تُعقد هذه الأيام جلسات استماع الدعوى التي رفعتها جنوب إفريقيا ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. ويبدو من المنطقي أن نتساءل -أولا- إن كان ثمة مجال للتفاؤل، وثانيا عما يُمكننا فعله للمساندة. ولنجيب عن السؤال الأول، علينا أن نعرف ماذا نتوقع من قرارات، حظوظ جنوب أفريقيا، وماذا سيتغير فورا على أرض الواقع في ظل كون القرارات غير ملزمة، وكون التحقيق في تهم الإبادة الجماعية والتطهير العِرقي سيمتد لسنوات على الأغلب.
نتائج دعوى جنوب أفريقيا قد تشمل تحقيق أهداف تتجاوز الأهداف المعنوية كون البلد التي قدمت الدعوة هي مثال للكفاح ضد الفصل العنصري. طالبت جنوب إفريقيا بإلزام إسرائيل بوقف فوري لإطلاق النار، كقرار تحرزي. قرار كهذا قد يتطلب أسابيع، لكنه سيعني أخيرا أملا لتوقف الاعتداءات على سكان غزة، إلى أن تقرر المحكمة بشأن الدعوى بشكل نهائي. وهذه القرارات وإن لم تكن مُلزمة، وهي وإن لم تردع إسرائيل ستشكل وسيلة ضغط على جميع الموقعين على معاهدة منع ومعاقبة جرائم الإبادة الجماعية، خصوصا ممن يدعمون إسرائيل بشكل مباشر.
الإعلام الألماني في هذه الأثناء «عامل نفسه ميت»، بحيث لا يُوجد أثر تقريبا لأخبار الدعوى، رغم أنها تحدث على أرض مجاورة، ورغم أن ألمانيا لاعب أساسي في الحرب (رغم أن هذا أفضل بمراحل من الموقف الأمريكي الذي يدعي بعمى كامل أن القضية بلا أساس). رغم هذا فإن نصرا معنويا من هذا القبيل سيعني الكثير للجماهير التي تنزل -على نحو دوري- إلى الشارع للضغط على حكوماتها لوقف الدعم المُقدم لإسرائيل.
ما يُمكننا فعله اليوم إذا هو مواصلة الضغط على حكوماتنا بكل الوسائل الممكنة من أجل الوقوف في صف جنوب أفريقيا في مسعاها لإدانة إسرائيل.
تاريخ إسرائيل في الالتزام بقرارات المحكمة -كما نعرف- غير مبشر بالمرة. فالقرار بعدم قانونية الجدار العازل والمطالبة بهدمه قُوبل بالمزيد من تدابير العزل ومشاريع البناء. هذا عدا تجاهلها العشرات من القرارات الدولية لوقف الترحيل القسري، الإخلاء، الهدم، بناء المستعمرات، وتغيير التركيبة الديموغرافية في الأراضي المحتلة.
يحق لنا بالطبع أن نتشاءم أمام عنصرية العالم الأبيض، وأن نكفر بكل مفاهيمه ومؤسساته، لكن مسؤوليتنا الإنسانية تُحتم علينا المقاومة بكل الأشكال المتأتية، بما فيها محاولة إنهاك إسرائيل في المحاكم الدولية، وإدانتها قانونيا.
وها هي الجهود تتتابع. تلت دعوى جنوب إفريقيا، الملف الذي قدمه محامون تشيليون للمحكمة الجنائية الدولية. والمطلب هو مساندة مثل هذه المبادرات ودعمها بكل شكل، والتحرك نحو مبادرات شبيهة لإدانة قتل، حصار، تهجير، اعتقال وسجن وتعذيب الفلسطينيين (خصوصا القُصّر منهم)، أو محاكمة المدنيين الفلسطينيين في المحاكم العسكرية الإسرائيلية، وغيرها من الجرائم.
لا أعرف إن كانت فطنة وحساسية صُناع القرار تنبؤهم بحدة التوتر الشعبي. وأنا أجزم أنها تفعل. لم لا نتحدث إذا بالقدر الذي تسمح به الأوضاع من شفافية. وأن نرد للصحف شيئا من نزاهتها، فتكون -كما يجدر بها أن تفعل- منبرا للجدال.
لنتحدث في العموميات أولا. في أي لحظة لا يكون فيها الرأي الشعبي في اتساق مع رأي الحكومة، تطرأ في البال مباشرة صور الانتفاض.
نعم. إننا نرى إلى يومنا هذا التبعات غير المبشرة لثورات الشعوب التي خاضت ربيعها. إننا نُدرك أن ما يبدأ كثورة إصلاح سلمية، يُمكن أن يتحول إلى حرب طاحنة تُصفي فيها الدول الأقوى خصوماتها من مسافة آمنة تضمن سلامتها وسلامة شعوبها، دون أن تولي أي اعتبار لسلامة الأرض أو الشعب المنتفض. ونحن فوق هذا نشترك -فوق ما يتصور المرء- في الخوف من فُقدان الأمان وقدر الرفاه المتوفر - والذي لا نتقاسمه بسواسية بالضرورة، إلا أن هذا شأن آخر. نحن بالمثل نخشى العنف والفوضى، وهي لن تكون بأي حال خيارنا المحبذ. فوق هذا ثمة الكثير مما يُمكن فِعله قبل الوصول لنقطة اللاعودة هذه. أي مرحلة المُقامرة، حين تنعدم فرص الحوار، الفرصة بأن نأخذ ونعطي بهدوء.
ما أحاول قوله أن ثمة دول أخذت على نفسها مسؤولية الضغط قانونيا على إسرائيل، ومساندة هذه الجهود لا يُكلف شيئا، فلماذا الإصرار على التواطئ، إن كان بالإسهام المباشر أو بالصمت.
أخيرا، دعونا نُكافح إحساسنا بأن العالم يملكه ويتصرف به الآخرون، فيما نضطر نحن للانصياع، والالتزام الكامل بما يحكمون به. القليل الذي يُمكن تحقيقه يستحق المجاهدة لنيله. وعموما ما من خيار آخر أمامنا. يجوز أننا لن نصنع أي فارق، لكننا سنحاول بما نعرف، لأقصى حد ممكن، وحتى انقطاع النفس.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
الفرح في العيد من مظاهر المقاومة المعنوية
كان الشاعر أبو الطيب المتنبئ ينعى تدهور مكانته لدى حاكم مصر كافور الإخشيدي حين كتب أبياته الشهيرة: "عيدٌ بِأَيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ.. بما مَضى أَم بِأَمرٍ فيكَ تَجديدُ".
لم تعد هذه الأبيات تعكس الحالة الشخصية للمتنبئ، لكنها صارت شعارا يرفعه البعض عند كل عيد تعبيرا عن ألمهم الشخصي أيضا، لكن -وهذا هو الأهم- صارت تعبيرا عن دخول بعض الأعياد في لحظات ألم تمر بها شعوبنا الإسلامية أو بعضها على الأقل، كما هو الحال في فلسطين للعيد الثالث على التوالي (عيدان فطر وبينهما أضحى)، ومع ترديد هذه الأبيات ينقلب العيد إلى حزن بينما الأصل فيه الفرح فعن أنس -رضي الله عنه- قال: "قَدِم النبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ولهم يومان يلعبون فيهما، فقال: قد أبدلكم الله تعالى بهما خيراً منهما: يومَ الفطر والأضحى" (رواه أبو داود).
الفرح بالعيد لا يعني نسيان المآسي التي تمر بها الأمة، لكنه وقت مستقطع لتجديد الطاقة، وتأكيد القدرة على الانتصار على النفس والشيطان وهما أقوى من الأسلحة الذرية، فالمسلم الذي استجاب للأمر الإلهي بالصوم عن المباحات من مأكل ومشرب وخلافه خلال ثلاثين يوما، منتصرا بذلك على ضعفه البشري، وعلى الشيطان الذي يزين له المعصية، من حقه أن يفرح في نهاية الشهر بانتصاره على الشيطان، ومن ينتصر على شياطين الجن قادر إن شاء على الانتصار على شياطين الإنس.
نتألم بالأكيد لمآسي إخواننا في غزة وفي كل مكان آخر، ونتألم لوضع إخواننا المعتقلين، ولكننا نحوّل ألمنا من طاقة سلبية إلى طاقة إيجابية عبر المشاركة في معارك الدعم والإسناد بكل الوسائل الممكنة، حتى لو كانت مجرد كلمة لرفع الروح المعنوية، كما أن مظاهر الفرح (بدون مبالغة) في العيد هي جزء من حالة المقاومة المعنوية لما يريد العدو فرضه من إحباط وكسر للإرادة
نتألم بالأكيد لمآسي إخواننا في غزة وفي كل مكان آخر، ونتألم لوضع إخواننا المعتقلين، ولكننا نحوّل ألمنا من طاقة سلبية إلى طاقة إيجابية عبر المشاركة في معارك الدعم والإسناد بكل الوسائل الممكنة، حتى لو كانت مجرد كلمة لرفع الروح المعنوية، كما أن مظاهر الفرح (بدون مبالغة) في العيد هي جزء من حالة المقاومة المعنوية لما يريد العدو فرضه من إحباط وكسر للإرادة، وفرض مظاهر الحزن والأسى.
ومع تألمنا للمآسي فإن من حقنا أن نفرح أيضا لانتصارات تتحقق هنا وهناك، فالصورة حولنا ليست قاتمة على إطلاقها، ومعارك التحرر الوطني لا تنتهي بجولة واحدة، بل تأخذ جولات عديدة بين انتصارات وانتكاسات، ولنا في التاريخ قديمه وحديثه عبرة، حيث انتصرت شعوب وأمم بعد مقاومة استمرت قرون وليس فقط عقود قليلة.
القضية الفلسطينية التي تمر بلحظات عصيبة حاليا هي بحد ذاتها نموذج للصمود وانتصار الإرادة، هذه مؤامرة بدأت قبل أكثر من مائة عام مع وعد بلفور، وبلغت ذروتها بنكبة العام 1948 مع انتصار العصابات الصهيونية، وقدرتها -بدعم غربي كبير- على التهام جزء كبير من أرض فلسطين وإقامة كيانهم الغاصب عليه، ثم تمددهم لاحقا عقب حرب حزيران/ يونيو 1967 لالتهام بقية الأراضي الفلسطينية، لكن ذلك لم ينه القضية، ولم يكسر إرادة الشعب الفلسطيني ومن خلفه الشعوب العربية والإسلامية، فانطلقت المقاومة لهذا المشروع الصهيوني منذ وقت مبكر، واتخذت أشكالا عديدة، من العسكري إلى الثقافي، إلى الاقتصادي، إلى العلمي.. الخ، وكلما ضعف أو انهار أحد حصون المقاومة ظهرت مقاومة جديدة أشد باسا، وأكثر تصميما على تحقيق الحلم الفلسطيني في دولة مستقلة وعاصمتها القدس.
ومن المهم التنويه هنا إلى أن عيد الفطر هذا العام يواكب ذكرى يوم الأرض الذي يجسد تمسك الفلسطينيين بأرضهم مهما طال الزمن، ومهما كانت التحديات.
مائة عام من المقاومة لم يستسلم الشعب الفلسطيني، رغم كل التضحيات الجسام التي قدمها، ولم تستسلم الشعوب العربية والإسلامية رغم القمع الذي واجهته من حكامها ومن النظام الدولي، وهذا بحد ذاته انتصار، فالهزيمة تحدث حين يعترف بها المقاوم، أما وأنه لا يعترف بها، وأما وأنه لا يزال يملك إرادة المقاومة، ويتمسك بالحلم، ويحمل بندقيته، ويطلق صواريخه، وقذائفه، ويرفض عروض الذل والعار، فإنه في حالة انتصار معنوي مرحلي يكتمل بالتحرير وإقامة الوطن المستقل.
النظرة الشاملة لخارطة العالم الإسلامي كفيلة برسم صورة متوازنة بين انتصارات وانكسارات، وهذه إحدى السنن الكونية، وفي كل الأحوال يظل العيد يوما للفرح لا يوما للحزن والألم
هناك مآس أخرى للمسلمين في ميانمار وتركستان الشرقية وكشمير، وهي شعوب بدورها لم ترفع الراية البيضاء في مواجهة محاولات الإبادة والتطهير العرقي التي تواجهها، ولكن في المقابل لدينا نقاط مضيئة، وانتصارات مهمة، كما هو الحال في أفغانستان التي تحررت من الاحتلال الأمريكي بعد مقاومة استمرت عشرين عاما (2001-2021)، رغم عدم تكافؤ القدرات المادية والعسكرية والبشرية، ولدينا انتصار الشعب السوري على الحكم البعثي الاستبدادي بعد مقاومة استمرت خمسين عاما بلغت ذروتها في الثورة السورية (13 عاما) والتي انتهت بإسقاط نظام بشار، وحل جيشه وحزبه، ومخابراته.. الخ، ولدينا انتصار ثورة شعب بنغلاديش ضد الحكم الاستبدادي أيضا، أما أحدث الانتصارات ففي السودان مع تحرير الخرطوم من مليشيات الدعم السريع المدعومة من الإمارات.
النظرة الشاملة لخارطة العالم الإسلامي كفيلة برسم صورة متوازنة بين انتصارات وانكسارات، وهذه إحدى السنن الكونية، وفي كل الأحوال يظل العيد يوما للفرح لا يوما للحزن والألم.
كل عام وأنتم بخير..
كل عام وأنتم صامدون مقاومون متمسكون بالحلم في التحرر من الاحتلال والاستبداد والقمع والفقر.
x.com/kotbelaraby