشعب الفلسطينى فى العيش بكرامة داخل دولة فلسطينية حسب قرارات الأمم المتحدة، مثله مثل باقى شعوب العالم. شجاعة مانديلا ظهرت فى ردوده على أسئلة الصحفيين عندما سألوه عن الإرهاب وقال إن تصنيف الغرب للإرهاب مخالف لفهمه لمعنى كلمة الإرهاب، وضرورة التفرقة بين الإرهاب وحق الشعوب فى الكفاح المسلح لتحقيق أهدافها المشروعة. وكان صريحًا ومباشرًا عندما قام بشكر البلاد والشخصيات التى وقفت مع بلاده وساعدتها للتخلص من التفرقة العنصرية، خاصةً ليبيا والعقيد معمر القذافي، رغم اتهام ليبيا فى وقتها بالإرهاب. ربما يكون نيلسون مانديلا هو أشهر من حصلوا على جائزة نوبل، من بين عشر شخصيات من جنوب أفريقيا حصلت على الجائزة الكبرى فى السلام والأدب والطب. ولجنوب أفريقيا جامعات مرموقة ترتيبها متقدم بين جامعات العالم (من بين أول ٢٠٠ جامعة على المستوى الدولي)، كما أن لها مشاركة فاعلة فى كل المجالات العلمية والثقافية والاجتماعية والرياضية، واستضافت كأس العالم لكرة القدم سنة ٢٠١٠. وعلى المستوى الشخصي، تعرفت على العديد من الزملاء الأفاضل من دولة جنوب أفريقيا أثناء دراستى وعملى فى انجلترا، وبعد عودتى إلى أرض الوطن. كانت المناقشات مع الزملاء تدور حول واجب كل من مصر وجنوب أفريقيا ونيجيريا (الدول الثلاث الأكثر أهمية فى القارة) فى النهوض بالقارة الأفريقية فى مجال تطوير وتحديث الخدمات الصحية فى أفريقيا. الملفت للنظر أن مصر وجنوب أفريقيا تجمعهما خصائص مشتركة مثل التاريخ العريق، والجغرافيا المتميزة والتعدد الديموجرافى للسكان. فمصر تقع عند التقاء قارات أفريقيا وآسيا، وتتحكم فى قناة السويس الهامة جدا للاقتصاد العالمى والتجارة الدولية. وجنوب أفريقيا تقع فى جنوب القارة وتطل على المحيطين الهندى والأطلسي، وتتحكم فى طريق رأس الرجاء الصالح، ومركز هام للسياحة والترانزيت بين أفريقيا وآسيا واستراليا ونيوزيلاندا.
فى لقاءات الزملاء الأفارقة، كنا نقترح أن تكون مصر هى مركز التدريب والتعليم فى منطقة شمال أفريقيا، وأن تكون نيجيريا مسئولة عن غرب القارة، وجنوب أفريقيا عن جنوب القارة تحت الصحراء.
المصادفة أن تخصصى الدقيق، وعملى كرئيس للمنظمة المصرية للأورام النسائية، أن تقابلت مع رئيسة المنظمة الدولية للأورام النسائية السابقة والحالية والاثنتين من جامعة جوهانسبرج. آخر زيارة للرئيسة الحالية كانت يومى ٧-٨ ديسمبر فى القاهرة، وتحدثنا عن التعاون المصرى مع جنوب أفريقيا، ومع المنظمة الدولية لتحسين جودة التدريب للمتخصصين فى مجال علاج الأورام النسائية، ووعدت بزيارة جامعة المنصورة فى شهر أبريل القادم.
مرحبا بالتعاون مع الزملاء الأفارقة، وبرافو لشجاعة وقوة مواقف دولة جنوب أفريقيا.
*رئيس جامعة حورس
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: جنوب أفريقيا ضمير الإنسانية مصر دولة جنوب أفریقیا وجنوب أفریقیا
إقرأ أيضاً:
الأدب المسرحي ضد العنصرية.. وفاة كاسر محرمات جنوب أفريقيا أتول فيوغارد
توفي الكاتب المسرحي الجنوب أفريقي أتول فيوغارد عن عمر ناهز 92 عاما، تاركا وراءه إرثا أدبيا ومسرحيا شكّل علامة فارقة في النضال ضد نظام الفصل العنصري.
ونعت بلدية مدينة كيب تاون -الأحد- هذا المسرحي البارز الذي واجه محرمات النظام العنصري من خلال أعماله الجريئة التي جمعت ممثلين من البيض والسود على خشبة المسرح، متحديا بذلك القوانين الجائرة التي حاولت فرض التفرقة العنصرية في جميع نواحي الحياة.
وفي بيان لها، أشادت بلدية كيب تاون بإسهامات فيوغارد، مؤكدة أن "كل من تأثر بفنه سيبقى يحمل إرثه الإبداعي"، لافتة إلى أنه "اشتهر بمواقفه الثابتة ضد نظام الفصل العنصري".
وُلد فيوغارد في 11 يونيو/حزيران 1932 ببلدة ميدلبورغ خلال حقبة كان فيها الفصل العنصري سياسة رسمية متجذرة تحرم السود من حقوقهم الأساسية.
وفي عام 1961 قدّم واحدة من أولى مسرحياته الكبرى "عقدة الدم"، والتي تناولت قصة أخوين غير شقيقين، أحدهما أبيض (أدى دوره فيوغارد نفسه)، والآخر أسود، يجتمعان على خشبة المسرح أمام جمهور مختلط، وهو أمر كان يعد سابقة خطيرة في ظل النظام العنصري.
لكن لم يطل الأمر حتى فرضت السلطات حظرا على الفرق المسرحية المختلطة، ومنعت وجود جمهور متنوع الأعراق في المسارح، مما دفع فيوغارد إلى التعاون مع فرقة "سربنت بلايرز" التي ضمت ممثلين سودا -بينهم جون كاني- لتقديم عروض مسرحية تتناول واقع الحياة في جنوب أفريقيا آنذاك.
إعلانومن أشهر مسرحياته "بوسمان ولينا" التي عرضت لأول مرة عام 1969، وتناولت قسوة الحياة التي يعانيها زوجان من السود، وتم تحويلها إلى فيلم سينمائي عام 2000 من بطولة داني غلوفر وأنجيلا باسيت.
تدور المسرحية حول شخصيتين من عرق مختلط، يعيشان منبوذين يتجولان في أراضٍ طينية بالقرب من نهر، وخلال رحلتهما يحاولان البحث عن جذورهما والمصالحة مع ماضيهما، لكنهما يواجهان صراعات داخلية وخارجية.
ووسط الظلام الذي يلف حياتهما يظهر رجل أسود يحاول سرد قصته، لكن حاجز اللغة يمنعهما من التواصل معه، ويتوفى الرجل الأسود بجانب نارهما، وفي لحظة نادرة وسط الألم واليأس تقرر "لينا" أن تغني وترقص.
كسر القيود المسرحيةمن جانبه، عبّر الممثل المسرحي الجنوب أفريقي جون كاني المعروف بصوته الأجش الذي ميز شخصياته في أفلام "مارفل" و"ديزني" عن حزنه الشديد لفقدان صديقه فيوغارد، مشيرا إلى أنهما تشاركا العمل معا منذ شبابهما.
ولم تكن شراكتهما مجرد تعاون مسرحي، بل كانت تحديا صريحا للنظام العنصري، إذ تجاهل الاثنان القوانين الجائرة، وعقدا تدريباتهما في الخفاء داخل الفصول الدراسية والمرائب هربا من مضايقات الشرطة.
وفي هذا السياق، أشادت صحيفة غارديان البريطانية عام 2012 بشجاعة فيوغارد، واصفة إياه بـ"الأفريكاني العنيد الذي ساعد في كشف وحشية نظام الفصل العنصري وظلمه الأعمى للعالم".
لم يقتصر تأثير فيوغارد على المسرح، بل امتد إلى السينما، إذ سُلطت الأضواء عليه مجددا عام 2006 عندما فاز فيلم "تسوتسي" المقتبس من قصة قصيرة كتبها عام 1961 بجائزة الأوسكار لأفضل فيلم أجنبي، ليصبح أول فيلم جنوب أفريقي ينال هذا التكريم.
أما مسرحيته "السيد هارولد والصبيان" -التي استلهمها من سيرته الذاتية- فتدور أحداثها في خمسينيات القرن الماضي، وتتناول قضية التحيز العنصري من خلال العلاقة بين مراهق أبيض ورجلين أسودين يعملان لدى عائلته.
إعلان ثيمة المقاومةشكّلت مسرحيات أتول فيوغارد مرآة تعكس معاناة السود في جنوب أفريقيا، إذ تكررت في أعماله ثيمة المقاومة، ولا سيما في مسرحيتيه الشهيرتين "سيزوي بانزي مات"، و"الجزيرة"، واللتين كتبهما بالتعاون مع رفيقيه في النضال المسرحي جون كاني ووينستون نتشونا.
تناولت مسرحية "سيزوي بانزي مات" -التي عُرضت لأول مرة عام 1972- قضايا الهوية والكرامة الإنسانية، حيث تدور حول رجل أسود يجد بطاقة هوية لشخص متوفٍ، ويضطر إلى انتحال هويته للحصول على فرصة عمل، في إدانة واضحة للقوانين العنصرية التي فرضت قيودا مشددة على حركة السود في البلاد.
"صحيح أن نظام الفصل العنصري حصرني، لكنني فخور بالعمل الذي نتج عن ذلك، والذي يحمل اسمي"
أما مسرحية "الجزيرة" -التي استُلهمت من تجربة السجناء السياسيين في جزيرة روبن آيلاند حيث سُجن نيلسون مانديلا- فقد سلطت الضوء على القمع السياسي والمعاناة داخل المعتقلات من خلال قصة رجلين يقضيان حكما بالسجن مع الأشغال الشاقة.
وفي تصريح لوكالة الصحافة الفرنسية عام 1995 بعد عام من أول انتخابات ديمقراطية غير عنصرية في جنوب أفريقيا قال فيوغارد "صحيح أن نظام الفصل العنصري حصرني، لكنني فخور بالعمل الذي نتج عن ذلك، والذي يحمل اسمي".
وكان هذا الموقف انعكاسا واضحا لإيمانه بدور الأدب والمسرح باعتبارهما وسيلة قوية للمقاومة والتغيير.
إرث مستمر بعد زوال الفصل العنصريلم يتوقف فيوغارد عن استكشاف تداعيات الفصل العنصري حتى بعد انتهائه رسميا في عام 1994، إذ واصل في أعماله المسرحية استعراض إرث هذا النظام في جنوب أفريقيا الجديدة.
وفي مسرحية "الرجل الأول" الصادرة عام 1997 عاد إلى طفولته وتأملاته الشخصية، في حين ناقش في مسرحية "أرض الناس الجميلة" -التي كتبها في العقد الأخير من حياته- التحديات الاجتماعية والاقتصادية التي واجهتها البلاد بعد التحول الديمقراطي.
إعلانحصد فيوغارد خلال مسيرته الحافلة العديد من الجوائز، كان أبرزها جائزة توني الخاصة عام 2011 عن مجمل أعماله المسرحية -وهي واحدة من أرفع الجوائز المسرحية في العالم- تقديرا لإسهاماته الفريدة في الفن المسرحي.
كما منحته الأكاديمية البريطانية لفنون السينما والتلفزيون جائزة تقديرية عن إبداعاته السينمائية والمسرحية.
وتأثر أتول فيوغارد بالنسيج القانوني والسياسي لجنوب أفريقيا، كما تأثر بكتاب عالميين مثل جورج أورويل وبرتولت بريخت وآرثر ميلر الذين استخدموا المسرح أداة نقدية لكشف الاستبداد والظلم.
وبفضل جرأته أصبح أحد الأسماء البارزة في حركة "المسرح الاحتجاجي"، والتي ظهرت في جنوب أفريقيا لمواجهة التمييز العنصري من خلال الأعمال الدرامية.
يذكر أن أعمال فيوغارد لم تكن تُعرض بسهولة في جنوب أفريقيا خلال فترة الفصل العنصري، إذ كانت تُمنع أو تُفرض عليها رقابة صارمة، مما اضطره إلى تقديم عروض سرية أو نقل مسرحياته إلى خارج البلاد، حيث لقيت إشادة واسعة في لندن ونيويورك ومدن أخرى.
ووُلد أتول فيوغارد عام 1932 في بلدة ميدلبورغ بجنوب أفريقيا لأب من أصول أيرلندية وفرنسية وأم أفريقية.
ونشأ في بيئة متواضعة بمدينة بورت إليزابيث، حيث التحق بمدارس محلية، قبل أن يدرس الفلسفة والأنثروبولوجيا في جامعة كيب تاون، لكنه تركها دون إكمال دراسته.
قضى فيوغارد فترة من حياته في التدريس، إذ عمل أستاذا مساعدا للكتابة المسرحية والإخراج بجامعة كاليفورنيا في سان دييغو.
ورغم عودته إلى جنوب أفريقيا بعد انتهاء الفصل العنصري فإنه أعرب عن خيبة أمله من التحديات التي واجهتها البلاد في فترة ما بعد الفصل العنصري، وهي الخيبة التي يشترك فيها معه كثير من أبناء جيله من المناضلين ضد الفصل العنصري.