ليس أنفه وأذنيه.. فرضيات تؤكد أن جيفري إبستين لم ينتحر
تاريخ النشر: 11th, January 2024 GMT
تزامنًا مع قرار المحكمة الفدرالية في نيويورك رفع السرية على وثائق محاكمة تاجر الجنس الملياردير الأمريكي "جيفري إبستين"، انتشرت تكهنات حول حقيقة انتحاره في السجن وبأنه ما زال حيّ يرزق.
اقرأ ايضاًوبدأ مؤيدو هذه الفرضية بتداول صور ومقاطع فيديو تثبت ادعاءاتهم، وبأن إبستين لم ينتحر في السجن عام 2019 كما يجري الترويج له طوال هذه الفترة.
الفرضية بدأت بالانتشار في منصات التواصل الاجتماعي بعدما نشر المستخدم "مات والاس - Matt Wallace” مجموعة من الصور عبر حسابه الرسمي في منصة "إكس"، تويتر سابقًا، والتي قارن فيها وجه إبستين قبل وبعد انتحاره.
وادعى والاس في فرضيته بأن أنف جيفري قبل وفاته قد بدا مختلفًا تمامًا عن أنفه في الصور التي التقطت له بعد انتحاره، وكذلك الأمر بالنسبة لشكل أذنه.
وقال والاس في تعليقه على الصور: "من الجميل أن نرى جيفري إبستين يحصل على عملية تجميل للأنف في السجن حتى يتمكن من قتل نفسه بطريقة أكثر أناقة."
أصحاب الفرضية أعادوا تداول الصور عبر حساباتهم في منصات التواصل الاجتماعي، فيما رجح آخرون أن اختلاف شكل أنف إبستين كانت نتيجة تعرضه للتعنيف داخل السجن.
فيما رجح القسم الثالث من المغردين بأن إبستين "لم ينتحر" بل مات مقتولًا من قبل أحدهم داخل زنزانته قبل المحاكمة في عام 2019.
وكانت الصحفية الأمريكية ميجين كيلي قد أثارت الجدل مؤخرًا بعدما قالت في إحدى حلقات برنامجها الصوتي “The Megyn Kelly Show بأن الجماهير ستمع قريبًا عن تفاصيل القضية من جيفري إبيستن بشكلٍ شخصي، في إشارة منها إلى أنه ما يزال على قيد الحياة.
الصحفية الأمريكية ميجين كيلي
المصدر: البوابة
كلمات دلالية: جيفري إبستين جیفری إبستین
إقرأ أيضاً:
شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: أيام داخل سجن المزرعة
أعلنت رفضي لزيارة جورج بوش إلى مصر ودفعت الثمن
مفاجأة فى نيابة غرب القاهرة الكلية وأسرار الليلة الأولى داخل سجن طرة
لكل محبوس داخل سجن المزرعة في هذه الفترة سر ورواية
شقيقي محمود يتعرض لموقف صعب داخل سجن المزرعة
هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشتُ فصولَها، انتصاراتِها وانكساراتِها، حُلوَها ومُرَّها، اقتربتُ من صنَّاع هذه الأحداث أحيانًا، وكنتُ ضحيةً لعنفوانهم في أحيان أخرى، معاركُ عديدة دخلتُها، بعضُها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي وقناعاتي.
أروي هذه الشهادات، بصدق وموضوعية، بعضُ شهودها أحياء، والبعضُ رحل إلى الدار الآخرة، لكنَّ التاريخ ووقائعه لا تُنسى، ولا يمكنُ القفزُ عليها، وتزويرُ أحداثِها.
1 - بعد غزو العراقبعد غزو العراق في عام 2003 والاتهام الذى أبلغه إلىّ السيد صفوت الشريف عن غضب الرئيس الأسبق مبارك من التحريض الذى أقوم به على شاشة قناة الجزيرة أو على أرض الواقع توقعت القبض علىّ في أي وقت، كانت كافة المؤشرات تؤكد ذلك، وتوقعت حدوث ذلك في أقرب وقت ممكن بعد أن ضاق النظام ذرعًا بىّ.
عشية القبض علىّ كنت قد تحدثت في وسائل إعلام عديدة عن ضرورة رفض زيارة الرئيس الأمريكي جورج بوش ولقائه في اليوم التالي بالرئيس الأسبق مبارك، وقلت إنها مؤامرة يجب التصدي لها.
كان هناك حكم قد صدر ضدي من محكمة جنايات القاهرة بالحبس لمدة سنة أنا وشقيقي محمود بتهمة سب وقذف رئيس حزب العدالة د.محمد عبد العال وذلك فى 22 أكتوبر عام 1998.
وقد تم وقف تنفيذ الحكم منذ صدوره بعد أن تقدمنا بالتماس سابق إلى النائب العام المستشار رجاء العربى وذلك لحين الفصل فى الطعن.
لقد عرفت بعد ذلك أن إحدى دوائر محكمة النقض اجتمعت فى اليوم الذى سبق القبض علينا وقررت تأييد الحكم بحبسنا لمدة عام دون أن نخطر بالمحاكمة أو الحضور فيها، وبذلك أصبح الحكم باتًا ونهائيًا
وفى اليوم التالي فوجئت بحشود من رجال الأمن يقتحمون شقتي فى المعادي فى الدور الـ13، وقبل أن يصلوا اعتدى أحدهم على بواب العمارة (محمد) واصطحبوه معهم ليرشدهم عن الشقة، كان الوقت فجرًا، دق جرس الباب بشكل متواصل، صحوت وصحت معي زوجتي والأبناء، تقدمت نحو الباب، سألت: مين؟
رد أحدهم: افتح الباب بسرعة.. احنا بوليس.
فتحت الباب، تساءلت: إيه الحكاية؟
قال لى ضابط كبير يترأس المجموعة: احنا مباحث تنفيذ الأحكام، وهناك حكم بات ونهائي صدر ضدك أنت وشقيقك محمود بالحبس لمدة عام.
تجمع أبنائي حولي يسألون: إيه الحكاية، فطلب منهم الضابط الدخول إلى الغرف، وطلب منى سرعة ارتداء ملابسي للمغادرة معهم.
تساءلت عن القضية، فعرفت أنها قضية محمد عبد العال، وأن الحكم صدر من محكمة النقض دون أن أعلم بذلك.
كانت المدة المحددة لي هي دقائق معدودة، ارتديت ملابسي وودعت زوجتي وأبنائي، كانت زوجتى قد أخطرت شقيقى محمود وأعلمته بالأمر، فتحدثت معه، وقلت له: مطلوب القبض عليك معى أيضا، فقال محمود: سأرتدى ملابسى وانتظركم على قارعة الشارع الذى أسكن فيه، وبالفعل، هبطت معهم إلى الشارع الذى أسكن فيه، نظر إلىّ بواب العمارة ولسان حاله يقول: إيه الحكاية؟
ركبت معهم فى سيارة الشرطة، تجمع حولى الجنود بأسلحتهم، وكانت هناك سيارتان أمن مركزي تصطحبانى.
بعد عشر دقائق فقط، كانت الحملة قد وصلت إلى الشارع الذى يقطن فيه شقيقى محمود، وبالفعل كان يقف فى انتظارنا ومعه حقيبة صغيرة.
كان العقيد محمد شخصية محترمة، وكان محرجا للغاية، وكان يحاول التخفيف من وطأة ما حدث، وعندما قلت له: همه مش قالوا زوار الفجر خلاص.. ابتسم الرجل وقال: أنت عارف يا أستاذ مصطفى ده مش قرارنا.
كانت الساعة قد تجاوزت السادسة بقليل من صباح يوم الاثنين الثاني من يونيو 2003 حين صعدنا إليّ غرفة رئيس المباحث، حيث بدأ العقيد محمد هاشم تنفيذ إجراءات الحبس والترحيل.. في هذه الأثناء، فوجئنا بالزملاء من صحيفة «الأسبوع» يتوافدون على قسم حدائق القبة بعد أن انتشر الخبر بسرعة فائقة.. كان الزميل السيد جمال الدين، رئيس قسم الحوادث بصحيفة الأسبوع أول من وفد إليّ القسم، بعد أن ترك تشييع جثمان عمته التي توفيت وكانت على وشك الدفن، ثم وصل الزميل عبد الفتاح طلعت مدير التحرير، وبصحبته شقيقنا عبد الحميد بكرى.. ثم راح الزملاء يتدفقون للاطمئنان علينا، وإعلان مؤازرتنا فى ذلك اليوم.
3- نيابة غرب القاهرةخمس ساعات كاملة، قضيناها فى قسم الحدائق.. ثم اصطحبنا أحد ضباط تنفيذ الأحكام إلىّ نيابة غرب القاهرة الكلية بمحكمة جنوب القاهرة بباب الخلق.. حيث راحت النيابة تتخذ الإجراءات المطلوبة، والتى استمرت زهاء الساعتين.. وخلال استمرار إنجاز تلك الإجراءات، تفجرت مفاجأة مذهلة.. لقد اكتشفنا أن أوراق القضية التي يجرى حبسنا على ذمتها لم تصل بعد من محكمة النقض إليّ نيابة غرب القاهرة الكلية.. فرحنا نسأل، والدهشة تتملكنا: إذا كان الأمر كذلك، فعلى أى أساس تم تنفيذ الحكم علينا، بينما الأوراق التي تحمل الصيغة التنفيذية للحكم لم تصل إلىّ النيابة بعد؟ وهنا كانت المفاجأة الأكثر إثارة، حيث جاء مضمون الرد ليقول وعلى لسان المحامى العام أن الحكم تم تبليغه بإشارة تليفونية؟!.
تملكتنا الدهشة أكثر، وأكثر.. وتبعثرت الأسئلة الغامضة فى كل اتجاه، فلماذا هذه السرعة فى التنفيذ؟ ولماذا يتم التنفيذ فجرا؟ ولماذا تحديدا يجرى القبض علينا صبيحة يوم الاثنين الثانى من يونيو، وهو اليوم الذى واكب وصول الرئيس جورج بوش شرم الشيخ فى أول زيارة يصل فيها الرئيس الأمريكى إليّ مصر؟!.
كثيرة هى الأسئلة التى طفت على السطح فى هذا الوقت، وبينما كنت مستغرقا فى تلك التساؤلات، أبلغنا رئيس النيابة المختص أن إجراءات نيابة غرب القاهرة «انتهت» ولم يتبق سوى المرحلة الثالثة من الإجراءات، حيث اصطحبنا الضباط إلى مبنى إدارة تنفيذ الأحكام الملاصق لمبنى مديرية أمن القاهرة، حيث كان علينا التوقيع على نماذج الحبس، وعمل الفيش والتشبيه المكون من ثلاث نسخ.. وكان من المفارقات التى قابلتنا فى هذه اللحظات هو هذا التعاطف الكبير معنا، والذى لمسناه من الضباط منذ الصباح الباكر، وبينما كان مساعد الشرطة ينهى معى إجراءات الفيش والتشبيه أقدم أحد ضباط الشرطة على موقف نبيل معى.. فماكدت أنهى إجراءات الفيش، حتى فوجئت بأحد ضباط مباحث تنفيذ الأحكام يهرول مسرعا نحو أحد الدواليب، ويخرج منه «فوطة وصابونة»، وراح يتجه نحوى بينما كنت أغسل يداى من الحبر الأسود الذى ملأ أصابعى.. راح الضابط يمد يده بالصابونة لأغسل بها يدى، وحين انتهيت من ذلك وجدت الضابط إلى جوارى، حاملا «الفوطة».. فرحت أشكره على هذا التصرف النبيل، فما كان من الضابط إلا أن قال لى «أنا لى الشرف أن أخدمك يا أستاذ مصطفى.. فأنت صاحب قلم حر، وبتعبر عنا جميعا».. كانت تلك الكلمات تعبيرا حقيقيا عن المشاعر الوطنية التى قابلتنا خلال تلك الساعات العصيبة.. سمعناها من ضباط، وجنود، ومحامين، ومواطنين عاديين.. قابلونا، ونحن نتنقل داخل تلك الأماكن، وكانت محصلتها أن شعورا متزايدا بالمواقف الوطنية، ها نحن نلمس نتائجه على كل المستويات.
بعد إنهاء كل الإجراءات معنا، وبتنا جاهزين لتنفيذ حكم الحبس، علمنا أنه تقرر إيداعنا «سجن الاستئناف» وهو واحد من أسوأ السجون المصرية.. ويبدو أن البعض، ممن رتبوا لحبسنا أرادوا إهانتنا عمدا.. وهو مخطط لم ينجح، حيث تدخلت بعض من قيادات وزارة الداخلية فى الوقت المناسب، لتستدرك الأمر، وتغير مكان الحبس من «سجن الاستئناف» إلى «سجن مزرعة طرة».. خاصة بعد اعتراضنا على حبسنا فى سجن الاستئناف.
4- الطريق إلى سجن مزرعة طرةظلت الإجراءات تتواصل حتى عصر ذلك اليوم، وعند الساعة الثالثة والربع تقريبا، كانت الإجراءات قد انتهت، ثم سرعان ما انطلق بنا طابور السيارات الذى كان يصحبنا إلى خارج مبنى مديرية الأمن، حيث ودعنا الزملاء بالحسرة والألم، فيما رحنا نشجعهم، ونقول لهم: «هذه ضريبة محاربة الفساد.. نحن راضون عما أصابنا، ومؤمنون بقضاء الله وقدره، أيا كان».. وطلبنا من الصحفيين الزملاء أن تستمر «الأسبوع» رغم غيابنا، كما هى.. طريقا للباحثين عن الحقيقة، وسوطا يلهب ظهور الفاسدين، ويقتص للمقهورين والمحرومين.
بعد رحلة استمرت لنحو عشر ساعات منذ الصباح الباكر، وبعد نحو ثلاثة أرباع الساعة من انطلاقتنا من مبنى مديرية أمن القاهرة، وصلنا إليّ مدخل «منطقة سجون طرة» على طريق «الأوتوستراد».. كان على السيارات التي صحبتنا أن تعود من حيث أتت، حيث لا يسمح لها بالمرور إليّ الداخل فى الطريق إليّ «سجن المزرعة».. ومن المشاهد التي لن يمحوها الزمان فى تلك اللحظات، هو ما أقدم عليه الحاج رفعت بشير أحد أبناء قنا بالسويس، وعضو مجلس الشعب عن السويس فى تلك الفترة.. حيث جاء عند مدخل السجن، ولَم نكن نعلم بوجوده ضمن السيارات المصاحبة لنا.. فوجئنا به يهبط من سيارته، كان متأثرا للغاية بما حدث.. أراد أن يودعنا بطريقته، فاقترب من باب السيارة التي كانت تستقلنا، وراح يحتضنى، وكان متأثرًا للغاية.
بعد لحظات، كنّا نقترب أكثر وأكثر من بوابات السجن.. بدأنا فى هذه اللحظات نودع العالم الخارجي، فيما راحت السيارة تتجه بِنَا إلى بوابة صغيرة، كتب فوقها «سجن مزرعة طرة العمومي».. بدأنا نتنقل فى تلك اللحظات.. من غرفة العميد سمير عبد الغفار مأمور السجن، إليّ غرفة نائب المأمور العقيد أسامة أبو الهيثم، إليّ غرفة ضابط المباحث الرائد شيرين.. كانت تلك هي المرحلة الأخيرة من الإجراءات، قبل إيداعنا أماكن الحبس داخل السجن، وقبل أن ننتقل إليّ محبسنا، جلسنا مطولا فى مكتب المقدم محمد عشماوى ضابط مباحث أمن الدولة داخل السجن.
طبقوا علينا لائحة السجون.. تم سحب ما لدينا من أموال، وأودعت فى الأمانات، وتمت مصادرة الملابس غير الزرقاء، والتي لا تتناسب مع ملابس السجون بالنسبة للمحكوم عليهم.. حيث أصبحنا منذ هذه اللحظات «رهن السجن» بالملابس الزرقاء، ننفذ حكما بالحبس، وننقطع عّن عالمنا، وعملنا، وعائلاتنا.
5- رب ضارة نافعة
وبينما كنّا نجتاز مبنى الإدارة، فى طريقنا إليّ محبسنا، راح شقيقي محمود يردد «هذه إرادة الله.. وما علينا إلا أن نصبر ونحتسب»، وراح يذكرني بالكلمة التي قالها يوم تآمروا على، لإبعادي من صحيفة «الأحرار».. يوم أن قال «رب ضارة نافعة».. وكانت بالفعل «نافعة» فلم تكد تمر ستة أشهر على المؤامرة، حتى كانت صحيفة «الأسبوع» تخرج إليّ الدنيا.. لتتحول خلال سنوات قليلة إلى صحيفة ملء السمع والبصر.. ومنارة لكل الشرفاء والأحرار فى مصر.
كانت خطواتنا تقودنا بإيمان عميق، ونحن نتجه إليّ محبسنا.. وكان اليقين فى داخلنا أن «الخير قادم».. وراح شقيقي محمود فى تلك اللحظات يمزح وهو يقول: «هانحن يا أخى نعود للحبس سويا مرة أخرى.. ففى العام 1981، وقد كنّا صغارا، حين جمعنا سجن ليمان طرة.. بعد مقتل السادات.. وهانحن نعود وبعد 22عاما، سويا أيضا إليّ سجن مزرعة طرة».. وراح يقول «أنا فى منتهى السعادة فى هذا اليوم بالذات».. فسألته: ولماذا؟.. فقال: «لأننا مازلنا، رغم كل هذه السنوات ثابتين على مواقفنا والحمدلله.. لم نضعف يوما، ولَم نضل الطريق.. فهل هناك سعادة أكثر من أن يجد الإنسان نفسه محترما أمام ذاته؟.. أومأت إليه برأسى معقبا: «ولوقدر لنا أن نعيش مثل هذا العمر، أوأكثر، فلن تتبدل مواقفنا بإذن الله.. وسنظل ندافع عن شعبنا، ووطننا، حتى ولوقضينا بقية عمرنا خلف الأسوار»، كنّا فخورين بأنفسنا، ونحن نقترب من محبسنا.. ولَم تمض لحظات، حتى وجدنا أنفسنا وجها لوجه مع الدكتور محيى الدين الغريب، وزير المالية الأسبق، والذى رحب بِنَا بحرارة، وراح يطرح علينا سؤالا أمام الضباط الذين صحبونا حتى محبسنا: «طيب إحنا ومعروفين جينا هنا ليه.. وانتم إيه اللي جابكم هنا؟!».. كان السؤال أصعب من أن نجيب عنه فى تلك اللحظات، التي كنّا ننتظر فيها تجهيز المكان الذى سنتخذه محبسا لنا على مدار سنة السجن، المحكوم بها علينا، والتي تحسب هنا بتسعة أشهر وليست سنة كاملة.
6- الليلة الأولى داخل السجنقضينا ليلتنا الأولى فى محبسنا فى سجن مزرعة طرة، وكان علينا أن نتعرف برفاقنا فى الحبس، والذين كان الكثير منهم من الشخصيات الشهيرة، ومنهم توفيق عبده إسماعيل الوزير الأسبق لشئون مجلسي الشعب والشورى، وفؤاد الهجرسى رجل الأعمال وعضو مجلس النواب الأسبق، وغيرهم من رفاق الحبس والذين كان عددهم اثنى عشر فردا.. وبسرعة، رحنا نتأقلم على أجواء السجن، ونتعارف على أصدقاء السجن، من النزلاء الآخرين، والذين كان على رأسهم النائبين السابقين «خالد محمد حامد محمود» و«إبراهيم عجلان» واللذين اتهما فى قضية نواب القروض فى تلك الفترة.. وكان من النزلاء أيضا على طه رئيس مصلحة الجمارك الأسبق، ومجموعة الشباب الذين حاولوا اغتيال الأديب نجيب محفوظ، وبعض المسجونين فى قضايا قتل الرئيس السادات، وجماعة الإخوان، وبعض القضاة والمستشارين، المحبوسين على ذمة قضايا مختلفة، وضباط شرطة سابقين.. والمتهمين فى قضية حزب التحرير الإسلامي، وغيرهم كثير.
رحت أرصد نماذج البشر داخل محبسهم.. الدكتور محيى الغريب كان من أكثر المواظبين على الصلاة.. وتجده كل يوم، وهو يتلو آيات من الذكر الحكيم، من بعد صلاة المغرب، وحتى صلاة العشاء.. وكان تعامله مع بقية النزلاء يتسم بروح الإنسان، حيث يتولى طوعا الإشراف على الخدمات الخاصة بالمجموعة المسجونة معه.. أما الوزير السابق توفيق عبده إسماعيل، فكان له رصيد كبير من الشعبية فى أوساط المساجين.. ويعود ذلك إليّ ما يتمتع به من خفة دم، وروح الدعابة، وكذلك تاريخه كواحد من الضباط الأحرار، والذى يحلو له أن يتحدث عن تفاصيله بفخر.. ناهيك عن حيويته وتمتعه بالنشاط الرياضى اليومى مبكرا، رغم أنه كان فى ذلك الوقت يبلغ السادسة والسبعين من عمره.
وتمثلت مفاجأة الحبس بالنسبة لنا فى تلك الفترة فى «خالد محمد حامد محمود» النائب السابق، ونجل نائب رئيس وزراء مصر الأسبق، والذى كان سجينا فى عنبر «4» مع المجموعة الرئيسية لنواب القروض.. حيث اشتهر بالسمعة الطيبة بين الجميع، وهو لا ينقطع أبدا عن العبادة والصلاة، ولا يخرج من محبسه إلا للضرورة، كأن يصلى الجمعة فى مسجد السجن، أو يخرج لاستقبال زائر.. وحين التقيناه فى اليوم الثانى لحبسنا داخل السجن، كان استقباله لنا حميميا.. قال وهو يصافحنا بحرارة، على الرغم من أنه كان اللقاء الأول الذى يجمع بيننا: «أنا أختلف مع بعض ما تكتبونه.. ولكنكم تكتبون بصدق، وهذا أحترمه فيكم.. وأمثالكم ليس هذا مكانهم.. أنتم مكانكم هناك فى صحيفتكم، لتقولوا كلمتكم لصالح الناس».
رحنا ننخرط فى حياتنا الجديدة «حياة السجن» بسرعة شديدة، وهى حياة لها طقوسها الخاصة، وتقاليدها المختلفة.. حيث يبدأ اليوم خارج العنابر عند السابعة والنصف صباحا، وينتهى عند الخامسة والنصف مساء.. وخلال هذه الفترة، نمتلك حرية التجوال داخل السجن.. ولكن، وحين يغلق الباب، تنقطع علاقتنا، إلا بمن هم معنا فى الحبس.. حيث نتعايش مع النزلاء المحكومين.. نسمع قصصهم، وواقعهم الذى دفع بهم خلف الأسوار.. ونتبادل الرؤى فى عالم ينتظر كل من فيه لحظة مغادرته الأسوار، إليّ آفاق الحرية الرحبة.
خلف الأسوار.. تتكاثر الحكايات، وتتعدد الروايات.. كل سجين يروى قصته، من وجهة نظره، وكأنه يسعى حثيثا ليكتسب براءة ولو شكلية بين رفاق الحبس.. وبقدر تنوع الروايات، وفصولها الدرامية، ومأساويتها، بقدر ما يحمل عالم السجون، قصصا لأناس، جاءوا نتيجة تعرضهم لعمليات نصب متقنة.. ومن بين تلك الحكايات، حكاية المحاسب محمود محمد الرشيدى، والذى كان يقضى عقوبة بالسجن عشر سنوات، بتهمة تزوير رخصة، فقد أوقع به كمين أدى إلى سجنه، كان قد قضى خمس سنوات داخل السجن فى هذا الوقت، ولكن شعوره بالظلم المرير كان باديا على كل تصرفاته.. فانفعالاته، ودموعه، وكأنها شلالات، لا تتوقف.. لا يترك نزيلا دون أن يقص عليه حكاية الظلم الذى تعرض له.
وحكاية محمود الرشيدي لم تكن هي الوحيدة، فهناك مآس كثيرة، تؤكد المثل الشعبى الذى يقول «ياما فى السجن مظاليم».. فالسجن، فرصة، لتسمع مباشرة للكثير من المحكومين فى قضايا، كانت مثار اهتمام وجدل كبيرين، وتناولها الإعلام لسنوات طويلة.. هنا تتلامس مباشرة مع هؤلاء المحكومين، لتعرف من خلالهم «أصل الحكاية».. فالدكتور محمد طارق إبراهيم، أحد المتهمين فى قضية اغتيال أنور السادات، والذى كان سجينا فى تلك الفترة، حيث كان قضى فى السجن 22 عاما، يحكى بلغة بالغة الإثارة، كيف تمت عملية اغتيال الرئيس السادات، وكيف تعامل المتهمون مع الضباط والمحاكم المختلفة؟ وكيف تبدلت الأحوال فى السجون منذ أوائل الثمانينات وحتى هذا الوقت؟ أما رجل الأعمال ياسر سعودي، فيروى بألم، كيف أنه قضى عقوبة السجن ثلاث سنوات فيما سمى بقضية «نواب القروض»، وهى المدة التي حكم بها عليه سابقا، وحين أعيدت المحاكمة، ذهب وهو لا يخالجه شك فى تأكيد ذات الحكم، وهو ما يعنى خروجه فورا لقضائه العقوبة المقررة، ولكن الحكم جاء على غير ما يشتهى.. فقد تضاعف الحكم عدة مرات، من ثلاث سنوات، إلي 12 عاما.. أما فؤاد عبد المنعم هجرس، النائب السابق، فيروى بتسلسل منطقى، وبلغة يملك ناصيتها وقائع خافية فى قضايا شغلت بال المجتمع لفترة طويلة.
عالم السجن فى مزرعة طرة، يتنوع بشكل منسق تماما.. ففى عنبر«3» يوجد عدد كبير من جماعة الإخوان، من المحكوم عليهم بأحكام، تتراوح من 3 - 5 سنوات.. فيما كان يخضع للتحقيق عدد آخر منهم، من بينهم الدكتور إبراهيم الزعفرانى، القيادى الاخوانى فى ذلك الوقت.. وفى عنبرى 3 و4 كذلك، توجد مجموعات من أعضاء التيار الإسلامى المتطرف «الجماعة الإسلامية - تنظيم الجهاد» أو غير ذلك.. وفى عنبر «5» يتوزع ضباط الشرطة المحكومين، فيما يتم توزيع عدد من الشخصيات، من المضبوطين فى قضايا مختلفة، ومتنوعة على كل العنابر، وخاصة عنبر «4».. أما من عرفوا باسم«نواب القروض» فقد أودع أغلبهم فى عنبر «4»، وبعضهم الآخر فى مستشفى السجن.
عند الصباح الباكر، وما أن يفتح الصول الزنازين والعنابر، حتى ينطلق المسجونون عند السابعة والنصف صباحا، لممارسة التمرينات الرياضية والجري لفترة محدودة من الوقت، قبل أن يعودوا إلى زنازينهم مرة أخرى.. كنت ومنذ اليوم الأول لإيداعنا السجن أستيقظ مبكرا، كعادتي، حيث أتصفح بعض الكتب، واستمع لآخر التطورات من المذياع الصغير الذى جاءني هدية من العميد محسن رمضان، وحين يفتح باب العنبر، نكون أنا وشقيقي محمود أول الخارجين، لممارسة الرياضة اليومية.. وقد تعرض شقيقى محمود لموقف غريب خلال ممارستنا لرياضة كرة القدم، يوم الأربعاء 18 يونيو 2003حيث كنت أنا ومحمود، ومعنا رجل الأعمال إيهاب برعى، والمحامى أحمد الهندى.. وبينما كان محمود يحاول شق طريقه بالكرة بسرعة كبيرة، إنزلق على قدمه بشكل غير متوقع، فطار فى الهواء، ثم مالبث أن سقط على وجهه بشكل مثير، حيث راح ينزف، ووجهه تخضب بالدماء، فأبديت انزعاجى الشديد، وطالبت بسرعة نقله إلى أى مستشفى خارج السجن، خاصة بعد أن تبين أن جرحا فى الجهة اليمنى من الوجه، بجوار العين اليمنى، يحتاج إلى خياطة.
تجمع نزلاء السجن من حول شقيقي محمود فى تلك اللحظات.. راح الدكتور طارق إبراهيم المسجون فى قضية اغتيال السادات فى وضع كمادات مثلجة، حتى لا تتورم المنطقة المحيطة بالعين، وتم استدعاء أحد المسجونين من التيار الإسلامي، وهو جراح، يدعى «د.سعد» قبل أن يتم استدعاء أحد كبار جراحى السجن، وهو الدكتور هانى إسكندر، الذى وصل فى وقت قياسي، حيث أجرى جراحة خياطة لسبع غرز للجرح، بمهارة فائقة.. وكان قد تم ابلاغ إدارة السجن فى هذه الأثناء بما حدث، فتم على الفور انتقال ضباط الإدارة لمتابعة الواقعة، ولم تمض سوى دقائق حتى وصل الرائد شيرين رئيس مباحث السجن، وتبعه العميد سمير عبد الغفار مأمور السجن، ثم المقدم محمود البساطى ضابط المباحث بالمنطقة.
كانت والدتنا سوف تزورنا فى هذا اليوم، وتوقعنا أن رؤيتها لشقيقي محمود، والضمادات فوق وجهه، وآثار الإصابة بادية عليه، سوف يزيدها ألمًا وقلقًا عليه، لذلك رحت أستغل وجود بعض الزائرين لنا فى السجن فى هذا اليوم، لأطلب من أحد الزائرين أن يجرى اتصالا بزوجتي ويبلغها بطلبي أن تمنع والدتي من زيارتنا فى السجن بأية طريقة، على أن يوضح لزوجتي ما حدث، وأن المسألة بسيطة، لكن والدتي لا تتحمل رؤية ابنها على هذا النحو.. لقد كان هدفنا من هذا التصرف هو إبعاد والدتنا عن المزيد من المتاعب الصحية، والتي بدأت فى التزايد عليها فى تلك الأيام، فلقد تعودنا منذ زمن طويل أن يكون أحد واجباتنا اليومية الأساسية هو الاتصال بوالدتنا حيث تقيم فى منزل العائلة بقنا لطمأنتها، خاصة وأن الأزمات المتعددة، التي مررنا بها فى مشوارنا، ومسار نضالنا، أصابتها بهاجس دائم من القلق، فغيابنا عن الاتصال بها، ولو ليوم واحد، تفسره بالأمر غير الطبيعي، الذى إما إن يكون مرضا، أو سفرا لمكان به مخاطر، أو حبسا فى معاركنا الصحفية الممتدة.
كانت والدتنا، تمتلك شفافية غريبة، وعجيبة فى الآن ذاته، ففي بدايات ذلك العام «2003» كان شقيقنا «أحمد بكري» يجرى عملية لزرع الكلى فى مستشفى وادى النيل بالقاهرة، وكنا قد اتفقنا كأشقاء أن نخفى عنها الخبر لحين تماثله للشفاء، ولكن، وحين رحنا نحادثها فى التليفون، لإعطائها مزيدا من التطمينات صبيحة يوم إجرائه العملية، فوجئنا بها تسأل عن «أحمد»، وحين سألناها عن سبب سؤالها عنه، قالت بلهجتها الصعيدية «أنا حلمت امبارح إن أحمد ولدى نايم على سرير أبيض، بملابس بيضا، وحواليه 12 واحد لابسين أبيض فى أبيض».. وكانت المفاجأة فى كلام والدتي حين رحنا نسأل عن عدد الفريق الطبي الذى يجرى العملية لشقيقنا «أحمد» فجاءت الإجابة من الطاقم المعاون 12، شاملين الجراحين وأطباء التخدير والمساعدين والمعاونين.
والذى أثار غرابتنا أكثر، هو ما جرى معنا يوم إلقاء القبض علينا أنا وشقيقي محمود، فعند الساعة الثامنة من صباح يوم الاثنين 2 يونيو2003، وبينما كانت إجراءات تنفيذ الحكم تتواصل فى قسم حدائق القبة، حاولنا طمأنتها عبر تليفون شقيقنا «عبد الحميد بكري» الذى جاءنا فى قسم الشرطة فى هذا الوقت المبكر.. وبينما كنت أحدثها لأطمئنها علينا، خاصة وأننا لم نكن نعرف متى يمكن أن تسمح الظروف بالتواصل معها مرة أخرى.. فجاء على الناحية الأخرى صوتها حزينا، وحائرا، سألتنى «ايه اللى جرالك انت وخيك محمود؟» قلت لها محاولا طمأنتها «مفيش حاجة حصلت» فإذا بها تقول فى لغة صارمة «حلمت الليلة بيكم، انت ومحمود نايمين على سريرين جمب بعض، وانتم محجوزين، وفى ضيقة».. صدمت من كلماتها، فحتى هذه اللحظات لم نكن نعرف أين، وكيف سيكون محبسنا.. ولكن، وحين أودعنا سجن مزرعة طرة، كانت المفاجأة هى أن هناك بالفعل سريرين متجاورين، خصصا لنا فى عنبر المستشفى.
كنا حريصين، رغم إدراكنا لشفافية والدتنا، أن نبعدها عن أية متاعب، قدر الإمكان، كان أمرا نتشارك فيه جميعا كأشقاء وشقيقات، ألا تصلها الأخبار السيئة، وظللنا حريصين على ذلك حتى آخر يوم فى عمرها، حيث رحلت عن دنيانا فى يوم الرابع من إبريل للعام 2015، وسبقها والدنا بالرحيل المبكر فى الأول من إبريل للعام 2006.. مثل هذا الحرص هو الذى دفعنا فى أزمة حبسنا فى العام 2003، لأن نخفى عنها الخبر «رسميا» وظلت، ورغم يقينها الداخلي، تجهل تحديدا ما الذى جرى لنا، حتى كان اليوم الحادى عشر من سجننا، حيث رأينا فى اطمئنانها علينا، ونحن داخل السجن، أفضل بكثير من تركها أسيرة لمشاعر متضاربة، خاصة بعد أن انقطعنا عنها نهائيا، ولم يعد ثمة اتصال بيننا وبينها.. ففى يوم الخميس 12 يونيو 2003، أبلغنا إدارة السجن، عند نحو العاشرة والربع صباحا، بوجود زيارة لنا، وعلى الفور توجهنا إلى مبنى إدارة السجن.
كان ترديد الشائعة، فى حد ذاته تأكيد على أن «عالم السجن»، وبرغم كل ما به يتفاعل مع كل ما يدور فى الخارج، ويعتبر أن احتمالات القبض على المخالفين فى الرأى، أو أصحاب المواقف، هو أمر يتوقع حدوثه، فى أية لحظة، بالرغم من أن الأمر بالنسبة لنا، كان يتعلق بتنفيذ حكم قضائى.. ومن الأمور المثيرة التي عشناها خلال فترة السجن، أن عددا من القيادات السابقة فى الأجهزة الأمنية، كان لهم وقع خاص، خلال زيارتهم لنا، فالعميد سمير عبد الغفار مأمور السجن، عمل ضابطا فى فترة تولى اللواء محمد عبد الفتاح عمر موقع مدير أمن الغربية، حيث كان احتفاء المأمور به خلال قيامه بزيارتنا فى السجن، واضحا.. أما اللواء منصور العيسوى، مدير أمن القاهرة، ومحافظ المنيا الأسبق، والذى تقلد منصب وزير الداخلية فى فترة ما بعد 25 يناير 2011، فعدد لا بأس به من ضباط السجن، عملوا تحت إمرته.. أما «فاكهة الزيارات» فتمثلت فى اللواء رفعت دنقل، حكمدار فرق الأمن الأسبق، والذى تصادف إنه يعرف عددا من ضباط السجن بالاسم، وكان لا يزال يذكرهم بدقة، منذ عملوا معه.. وكان لوقع «تخريجاته» التي يتمتع بها، ناهيك عن روح الدعابة، التى تكسو شخصيته، كان لها أثرها فى رسم البسمة فوق شفاه من شاهدوه فى تلك اللحظات، ناهيك عن المئات الأخرين الذين قاموا بزيارتنا فى مظاهرة ربما لم تعرف لها السجون مثيلًا - على حد تعبير اللواء سمير عبد الغفار - مأمور السجن.
الحياة داخل السجون تسير وفق نظام إداري دقيق ومحكم.. فمنذ وصولك إلى باب السجن، تخضع لإجراءات ولوائح مختلفة عن تلك التي تعيشها فى الخارج.. وحين وصلنا سجن المزرعة، كان أ ول إجراء أتخذ معنا هو تجريدنا من ملابسنا المدنية، وارتداء الملابس الزرقاء المخصصة للمحكومين، وتلا ذلك تجريدنا من أي أموال فى حوزتنا، حيث يتم إيداع جزء منها أمانات السجن، فيما تم تسليم جزء آخر لأصحاب البقالة، والكافتيريا الداخلية للسجن، والتي يتولاها المسجونان «صبرا» و«مقبولي»، وكليهما من عناصر الجماعات الإسلامية «سابقا».. ويترك لك قضاء مصالحك داخل السجن، من مأكل وملبس ومشرب، بالسحب على تلك الأمانات..
أما وسيلة التعامل بين المسجونين فى الداخل، فتعد السجائر هنا هي العملة الأساسية الرائجة التي تحقق كل الأهداف، وتنجز المطالب الضرورية.
وعلى الرغم من أن الزى الرسمي، هو «بدلة السجن الزرقاء» التي تمنحها الإدارة، فإن الغالبية العظمى من المسجونين تعتمد فى انتقاء ملابسها الزرقاء، بتدرجاتها المختلفة على ترزى السجن «عمرو إبراهيم» المحكوم عليه بالمؤبد فى محاولة اغتيال الأديب المصري العالمي نجيب محفوظ، حيث يستطيع فى لحظات أن يوفر لك ما تشاء من قمصان أو بنطلونات أو تشيرتات، متقيدا فى ذلك باللون الأزرق المحدد للمحكومين، كما يتولى والطاقم المعاون معه «كي» ملابس المسجونين، التى تقوم على شأن تنظيفها غسالتان كبيرتان، يتولى إدارتهما عدد من المحكوم عليهم فى قضايا الجماعات الإسلامية.. هذه الأمور، وغيرها تؤكد أن السجن تحول إلى مؤسسة متكاملة، فيمكنك شراء «الحذاء» الذى يناسبك من المسجون هشام محمود عبد العزيز الذى يدير ورشة لتصنيع الأحذية.. وإذا أردت منضدة للطعام، أو القراءة، أو كرسيا للجلوس عليه، فعليك بأحمد سليم، صاحب ورشة الموبيليا داخل السجن.. وإذا أصاب نظارتك خلل، فعليك بالسجين أحمد إمام لإصلاحها.. أما الشيخ صلاح، فهو بارع فى تصميم البراويز، التي يمكن أن تستغلها كهدايا للمقربين منك.. وقد اشترينا بروازا أنيقا دفعنا فيه خمسين جنيها، بعد أن أكرمنا فى سعره، وخصم لنا خمسة وعشرين جنيها، حين حلت مناسبة عيد ميلاد نجل شقيقى محمود «خالد» الذى لم أستطع تجاهل مناسبة عيد ميلاده، دون الاحتفاء به، وقد بعثت له رسالة بخط يدى فى هذه المناسبة
ومن الأمور التي لمسناها داخل سجن مزرعة طرة فى هذا الوقت، أنه بإمكانك أن تدفع اشتراكا شهريا حتى تصلك الصحف التى تطلبها بانتظام، خاصة، الحكومية منها.. ويوجد بالسجن، بالإضافة إلى كل ذلك نظام تأجير المجلات المتخصصة، حيث يمر عليك كل يوم أحد المسجونين، حاملا كمية لابأس بها من المجلات التى يؤجرها لقراءتها لمدة يوم واحد، ثم يستردها زهاء مبلغ معلوم فى اليوم التالى، على أن يخصم المبلغ من الأمانات مع نهاية كل شهر.
ومن ضمن المفارقات التي تعايشنا معها فى سجن المزرعة، أننا ظللنا نرصد الكثير من المتابعات والقراءات حول مراجعات الجماعة الإسلامية، فى قضية التائبين، ومن بينهم «أحمد راشد» الذى كان قد أعلن عن توبته قبيل بضع سنوات، وتحول إلى نجم تليفزيونى بعد أن كشف علاقاته السابقة بالجماعة الإسلامية، وأوكارهم، وأفردت له الصحف والمجلات المختلفة صفحات مطولة للحديث عن تجربته فى صفوف الجماعات الإسلامية.. كنا نتساءل عن «أحمد راشد» وما هو مصيره.. ثم فوجئنا أن «أحمد راشد» الذى نتساءل عنه هو «بائع الزبادي» الذى يأتينا فى نحو الساعة الخامسة من مساء كل يوم، وقبل أن يغلق عنبر السجن أبوابه!.
ومع غروب شمس كل يوم، تغرق المنطقة المحيطة بالسجن فى ظلام دامس.. وما إن يقترب الليل من منتصفه، حتى يعم السكون الكامل منطقة السجن، والسجون المحيطة.. فى هذا الوقت، تترامى إلى مسامعنا من بعيد أصوات العساكر، المنطلقة من أبراج الحراسة المحيطة بالسجن.. كل يصرخ فى البرية، معلنا أنه «تمام» ملمحا إلى «يقظته التامة»، بينما يرد عليه زميله الذى يقطن فى البرج الذى يليه، ثم الذى يليه، وهكذا، فى منظومة عزف متناسقة بأصوات الحراس.. لتتواصل الأصوات فى جوف الليل، وعتمته، حيث تلقى بأصدائها فوق أجواء المنطقة المكتظة بالسجون، وتظل تصدح، حتى تسطع أشعة شمس يوم جديد، وتتعالى نسمات الصباح، فى عالم ما خلف الأسوار.
جاء ذلك، في الحلقات التي ينشرها «الجمهور» يوم الجمعة من كل أسبوع، ويروي خلالها الكاتب والبرلماني مصطفى بكري، شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوي ومرسي والسيسي.
اقرأ أيضاً«مصطفى بكري»: رسالة الرئيس السيسي للجميع «الأمن القومي المصري خط أحمر»
أقوى رد من «مصطفى بكري» على تطاول مندوب إسرائيل على الجيش المصري
«مصطفى بكري»: الجيش المصري أصبح مستهدفا من دولة الاحتلال الإسرئيلي.. وعلينا أن ندرك أبعاد المؤامرة