كان محبًا للحياة ومحبًا للإنسان، محبًا للعلم والدراسة والفن، فقد كان شخصًا فريدًا متميزًا، كان يمشي في  شوارع الفجالة يبتسم لكل من يراهم ويحاكيهم ويسمع منهم، فأصدقاؤه من العمال والصنايعية يكادون يقاربون  أصدقاءه من النخبة والسياسيين والفلاسفة، وكانت جنازته خير دليل فكنت ترى المثقف والسياسي والكهنة من  مختلف الطوائف وعامل الجراج والقهوجي والميكانيكي.



سنوات في رحاب الأب الراحل وليم سيدهم اليسوعي، وأنا في رحاب هذا العملاق الذي يملك رؤيته وحلمه  وعلمه، سنوات وأنا أنهل من هذا العلم يوميا دون ملل، فكان لقاؤنا صباحًا منذ أن أدخل المكتب ويبدأ يومنا  فنفتح عدة مواضيع يأخذني فيها إلى عالمه ووجهة نظره وأسلوبه الرشيق في تحليل كل شيء من حولنا.

كنت أعتقد أن العمر سوف يعطينا الفرصة لتسجيل كل هذه الأحاديث ولكن كما كانت حياته مفاجأة كان رحيله  مفاجأة، ولكن دعوني أقدم لكم آخر حوار له ولم ينشر بعد.

■حدثنا عن بدايتك وظروف نشأتك؟

في خضم إنشاء الدولة العبرية وثلاث سنوات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية (١٩٣٩ – ١٩٤٥) وفي أثناء العصر الملكي للملك فاروق الأول ملك مصر ولدت في ٦ نوفمبر ١٩٤٨ في قرية جراجوس بصيد مصر، ولكن والدي سجلني في الدفاتر ٢١ فبراير ١٩٤٨، كان بيتنا يكتظ بالسكان، والدي وعمي  فكري وعمي غالي وعمي نجيب وكان والدي وبقية أعمامي يعملون في أنوال النسيج إلى جانب زراعة حوالي  نصف فدان لأبي وأعمامي.

وأنا عمري حوالي ١٣ عامًا تعلمت النسيج والتخييط وشاركت في الرحلات سيرًا على الأقدام إلى حجازة ونقادة والجزيرة، وكنا نتعلم المسرح وخيال الظل والفرجة على السينما وإجادة الرسم وزيارة معابد الكرنك والأقصر والمشاركة في المسابقات المدرسية.

■لماذا اتجهت إلى الرهبنة؟

كان أكثر ما أثر على طفولتي هو التعرف على نوعين من الكهنة، الكاهن التقليدي، الذي يقيم القداسات  والطقوس والصلوات فقط، ونوعية أخرى من الكهنة بجانب القداسات كانوا يرافقوننا في العمل وفي الرحلات    سيرًا على الأقدام ويلبسون لباسًا غير تقليديا، وأرسلني الأب اليسوعي "ديمونجليفية" إلى القاهرة، وبعد أن أنهيت دراستي الابتدائية كانت الدولة تتحدث عن التعليم الصناعي (الدبلوم الصناعي) ولكن الأب ديمونجليفيه قام بتوجيهي إلى الثانوية العامة لكي أكمل في الاستعداد للكهنوت، وكان يقوم بتوصيلي إلى لجنة الامتحان ذهابًا وإيابًا، وبعد ذلك ترك الأب ديمونجليفية جراجوس وذهب إلى تشاد وجاء الأب موريس مارتان بدعوة أحد الرفاق لمرافقتي إلى الأقصر لشراء الملابس الخاصة بالدخول إلى كلية  المعادي حوالي عام ١٩٦١، وهكذا وجدت نفسي وحيدًا متميزًا عن أقراني ودخلت في سلك الكهنوت وتساءلت  لماذا لم يختر الأب ديمونجليفية آخرين معي للدخول إلى سلك الكهنوت؟

■ما أكثر التجارب التي مرت بك في هذه الفترة؟

أنا دخلت الجيش وانتهيت من الخدمة العسكرية في ١/ ٤/ ١٩٨٠ وكنت سعيدا للغاية، سعيدا لأنني رغم كوني   راهبا ومكرسا وفي هذا الوقت لم يكن الكهنة والرهبان يلتحقون بالخدمة العسكرية بسبب موقعهم لكن اختبرت  وأنا راهب أنني لا أتميز عن أقراني وعن إخوتي فواز ومتى وفايز باستثنائي من الخدمة العسكرية كنت أشعر  بحرية باطنية غير عادية لأنني لم أدخل الدير هربا من الخدمة العسكرية أو غيرها. ومن المعلوم أني دخلت  مباشرة إلى الجيش بعد انتهائي من دراستي في باريس لمدة أربع سنوات متتالية وشتان الفرق بين حياة الحرية  في باريس والحياة تحت سيف الأوامر العسكرية اليومية.

وبعد ذلك طلبت من أحد أصدقائي أن يساعدني في الحصول على عمل في حي الوايلي المكتظ بالأطفال الذين  يعملون في ورش المسامير والميكانيكا فاشتغلت "كأسطى" في ورشة أبو الجوخ في الوايلي وطلب مني أن أتعامل مع الصاروخ مثلًا لكي أقص لفة سلك كبيرة وهكذا ولكن ومع جهلي بهذا العمل وفشلي في أكثر من مهمة وبعد أن اشتغلت لمدة شهر والمرتب كان النصف  تقريبًا نظرًا للخسارة التي سببتها لصاحب الورشة وتركت العمل، كانت هذه الخبرة مهمة جدًا لي لأنني اكتشفت مئات الأطفال الفقراء يعملون في هذه الورش ويقف أمامهم شخص بشومة يهددهم إذا تقاعسوا عن العمل.  واتفقت أنا وصديق لي بعد أن رويت له ما رأيته على عمل مطعم صغير في زاوية أحد الشوارع لإطعام هؤلاء الأطفال المستغلين والذين كانوا يُعاملون بعنف ولكن كان انتهاء عملي في الورشة سببًا لعدم تكملة هذا المشروع.

■ما لاهوت التحرير؟

وُلد لاهوت التحرير في لحظة تاريخية محددة في ستينيات القرن العشرين (١٩٦٠ – ١٩٧٠) في الوقت الذى كانت تعيش فيه الكنيسة الكاثوليكية في زخم الرجاء الذى أدخله البابا يوحنا الثالث  والعشرون في قلب كاثوليك العالم بدعوته لعقد المجمع الفاتيكانى الثانى (١٩٦٣ – ١٩٦٥) ومن خلال هذا المجمع رأت الكنيسة أن تتصالح مع العالم الحديث، مفضّلة موقف الحوار ومدققة  النظر على "علامات الأزمنة".

■ولكن لاهوت التحرير غير منتشر بالصورة التي تليق به خاصة في البلاد العربية، ما السبب؟

لأن المناخ العام في البلاد العربية يُحرم على الجميع مسيحيين ومسلمين النظر للكتب المقدسة نظرًا لأنها تحث على التفكير والبحث بطريقة علمية وضرورة التغيير على كل الاتجاهات السياسية والاقتصادية والثقافية، لأن  مفهوم "التفسير" لا يخرج عن المفاهيم التقليدية والمتجمدة مثل اجتهادات ابن تيمية وسيد قطب وغيرهما وآباء الكنيسة في القرون الأولى للمسيحية. لذلك الناس تقرأ كتب لاهوت التحرير وتنبهر وتتمنى وفقط. ونظراً لسيادة الأمية  الثقافية والأبجدية يخاف المُفكر اللاهوتى ويخشي على نفسه من ردود أفعال الشعب غير المؤهل لقبول مثل هذه التفسيرات.

■شغلت منصب رئيس مجلس إدارة جمعية النهضة العلمية والثقافية.. ما قصة هذه الجمعية؟

إن جمعية النهضة بدأت كفكرة وكرؤية مثل حبة الخردل، فمنذ أن عينت مرشدًا روحيًا واجتماعيًا وثقافيًا في  القسم الثانوي في مدرسة العائلة المقدسة بالفجالة نهاية عام ١٩٨٧، وكان وقتها الأب موريس ماري مارتان هو المرشد الروحي للقسم الثانوي، كنت قد طلبت من الرئيس الإقليمي وقتها تكريسي وقتا للفقراء والمهمشين في حي الفجالة إلى جانب عملي في المدرسة، وبدأت بعض الأنشطة في المدرسة حتى انتقلنا إلى المبنى الاجتماعي للرهبانية اليسوعية في القاهرة وهو المبنى الإداري بعد تعديله لاستوديو ناصيبيان وقام الأب ماسون رئيس  جماعة الآباء اليسوعيين بتعيين أماكن خاصة بكل الأنشطة أولها مكتبة لطلبة الحي، جماعة رفاق الكرمة،  التمريض وجمعية النهضة وذلك في عام ٢٠٠١.

وتساقطت مع الوقت الأنشطة المختلفة من مبنى المهراني لأسباب مختلفة حتى بقيت جمعية النهضة العلمية و الثقافية فقط، وأنا كنت موجودا في مدرسة العائلة المقدسة كمرشد روحي واجتماعي للقسم الثانوي حتى عام ٢٠١٤ كنت أتابع تطور ونمو الأنشطة الثقافية والفنية في جمعية النهضة بمبنى المهراني.

فمن عام ٢٠٠١ حتى ٢٠١٤ تعاقبت الأنشطة الفنية والثقافية وبدأ تأسيس المدارس رغم انشغالي في التدريس ومتابعة أنشطة مدرسة العائلة المقدسة خاصة أن العمل في النهضة كان يتم في فترة بعد الظهر بعد انتهاء العمل  في المدرسة، على مدى ١٤ عامًا كبرت الجمعية وانتشرت أنشطتها.

■وماذا بعد عام ٢٠١٤؟ 

من ٢٠١٤ وحتى الآن أنا لا أزال أشغل منصب رئيس مجلس الإدارة مستقر في المكان ومعى فريق عمل رائع ومتميز وأنشطة الجمعية تتطور وتنمو واستطعنا أننا نوصل لاتفاقية مع نقابة المهن السينمائية بإصدار كارنيهات نقابة لخريجي مدرسة السينما في القاهرة والصعيد وهذا من أكثر الأمور التى أعتبرها إنجازا حقيقيا.

■كيف تقبلت خبر حريق المسرح؟

هذا المسرح كان في الأصل استوديو ناصيبيان أقدم تاني استوديو في مصر، يعني له قيمة كبيرة ليس فقط لنا  لكن للوسط الفني كله فالحريق طبعا سبب صدمة لكنني أثق بمحبينا وأصدقائنا محبي الفن والجمعية إننا في أقرب وقت هنرجع المسرح مثلما كان وأفضل.

■كيف ترى مسارات القضية الفلسطينية؟

أولا نقر حقيقة أن إسرائيل دولة غاصبة بمساعدة الولايات المتحدة الأمريكية وهي دولة إلى زوال.

■لكن ما رأيك في فكرة أرض الميعاد التي وعدهم بها الله؟

في البدء كان وعد الله لإبراهيم بأرض الميعاد. منذ حوالي ثلاثة آلاف عام ومنذ ١٩١٧ وعد بلفور هرتزل  بتكوين دولة لليهود المضطهدين في أوروبا، ولقد اتخذت هذه الأرض أسماء مختلفة منذ إبراهيم حتى الآن:  فلسطين أم إسرائيل أم الأرض المقدسة أم أرض الموعد كلها مفردات ولطالما تم استخدامها الكتب المقدسة في  كل الديانات بلا استثناء غطاء مقدسًا لتبرير أحط غرائز الإنسان من قتل وذبح وسفك للدماء؟! فتارة «الحرب المقدسة» وتارة «باسم الجهاد» وأخرى باسم «الدفاع عن المقدسات» الخ، وأي مدقق في تاريخ منطقتنا وفي وضع أرض فلسطين بكامل ترابها يرى أن ما  حدث منذ وعد بلفور لم يكن له أي علاقة بالكتاب المقدس اللهم إلا غطاء مقدسا لتبرير الاعتداء على أرض  الغير والتمسح بنصوص العهد القديم التي تجاوزها سيدنا عيسى (المسيح)، بصفته الوحيد الذي استطاع أن ينفذ وصيته يهوه ويربط بين تنفيذ وصايا الله واكتساب أرض الميعاد.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: وعد من بلفور الله معابد الكرنك المسرح السينما الرجاء جمعیة النهضة

إقرأ أيضاً:

يوم أجبر السوريون بلفور على الهروب من دمشق متخفيا قبل 100 عام

في صباح الثامن من أبريل/نيسان 1925، كان على السياسي البريطاني اللورد آرثر جيمس بلفور أن يصل باكراً إلى محطة حيفا، ليلتحق بالقطار المسافر إلى سوريا، بعد أن أمضى عدة أيام صاخبة في فلسطين حيث أقام له اليهود حفلات لطالما تلقى فيها عبارة إطراء جرى اقتطاعها من مزامير العهد القديم "مبارك أيها القادم باسم الرب".

وكانت دمشق المحطة الثالثة في جولة استمرت قرابة أسبوعين، بدأها بلفور بمصر حيث التقى الجنرال إدموند ألنبي ومسؤولين آخرين، ثم تابع سفره إلى القدس ليشارك في حفل افتتاح الجامعة العبرية المستحدثة والذي دعي لحضوره، ويثني في كلمة ألقاها على الجهود التي تبذلها الحركة الصهيونية لإنشاء وطن قومي لليهود.

وقبل انطلاق القطار بساعات قليلة، بدأت أسلاك البرق تنقل عن وسائل إعلام سورية عزم الدمشقيين التجمهر أمام محطة قطار الحجاز، وسط العاصمة حيث من المقرر وصوله احتجاجاً على زيارة سياسي غير مرغوب فيه، عُرف عنه تعلقه الشديد بتعاليم التوراة، وارتباطه الوثيق بحاييم وايزمان أحد زعماء الحركة الصهيونية، علاوة على منحه اليهود (حين كان وزيراً للخارجية 1916 – 1919) حقاً لا يملكونه في الجزء الجنوبي من سوريا الطبيعية، اشتهر تاريخياً بوعد بلفور.

إعلان

ومن المؤكد أن سياسياً مثل بلفور سيظل في نظر السوريين نموذجاً للعقلية الاستعمارية التي سادت عقب انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الأولى، وترجمها مؤتمر سان ريمو عام 1920 بمنح لندن وباريس إدارة 3 بلدان عربية (سوريا، فلسطين، العراق) تحت بند الانتداب بزعم حاجة سكانها إلى إعادة تأهيل سياسي وإداري، بعد أن استقلت حديثاً عن الحكم العثماني.

ومن وجهة نظر ميشيل بروفانس أستاذ تاريخ الشرق الأوسط الحديث في جامعة سان دييغو، كان مهندسو الانتداب ينوون بصراحة ​​تدمير الدولة العثمانية، واستبدالها بما اعتبروه أكثر سهولة في الإدارة، وأكثر راحة أيديولوجية من منظور إمبريالي فرنسي بريطاني.

ولا تزال آثار الانتدابات وهياكلها حاضرة -وفق رأيه- في كل مكان، وقد تتبع أثرها، وشعر بالفزع من الطريقة التي صمم بها النظام الدولي بعد الحرب العالمية الأولى ليسمح بأسوأ أنواع الفظائع والتستر عليها.

ونوه في كتابه "تكوين الشرق الأوسط الحديث" إلى أن مساعي القوى المنتصرة -لاستعمار أراضي المهزومين- تطلبت في جزء منها تصنيفاً ضمنياً للمسلمين العثمانيين، كفئات غير أوروبية ناقصة عرقياً، مما استوجب الوصاية الاستعمارية عليها، مشيراً إلى أن السلبيات التي أنتجها النظام الاستعماري ونظام الانتداب الصادر عن عصبة الأمم لا تزال تتكشف بالمنطقة بعد مرور 100 عام.

جولة بلفور في مدينة القدس عام 1925 قبيل زيارته إلى دمشق (غيتي) غضب شعبي وتدابير أمنية

فور الإعلان عن زيارة بلفور بشكل رسمي، تصاعدت ردود فعل السوريين على نحو لافت. ونقلت صحف محلية عاصرت الزيارة تلقي المفوض السامي الفرنسي الجنرال موريس ساراي (حاكم سوريا المنتدب 1924- 1925) برقية من المجلس التمثيلي السوري -الذي يضم ممثلين عن مختلف المناطق السورية- طلب مرسلوها رفع احتجاجهم على الوعد المشؤوم وصاحبه إلى عصبة الأمم في جنيف، على أمل أن تكون مواقفها عادلة، ولإنصاف الشعوب الضعيفة التي ليس لها سلاح تتمسك به للدفاع عن حقوقها غير الحق والعدل.

إعلان

كما وزعت منشورات تدعو السوريين إلى إظهار تعاطفهم مع إخوانهم الفلسطينيين، والوقوف إلى جانبهم في وجه ما تتعرض له بلادهم من تحديات تستهدف عروبتها وتراثها بشقيه الإسلامي والمسيحي.

ونقلت تقارير ميدانية عن الدمشقيين رغبتهم العارمة للحيلولة دون إتمام الزيارة، والتصدي لها، خاصة بعد أن عقد الزعيم الوطني عبد الرحمن الشهبندر لقاءات شعبية ضخ فيها الحماسة بنفوس العامة والمثقفين، وحثهم على الخروج إلى الشوارع والاحتجاج، واعداً إياهم ألا يبيت بلفور ليلة واحدة داخل البلاد.

وهذا ما دفع الجنرال ساراي إلى أن يطلب من الحكومة اتخاذ تدابير أمنية في العاصمة، وإرسال شرطة سرية برفقة ضباط وإداريين إلى محطة الحمة على الحدود الفلسطينية السورية، لمرافقة الضيف غير المرغوب فيه، والحفاظ على أمنه.

View this post on Instagram

A post shared by الجزيرة الوثائقية (@aljazeeradocumentary)

تغيير برنامج الزيارة

كان من المقرر -وفق الخطة التي أعدها المفوض السامي البريطاني في فلسطين هربرت صموئيل مع نظيره الفرنسي الجنرال ساراي في سوريا- أن يتوقف القطار الذي يقل بلفور والوفد المرافق في محطة قطار الحجاز (وسط العاصمة) واستقبال الضيف وفق ما تقتضيه الأعراف الدبلوماسية.

ولكن صدمة غير محسوبة فاجأت بلفور، عندما عبر القطار الحدود السورية، حيث تلقاه أهالي القرى التي مر عليها بلافتات احتجاج وشارات سوداء وهتافات تؤكد عروبة فلسطين. ثم سرعان ما تطور المشهد إلى رمي الحجارة على العربة التي يجلس فيها مما أدى إلى تحطيم نوافذها.

وقد أقلق التصدي الشعبي الذي تعرض له الموكب السلطاتِ البريطانية في فلسطين، فأجرت -حسب وثائق صحفية غطت تلك الفترة- اتصالات عاجلة مع سلطات الانتداب الفرنسي في سوريا لاحتواء الموقف، ووضع خطة مشتركة لحماية الضيف أثناء وصوله دمشق، لا سيما أن معلومات وصلت إلى حكومة الانتداب في القدس -أعلن عنها فيما بعد- أفادت بأن خطة جرى إعدادها لاغتيال بلفور أثناء زيارته للعاصمة السورية.

إعلان

ويذكر الباحث عبد الهادي البكار -في كتابه "صفحات مجهولة من تاريخ سوريا الحديث"- أن استشعار السلطات الفرنسية لحالة الغليان التي كانت تسري في شوارع دمشق، والمعلومات الاستخبارية التي وصلتها بهذا الخصوص، دفعتها إلى تعديل خطة وصول بلفور حفاظاً على حياته، فقررت إنزاله في محطة القدم بإحدى ضواحي دمشق الجنوبية، بدلاً من محطة الحجاز وسط المدينة. وأعدت سيارة خاصة بمساعدة القنصل البريطاني لتنقله سراً لفندق فيكتوريا مقر إقامته.

وتقول وثيقة قنصلية محفوظة بأرشيف الخارجية البريطانية إن الجمهور الغاضب بقي يحاصر محطة الحجاز، وكان أغلبه من طلبة الحقوق والطب، بعد أن أوهمه وجود أفراد الشرطة ومفتشيها -إلى جانب معاون مندوب المفوض السامي وبعض موظفي القنصلية البريطانية- أن بلفور لا يزال في طريقه نحو المحطة.

أما "ألف باء" (أبرز الصحف السورية آنذاك) فقد رصدت لحظة وصول القطار ودوي صفيره إلى محطة الحجاز قائلة "سرعان ما اشرأبت الجماهير بأعناقها، ومنع رجال الشرطة الناس من دخول الصالة، ولما نزل الركاب سرى خبر نزول اللورد في محطة القدم ووصوله إلى فندق فكتوريا، فانكفأت الجماهير نحو الفندق سائرة تنادي بسقوط وعد بلفور، وتهتف لفلسطين وعروبتها.

فندق فيكتوريا بدمشق شيد عام 1980 لاستقبال ملكة بريطانيا ألكساندرينا فيكتوريا (مواقع التواصل) حصار الفندق

على الضفة اليمنى لنهر بردى (وسط دمشق) يقع فندق فيكتوريا الشهير الذي اختير مقراً لإقامة اللورد بلفور مثل غيره من الشخصيات المهمة. وحمل الفندق اسم ملكة بريطانيا ألكساندرينا فيكتوريا بعد أن قررت زيارة دمشق، حيث أطلقت السلطات المحلية اسمها على عدد من الأماكن البارزة بالعاصمة تكريماً لها.

ومع أن الزيارة الملكية أرجئت بسب مرض الملكة ثم وفاتها، فإن الفندق بقي يحمل اسمها حتى عام 1955 الذي تم فيه هدمه وتشييد مبنى آخر مكانه.

إعلان

وتصف الموسوعة الدمشقية فندق فيكتوريا الذي بني في الفترة ما بين عامي 1879- 1890 كأحد أهم أبنية دمشق التاريخية والتراثية، فقد تميز بطراز أوروبي ومزيج من العمارة الشرقية. وكان يتألف من 3 طوابق، مع سقف هرمي قرميدي، وتم تجهيزه بأحدث المعدات المتوفرة في ذلك الوقت.

وقد استقبل الفندق خلال فترات مختلفة -إضافة إلى بلفور- شخصيات بارزة، بعضهم كان يقيم فيه أو يعقد اجتماعات في أجنحته. من بينهم جمال باشا قائد الجيش العثماني الرابع الذي اتخذ منه مقراً زمن الحرب العالمية الأولى، وخليفته جمال باشا (الصغير). كما أقام فيه الجنرال ألنبي قائد الجيش البريطاني بالشرق الأوسط.

ومن المفارقات اللافتة أن الراحة التي كان يستمتع الزوار بها أثناء إقامتهم فيه، لوجوده ضمن منطقة هادئة تحيط بها البساتين والمساحات الخضراء على امتداد النظر، لم يشعر بلفور بها فقد بقي سجيناً داخل غرفته، قلقاً يتابع من وراء ستائر نوافذها المغلقة غضب السوريين ومظاهراتهم خارج الأسوار. وكثيراً ما كان يصل مسامعه هتافهم بسقوطه وسقوط وعده.

واستندت جريدة فلسطين الفلسطينية في تغطيتها لحصار الفندق على تقرير لوكالة رويترز من دمشق، يشرح ما يجري بالقول "وقع شغب خطير، عندما استطاع المحتجون اختراق النطاق الذي ضربه البوليس، وهم يحاولون الوصول إلى فندق فيكتوريا حيث نزل اللورد بلفور، وكادوا يصلون، لكن البوليس والجندرمة ردوهم إلى الوراء غير مرة، وآخرها بإطلاق النار في الهواء، وجيء بالفرسان الأفريقيين و8 مصفحات مدرعة لإعادة النظام إلى نصابه".

تهريب بلفور بغطاء فرنسي

تابعت لندن الموقف باهتمام بالغ. فقد كانت برقيات صحفية تصف الاحتجاجات على أنها أعمال شغب مقلقة للغاية. ودفع تطور الأحداث جريدة ديلي نيوز لتبرق إلى اللورد بلفور لتطمئن على سلامته، وتبلغه -بحسب صحيفة الشورى القاهرية- تضامن إنجلترا بأسرها التي باتت ليلة كاملة قلقة عليه.

إعلان

وخلال مواجهات اليوم التالي، استخدمت القوات الفرنسية فرق الخيالة والمدرعات لتفريق آلاف المتظاهرين في الشوارع والساحات. فسقط عشرات الجرحى، استشهد اثنان منهم. وبدا من الواضح -أمام إصرار الجموع على طرد بلفور من الفندق- أن الأمور قد تتجه لما هو أسوأ من ذلك.

ومع تفاقم الأوضاع، كان على الجنرال الفرنسي ساراي والقنصل البريطاني في دمشق وضع خطة لتهريب بلفور من الفندق بعيداً عن أعين المتظاهرين، قد كشفت صحيفة ألف باء تفاصيلها.

وبحسب الصحيفة، فقد "أمرت الحكومة قبل 3 ساعات من سفره، ألا تدخل دمشق أو تخرج منها سيارة حتى تكون الطريق خالية تماماً".

وتابعت "الساعة الثالثة بعد الظهر زار المندوب السامي الفرنسي الجنرال ساراي اللورد بلفور في الفندق ولم يمكث معه إلا بضع دقائق، وبعد ساعة عاد الجنرال ساراي ووقف بسيارته على الجسر المقابل للفندق، فتحولت الأنظار إليه، وتزامن وقوفه مع تحليق طائرات حربية فرنسية فوق المكان، انشغل بهديرها الحضور، وبذلك سنحت الفرصة ليغادر بلفور الفندق خلسة من الأبواب الخلفية، من غير أن يشعر به أحد، واستقل برفقة الضابط البريطاني لاسل سيارة أقلتهما إلى بيروت، تحت حراسة 12 شرطياً سرياً و45 جندياً".

وفي لحظة فارقة، غادر بلفور سوريا يحمل لدمشق صورة لم يخبره بها رجاله، ونفى لمراسل صحيفة نيويورك تايمز وجود أي فكرة لديه عن مشاكل محتملة قد يواجهها أثناء وجوده في سوريا، مضيفاً "لو تم تحذيري مسبقاً لكنت ألغيت الزيارة".

غير أن تساؤلاً ملحاً كان عليه أن يطرحه قبل أن يرحل "لو قام الناس في فلسطين بمثل هذا لم استغرب، أما أن يقوم بهذه المظاهرات أهل سوريا، فهذا عجيب. أي صلة بين سوريا وفلسطين؟".

وأمسك كريستوفر سايكس في كتابه "مفترق طرق إلى إسرائيل" رأس الخيط، وتابع معلقاً "إن بلفور الذي أبدى انزعاجه مما حصل، لم يفهم لماذا يجب أن تكون سوريا مهتمة للغاية بإعلانه التاريخي، ومن الواضح أنه لم يدرك أن الأرض التي تمتد من سفح جبل طوروس إلى حافة صحراء سيناء هي دولة واحدة جسدياً وعرقياً وعاطفياً واقتصادياً، على الرغم من أنها قسمت بسبب مقتضيات السياسة العالمية".

إعلان

مقالات مشابهة

  • بعد فوزه بالجائزة العالمية للرواية العربية سمير ندا لـ البوابة نيوز: "انفكت اللعنة عن المصريين"
  • حوار عون وحزب الله لم ينطلق بعد
  • وكيل الأزهر: المرأة أكثر حظا في الإسلام ولكن لمن يفهم الأحكام التشريعية
  • أيمن عبد المجيد يواصل جولاته الانتخابية بزيارة “البوابة نيوز”
  • محمد السيد الشاذلي يزور "البوابة نيوز" ضمن جولاته لانتخابات نقابة الصحفيين.. صور
  • أحمد أبو هارون يزور "البوابة نيوز" ضمن جولاته لانتخابات نقابة الصحفيين.. صور
  • يوم أجبر السوريون بلفور على الهروب من دمشق متخفيا قبل 100 عام
  • وزير العمل: الأعلى للتشاور الاجتماعي منصة حوار فعالة بين الحكومة والعمال وأصحاب الأعمال
  • تعليم الوادي تفتح حوارًا حول التقييمات الأسبوعية والواجبات المدرسية
  • حزب الله: العودة محسوبة ولكنّها حاصلة