الكتاب: حرب المئة عام على فلسطين ـ قصة الاستعمار الاستيطاني والمقاومة 1917 ـ 2017
الكاتب: رشيد الخالدي
الناشر: الدار العربية للعلوم ناشرون ـ بيروت ـ الطبعة الأولى 2017، (358 صفحة من القطع الكبير).


بالنسبة إلى القوة الصاعدة في الولايات المتحدة الأمريكية فقد كان الزعماء العرب الذين تم اختيار أغلبهم من قِبل أسيادهم الأوروبيين بسبب مرونَتهم وليونتهم فقد أظهروا ضَعفاً ممزوجاً بانخفاض مذهل في مستوى الخبرة وعدم الوعي للتغيرات الدولية، وقّع الملك عبد العزيز في العربية السعودية اتفاقية مستقبلية مهمة مع شركات بترول أمريكية سنة 1933 على حساب المصالح البترولية البريطانية، واجتمع مع الرئيس المريض فرانكلين روزفلت في سفينة حربية أمريكية في ربيع 1945 قبل أسابيع من وفاة الرئيس الأمريكي، وحصل على وعود مؤكدة مباشرة من الرئيس بأن الولايات المتحدة لن تفعل شيئاً يضر بالعرب في فلسطين وأنها ستتشاور مع العرب قبل القيام بأي تصرف هناك، تجاوز هاري ترومان الذي جاء بعد روزفلت جميع هذه الوعود دون اكتراث ولم يعترض الملك على ذلك ولم يقدم أي محاولة مؤثرة لصالح الفلسطينيين بسبب اعتماد النظام السعودي اقتصادياً وعسكرياً على الولايات المتحدة الأمريكية، ولم يفعل ذلك أيضاً أي واحد من أولاده الستة الذين جاؤوا من بعده، الاعتماد على أمريكا بالإضافة إلى جهل أجيال بعد أجيال من الحكام العرب بأسلوب عمل النظام السياسي الأمريكي والسياسة الدولية حرم العالم العربي من أية فرصة لمقاومة التأثير الأمريكي أو لتغيير السياسة الأمريكية.



يقول الأستاذ الخالدي ك"إن ديفيد بن غوريون وإسحاق بن زفي، الذي أصبح فيما بعد الرئيس الثاني لإسرائيل، قد قضيا سنوات عدة في نهاية الحرب العالمية الأولى في العمق من أجل القضية الصهيونية في الولايات المتحدة الأمريكية حيث عاشت غولدا مائير منذ طفولتها، (بينما كان والدي هو أول من فعل ذلك من أفراد العائلة)، فهِمت القيادة الصهيونية المجتمع الأوروبي وغيره من المجتمعات الغربية بشكل عميق متطور، وكان أغلب أفراد هذه القيادة مواطنين أو مُقيمين فيها، بينما لم يتمتع قادة العرب سوى بفهم محدود لسياسات وثقافات ومجتمعات الدول الأوروبية، فكيف العرب سوى بفهم القوى العظمى الناشئة! تحدّث والدي عن تفرق الفلسطينيين والعرب، وكذلك الدكتور حسين ويوسف صايغ ووليد الخالدي، كما وصَفوا الدسائس والخلافات الداخلية التي كانت كارثية في النهاية بالنسبة لخطة المكتب العربي في تمثيل الفلسطينيين دولياً، وكذلك بالنسبة لفرصهم في قمة صراع 1947 – 1948، لقد دخلوا هذا الصراع المصيري باستعدادات هزيلة سياسياً وعسكرياً، وبقيادة ممزقة ومتفرقة، كما لم يكن لديهم أي دعم خارجي سوى من دول عربية منقسمة بعمق وغير مستقرة وخاضعة لتأثير القوى الاستعمارية القديمة، وكان سكانها فقراء وغير متعلّمين إلى حد كبير، كان هذا بالمقاربة الصارخة مع الدعم الدولي الكبير وبناء أسس الدولة القوية الحديثة التي تمتعت به الحركة الصهيونية على مدى عقود"(ص106).

رمَت حكومة كليمنت البريطانية سنة 1947 مشكلة فلسطين في أحضان منظمة الأمم المتحدة الوليدة، أنشأت الأمم المتحدة لجنةً خاصة بفلسطين (UNSCOP) لتقديم اقتراحات بشأن مستقبل البلد، وكانت القوى المسيطرة على الأمم المتحدة هي الولايات الأمريكية والاتحاد السوفييتي، قد توقّعت الحركة الصهيونية هذه التطورات بدَهاء بفضل جهودها الدبلوماسية نحو هاتَين الدولتين، إلا أن ذلك فاجأ الفلسطينيين والعرب تماماً، ظهر توازن القوى العظمى بعد الحرب في أعمال هذه اللجنة وفي تقريرها الذي صدر مؤيداً تقسيم فلسطين بطريقة كانت في صالح الأقلية اليهودية فمَنحتْهم 56% من فلسطين مقارنةً بالدولة اليهودية الأصغَر بكثير (17%) التي اقتَرحَتها خطة تقسيم لجنة بيل (Peel) سنة 1937، كما ظهر تأثير توازن القوى العظمى الجديد كذلك في الضغط الذي أدّى لإصدار قرار الجمعية العامة رقم 181 الذي استَند إلى تقرير الأغلبية في اللجنة الخاصة بفلسطين (UNSCOP).

قرار الجمعية العمومية للأمم المتحدة رقم 181 الذي صدر في 29 نوفمبر 1947 أقرّ تقسيم فلسطين إلى دولة يهودية كبيرة ودولة عربية أصغر ووضع مدينة القدس كمنطقةٍ منفصلةٍ دولية وعكس توازن القوى الدولية الجديد، أصبح واضحاً أن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي اللذان أيدا القرار  قد لعبا الدور الحاسم في التضحية بالفلسطينيين لصالح دولة يهودية تحلّ محلَّهم وتسيطر على أغلب مناطق بلادهم، كان قرارُ التقسيم إعلان حرب آخر منح وثيقة ميلاد لدولة يهودية في أرض كانت عربية في معظم أرجائها في مخالفةٍ صريحة لمبدأ تقرير المصير الذي أعلنه ميثاق تأسيس الأمم المتحدة، وقد تبع ذلك بالضرورة طرد عدد من العرب يكفي لصنع دولة أغلبية يهودية، ومثلما لم يعتقد بلفور بأن الصهيونية ستؤذي العرب، يبدو أن ترومان وستالين عندما ضغطا لتمرير قرار التقسيم رقم 181 في الجمعية العمومية لم ينتبها أو أن مستشاريهِما لم يَمنَحوا أية أهمية لما يمكن أن يحدّث للفلسطينيين نتيجة لتصويتهما.

في حرب 1967الخاطفة حققت "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية نصراً كبيراً على الزعيم الراحل عبد الناصر والحركة القومية العربية. كانت "إسرائيل" هي التي اتخذت المبادرة بتدمير الطائرات المصرية وهي جاثمة في المطارات.في تلك الأثناء لم يعد خلق دولة يهودية هدف بريطانيا فقد استشاطت غضباً بسبب الحملة الصهيونية العتيقة التي أخرجَتها من فلسطين، كما أنها لم تعد ترغب بإثارة استياء رعاياها العرب فيما تبقى لها من إمبراطوريتها في الشرق الأوسط، ولذلك فقد امتَنعتْ بريطانيا عن التصويت على قرار التقسيم، أدرك السياسيون البريطانيون منذ الورقة البيضاء سنة 1939 أن مصالح بلادهم الرئيسية في الشرق الأوسط هي مع الدول العربية المستقلة وليست مع المشروع الصهيوني الذي رَعَتْه بريطانيا على مدى عَقدين من الزمن.

أدّى قرار التقسيم الذي أصدرته الأمم المتحدة إلى دعم القوتين الدوليتين الناشئتين في فترة ما بعد الحرب للمؤسسات الصهيونية العسكرية والمدنية، فاستعدّت للاستيلاء على أكبر جزء ممكن من الأرض، كانت المأساة الفلسطينية التي تَبِعت ذلك نتيجة ضعفهم وضعف العرب وكذلك نتيجة قوة الصهاينة وتأثير أحداثٍ كانت تجري في أماكن بعيدة في لندن وواشنطن وموسكو ونيويورك وعمّان.

يقول الأستاذ الخالدي: "عندما احتلّت الهاغانا وغيرها من الميليشيات الصهيونية الأحياء العربية للقدس الغربية في أبريل 1948 استولَتْ على المركز الرئيسي للصندوق العربي في حي القطمون وأسر مديره يوسف الصايغ، قبل ذلك بأسابيع قليلة سافر الصايغ إلى عمّان ليطلب المساعدة من الملك عبد الله ليمنع السقوط المحتّم للأحياء العربية من القدس الغربية، إلا أن القنصل الأردني العام في القدس أخبَر الملك هاتفياً أثناء وجود صايغ بعدم وجود أي خطر وصرّح: "مولاي، مَن الذي يخبركَ بهذه القصص وأن القدس ستسقط بيد الصهاينة؟ هذا غير صحيح!" رفض الملك عبد الله طلب الصايغ نتيجة لذلك، وسقطت الأحياء العربية الثرية في القدس الغربية، قضى الصايغ بقية فترة الحرب في معسكرٍ لسُجناء الحرب على الرغم من أنه لم يكن عسكرياً"(ص110)..

هزيمة 1967

في حرب 1967الخاطفة حققت "إسرائيل" والولايات المتحدة الأمريكية نصراً كبيراً على الزعيم الراحل عبد الناصر والحركة القومية العربية. كانت "إسرائيل" هي التي اتخذت المبادرة بتدمير الطائرات المصرية وهي جاثمة في المطارات. هكذا بدأت "حرب استباقية" احتلّت "إسرائيل" في نهايتها أربعة أضعاف مساحة أراضيها، في الضفة الغربية والقدس الشرقية وسيناء والجولان. وتم تشريد 400 ألف لاجئ فلسطيني جديد . ورفضت "إسرائيل"إعادة الأراضي المحتلة ،وأبقت تحت سلطتها شعباً فلسطينياً مقاوماً معتبرة أن اللجوء إلى القوة وحده يحلّ المشاكل؛ وهذا ما أغرقها في أزمة سياسية وأخلاقية عميقة، ليست فضائح الفساد المتكررسوى واحدة من ظواهرها.

يقول الأستاذ الخالدي:"عرف الرئيس ليندن جونسون أنَّ الأمر يختلف عن ذلك، فقد أخبره آبا إيبان الذي كان وزير خارجية إسرائيل خلال اجتماع عُقد في واشنطن بتاريخ 26 مايو1967 أن مصر على وشك القيام بهجوم، طلب الرئيس من وزير دفاعه روبرت ماكنمارا أن يضع الأمور في نِصابها، بحثَتْ ثلاثة مجموعات استخباراتية منفصلة جيداص في هذه القضية، وقال ماكنمارا: "حسب أفضل تقديراتنا لا يوجد احتمال للهجوم" أضاف جونسون: "وقد أجمع رجال استخباراتنا على ذلك" وعلى أنه "إذا هاجمت مصر فسنوجِّهُ لها ضربة ساحقة"، كانت واشنطن تعلم أن القوة العسكرية الإسرائيلية في حرب 1967 كانت أقوى بكثير من كافة جيوش الدول العربية مجتمعة مثلما كانت الحال في جميع الصراعات بينهم.

شنّت حركة فتح في الأول من يناير 1965 هجوماً لتعطيل محطة ضخ للمياه في وسط إسرائيل، كانت هجمة رمزية هدفها الأساسي مثل كثير غيرها هو إظهار أن الفلسطينيين يستطيعون التصرف بكفاءة حينما لا تستطيع الحكومات العربية ذلك، وكذلك لإحراج تلك الحكومات وإجبارها على التصرف..أكّدت الوثائق الحكومية التي نُشرت منذ ذلك الوقت على هذه الحقائق توقّعت مصادر عسكرية واستخباراتية أمريكية نصراً ساحقاً لإسرائيل في جميع الأحوال بالنظر إلى تفوق قواتها المسلحة، بعد خمس سنوات من حرب 1967 دولة صغيرة ضعيفة تهديداً مستمراً بالفَناء وما زالت تواجه هذا الخطر، ساعدته هذه الأسطورة على تبرير الدعم الكامل لسياسة إسرائيل مهما كانت متطرفة وعلى الرغم من دحضها مِراراً حتى من جهة آراء إسرائيلية مسؤولة"(ص 142).

تطوَّر مسار الحرب تماماً مثلما توقعت وكالة المخابرات الأمريكية ووزارة الدفاع، دمَّرت ضربة سريعة قام بها سلاح الجو الإسرائيلي غالبية الطائرات المصرية والسورية والأردنية على الأرض، منح ذلك إسرائيل تفوقاً جوياً تاماً وامتيازاً لقواتها البرية في تلك المنطقة الصحراوية في ذلك الفصل من السنة، وتمكنت أرتال المدرعات الإسرائيلية في ستة أيام من احتلال سيناء وقطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية العربية ومرتفعات الجولان.

كانت أسباب انتصار إسرائيل الحاسم في يونيو 1967 واضِحة، إلا أن العوامل التي أدت إلى الحرب كانت أقل وضوحاً، كان السبب الرئيسي في ذلك هو تصاعد جماعات الفدائيين الفلسطينيين المسلَّحين، كانت الحكومة الإسرائيلية قد بدأت بتحويل مياه نهر الأردن إلى وسط البلاد على الرغم من رفض الجماهير العربية وضعف الأنظمة العربية، شنّت حركة فتح في الأول من يناير 1965 هجوماً لتعطيل محطة ضخ للمياه في وسط إسرائيل، كانت هجمة رمزية هدفها الأساسي مثل كثير غيرها هو إظهار أن الفلسطينيين يستطيعون التصرف بكفاءة حينما لا تستطيع الحكومات العربية ذلك، وكذلك لإحراج تلك الحكومات وإجبارها على التصرف، كان المسؤولون المصريون ينظرون بعين الشك إلى حركة فتح ويعتبرونها مدفعاً منفلتاً يحرض إسرائيل بتهور في وقت كانت فيه مصر مشغولة بتدخل عسكري في حرب أهلية في اليمن وفي بناء اقتصادها.

حدث ذلك في ذروة ما أطلق عليه الباحث مالكوم كير "الحرب العربية الباردة" حينما قادت مصر تحالفاً من الأنظمة القومية العربية المتشددة ضد التحالف المحافظ بقيادة السعودية، كانت نقطة الصراع بينهم في اليمن حيث قامت ثورة ضد الملكية سنة 1962 وأدّت إلى حرب أهلية انخرطت فيها قوات عسكرية مصرية كبيرة.

إقرأ أيضا: تاريخ المقاومة الفلسطينية للاستعمار الصهيوني الاستيطاني.. قراءة في كتاب

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب الكتاب فلسطين احتلال احتلال فلسطين كتاب تاريخ كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة الأمریکیة الأمم المتحدة دولة یهودیة فی حرب حرب 1967

إقرأ أيضاً:

فصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (1) سليل الإرهاب

ابتداء من هذا العدد، تنشر بوابة «الأسبوع» فصولًا من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى» للكاتب الصحفي مصطفى بكري رئيس التحرير، والصادر عن دار كنوز للنشر والتوزيع. وفي الحلقة الأولى يرصد المؤلف تاريخ نتنياهو منذ الطفولة وعلاقته بوالده الذي لقنه الأفكار المتطرفة والمعادية للعرب والفلسطينيين، خاصة وأن جده كان من كبار دعاة الحركة الصهيونية. لقد رباه والده على كراهية أي يهودي يقبل بمصافحة العرب، وكان دائم الترديد على مسامعه «أن العربي إذا مد يده بالسلام، فانظر إلى يده الأخرى.. فإنك ستجد خنجرًا ممدودًا إليك».

الحلقة الأولى:

-والده رباه على التطرف وكراهية العرب وجده من قادة الحركة الصهيونية

- كان يقول له: العرب أقل من أن تحدثهم أو تنظر إليهم

- المفكر الصهيوني المتطرف «جابوتنسكى» كان مثله الأعلى

في الثالث والعشرين من أكتوبر لعام 1949، ولد بنيامين تسيون نتنياهو في مستشفى “أسونا” بتل أبيب، أي بعد إعلان ولادة دولة الكيان الصهيوني بعام وخمسة أشهر تقريبًا.

كان جد بنيامين خطيبًا مفوهًا.. ومن كبار دعاة الحركة الصهيونية.. وكان يمتلك قدرات هائلة لجذب المزيد من يهود العالم، خاصة اليهود الشرقيين إلى “أرض الميعاد” حسب الوصف الصهيوني، وقد عرف عنه كرهه الشديد للعرب، ومن المؤمنين بضرورة اختفائهم من فوق ظهر الأرض.

وكان “تسيون” يرى ألا يكتفى اليهود بإقامة دولتهم في فلسطين فحسب، بل يجب أن تمتد حدودها في كل الأراضي والمناطق المجاورة لـ “أرض إسرائيل” في فلسطين على حد تعبيره.

وقد طبّع الجد ميليكوفسكي أولاده التسعة، ومن بينهم “تسيون نتنياهو” والد بنيامين بشخصيته القوية والمؤثرة.. حتى أن “تسيون” كان من فرط تأثره بآراء والده.. يردد أمام أولاده بأن العرب.. “دنس.. وأن الكلاب أفضل منهم لو أقاموا فى البلدان المجاورة لنا”.

ومن أقواله كذلك “إنك إذا سرت فى الطريق مع كلب.. أفضل من أن تسير مع عربى”.. وكان يردد على مسامع أولاده بأنه لا مجال للتعامل مع العرب إلا بإبادتهم.. وأنه لا حلول وسط فى هذه المسألة.

ومنذ صغره تشرب “بنيامين” من والده “تسيون نتنياهو” حبه لزعماء الحركة الصهيونية بل وتمجيدهم، حيث كان الأب يتغنى بآباء الحركة.. بينما نجله “بنيامين” ينقل عنه هذه الأغانى ويحفظها عن ظهر قلب.. بل ويرددها أمام أصدقائه بين الحين والآخر.. مبديًا تفاخره بأن والده هو صاحب هذه الأغانى.

وكانت هناك علاقة تربط فى ذلك الوقت بين والد بنيامين و”زئيف جابوتنسكى” مؤسس الحركة التصحيحية المتطرفة، حيث شكلت تلك العلاقة إدراك وعقلية “بنيامين نتنياهو”.. .ذلك أنه كان معروفًا عن المتطرف الصهيونى “جابوتنسكى” ميوله العدوانية الواضحة ضد العرب.. وكرهه الشديد لهم.

لقد كان كل من تسيون وجابوتنسكى يؤمنان بالعنف المطلق مع العرب وحتميته.. فيما كان يسعى “حاييم دايزمان” إلى المرونة فى التعامل معهم.

وفى هذا الجو المشحون بالعداء للعرب.. ولد “بنيامين تسيون نتنياهو”، حيث رباه والده على كراهية أى يهودى يقبل مصافحة العرب.. وكان دائم الترديد على مسامعه ”أن العربى إذا مد يده إليك بالسلام.. فانظر إلى يده الأخرى.. فإنك ستجد خنجرًا ممدودًا إليك”.!!

هذه الأفكار التى آمن بها والد “بنيامين نتنياهو” هى التى دفعت المتطرف الصهيونى جابوتنسكى لأن يعينه رئيسًا لتحرير صحيفة “هايروين” الصهيونية.. والتى من خلالها لمع اسمه وذاع صيته.. حيث تخصصت تلك الصحيفة فى مهاجمة كل يهودى أو مسئول يفكر ولو بشكل غير مباشر فى السلام مع العرب أو أن يجلس معهم على مائدة مفاوضات واحدة.

ومن الكلمات التى كان يرددها “تسيون” على مسامع ولده “بنيامين” قوله “إنك أفضل من أى عربى.. وإذا جلست فاجلس مع من هم نظراؤك.. فالعرب أقل من أن تحدثهم أو تنظر إليهم”.. إلا أن الأكثر تأثيرًا فى عقل “بنيامين نتنياهو” كانت هى تلك الكتب الصغيرة التى ألفها والده وآخرون من خلال دار النشر الصغيرة التى أنشأها.. وهى كتب تدور فى مجملها حول “أسس الحركة الصهيونية” و “كيفية إقامة دولة إسرائيل” و “إسرائيل المستقبل والأمل” و”العرب إلى الهاوية” و “إسرائيل العظمى فى كل البلاد العربية”.

كان “تسيون” حريصًا على تلقين ابنه دروسًا يومية فى السياسة.. شارحًا له بالتفصيل كيفية تفكير “جابوتنسكى” القائد الملهم له.. والذى سيصبح أيضًا القائد الملهم لنجله “بنيامين”!!

لقد عرف جابوتنسكى بكثرة تنقلاته وسفرياته بالاضافة إلى علاقاته الوطيدة بعدد من المسئولين الأمريكيين، والترويج لمقولاته أينما ذهب، فاستطاع بذلك أن يضم إلى جانبه آلاف المتطرفين والذين أمنوا بمقواته

فى العام 1940، شغل “تسيون نتنياهو” منصب السكرتير الشخصى لجابوتنسكى، وبات ملازمًا له فى كل رحلاته وتحركاته.. وأتاح له ذلك الاطلاع على العديد من الأوراق السرية التى كان يتم الإعداد والتخطيط من خلالها لإقامة دولة إسرائيل، وقد ضمت هذه الأوراق وثائق فى غاية الأهمية احتفظ بها “تسيون” وحده بعد وفاة جابوتنسكى.. وكانت هذه الوثائق تحمل عبارة تقول: “إلى كل مخلص.. إلى كل وطنى.. إلى كل شريف فى هذا الكون.. إذا ما وقعت هذه الأوراق فى يدك.. عليك أن تكون أمينًا فى تنفيذ ما بها حتى ترضى الله.. فشعب الله المختار الذى شرد ونهبت ثرواته لابد أن يعود.. وعندما يعود لابد أن يكون سيد العالم.. ومع سيادة العالم لابد من إبادة العرب الأقذار”.

هذه الأوراق السرية لم يتح لأحد الإطلاع عليها سوى “تسيلاه سيجل” والدة “بنيامين نتنياهو”.. ثم شاء القدر أن تشكل تلك الأوراق رؤية “بنيامين” فى المستقبل، حتى أنه من كثرة قراءته لهذه الوثائق حفظها وكان دائم الترديد لها.

وقد كان والده حريصًا على ألا ينسى نجله “بنيامين” ما تحمله تلك الوثائق من أفكار ومعتقدات، حتى أنه كان يطلب منه ترديدها فى إطار حلقات استماع كان يعقدها بحضور بقية اخوته، لدرجة أن والدته “تسيلاه” كانت تشفق عليه من والده الذى كان دائم الإصرار على تلقينه كل دروس الصهيونية.

وكانت “تسيلاه” ذاتها صهيونية متطرفة.. فهى من أسرة ثرية تنتمى لرجل أعمال يهودى، لديه العديد من المشروعات المتعددة والمترامية الأطراف، سواء فى الولايات المتحدة أو إسرائيل.. حيث كان يخصص ريعًا سنويًا من هذه المشروعات، بالإضافة إلى مساهمات كبيرة من أجل تنشيط الحركة الصهيونية.

وكان لدى والد “تسيلاه” تطلع دائم بأن يسخر كل القوى الدعائية لصالح إسرائيل والحركة الصهيونية.. ولذا فقد كان يسعى للسيطرة على وسائل الإعلام المختلفة من أجل دعاية مؤيدة للصهيونية.

وحين اشتد عود “تسيلاه” وأصبحت زميلة لـ”تسيون” فى حركة جابوتنسكى، جمعهما كره مشترك لعائلة وايزمان.. ومن هنا تبرز طبيعة العداء الذى حمله “بنيامين” عن والده ووالدته لرئيس إسرائيل الأسبق عيزرا وايزمان.

كانت والدة “بنيامين” تعشق القانون.. ورأت أن دراستها له يمكن أن تفيد الحركة الصهيونية أكثر بكثير من دراستها لأى فرع من فروع العلم الأخرى، حيث رأت أن القانون سيعلمها المنطق وتفنيد الحجج المضادة التى يمكن استخدامها ضد إسرائيل، خاصة من جانب العرب فى حال إقامة دولة إسرائيل.. وكان ولعها بالقانون وسيلة لتحقيق حلم الصهيونية الكبرى وتنفيذ تعليمات “جابوتنسكى” فى أن دراسة القانون مفيدة لأسس الحركة.. وأنها ستعطيها قوة جديدة تضاف إلى قوة المفكرين للحركة.

كانت “تسيلاه” مؤمنة بأن “جابوتنسكى” على حق حين أدرك أن الخطابة وحدها ليست كافية لدعم أسس الحركة.. وأنه لابد من سفراء لهذه الحركة فى مختلف دول العالم وأن سفراء هذه الحركة لابد أن يكونوا على قدر كبير من العلم والفهم الكامل لمتطلبات الحركة فى العقود القادمة.

وكان جابوتنسكى حريصًا على توجيه تلاميذه إلى دراسة فروع العلم المختلفة.

وقد برز تفوق “تسيلاه سيجل” بشكل واضح لدى دراستها للقانون بالجامعة العبرية بالقدس.. وعرف عنها الصراحة والجدية فى عملها ودراستها.. ودفعتها دراستها للقانون إلى السفر إلى لندن، حيث انضمت هناك إلى الحركات الصهيونية الناشئة فى ذلك الوقت، وأبرزت اهتمامًا ملحوظًا بأنشطتها داخل تلك الحركات، حتى أنها أصبحت واحدة من القيادات المعروفة بتخطيطها الجيد من أجل إقامة دولة إسرائيل.. واستطاعت “تسيلاه” الارتباط فى ذلك الوقت بمن يعرفون بزعماء وآباء الحركة الصهيونية فى إنجلترا.. وتمكنت بفضل تلك الروابط الوثيقة من أن تسافر إلى العديد من البلدان الأوروبية.

فى ذلك الوقت.. كان “جابوتنسكى” المرتبط بآباء وزعماء هذه الحركة يعزز من وضعية “تسيلاه” ولأن “تسيون نتنياهو” كان رئيسًا لتحرير صحيفة “هايروين” ويتابع أنشطة “تسيلاه” رأى أنه من المناسب الارتباط بهذه الفتاة التى تشاركه الفكر والحلم فى إقامة دولة إسرائيل.. وخصوصًا أن العديد من الصفات الأخرى ربطت بينهما.. وفى مقدمتها الكره الشديد للعرب وضرورة العمل على إزالتهم من الوجود.

ولذا.. حين التقى “تسيون” و “تسيلاه” كونا ثنائيًا مشتركًا.. وكانا يكرهان أى شخص يحمل جنسية أية دولة- حتى ولو كان يهوديًا- يتحدث عن العرب بلغة لا يرغبانها.

كل هذه المؤثرات النفسية المعقدة لكل من «تسيون وتسيلاه» ورثها عنهما فيما بعد ابنهما «بنيامين» الذى قدر له فيما بعد تولى رئاسة حكومة إسرائيل لأكثر من مرة.

ومع حدوث الزواج بين “تسيون وتسيلاه” استجابت الزوجة لمطالب زوجها وقررت التفرغ لمعاونته.. ومع وفاة “جابوتنسكى” كان همهما الأول هو كيفية العمل على تنفيذ وصاياه التى يحتفظ بها “تسيون” والذى رأى أن تنفيذها يمكن أن يتم من خلال طبع كتيبات ونشرها على جميع يهوديّ العالم حتى يتجمع اليهود حول الفكرة الصهيونية الأساسية وهى “إسرائيل العظمى”.

وبالفعل بدأت سلسلة كتب “تسيون” فى الظهور بفضل معاونة زوجته والتى تلقت بدورها دعمًا من والدها رجل الأعمال المعروف فى الولايات المتحدة، الذى أخذ على عاتقه نشر كتب “تسيون” بين يهود أمريكا.. ثم انتشرت الكتب فى العديد من الدول الأوروبية عبر اليهود الأمريكان.

وبدأ صيت “تسيون” ينتشر بين اليهود فى العالم.. غير أن والد “تسيلاه” لم يرق له ذوبان شخصية ابنته فى شخصية زوجها.

فى العام 1946 قرر “تسيون” أن يكون أبًا من آباء الصهيونية، رافضًا أن يكون مجرد داعٍ لها.. فنصحته “تسيلاه” بأن يحصل على درجة الدكتوراه باعتبار أن ذلك سوف يسهم فى وضعه العلمى بين صفوف اليهود.. وكانت ترى أن هذا الطموح يمكن أن يجعله على رأس دولة إسرائيل.

وبالفعل حقق “تسيون” طموحه، وحصل على درجة الدكتوراه من كلية “درونس” فى فيلادلفيا بالولايات المتحدة غير أن هذه الدرجة العلمية خلقت له العديد من المشاكل مع الزعامات اليهودية الموجودة فى الولايات المتحدة خصوصًا بعد شعورهم بأنه يسعى إلى تخطيهم فى طريقه للصعود إلى قمة سلم الدولة الوليدة.

فى ذلك الوقت ثار الكثير من الجدل بين القيادات اليهودية فى الولايات المتحدة، حيث كان البعض يرى أن التفاوض مع العرب يمكن أن يمثل إحدى وسائل إقامة دولة إسرائيل، إلا أن “تسيون” كان يرى عكس ذلك معتبرًا أن العنف هو الوسيلة الأساسية لإقامة الدولة.

وحين احتدم الخلاف بين الزعامات الصهيونية فى الولايات المتحدة قرر “تسيون نتنياهو” العودة إلى إسرائيل فى العام 1948وذلك بعد وقت قصير من قيامها على أرض فلسطين المحتلة.

ولم يكن “تسيون” على وفاق مع مسئولى الدولة الإسرائيلية الوليدة معتبرًا أنهم تنكروا لنضاله ودوره فى إقامة دولة إسرائيل.. حيث كان يرى أن كتبه وأبحاثه التى انتشرت فى العديد من الدول الأوروبية والولايات المتحدة قد أسهمت فى إقامة هذه الدولة.. والحصول على تأييد الأوروبيين والأمريكان.. فى حين كان ساسة إسرائيل ينظرون إليه بازدراء لأنه كان أنانيًا ومحبًا لذاته.

ورغم رفض ساسة إسرائيل التعاون معه إلا أنه كان يسعى إلى مشاركة القيادات الإسرائيلية فى مناظراتهم وندواتهم حول مستقبل الدولة الإسرائيلية.. وكان يردد دائمًا أنه تلميذ لجابوتنسكى، وأنه من أكثر الذين تحملوا العبء الأكبر من أجل إقامة هذه الدولة.

ووسط هذه الأجواء جاء “بنيامين تسيون نتنياهو” إلى الدنيا فى عام 1949.. حيث شهد هذا العام صراعًا مريرًا ومعقدًا بين تسيون ومناحم بيجين الذى تولى فيما بعد رئاسة الوزارة الإسرائيلية وعقد اتفاقية كامب ديفيد مع الرئيس المصرى الراحل أنور السادات.

كان الصراع فى مجمله يدور حول الحركة التصحيحية التى أرسى قواعدها “جابوتنسكى”.. وكان مناحم بيجين يرى أنه أكثر قدرة من تسيون على السيطرة على مقاليد الأمور داخل الحركة المتطرفة.

هذا الصراع الذى نشأ بين تسيون ومناحم بيجين لم يكن ليختفى أبدًا عن ذاكرة الطفل “بنيامين” الذى شب على كراهية “بيجين” منذ صغره، حيث اعتبره السبب الأساسى وراء القضاء على مستقبل والده السياسى.

ومنذ ذلك الحين تملكت “بنيامين نتنياهو” رغبة جامحة فى كيفية الانتقام لوالده وإعادة الاعتبار إليه.. وكان يرى أن ذلك لن يتحقق إلا بوصوله إلى مقعد رئاسة الوزراء فى إسرائيل.

وبالرغم من انضمام “بنيامين نتنياهو” إلى ذات تكتل الليكود الذى أوصل “مناحم بيجين” إلى رئاسة الوزراء فى إسرائيل إلا أنه كان يعتبر أن ما أقدم عليه “بيجين” من توقيع معاهدة للصلح مع مصر بمثابة خطأ إستراتيجى لا يغتفر.. وكان يرى أن “بيجين” تسرع فى التوقيع على هذه المعاهدة.. بينما كان بإمكانه المماطلة لسنوات طويلة يحصل خلالها على السلام دون التفريط فى شبر واحد من الأرض التى احتلتها إسرائيل فى شبه جزيرة سيناء.

لقد شهد “بنيامين” كيف أن بيجين أزاح والده عن طريقه، وكان بيجين يردد دائمًا أن “تسيون نتنياهو” لم يحارب مع منظمة “أتسل” وهى المنظمة العسكرية الإسرائيلية “الوطنية” وأنه لم يقدم أى تضحيات.. ولذا رفض منحه أى منصب.

من جانبه قرر “تسيون” ألا يستسلم لأفكار “بيجين” والقيادات اليمنية الإسرائيلية وأخذ على عاتقه أن يكون زعيمًا لحركة “حيروت” إلا أن الحركة رفضته.. مما فسره بأن هناك مؤامرة على مستقبله السياسى.

لقد نصحه أحد أصدقائه بالتخفيف من أفكاره المتطرفة للغاية إلا أن زوجته “تسيلاه” رفضت أن يقدم تسيون أية تنازلات فى هذا الصدد.. وطالبته بالتمسك بموقفه.. وأن يترك السياسة ويلتحق بالسلك الأكاديمى فى الجامعة العبرية.

اقرأ أيضاً«نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. كتاب جديد لـ مصطفى بكري يكشف فيه بالوثائق استراتيجية الكيان الصهيوني للهيمنة على المنطقة

نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى (2)

مصطفى بكري عن كتابه «حلم إسرائيل الكبرى»: يكشف سيناريو ما هو متوقع

مقالات مشابهة

  • كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى» بـذور التطـرف ( 2)
  • فصول من كتاب «نتنياهو وحلم إسرائيل الكبرى».. (1) سليل الإرهاب
  • ارتفاع عدد قتلى العاصفة القوية التي ضربت الولايات المتحدة إلى 28
  • قائمة بالجنسيات .. السلطات الأمريكية تخطط لمنع مواطني دول عربية من دخول الولايات المتحدة
  • السلطات الأمريكية تحظر مواطني دول عربية من دخول الولايات المتحدة
  • السلطات الأمريكية تخطط لمنع مواطني دول عربية من دخول الولايات المتحدة
  • قائمة بالجنسيات.. السلطات الأمريكية تخطط لمنع مواطني دول عربية من دخول الولايات المتحدة
  • وزراء خارجية مجموعة السبع يشيدون بالاجتماع الذي عُقد بين الولايات المتحدة وأوكرانيا في المملكة
  • في إنتظار السفير الجزائري…ترامب يطرد سفير جنوب أفريقيا من الولايات المتحدة الأمريكية
  • الرؤية الروسية للفكر الاجتماعي والاشتراكية في أدب دوستويفسكي.. قراءة في كتاب