الجزيرة:
2024-11-27@04:04:53 GMT

الثقافة والثورة

تاريخ النشر: 11th, January 2024 GMT

الثقافة والثورة

الثقافة ليست نصوصًا، ولا مكتوبات، ولا محفوظات، ولا مرويات، ولا مرسومات، ولا معزوفات، ولا منظومات، ولا منثورات، ولا محكيات، الثقافة رؤية للمجتمع والاقتصاد والسياسة والحكم والإدارة وروح الشعب وضميره ومزاجه العميق وهُويته وطبعه وشغفه بالحياة وإقباله عليها واندفاعه في تيارها ومكابدته لما يلقاه فيها من يسر وعسر.

الثقافة بهذا المعنى هي شأن المجموع من الناس الذين يشتركون في مجتمع واحد في زمن واحد، ليست فقط شأن مَن يحملون ألقابَ وشارات المثقفين، بل هي شأن عام، الكل فيه شركاء. الثقافة بنية اجتماعية واقتصادية وروحية وسياسية تعلو وتطوي الأفراد مهما كانت أقدارهم ومهما تباعدت مواقعهم. باختصار ثقافة الأمة ينتجها مجموع أهلها، فهم فيها شركاء متضامنون جيلًا وراء جيل، وتتغير الثقافة – بالتدريج – بقدر ما تسود رؤية جديدة على حساب رؤية كانت لها السيادة فيما سبق.

قوة المال والسلطة

الثورة ليست انتفاضات ولا هبات ولا لحظات غضب عام تندلع ثم تخبو عن نصر أو عن هزيمة، الثورة سعي غريزي دؤوب من الأفراد ومن المجموع نحو تحسين أمور معاشهم، وأمور المعاش مدارها على نصيب الفرد من القوتَين: قوة المال، وقوة السلطة، أدرك الناس ذلك أم لم يدركوا، هم يسعون – بالغريزة – نحو الثروة، ونحو القوة، مثلما هم – بالمقدار ذاته من الغريزة – ينفرون من الفقر والضعف.

وقد صدق ابن خلدون – في ص 150 من مقدمته – عندما قال: " إن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خُلق له، والرئيسُ إذا غُلب على رئاسته، وكُبح عن غاية عزه، تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده". ويقول: " والاعتمار إنما هو عن جدة الأمل، وما يحدث عنه من النشاط في القوى الحيوانية".

الثورة بهذا المعنى حركة بنيوية تستوعب المجتمع مثلما المجتمع يستوعب الأفراد بطموحاتهم وتناقضاتهم ومطامعهم وصراعاتهم وقوة تزاحمهم وبأس تدافعهم – الغريزي أو الحيواني – نحو الهدفين الكبيرين: هدف المال أو الثروة، وهدف السلطة أو القوة.

الثورة بهذا المعنى تدافع لا يتوقف على مدار الساعة، وعنها نتجت تحولات الثروة والسلطة، فكم زالت من أيدي طبقات كانت قابضة عليها، وكم تداولت عليها طبقات كانت بعيدة عنها محرومة منها، والدائرة تدور ما دارت عقارب الساعة في ظلمة الليل أو في وضح النهار.

الثقافة والثورة، الرؤية والتغيير، تدافع الجميع مع الجميع على منابع الثروة ومكامن السلطة، هي طبع الإنسان، مطلق الإنسان، وهي وجهة حركته ومسعاه عن غريزة حيوانية، أو عن قصد عقلاني، ومن ثم هي مجمل تاريخه، وتفصيله في آن واحد.

الإنسان المغلوب بالكلية، والمطمئن لنصيبه من الهزيمة، والمستسلم لمشيئة من قهروه وقمعوه، يصفه ابن خلدون بأنه: " صار بالاستعباد آلة لسواه وعالةً على غيره، يتناقص عمرانه، وتتلاشى مكاسبه ومساعيه، ويعجز عن المدافعة عن نفسه، بما كسر التغلب عليه من شوكته، فيصبح مغلوبًا لكل غالب، كما يصبح طُعمةً لكل آكل"، ثم يقول: " إذا غُلب الإنسانُ على أمره، وصار آلةً في يد غيره، لم يكن بقاؤه إلا قليلًا، ثم اندثر – أي انقرض – كأن لم يكن ".

نظام الالتزام

لمثل هذه الرؤية فإن ابن خلدون 1332 – 1406 م، رغم مرور أكثر من ستة قرون على وفاته كان- ومازال- جزءًا أصيلًا من الثقافة العالمية المعاصرة. وقد أدرك هذه الحقيقة مؤسس الثقافة المصرية المعاصرة عبدالرحمن الجبرتي 1753 – 1825 م عندما وصف مقدمة ابن خلدون بقوله: " من اطلع عليها، رأى بحرًا متلاطمًا بالعلوم مشحونًا بنفائس جواهر المنطوق والمفهوم ".

ومثلما رد برنجتون مور 1913 – 2005م أصول المجتمع الرأسمالي الغربي إلى القرن الرابع عشر الميلادي في كتابه: " الأصول الاجتماعية للدكتاتورية والديمقراطية "، فكذلك الأمر، يلزم الاستنارة في قراءة المجتمع المصري المعاصر بإلقاء الأضواء على تجربته التاريخية التي أنتجته وجعلته على ما هو عليه.

بذور الحداثة في المجتمع المصري، سبقت حداثة محمد علي باشا؛ أي سبقت الحداثة التي جاءت مع الاستعمار الأوروبي، حداثة المصريين بدأت من الداخل، من تطورات داخلية، من سعيهم للهدفين الكبيرين: الثروة ثم السلطة، من الضعف التدريجي للسلطتين الحاكمتين: ضعف السلطة العثمانية ذات السيادة العليا منذ النصف الثاني من القرن السابع عشر، ويُشار لذلك بعام 1658 م، وهو تاريخ العمل بنظام الالتزام، وكان هو جوهر صراع الثروة والسلطة في مصر.

قبله كانت السلطة العثمانية من القوة بحيث تملك بيروقراطية كفؤة لجباية الضرائب في بلد اقتصاده زراعي، لكن فسدت ثم ترهلت هذه البيروقراطية مع الضعف التدريجي في مركز الحكم في إسطنبول، فابتكرت نظام الالتزام، حيث تقام مزايدات على ضرائب عدة قرى، ومن يرسو عليه المزاد يدفع مسبقًا المقررات المالية المستحقة على هذه القرى، ثم يحصلها من المسـتأجرين، وله الفارق بين ما دفعه وما حصله.

ثم استجد نظام "الوسية"، حيث يكون للملتزم مقدار العُشر أو نصف العُشر من أراضي الزمام، ويكون مُعفًى من الضرائب، ويستخدم فلاحي الزمام في زراعته بالسخرة؛ أي بدون مقابل.

هذا النظام – بمرور الزمن – سمح للمصريين، الذين هم ليسوا من مزدوجي الحكم- أي ليسوا من الأتراك ولا من المماليك – بالمنافسة على الفوز بمزايدات الالتزام، وكان هذا أوسع طريق جرت فيه مياه الحراك الاجتماعي للمصريين ومساعيهم للثروة والسلطة.

مثلما كانت جذور الحداثة الأوروبية تعود إلى نشأة المدن، وتشكل الطبقة التجارية والصناعية والحِرفية والمهنية، التي أفرادها ليسوا من الإقطاعيين النبلاء مالكي الأراضي، وليسوا من الفلاحين الأقنان وزارعيها، إنما هم طبقة جديدة ثالثة شقت طريقها بصعوبة من قلب العصور الوسطى إلى اليوم، وهي من قادت تحولات أوروبا والغرب، ثم هي من قادت أوروبا والغرب لاستعمار العالم.

كذلك، كان الأمر في مصر، من نهايات القرن السابع عشر، وعلى امتداد القرن الثامن عشر، كانت طبقة حضرية مصرية جديدة تتشكل، طبقة ثالثة، لا هي من الأتراك، ولا هي من المماليك، لكنها استفادت من ضعف السلطة العثمانية، ثم استفادت من انقسامات وصراعات نخب الحكم المحلي من عصائب المماليك، حيث عاش المصريون نصف القرن السابع عشر، ومجمل القرن الثامن عشر دون سلطة مركزية قوية قابضة كاتمة على أنفاسهم.

طرق مشرعة للثروة

في هذا المناخ السياسي، ودون قبضة الحكم المركزي، وجد المصريون طرقًا سالكة للثروة والسلطة، سواء عبر التنافس على أراضي الالتزام أو الاستئثار بتجارة البحر الأحمر، حيث صادرات آسيا إلى أوروبا وصادرات أوروبا إلى آسيا، فتكونت طبقة مصرية حضرية غنية مسموعةُ الكلمة محسوبٌ لها حساب – وهذا هو الجذر الحقيقي لمعنى الثقافة والثورة – أن تكون لك رؤية للواقع، ثم يكون لك مسعى لنصيبك من الثروة والسلطة.

هذه الطبقة سواء في القاهرة أو مدن الأقاليم أو في الريف كانت في مجملها من العلماء والتجار، العلماء لم يكونوا يستمدون قوتهم فقط من الفقه وعلم الدين وجلال الشريعة وهيبة الجامع الأزهر الشريف، لكن بالدرجة الأولى كانوا يستمدون هيبتهم من مركزهم الاجتماعي والاقتصادي كقوة مستقلة في معاشها لا تتقاضى رواتبها من السلاطين ولا تحصل على رغيفها من المماليك.

لم يكن علماء القرن الثامن عشر في بؤس وفقر وتعاسة مثقفي الدولة الحديثة، إما العمل تحت جناح الحكام فيأكلون ويشربون ويأمنون بطشهم، وإما الفقر والجوع والبطش والقهر. علماء القرن الثامن عشر إلى جانب مراكزهم الفقهية ومناصبهم العلمية ومكانتهم الدينية كانوا ملتزمين ومستثمرين وأصحاب عَقَارات واسعة وأملاك مدرة للأرباح؛ أي كانوا بذور طبقة رأسمالية واعدة.

وحسب الدكتور عبدالعظيم رمضان 1925 – 2007 م في كتابه: " الغزوة الاستعمارية للعالم العربي وحركات المقاومة "، يقول في ص 46: " أما العلماء، فقد دخلوا نظام الالتزام منذ تطبيقه، وزاد عدد الملتزمين منهم بصورة كبيرة، حتى بلغوا قبيل الحملة الفرنسية 307 فقهاء أزهريين ملتزمين. وكان عدد الملتزمين من التجار المصريين قبيل الحملة الفرنسية 57 تاجرًا مصريًا ملتزمًا "، ويذكر أن شيخ الجامع الأزهر الشريف الشيخ عبدالله الشرقاوي 1737 – 1812م كان ملتزمًا، وكذلك كان المؤرخ الشيخ عبدالرحمن الجبرتي ملتزمًا.

هذه الطبقة الحضرية – ذات الطابع المالي والتجاري والطامحة إلى دور سياسي في مناخ ترهلت فيه سلطة الدولة ذات السيادة وانقسمت فيه نخب المماليك ذات السلطة الفعلية – كانت وما زالت، تعيد تعريف الثقافة، كما تعيد تعريف الثورة، الثقافة كبحث عن العدل والحرية والمساواة وحفظ الحقوق والواجبات، والثورة كحائط دفاع عن حقوق المصريين في ثروات بلادهم ومقاليد الأمر والنهي فيها.

لحظة تاريخية استثنائية

منذ تبلورت بذور هذه الطبقة، وهي تعرف مراحل صعود عندما تضعف السلطة المركزية، ثم تتراجع عندما تشتد قبضة السلطة وتستحوذ على الثروة والحكم معًا، ومازالت هذه المعادلة تحكم تطورها، فقد ازدهرت في النصف الأخير من القرن الثامن عشر، ثم ضعفت في حكم محمد علي باشا ولم تشم أنفاسها إلا مع بداية تفكيك مشروعه وخلخلة قبضته على اقتصاد البلاد.

ثم ازدهرت في ضعف الخديوية، ثم استفادت من تقريب الإنجليز لها من باب النكاية في ذوي الأصول التركية والشركسية، مثلما كانت قد استفادت من تقريب نابليون بونابرت لها من باب النكاية في المماليك، وقد تنفست في عقد التسعينيات من القرن العشرين والعقد الأول من القرن الواحد والعشرين، ثم انكتمت أنفاسها وانسدت عليها سبل التطور في السنوات العشر 2013 – 2023م.

في لحظة استثنائية من التاريخ بدت هذه الطبقة كما لو كانت على موعد مع التاريخ، فاحتشدت في الميادين في يناير وفبراير 2011 م تعيد تعريف الثقافة والثورة في أربع كلمات: عيش، حرية، عدالة اجتماعية، كرامة إنسانية.

هذه التعريفات الأربعة عرفها المصريون المحدثون أول مرة في صيف عام 1795م أي بعد الثورة الفرنسية بسبع سنوات، وقبل الغزو الفرنسي لمصر بثلاث سنوات.

في ص 387 من الجزء الثاني من تاريخ الجبرتي: " عجائب الآثار في التراجم والأخبار "، وفي تأريخه للعام 1209 الهجري الموافق 1795 الميلادي، يقول عن هذه السنة: " لم يقع فيها شيء من الحوادث سوى جور الأمراء، وتتابع مظالمهم، واتخذ مراد بك 1750 – 1801 م الجيزة سكنًا، وزاد في عمارته، واستولى على غالب بلاد الجيزة، بعضها حصل عليه بالثمن القليل، وبعضها حصل عليه غصبًا، وبعضها حصل عليه معاوضةً ".

ثم بعد أن يتحدث عن ثورة المصريين في ذاك العام 1795م – 1209 الهجري، حيث ذكر عبدالعظيم رمضان في ص 41 من كتابه المذكور أعلاه أن " البعض يضعها في مقام الماجنا كارتا ". وقد جمع المؤرخ الدكتور عماد الدين أبوغازي بينها وبين ثورة 23 يوليو 1952م على أساس أن كلتا الثورتين حدثت في شهر يوليو ولكل منهما أثر كبير في تاريخ مصر الحديث.

عبدالرحمن الجبرتي أسس – في تاريخه – لثقافة المواجهة على جبهتين: جبهة الطغيان الداخلي، وجبهة الغزو الخارجي.

aj-logo

aj-logo

aj-logoمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معنارابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2024 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: القرن الثامن عشر نظام الالتزام استفادت من هذه الطبقة ابن خلدون من القرن لها من

إقرأ أيضاً:

الكوز شهوة السلطة وسطوة الإستبداد الشرقي

طاهر عمر

الإستبداد الشرقي نجده قد تحدث عنه أرسطو في ثقافات البلدان الأسيوية في مجافاتها للديمقراطية و مجافاة العقلانية و الحرية لذلك نجد أن في الثقافات الأسيوية التقليدية قد تسلسلت عنها النظم الإستبدادية حيث نجد الملوك المستبدين و علاقتهم مع رعية لا تتخطى أن تكون الرعية في مصاف العبيد عكس العقل الأغريقي الذي ينشد الحرية و تحدث عن الديمقراطية في أثينا لذلك ما زال العقل الغربي المعاصر يحتفي و يفتخر بأنه قد ورث عقل الإغريق و الرومان في تطوره عبر الحقب و جيل عبر جيل و كذلك نجد أن العقل الغربي يفتخر بأن المسيحية عندما جاءت من الشرق فأنها قد تروّمت أي قد صارت تتوشح عقل الرومان و ليس العكس حيث لم تتمسح روما أي لم تتمسح روما بمسيحية شرقية بل أن المسيحية قد لبست ثوب العقل الروماني.
و عليه يصبح تاريخ الفكر في أوروبا منفتح على اللا نهاية في تصحيحه لمساره السرمدي مثلا في مراحله من العقل الإغريقي ثم يمر بحقبة القوانيين الرومانية و المسيحية في روما ثم يعقبها الإصلاح الديني و عقل الأنوار ثم يأتي فلاسفة ما بعد الحداثة بالتفكيك ثم يعود العقل الغربي من جديد بعد فشل فلاسفة ما بعد الحداثة الى ألق عقل الأنوار و أفكار الحداثة.
و المضحك يظل العقل الشرقي الإستبدادي جامد و ساكن بفكر متحجر لا يبارح مكانه البتة كما نجده في فكر الكوز السوداني البائس ناظر للعالم و هو قابع داخل أسطورة الكهف لإفلاطون غير عابئ بتطور الفكر و المضحك رغم بؤس فكر الكوز إلا أنه يظن بأنه مؤهل ليقود العالم في محاكاته للغريم الغربي المتسّيد بعقله لعالم قد أصبح تاريخه واحد بعد قيام الثورة الصناعية.
بعد حديث أرسطو عن الإستبداد الشرقي نجد كذلك منتسكيو في علم إجتماعه يتحدث عن روح القوانيين و فيها أيضا يفتخر بعقلانية الحضارة الغربية و الأخلاق التي تجعل تطور الفكر الغربي منفتح على الحرية و الإبتعاد عن الإستبداد. و بالمناسبة منتسكيو محطة مهمة جدا في تاريخ الفكر الذي يخدم الإنسانية في مسيرتها نحو الحرية و الإبتعاد عن الإستبداد و هو يربط القديم من تاريخ الإنسانية بالجديد المتطور في عصرنا الراهن و منتسكيو أيضا مثل أرسطو قد تحدث عن الإستبداد الشرقي و نجده في كتابه رسائل فارسية و فيها يفرّق منتسكيو بين عقلانية الفكر الغربي و إستبداد الفكر الشرقي كما تحدث عنه في رسائل فارسية و فيها يتحدث عن الإستبداد في بلاد فارس مقارنة بتطور العقل الغربي و ولعه بالحرية.
نجد أيضا كل من ماكس فيبر و ماركس قد تحدثا عن نمط الإنتاج الأسيوي إلا أنهما على طرفي نقيض ماركس يتحدث عن نمط الإنتاج الأسيوي و تاريخه الإستبدادي موصي بأن الحل يكمن في ماركسيته في إعتمادها على البنى التحتية و لسؤ حظ ماركس أن ماركسيته لا تفتح إلا على نظام شمولي بغيض متمثل في الماركسية كنظام شمولي لا يقل بشاعة عن الإستبداد الشرقي نفسه و بالتالي إعجاب الشيوعين في البلاد العربية و نظمها التقليدية بالشيوعية كنظام شمولي لأنها تشبه روح الإستبداد الشرقي كأيديولوجية متحجرة لا تفترض عقلانية و أخلاقية الفرد كما نجده في الفكر الليبرالي.
و قلنا أن تفسير نمط الإنتاج الأسيوي أو الإستبداد الشرقي على طرفي نقيض بين ماركس و ماكس فيبر لأن ماكس فيبر إعتمد على البنى الفوقية و ما تعكسه من ثقافة و إرتماء ظلالها على فكرة الإقتصاد و المجتمع في كتابه الأخلاق البروتستانتية و روح الرأسمالية في هذا الكتاب لا يخفي فيه ماكس فيبر إفتخاره و إعتزازه بأن الحضارة الغربية قد أنجزت ما عجزت عنه الحضارات التقليدية كالحضارة العربية الإسلامية التقليدية و الحضارة الهندية التقليدية و الحضارة الصينية التقليدية.
و يفتخر ماكس فيبر كما إفتخر أرسطو قبله بآلاف السنيين بالفرق بين عقل الحرية الغربي و عقل الإستبداد الشرقي و كذلك كإفتخار منتسكيو بالحضارة الغربية مقابل إستبداد الحضارة الفارسيىة التقليدية في كتابه رسائل فارسية و إذا إردت أن تتأكد من صحة أفكار منتسكيو اليوم أنظر الى قيم الجمهورية في فرنسا و قارنها بإيران اليوم تحت سلطة الفقيه الولي كمستبد و كأنها لم تمضى قرون على أفكار منتسكيو.
ملاحظة لا ينبغي تفويتها و هي أن طه حسين عميد الأدب العربي في كتابه مستقبل الثقافة في مصر قد أكد بأن مصر لا يمكن أن تخرج من كسادها الفكري ما لم تستعيد عقلها الإغريقي الروماني و ثقافتها الإغريقية الرومانية و أظن أن طه حسين في هذه الجزئية يحاول تقديم حلول لمفارقة عقل الإستبداد الشرقي في مصر بعد أن ساد بسبب فقدان مصر لعقلها الإغريقي الروماني و فقدانها له بعد أن ساد عقل الإستبداد الشرقي الكامن في الحضارة العربية الإسلامية التقليدية و ها هي مصر تحت حكم السيسي الذي يؤسس لنظام حكم تسلطي في مصر ليؤكد على فكرة الإستبداد الشرقي.
ماكس فيبر في دراسته لأخلاق العمل البروتستانتية و خاصة في أفكار كالفن و كان كالفن يرى أن النجاح على الصعيد المادي علامة نعمة إلهية و هذا ما جعل ظهور الرأسمالية ممكن في وسط بروتستانتي طهراني تقشفي ينتج عبر ساعات عمل طويلة و متقشف في إستهلاكه و هذا ما أدى الى ظهور الرأسمالية في وسط البروتستانت في أوروبا.
و الغريب دراسة ماكس فيبر للوسط الإسلامي التقليدي لاحظ ماكس فيبر غياب الطهرانية وسط أفكار رجال الدين الإسلامي التقليدي مقارنة بالبروتستانت و خاصة أتباع كالفن بل وصفهم أي رجال الدين المسلميين التقليديين بأنهم شهوانيين فيما يتعلق بالمال و النساء و ليس لهم أي مقدار من الطهرانية التي يتصف بها البروتستانت و خاصة أتباع كالفن.
و هذا هو الوصف نفسه الذي وصف به الدكتور حسن الترابي كيزان السودان و قد تطابقت أفكاره مع ماكس فيبر في وصفهما لشهوة السلطة و روح الإستبداد عند الكيزان و بسبب شهوة السلطة و شهوتهم للمال قد إستشراء الفساد و الإستبداد الكيزاني كإنعكاس للإستبداد الشرقي.
و قد رأى السودانيين فساد و إستبداد الكيزان و قد وصفهم الدكتور حسن الترابي نفسه بأنهم فاسديين و قد أفسدتهم شراهتم للسلطة ليؤكد أي حسن الترابي على ما قاله ماكس فيبر عن شهوانية رجال الدين التقليديين في ايمانهم التقليدي الكيزاني مقارنة بطهرانية البروتستانت و إتقانهم للعمل و في نفس الوقت الزهد و التقشف الذي أدى لظهور الرأسمالية و إتصافها بالعقلانية.
و إلتقاء وصف ماكس فيبر مع وصف الدكتور حسن الترابي لشهوانية الكيزان للسلطة و المال لا يدل على أن الترابي كان محب للحرية و العقلانية و لكنه كان أي حسن الترابي نفسه مستبد بعقل شرقي و هو نفسه من قضى عمره كله يظن أن الفكر الإسلامي التقليدي يمكن أن يؤسس للحكم إلا أن أفكاره قد فتحت على نظام حكم إستبدادي و كان هو أول ضحايا تلاميذه الكيزان و بعدها قد تحدث عن شهوة السلطة التي أفسدت الكيزان و لم يدر الترابي بأن الإستبداد الشرقي كامن في فكره الإسلامي التقليدي المعادي للحرية و العقلانية.
الكل يتذكر أذهب للقصر رئيس و سأذهب للسجن حبيس و كانت كل حيل الترابي تدل على شئ واحد بأنه لم يكن عقلاني و لا أخلاقي لأن العقلاني و الأخلاقي يؤمن بحرية الآخريين و يتأكد من العدالة قد تحققت للكل و معروف أن خطاب حسن الترابي الكيزاني كان خطاب ديني منغلق لا يحمل في طياته حتى القليل من التسامح لأنك لا يمكن أن تتحدث عن التسامح و أنت منطلق من خطاب ديني أي دين كما يقول جون لوك.
و قد قال جون لوك مؤكد بأنه إذا كان هناك مطلق واحد يجب الايمان به ينبغي أن يكون فكرة فصل الدين عن الدولة و الترابي كان مهوس بفكرة الدولة الدينية و قد فتح بفكره البغيض أبواب الجحيم على الشعب السوداني و ما الحرب العبثية إلا ثمرة مرة من حديقة أفكار الكيزان مع صنيعتهم الدعم السريع و قد أوصلهم الترابي الى حيث تمكنوا من ممارسة الإستبداد الشرقي.
في ختام هذا المقال نقول للكيزان قبل قرنيين من الزمان كان الكاثوليك في فرنسا يظنون بفكرهم الديني الطائفي يمكنهم تحقيق ديمقراطية و قد تصدى لهم توكفيل مؤكد بأن زمن الخطاب الديني قد ولى بلا رجعة و قد صدقت نبؤة توكفيل فيما يتعلق بإندثار أوهام الكاثوليك بتحقيق ديمقراطية.
و هذا ما ينتظر الكيزان يمكنكم أن تحرقوا السودان كله و تقتلوا كل ما فيه من بشر و لكن لا يمكنكم التعايش مع عصر أصبحت فيه العقلانية و الأخلاق هي صفة الإنسانية التاريخية كل حروبكم العبثية و جنونكم الناتج من شهوة السلطة لا يفتح إلا على سلم اليأس الذي يقودكم الى طريق الخروج من التاريخ كأي مستبد شرقي.
نضرب لكم مثل أيران تحت ولاية الفقية كمستبد شرقي ها هي الآن بعد دمار حزب الله كزراع لها في لبنان و دمار حماس كزراع لها في فلسطيين قد أصبحت في مواجهة لا تستطيع أن تصمد فيها في مواجهة أسرائيل المدعومة من أمريكا لأن عقلها أي ايران عقل تقليدي و قد رأينا نتاج هجومها على إسرائيل بصواوريخ لا تشبه غير الألعاب النارية مقارنة بعقل إسرائيل و سلاحها و خلفها أمريكا و هي تمثل قمة ما وصل إليه عقل البشرية اليوم فيا كيزان يمكنكم أن تستبدوا على الضعفاء من أطياف الشعب السوداني و لكن مصيركم الإندثار و كل حروبكم العبثية في السودان تدل على أنكم في طريقكم للخروج من التاريخ عاجلا ام آجل كما رأينا كيف تلاشت حماس و تلاشى قبلها حزب الله أسرع من لمح البصر.

taheromer86@yahoo.com

   

مقالات مشابهة

  • عمرو السولية يتحدث عن هدفه في نهائي القرن
  • ”نيوتن القرن المشاط”..نائب برلماني يهاجم مهدي المشاط بسبب غياب الشفافية المالية”
  • البنتاجون: ترامب لم يوقع بعد على بروتوكولات انتقال السلطة
  • المهارات الناعمة ومستقبل التعليم والعمل في القرن الـ11
  • الكوز شهوة السلطة وسطوة الإستبداد الشرقي
  • غوقة: السلطة لا تقرّب إلا من تراه يهلل لها ويدعم سياستها
  • بلدية الكفرة تنفي وفاة أسرة كانت تائهة في الصحراء نتيجة قصف جوي
  • كانت أمّاً لطفل.. مقتل عتالة كوردية بنيران القوات الايرانية
  • بينهم نائب سابق.. القضاء العراقي يصدر أحكاماً غيابية بحق متهمين بـسرقة القرن
  • الصورة مشوشة من خارج المشهد التخريبي