الشراكة الجديدة بين إيران والعراق في مجال الطاقة مهمة بسبب احتياطياتهما الهائلة من النفط والغاز، وموقعهما الجغرافي الاستراتيجي، ونفوذهما في الشرق الأوسط، ما يعزز قوة الهلال الشيعي، حيث تعمل إيران على توسيع نفوذها من خلال السبل السياسية والاقتصادية والعسكرية.

هكذا يتحدث المحلل الاقتصادي سيمون واتكينز، في تحليل لموقع "أويل برايس"، وترجمه "الخليج الجديد"، مشيرا إلى اكتساب الصين وروسيا مزايا جيوسياسية من هذا التحالف، بما في ذلك السيطرة على طرق شحن النفط والغاز الطبيعي المسال الرئيسية في الشرق الأوسط.

واتفقت إيران والعراق الأسبوع الماضي، على إنشاء سلسلة من اللجان التنفيذية تهدف إلى زيادة التعاون في جميع مجالات قطاع الطاقة وخارجه.

ولأن الولايات المتحدة أصبحت الآن المنتج الرائد على مستوى العالم للنفط الخام والغاز الطبيعي والغاز الطبيعي المسال، فقد يتساءل العديد عن السبب وراء هذا التحالف الجديد، في ظل اعتماد العالم يعتمد على الطاقة، التي لا تزال معظم مواردها في الشرق الأوسط.

كما أن الصراع المستمر للسيطرة على الطاقة، هو العامل الرئيسي في تحديد كيفية عمل العالم سياسيا، بما في ذلك الولايات المتحدة.

ووفق التحليل، فإن القوى الكبرى في مجال النفط والغاز، مثل إيران والعراق، هي الأكثر أهمية، والتعاون الوثيق بين البلدين سوف يكون إما "نعمة أو نقمة"، اعتماداً على الدولة التي تنظر إلى الوضع.

اقرأ أيضاً

في ظل أزمة الطاقة.. تهافت غربي على إمدادات الغاز الجديدة في مصر والشرق الأوسط

وتعد أحد الأسباب التي تجعل إيران والعراق أهم قوتين نفطيتين في الشرق الأوسط هو أنهما يمتلكان معًا أكبر موارد النفط والغاز في المنطقة على الإطلاق.

وتمتلك إيران ما يقدر بنحو 157 مليار برميل من احتياطيات النفط الخام المؤكدة، أي ما يقرب من 10% من الإجمالي العالمي.

وعلى الرغم من ضخامة احتياطياتها النفطية، فإن احتياطيات الغاز لديها أكبر، حيث تمتلك إيران احتياطيات مؤكدة من الغاز الطبيعي تبلغ 1193 تريليون قدم مكعب، أي 17% من الإجمالي العالمي.

وبالإضافة إلى ذلك، تتمتع إيران بمعدل نجاح مرتفع في التنقيب عن الغاز الطبيعي، من حيث الحفر العشوائي، والذي يقدر بحوالي 80%، مقارنة بمتوسط معدل النجاح العالمي الذي يتراوح بين 30-35%.

وفي مواجهة العقوبات الضخمة المستمرة، تنتج إيران حوالي 3.4 ملايين برميل يوميًا من النفط، وأكثر من مليار متر مكعب يوميًا من الغاز.

ومن الناحية الواقعية، يمكنها زيادة إنتاج النفط إلى 6 ملايين برميل يوميا في غضون 3 سنوات على الأكثر، وإلى 1.5 مليار متر مكعب يوميا خلال نفس الفترة، مع استثمارات متواضعة نسبيا، وتحديثات فنية، وانضباط في التنمية.

اقرأ أيضاً

تحليل: صفقات مبادلة الطاقة تعزز استراتيجية العلاقات بين إيران والعراق

يشار إلى أن تقديرات إيران غير الرسمية لاحتياطيات النفط والغاز أعلى بكثير، ومن المرجح أن تثبت دقتها بمرور الوقت.

وينطبق الشيء نفسه على العراق، حيث رسميًا لا يزال لديه حوالي 145 مليار برميل من احتياطيات النفط الخام المؤكدة، أي حوالي 8% من الإجمالي العالمي.

وبنفس التحذيرات، كما هو الحال مع إيران، يمكنها بشكل واقعي زيادة إنتاج النفط إلى 7 ملايين برميل يوميا في غضون 3 سنوات على الأكثر، ثم إلى 9 ملايين برميل يوميا، وربما بعد ذلك إلى 12 مليون برميل يوميا.

ولم يتم فعل الكثير لتقييم أو تطوير احتياطيات الغاز المصاحب وغير المصاحب، لكن من المرجح أن تكون على نطاق مماثل لاحتياطيات إيران.

كما أن حقيقة أن إيران والعراق تشتركان في العديد من أكبر احتياطياتهما النفطية تزيد من قوة تحالفهما وأهميته.

وبفضل هذه الحقول المشتركة، تمكنت إيران منذ فترة طويلة من إرسال ما تريد من النفط والغاز إلى أي مكان تريده تقريبًا من خلال عدة طرق.

اقرأ أيضاً

6 نزاعات رئيسية حول الطاقة بالشرق الأوسط.. هل تعرفها؟

أما السبب الثاني الذي يجعل البلدين من أهم قوى الطاقة في الشرق الأوسط، وفق تحليل "أويل برايس"، فهو أنهما يشكلان المركز الجغرافي للمنطقة بأكملها، ويمثلان بوابة من الشرق الأقصى إلى أوروبا إلى الشمال الغربي وإلى أفريقيا إلى الجنوب الغربي.

وهذا يجعلها أساسية لنجاح مبادرة "الحزام والطريق" الاقتصادية والعسكرية الصينية في انتزاع السلطة على مدى أجيال، ولطموحات روسيا السياسية والعسكرية على طول الساحل الشرقي للبحر الأبيض المتوسط.

وكان أحد الطموحات طويلة الأمد من جانب إيران، وكذلك من جانب روسيا، هو استخدام إيران والعراق لإنشاء "جسر بري" دائم من طهران إلى البحر المتوسط يمكن من خلاله زيادة حجم ونطاق تسليم الأسلحة إلى جنوب لبنان بشكل كبير، ومنطقة مرتفعات الجولان السورية.

وهذا من شأنه أن يخلف تأثيراً مضاعفاً هائلاً للقوة التي قد يستخدمها الحرس الثوري الإيراني في سوريا، وقوات "حزب الله" في لبنان و"حماس" في فلسطين، في شن هجمات على إسرائيل.

والهدف من هذا من جانب إيران هو توحيد الدول الإسلامية في العالم ضد ما تعتقد أنها "معركة وجودية" ضد التحالف الديمقراطي اليهودي المسيحي الواسع النطاق للغرب، والذي تقع الولايات المتحدة في مركزه.

ووفق التحليل، تتماشى مصلحة روسيا إلى جانب إيران في خطة الجسر البري هذه مع هدف السياسة الخارجية الواسع لموسكو المتمثل في خلق الفوضى حيثما أمكن ذلك، والتي يمكنها في النهاية تقديم حلولها الخاصة بها.

اقرأ أيضاً

أتلانتك كاونسل: مستقبل واعد لمشاريع الطاقة المتجددة في الشرق الأوسط

وفي ظل نظام رئيس سوريا بشار الأسد المدعوم من روسيا وإيران، تتمتع دمشق بأربع مزايا استراتيجية ضخمة بالنسبة لروسيا، أولها أنها أكبر دولة على الجانب الغربي من قوة الهلال الشيعي، الذي عملت روسيا على تطويره لسنوات كنقطة مقابلة لمجال نفوذ الولايات المتحدة الذي كان يتركز في السعودية (لإمدادات الهيدروكربونات) وإسرائيل (للأصول العسكرية والاستخباراتية).

أما ثاني هذه المزايا، فإن سوريا توفر خطاً ساحلياً طويلاً على البحر المتوسط، يمكن لروسيا أن ترسل منه منتجات النفط والغاز (سواء الخاصة بها أو منتجات حلفائها، وأبرزها إيران) للتصدير النقدي، بالإضافة إلى الأسلحة والمواد العسكرية الأخرى للتصدير السياسي.

وثالث المزايا، فهي أن سوريا تعد مركزا عسكريا روسيا حيويا، مع ميناء بحري رئيسي واحد (طرطوس)، وقاعدة جوية رئيسية واحدة (اللاذقية)، ومحطة تنصت رئيسية واحدة (خارج اللاذقية مباشرة).

ورابعًا، يُظهر أن النفوذ الروسي في سوريا، يظهر لبقية الشرق الأوسط أن موسكو قادرة على التصرف بشكل حاسم إلى جانب السلالات الاستبدادية في جميع أنحاء المنطقة.

ويقول التحليل إن "النفوذ الكبير الذي تتمتع به إيران والعراق على هلال السلطة الشيعي، يشكل السبب الأوسع الثالث الذي يجعل البلدين من أهم الدول في المنطقة".

اقرأ أيضاً

وزير الطاقة الإيراني يزور بغداد لحسم خفض إمدادات الغاز للعراق

ويضيف: "باعتبارها القوة الشيعية الرئيسية في العالم، تقع إيران في قلب هذا الهلال، لكن نفوذها من خلال وكلائها السياسيين والاقتصاديين والدينيين والعسكريين على العراق غير الخاضع للعقوبات يسمح لها بحرية أكبر بكثير في إبراز كل من هذه الروافع".

ويتابع: "أصبحت إيران (بمساعدة العراق) تتمتع بالفعل بوضع مهيمن في 3 من الدول الرئيسية في الهلال الشيعي (لبنان وسوريا واليمن)، وهي تواصل دفع رسائلها السياسية، بمساعدة روسيا، إلى تلك البلدان الواقعة على أطراف الهلال والتي لديها بالفعل موطئ قدم فيها بشكل مباشر أو غير مباشر".

وتشمل هذه الدول بشكل خاص أذربيجان (75% من الشيعة ودولة تابعة للاتحاد السوفييتي السابق) وتركيا (25% من الشيعة التي لا تزال غاضبة من عدم قبولها بالكامل في الاتحاد الأوروبي، وحليف قوي على نحو متزايد لروسيا).

أما بالنسبة للصين وروسيا، يقول التحليل: "جلبت السيطرة على إيران (وبالتالي على العراق أيضًا) عددًا كبيرًا من المزايا الجيوسياسية الإيجابية، خاصة أن الولايات المتحدة غادرت المنطقة بالكامل على نطاق واسع في نهاية عام 2021 عندما أنهت مهمتها القتالية في العراق".

إحدى هذه المزايا، والتي يتم تسليط الضوء عليها حاليًا في الاضطرابات الكبيرة التي تشهدها حركة الشحن حول البحر الأحمر، هي أنهم يسيطرون على طرق شحن النفط والغاز الطبيعي المسال الرئيسية في جميع أنحاء الشرق الأوسط.

اقرأ أيضاً

العراق وإيران يوقعان مذكرة تفاهم في مجال الطاقة

ووفق التحليل، فإن مشكلة سفن الدول التي يُنظر إليها على أنها متحالفة من المفترض مع إسرائيل (ولكن في الواقع مع الولايات المتحدة وحلفائها) تبدأ فعليًا قبل الوصول إلى البحر الأحمر  في الواقع، في مكان ما شرق ساحل عمان على بحر العرب، والذي يتدفق بعد ذلك إلى البحر الأحمر، وخليج عدن على الساحل الجنوبي لليمن.

وفي هذه المرحلة، يجب أن تمر السفن عبر نقطة الاختناق الحاسمة في مضيق باب المندب.

ويتدفق هذا الممر المائي الذي يبلغ عرضه 16 ميلاً بين الساحل الغربي لليمن من جهة، والسواحل الشرقية لجيبوتي في البداية ثم إريتريا من جهة أخرى، قبل أن ينضم إلى البحر الأحمر.

ويتابع التحليل: "من خلال نفوذها على إيران، الذي تم ترسيخه في اتفاقية التعاون الشامل بين إيران والصين لمدة 25 عامًا، تمكنت الصين من السيطرة على الكثير مما يحدث عبر طرق الشحن الحيوية هذه".

ويزيد: "أعطى الاتفاق نفوذاً هائلاً للصين على مضيق هرمز، الذي يمر عبره حوالي 30% من النفط العالمي، كما منح الاتفاق نفسه سيطرة كبيرة على مضيق باب المندب (الذي يسيطر عليه من الجانب اليمني الحوثيون المدعومين من إيران)، وعلى الجانب الآخر جيبوتي وإريتريا (كلاهما تدينان بالمال لبكين كجزء من الاتفاق)".

ويختتم التحليل: "في الوقت الحالي، يبدو أن الصين تستخدم هذا النفوذ لتقليل فرص التوسع الدراماتيكي في الحرب بين إسرائيل وحماس، ولكن يبقى أن نرى إلى متى سيستمر هذا الأمر".

اقرأ أيضاً

إيران تدعو لتوثيق العلاقات مع روسيا والعراق وفنزويلا في مجال الطاقة

المصدر | سيمون واتكينز/ أويل برايس - ترجمة وتحرير الخليج الجديد

المصدر: الخليج الجديد

كلمات دلالية: إيران العراق الطاقة روسيا الصين أمريكا النفط الغاز الشرق الأوسط الولایات المتحدة فی الشرق الأوسط والغاز الطبیعی إیران والعراق الغاز الطبیعی ملایین برمیل البحر الأحمر النفط والغاز الرئیسیة فی برمیل یومیا إلى البحر اقرأ أیضا من النفط من خلال فی مجال

إقرأ أيضاً:

تركيا في الشرق الأوسط الجديد: لاعب أم صانع قواعد؟

تولي تركيا أهمية مركزية لمنطقة الشرق الأوسط باعتبارها العمق الإستراتيجي لأمنها القومي العسكري والاقتصادي، وسعت أنقرة خلال عقود مضت عبر بوابات الطرق الدبلوماسية المرنة والأدوات الاقتصادية، ثم الخيارات العسكرية، لضمان مصالحها الحيوية الجيوسياسية في المنطقة، وخاصةً مع الدول المحاددة لها؛ حيث تعاملت مع هذه الدول كحقيقة جغرافية وتاريخية وعسكرية تربطها بها على امتداد قرون عديدة، وزاد من ظهور الدور التركي المؤثر وتصاعده خلال العقود الثلاثة الأخيرة، تراجع قدرات دول عربية مهمة كالعراق، وسوريا.

علاقات تركيا مع دول الشرق الأوسط جمعت بين السعي لإحلال السلام من خلال مساهمتها في تخفيف حدة المشاكل بينها وبين هذه الدول بغض النظر عن قربها أو بعدها عن حدودها، وفي ذات الوقت طرح نفسها كشريك استثماري يمكن الوثوق بقدراته بما يجعل من بوابة مشاريع التنمية الاقتصادية في دول الشرق الأوسط وبخاصة الإقليمية منها، مفتاح النجاح في تمكينها من الولوج إلى دوله كقوة مركزية اقتصادية هائلة.

ومثلما نجحت في إيجاد دور مهم لها في تطوير التنمية الاقتصادية، نجحت أيضًا في مطاردة أعدائها أو مواجهتهم عسكريًا، كما هو الحال مع حزب العمال الكردستاني المحظور، وأيضًا خلال أزمتها مع اليونان التي وصلت إلى حدود المواجهة العسكرية؛ بسبب تنازُع البلدين حول جزر في بحر إيجه في العامين: 1987، و1996، بما أظهر قدراتها العسكرية وجرأة قيادتها على اتخاذ القرارات الضامنة لسيادتها ومصالحها.

إعلان

اقتصاديًا وبحسابات منهجية دقيقة سعت أنقرة إلى تقليص حدّة التحسس الإستراتيجي بينها وبين دول الجوار العربي، التي رأت في التوجه التركي محاولة "لعَثْمنة" المنطقة عبر بوابات الاقتصاد، فنجحت في إنشاء مجالس تعاون اقتصادية إستراتيجية مع العراق، سوريا، الأردن ولبنان، كما حقّقت نجاحًا لافتًا في علاقاتها مع دول مجلس التعاون الخليجي، التي شهدت تطورًا متسارعًا وصل إلى حدود إنشاء منتدى تركي- خليجي عربي، بات اليوم أحد مظاهر التوافق الإستراتيجي في مجالات الاستثمار متعدد التخصصات الصناعية، الزراعية، السياحية والعسكرية.

وسلطت المتغيرات الجذرية في الشأن السوري، الضوء على الدور التركي بشقَّيه؛ المعلن وغير المعلن، في التحضير لعوامل نجاح الفصائل المسلحة المعارضة في السيطرة وبشكل سريع ولافت على دمشق والمحافظات والمدن السورية، وأيضًا في تهيئة الأرضية السياسية لقبول هذه المتغيرات من قبل دول إقليمية وعالمية، باستثناء إيران التي تمثل -وفق رؤى هذه الفصائل ومن ورائها تركيا- الداعم الأساس لنظام الأسد طيلة أكثر من 13 سنة.

ما حدث في سوريا أبرز بشكل كبير وخطير الدور التركي المتوقّع في الشرق الأوسط الجديد، وهو أمرٌ حظي، وما زال، باهتمام كبير من قبل مراكز صنع القرار ومؤسسات الدراسات الإستراتيجية الأميركية والغربية، كما شكّل خارطة طريق جديدة لعلاقات أنقرة مع منظومة دول الخليج العربي، وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات العربية المتحدة، ودولة قطر، ولعدة أسباب أهمها المتغيرات الإيجابية الحاصلة في سوريا وبدعم تركي مثل تطورًا نوعيًا كبيرًا في تغيير الواقع الجيوسياسي في المنطقة والذي تمثّل بإنهاء الدور الإيراني في سوريا، بما يعنيه من انحسار مشروعها الإستراتيجي في المنطقة.

تركيا الناجحة في تعاملها مع القوى الدولية كالولايات المتحدة، وروسيا، ومعظم دول الاتحاد الأوروبي، سعت لتعزيز نفوذها في المنطقة من خلال سياسة خارجية نشطة، تعتمد على مزيج من الدبلوماسية والقوّة العسكرية، والأخيرة كانت لمعالجة واحدة من معضلات الأمن القومي التركي التي تمثّل الجماعات الكردية في شمال العراق وسوريا مثل وحدات حماية الشعب (YPG)، وحزب العمال الكردستاني (PKK).

إعلان

وتقف قضية الجماعات الكردية المسلحة المعارضة للدولة التركية والتي تصنفها كجماعات إرهابية، كأحد العوامل الرئيسية الدافعة للتحرك التركي بثقله المشهود في حسم الأمور لصالح الفصائل السورية المسلحة.

الجماعات الكردية المعارضة لتركيا التي حصلت خلال السنوات الأخيرة على دعم سياسي أميركي – إسرائيلي تمثل بالاعتراف والدعم اللوجيستي لقوات سوريا الديمقراطية (قسَد)، هذه القوات مثلت في فترة ما بعد الأسد (عقدة) الوفاق الوطني السوري.

لكن تركيا التي كانت ترفض أي صيغة تمنح الأكراد دورًا موسعًا في سوريا، باتت تدرك أن تجاهل القضية الكردية لم يعد خيارًا عمليًا، خصوصًا بعد نجاحها في إقناع زعيم حزب العمال، الكردي المسجون في تركيا عبدالله أوجلان بتوجيه رسالة حثّ فيها مقاتلي حزبه على التخلي عن السلاح وحظر نشاطه العسكري؛ لذلك شجّعت أنقرةُ دمشقَ على منح الأكراد حقوقًا متساوية مع بقية مكونات الشعب السوري، في خطوة تعكس توازنًا جديدًا في تعاملها مع هذا الملف، وكان ثمرة ذلك التوجّه التركي توقيع الرئيس السوري أحمد الشرع، وقائد قوات سوريا الديمقراطية مظلوم عبدي اتفاقًا يقضي "بدمج" كافة المؤسّسات المدنية والعسكرية التابعة للإدارة الذاتية الكردية والحقول النفطية والمنافذ الحدودية في إطار الدولة السورية، وتحت نظام المواطنة المتساوية.

لقد عززت مجريات الأمور من دور تركيا في الشرق الأوسط الجديد، فالقوتان الكبيرتان في سوريا الأسد إيران وروسيا، تعاملتا مع الدخول التركي المحكم لسوريا بشيء من الواقعية بغية الحفاظ على نفوذهما هناك بعد أن تستقرّ الأوضاع، وتتوضح صورة الموقف المضطرب في ذلك البلد.

ومع انحسار المشروع الإيراني وتصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة والضفة، ولبنان، وسوريا، وربما إيران، تبقى تركيا الضامن الوحيد لدول المنطقة التي يمكن الركون إليها للتعامل مع واشنطن وتل أبيب لإيقاف هستيريا العدوان الإسرائيلي، والضغط باتجاه الانسحاب من الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل خلال عملياتها الدموية والتدميرية ضد هذه الدول.

إعلان

إسرائيل تراقب النفوذ التركي في سوريا بحذر شديد، حيث تقدر أهمية العلاقة مع تركيا وضرورة التعامل معها، بخصوصية لتجنب المشاكل الجدية معها؛ فآخر ما تخشاه تل أبيب أن تحادد تركيا عبر بوابة سوريا، كما تولي موضوع الشراكة الإستراتيجية بين دمشق وأنقرة والتي تشكّل قضية إنشاء قواعد دفاع جوي تركية عاجلة وسط البلاد لحماية الأجواء السورية جانبًا كبيرًا من المتابعة.

وهذا يفسّر قيام إسرائيل خلال الفترة التي أعقبت نجاح الثورة السورية بشنّ عمليات عسكرية عديدة داخل الأراضي السورية، كما قضمت مناطق أخرى تشكل مواقع إستراتيجية عسكرية مهمة داخل الأراضي السورية. إضافة إلى سعيها لإثارة ما يزعزع الاستقرار والأمن داخل سوريا لمشاغلة تركيا عبرها تحسبًا لأي تطورات جيوسياسية خلال السنوات المقبلة .

العراق الذي شهد أدوارًا متعددة للمليشيات الموالية لإيران، والتي تعتبر تركيا ندًا عقائديًا لها، تحرك رسميًا لكسب ودّ أنقرة لأسباب عديدة، منها ما يتعلق بإطلاق الحصص المائية لنهرَي دجلة والفرات، وأخرى لكبح جماح المليشيات الكردية التركية في شمال العراق، وفسح المجال الجوي والأرضيّ والاستخباراتي لتركيا لملاحقتها، مع منحها التراخيص لإقامة معسكرات لقواتها في مناطق حيوية بمحافظات دهوك ونينوى كمنطلقات لأعمال عسكرية دائمة.

ومع كل ذلك فإنّ الحكومة العراقية تعلن إدانتها بعضَ العمليات العسكرية التركية داخل العمق العراقي في كردستان العراق. وأيضًا توسّع العمليات العسكرية في المنطقة، وزيادة الحضور العسكري والاستخباراتي في كل الشمال العراقي، لكن بذات الوقت لا تمتلك هذه الحكومة الكثير من أوراق الضغط على أنقرة لثنيها عن ذلك، خصوصًا مع تصاعد موازين التبادل التجاري بين البلدين والتي قدّرت بـ(20) مليار دولار، والمشروع الاقتصادي الإستراتيجي الكبير المتمثّل بـ(طريق التنمية) لربط ميناء الفاو العراقي بالحدود التركية بسكك حديد وطرق برية بقيمة 17 مليار دولار.

إعلان

إيران، التي كانت حتى يوم سيطرة الفصائل المسلحة السورية على دمشق، تمثل القوة الرئيسية لنظام الأسد بما تعنيه (القوة) من معانٍ أمنية واستخباراتية واجتماعية وعقائدية، لكن، وخلال أيام معدودة وبشكل دراماتيكي انهارت هذه (القوة) لتحل محلها تركيا، وبشكل أكثر إحكامًا وتحكمًا بمجريات الأمور، وبات الدور التركي من حيث الوزن والتأثير في المشهد السوري والإقليمي، هو الأبرز والأكثر تنظيمًا.

 وتتميز أنقرة عن طهران بقدرتها على الحوار الإيجابي في الساحة الدولية والإقليمية والمحلية من خلال قدراتها الاقتصادية والعسكرية المؤثرة في المنطقة دون الولوج في مشاريع مذهبية طائفية ميزت الحراك الإيراني.

كما أن الولايات المتحدة ترحب- خصوصًا بوجود الرئيس الأميركي دونالد ترامب في فترته الرئاسية الثانية- بسوريا المتوافقة مع تركيا، بما يعني تحجيم دور إيران في هذا البلد. سياسات ترامب المعلنة تجاه طهران والإستراتيجية التي ستتبعها إيران في مواجهة هذه السياسات ستعني الكثير في تمكين تركيا من الولوج بقوة إلى الشرق الأوسط الجديد، لأن أية عمليات عسكرية ستوجَّه نحو إيران ستعني تفرّد أنقرة بمشهد الشرق الأوسط المقبل.

لقد حرصت تركيا على طمأنة دول الخليج العربي بموضوع ملء الفراغ في سوريا بعد سقوط بشار الأسد لضمان مصالح جميع الدول، ووقفت المملكة العربية السعودية في مقدمة المؤيدين لهذا التغيير، وكذلك بقية دول مجلس التعاون الخليجي التي رأت ضرورة دعم السلطات الجديدة دوليًا، والحفاظ على وحدة وسلامة أراضي سوريا، ومنع الجماعات المتطرفة من نشر الفوضى فيها وفي المنطقة.

 ونجحت تركيا إلى حد كبير في تحقيق التعاون مع الرياض لتنسيق رؤية مشتركة لمستقبل سوريا ومنع أي خلاف أو تنافس قد يؤدي إلى توترات بين البلدين، هذا التنسيق يعني فيما يعنيه كسب الاهتمام الدولي لرفع العقوبات المفروضة على سوريا الأسد والتعامل من النظام الجديد بإيجابية ودعم إعادة إعمار البلاد، وتقديم المساعدات الإنسانية والاقتصادية للشعب السوري، وهو موقف ما كان ليكون قبل أقل من عقد من الزمن، لكن نجاعة السياسة الخارجية التركية الفاعلة آتت تأثيرها في المشهد التركي- الخليجي بوضوح.

إعلان

منذ أكثر من عقدين من الزمن والعالم يسمع ترديد دول كبرى ومؤسسات بحثية عديدة، مصطلح "الشرق الأوسط الجديد"، وقد كانت هذه التلميحات أو الإعلانات بصيغها المختلفة تأتي من قادة تحرّكوا فعلًا تجاه الشرق الأوسط؛ بهدف تغييره مثل الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش ووزراء خارجيته ودفاعه، بالإضافة إلى إفادات وتهديدات قادة إسرائيليين، ومحللين سياسيين، ومراكز دراسات المستقبلات.

وقد ظن الكثيرون عام 2003 أن إيران ستكون لاعبًا أساسيًا في مراكز قوى هذا الشرق الجديد بحسب القدرات التي منحتها لها ظروف سقوط نظام صدام حسين، واحتلال العراق، والتسهيلات الأميركية لانسياحها في هذا البلد، وسوريا، ولبنان وسواها.

لكن إيران لم تحسن التعامل مع هذا المتغير، وسعت إلى تأسيس مشروعها الشرق أوسطي المرتكز على مفهوم "تصدير الثورة"، بما تسبّب في زعزعة الأمن الإقليمي، وظهور التيارات الجهادية الإرهابية التي جعلت الشرق الأوسط منطقة غير آمنة ومصدرًا للإرهاب.

لهذا السبب، ومع تطلّعها النووي غير المرغوب به دوليًا وإقليميًا، فإن الدور التركي بإسلامه "العلماني"وتحالفاته الإستراتيجية مع حلف شمال الأطلسي، وعلاقاته الوثيقة مع المنظومة الغربية والشرقية، وأيضًا محيطه العربي، وتميزه اقتصاديًا كأحد أهم الاقتصادات الفاعلة عالميًا وإقليميًا، يبقى هو الخيار الأمثل لشرق أوسط جديد تعاد به موازنات المنطقة، وتتحدد فيه آمال وتطلعات دوله بما يسمح بظهور مناطق اقتصادية هائلة تجعل طريق السلام والاستقرار والأمن غاية جميع دوله.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • العُلا تستضيف أول قمة لـ”صنّاع المحتوى” في الشرق الأوسط
  • 3.5% نمو صادرات كوريا إلى الشرق الأوسط
  • عجز الموازين التجارية.. هل يعيد تشكيل خريطة الاقتصاد العالمي؟
  • وزارة النفط تناقش آليات تعزيز التعاون مع الأمم المتحدة
  • الطاقة الدولية تقلّص توقعاتها لنمو الطلب العالمي على النفط في 2025
  • تركيا في الشرق الأوسط الجديد: لاعب أم صانع قواعد؟
  • طهران تؤكد: جولة التفاوض المقبلة مع واشنطن خارج الشرق الأوسط
  • مجلس الوزراء يعيد تشكيل «الإمارات للتنمية المتوازنة» برئاسة ذياب بن محمد
  • هل تعيد تركيا تشكيل التوازنات بمنطقة السرق الأوسط؟
  • سلطنة عمان تحتضن الحدث الأضخم في الطاقة والاستدامة بالمنطقة