لجريدة عمان:
2025-11-23@10:24:26 GMT

فـلسفـة السـياسـة

تاريخ النشر: 10th, January 2024 GMT

لا يخفي الفلاسفة شعورهم بالتـميـز وبالتـمايـز عـن أقرانـهم من دارسـي السـياسـة من المشتـغليـن بالعلـوم الاجتماعيـة؛ إذ هـم يـكيـلـون معـارفهـم عنها بمكـيال نـظـري تحتـل فيه المعـرفـة التـجريـديـة أعلى المراتب في سلـم المعـارف؛ وهي المعرفة التي بها خصـوا وعليها درجـوا. وسـواء صـح لهم ما يـزعـمـونه لأنـفسـهم من تميـز، ومـن اقـتـدار على إنتاج نفيـس القـول في السياسة، أم كان تـبجيـلهم لبضاعتـهم الفلسفـيـة في جملة أزعـوماتهـم، فإن الذي لا مـرية فيه أن صلاتهم بمسائـل السياسة اتـصلت لعـهـد من الـزمـن مـديـد يمتـد على قـريب من ألفـيـن ونصـف الألف من الأعـوام.

وهـم ما زوحـمـوا على احتـكار القـول في مسائـل السياسـة إلا مع ميـلاد علـوم المجتـمع والإنسـان، وخاصـةً مع الطـفـرة المعرفيـة التي حصلت، في ميـدان دراسة السياسـة، مع علـم الاجتمـاع السياسـي في أوائـل القـرن الماضـي.

والحـق أن الـتـفـكير في السياسـة نـشـأ في بيـئـة الفلاسفـة منـذ جـنـح سـقراط بالفلسـفـة من الانشـغـال بأسئـلـة الطبيـعة والمعـرفـة Gnose إلى الـتـفـكـير في المجتمع والإنسـان: في الأخـلاق والسياسـة وتدبيـر الاجتمـاع. ولقد كان ذلك، حـقـاً، انـعـطافـاً هـائـلاً في تاريـخ الفلسـفة؛ حيث بات الإنسان والاجتمـاع الإنساني والاجتماع السـياسي في بـؤرة تـفـكيرها. ومع أن المعلـوم عن تعاليـم سـقراط في السياسـة قـليل، لا يـعدو نـتـفاً ممـا دونـه تلميـذه أفـلاطـون في المحـاورات، إلا أنـه مع الأخيـر (أفـلاطـون)، ومع تـلمـيذه أرسطـو سيشـهـد الـتـفكيـر الفـلسفـي على ميـلاد فـلسفـة سياسيـة نظيـر فلـسفـات الطـبيعـة وما بعـد الطبيـعة والمعـرفـة في البـناء والـتـأصيل الـنـظريـيـن... وفي الـتـأثـير العميق في اللاحـقيـن تـأثـيراً أظـهـرنـا على حقيقـة الوضـع الاعـتباري المرجعـي لنصـوص تلك الفلسـفـة - خاصـةً لكـتابـي الجمهـوريـة لأفـلاطـون والسـياسيـات لأرسـطو- إلى الحـد الذي تبيـن معـه أن أساسات فلسـفـة السياسـة وخطوطـها العريضـة وضـعت، ولمـدة واحـدة، في تلك الفتـرة الـزمنـيـة القصيرة التي تفصـل بين الكتابـيـن. ويعلـم كـل دارس للـفلسـفـة السياسيـة أنـه على هـذيـن الكـتابيـن ونظـرة كـل مـن صاحبيـهـمـا إلى السياسـة، وعلى حدودهـما المعـرفيـة سـينـقـسـم الفلاسفـة اللاحـقـون، في الثـقـافات جميـعـها، إلى فـسطـاطـيـن.

ولـم يتـأثـر سلطـان الفلسـفـة في الـنظـر العـقـلي إلى السـياسـة حتى مع ميلاد الحقبـة الهيـلنـستـيـة الممتـدة لألـف عـام؛ أعـني - في ما نحـن فيـه - حتـى بدخـول الديـن وتعاليـمـه ميـدان الهندسـة السـياسيـة للمجتمعات التي تـعـتـنـقـه، مثـل المجتـمـعات المسيـحيـة والإسلامـيـة، وصـيرورتـه من مصادر الـتـفـكير فيها. لـقـد وقـع ما يشبـه الـتـداخل بين الفلـسـفي والديـني في تـفكير تلك المجتمعات، فبـدت ثـقافـاتـها مزيـجـًا مـن العـقـل والـتسليـم الإيـمانـي، في الاتـجاه العام، لكنـها ما منـعـت من قيـام فـلـسفـات فيها؛ أكانت فـلسـفـات في السـياسـة والأخـلاق أو فـلسفـات في الطـبيـعة وما بعـد الطبيـعة: على الرغـم ممـا يثـيره وجـود هـذه من مشـكـلات في مجتـمعـات مبـناها على الوحـي وتعاليـم الديـن ، وبالتـالي، على رؤيـة أنطـولـوجيـة مخالـفـة للمسـلـمات الماديـة اليـونانيـة. في الأثـناء لم يـكـد عـلـمٌ من العلوم الـدينيـة، في الـثـقافـتـيـن المسيحيـة والإسلاميـة، أن يـعـرى من تـأثـير الفلسـفـة فيه بـدءاً من اللاهـوت المسيحي والكـلام الإسلامـي إلى الـتصـوف وتـفسيـر النصـوص الديـنيـة. وهـذه، وغيرها الكـثيـر، تـشـهـد بما كـان للفـلسفـة مـن عظيـم الأثـر في ثـقـافـات مجتـمـعات كـان الوحـي ومعـطياتـه أهـم مصادرهـا المـرجعيـة. وإن نحـن اقـتـصرنـا على الـثـقـافـة العربيـة الإسلاميـة وبحثـنا في آثـار الفلسـفـة السـياسيـة فيها، سنجـدنا أمـام لحظـتـيـن معرفـيـتـيـن كبيـرتـيـن فيها، على هـذا الصـعيـد، مثـلتـهـما كـل من الفلسـفـة السـياسيـة وعلـم العمـران الخـلدونـي:

مع أن تـراث الإسلام اتـسع لأجـناس من القـول والـتـأليف في السـياسـة متعـددة ومختـلفة (الإمـامـة في علـم الكـلام، فـقـه السياسـة الشـرعيـة، الآداب السـلطانـيـة)، إلا أنـه لم يـعـدم وجـود لحـظـة معرفـيـة فيه أخـرى متـميـزة في النـظـر إلى السـياسـة مثـلـتـها الفلسـفـة (فـلسفة السياسـة مع الفارابي، وابن سيـنا، وابن باجـة، وابن طفـيل، وابـن رشـد). وليس يـخـفى أن أثـر أفـلاطـون وأرسطو في فـلاسفـة الإسلام ما مـنـع الأخيـريـن من أن يشـقـوا لأنـفسهم سبيـلاً في النـظـر إلى السياسـة والمـدينـة (= الدولـة) لا يحيـدون فيه عن مرجعـهم الفلسـفي (الأفلاطـوني خاصـةً)، من جـهة، ولا يتجـاهلون فيه، في الوقـت عيـنـه، واقـع السـياسـة والـدولـة في اجتماعـهم الإسـلامي من جهـة أخـرى. ولـكـم كـان دالاً أن يـلجـأ اثـنان من كبـار هـؤلاء الفـلاسفـة إلى أفـلوطيـن ونظـريـتـه في فـيوضات المـوجودات ليستـدخـلوا بعض مبادئـها في بنـاء تصـورهم للمديـنة العـقـليـة التي ينـشـدهـا الفيـلسـوف؛ بحسـبان نظـريـة الفيـض تـلتـف على فكـرة ماديـة العالـم في الفلسـفـة اليونانـيـة (وهي، بذلك، أقـرب إلى مسـلمات الوجـود في الإسلام مـن تلك الفلسـفـة). ولكـن، كان عليهم، أيـضاً، اللـجوء إليها للقـول إن الـنظـام التـراتبـي الذي ينـتـظـم العالـم الكـوسـمي - من المـوجود الأول إلى عـالم ما تحـت القـمـر- هـو عيـنـه الذي ينـتظـم المدينـة أو الدولـة. وحتـى الذيـن لـم يتـطـلعوا من فـلاسـفـتنا إلى مـدينـة فاضلـة تـناظـر جمهـوريـة أفلاطـون، مثـل ابن باجـة وابن طـفيـل، انسحبوا إلى ذواتهم وهجـروا العالم كـي يـدبـروا أنـفسـهم بالعـقـل، أو كـي يقيـموا تلك المديـنـة في دواخـلهـم.

كما ارتـفـعت الفلسـفـة بالنـظـرة إلى السـياسـة إلى مـرتبـة من المعـرفـة عليـا - قيـاسـاً بغـيـرها من أجنـاس القـول السـياسـي في الإسلام - كذلك فعـلت الأنثـروپـولوجيـا الخـلـدونيـة في تحليل الـدولـة ذاهبـةً بالفـكـر السـياسي الإسـلامـي إلى ذراه العـلـميـة. لم تكـن مـقاربـة ابن خلـدون للسياسـة والسياسـي فـلسـفـيـةً ومجـردة، على طـريـقة الفـلاسفـة، لكنـها استـفادت من الفلسـفـة إلى حـد بعيـد تـفسـره أرسطـيـة ابـن خـلـدون وعـمق اطـلاعـه على التـراث الفـلسفـي. صحيحٌ أنـه نحـا في تحليلـه السـياسـة والـدولـة منـحًـى وضـعانـيـاً، نـائـيـاً بنفسـه، عـن أي نظـر معيـاري إليها؛ وصحيحٌ أن تحليـلـه كان واقـعيـاً تـناول الـدولـة في واقعـهـا القائـم ولم يـنـزلـق إلى التـأمـل التـجريـدي، لكن ذلك كـلـه ما كان ليـتـأتـى لابـن خـلدون لولا رياضـة تـفـكـيره على الـنـظـر الفلسـفي. آي ذلك اقـتـداره على إنتـاج ما لا حصـر لـه من المفاهيـم الـدائـرة على تحليل الاجتـماع السياسـي العـربي - وأخـص سمات الفلسـفـة أنـها تـنـتج المفاهيـم كمـا يقـول جـيل دولـوز-؛ فضـلاً عن أن إبـداع عـلم جديد، إبانـئـذ، هـو علـم العمـران، ما كان يمكن أن يكـون متاحـاً له لـولا تلك الـذخيـرة الغنـيـة من المعـرفـة الفلسفـيـة التي احـتـازها وأحـسـن إعـمالـها في النـظر إلى الاجـتـماع والسـياسـة مـعـاً.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

“بدر-250”.. الطائرة التي جسّدت رؤية الإمارات في الاستثمار بالإنسان

كتب: عمر الساعدي

يُقال في المثل العربي: “من جدّ وجد، ومن سار على الدرب وصل، ومن صبر نال الفخر.”
وهكذا، لم يكن تدشين طائرة “بدر-250” سوى ثمرة مسار طويل من الجدّ والعمل، ورحلة إصرار إماراتية بدأت برؤية طموحة، وترجمتها سواعد وطنية إلى إنجاز ملموس.
هذه الطائرة ليست مجرد قطعة تكنولوجيا عسكرية، بل عنوانٌ جديد لفصلٍ تُكتبه الإمارات في سجل إنجازاتها الصناعية الوطنية.

في لحظة فارقة في مسيرة الصناعات الدفاعية، أعلنت مجموعة “كالدس” الإماراتية عن تدشين أول طائرة هجومية خفيفة تُصنّع وتُطوّر بالكامل داخل الدولة، تحت اسم “بدر-250”، وذلك خلال فعاليات معرض دبي للطيران 2025.
إنها ليست طائرة كغيرها؛ بل بداية جديدة تُجسّد فخر الصناعة الوطنية الإماراتية، وتؤكد أن الاعتماد على الكفاءات المحلية أصبح خيارًا استراتيجيًا لصناعة المستقبل.

الطائرة “بدر-250” اجتازت بنجاح كافة الاختبارات التأهيلية والعسكرية، وحصلت على تصريح الطيران من الهيئة العسكرية للسلامة الجوية، مما يؤهلها لأداء مهامها بكفاءة عالية في البيئات العملياتية الصعبة. وتُجسد هذه الخطوة نقلة نوعية في مسيرة التوطين، حيث أصبحنا أمام منتج متكامل يجمع بين الدقة التقنية والتصميم الإماراتي والقدرات التصنيعية الوطنية.

ومع هذا الحدث اللافت، تحضر كلمات صاحب السمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان رئيس الدولة “حفظه الله”، حين قال:
“إن استدامة ازدهار الدولة يتطلب مواصلة الاستثمار في بناء الإنسان لتأهيل أجيال من الكفاءات المتميزة، تضع ما اكتسبته من معارف وعلم في خدمة وطنها، وتسهم في تحقيق أهداف التنمية الشاملة والمستدامة ورفد سوق العمل بالكفاءات الوطنية المؤهلة.”
وهذا بالضبط ما نراه مجسدًا في “بدر-250”، التي لم تولد في مصنع فقط، بل خرجت من رؤية تؤمن بأن الإنسان هو الثروة الأغلى، وأن المعرفة هي رأس المال الحقيقي.

تتميز “بدر-250” بقدرات تقنية متطورة تشمل محركًا من نوع “برات آند ويتني” بقوة 1600 حصان، وسرعة قصوى تصل إلى 301 عقدة، وتحليق مستمر حتى 12 ساعة، إلى جانب قابلية حمل الأسلحة الذكية والذخائر الدقيقة بوزن يصل إلى 1800 كجم.
كما تم تجهيزها بأنظمة إلكترونيات طيران من الجيل الجديد، وقدرات استطلاع ومراقبة متقدمة، وكاميرات كهروضوئية تحت الحمراء، إضافة إلى نظام ضغط للقمرة ونظام توليد الأكسجين الداخلي.
كل ذلك يجعلها منصة متعددة المهام تجمع بين التدريب، والدعم الجوي، والمراقبة، مع مرونة تشغيلية حتى في أقسى البيئات الميدانية.

لكن، ماذا تعني هذه الطائرة في السياق الأوسع؟
إنها إعلان واضح بأن الإمارات تدخل مرحلة جديدة من التميز الصناعي الوطني، القائم على العلم والخبرة، وليس مجرد الاستيراد والتجميع. وهذا يعزز من جاهزيتها الدفاعية الذاتية، ويضعها في مصاف الدول القادرة على صناعة حلول متقدمة بمواردها البشرية والعلمية.

“بدر-250” ليست مجرد هيكل طائر، بل تجسيد لثقافة لا تؤمن بالمستحيل، ونتاج عقلية قيادية ترى أن الطموح لا سقف له.
في كل جناح منها بصمة إماراتية، وفي كل تحليق رسالة مفادها: نحن نصنع قوتنا بأيدينا


مقالات مشابهة

  • أفريقيا بين فوهة البندقية ومختبر السياسة
  • تراك أيباك.. مشروع رقابي يكشف تأثير أموال اللوبيات في السياسة الأميركية
  • تمثال الجندي العائد .. رمزية تتجاوز السياسة
  • الصورة التي بناها العمانيون في مرآة يومهم الوطني
  • معاريف: تحركات سرية لإيجاد مخرج قضائي يُبقي نتنياهو في السياسة
  • فلسفة زوربا في مواجهة الحياة!
  • واشنطن بوست: هكذا يسيطر المليارديرات على السياسة الأميركية
  • “بدر-250”.. الطائرة التي جسّدت رؤية الإمارات في الاستثمار بالإنسان
  • بدر بين السياسة والسلاح: معادلة الحضور المزدوج في الدولة العراقي
  • خبير اقتصادي: خفض أسعار الفائدة السيناريو الأقرب باجتماع لجنة السياسة النقدية اليوم