هوامش ومتون :سلسبيل جالب الخير
تاريخ النشر: 10th, January 2024 GMT
إذا كان الفيلسوف الفرنسي جاستون باشلار ينصح بالسكن «على ضفة مياه جارية في جوف وادٍ»، فالسعادة بالنسبة له تكمن في المشي على طول السواقي وتتبع «الماء الجاري، الذي يقود الحياة إلى مكان آخر».
فالشاعر ابن مرج الكحل الأندلسي الذي عاش في منتصف القرن الخامس الهجري المولود في جزيرة (شُقَر) الأندلسية حيث المياه تحيط بها من كل جانب، احتفى بالماء والطبيعة، ومن ذلك قوله:
عرِّج بِمُنعَرَجِ الكَثيبِ الأَعفَرِ
بَينَ الفُراتِ وَبَينَ شَطِّ الكَوثَرِ
نَهرٌ يَهيمُ بِحُسنِهِ مَن لَم يَهِم
وَيُجيد فيهِ الشِعرَ مَن لَم يَشعُرِ
أملٌ بلغناه بهضب حديقة
قد طرّزته يدُ الغمام المُمطر
فكأنه والزّهرُ تاجٌ فوقه
ملكٌ تجلّى في بِساط أخضرِ
وذهب الشاعر العماني محمد بن عبدالله المعولي الذي عاش بين القرنين 17 و18 الميلاديين إلى أبعد من ذلك، حين وصف فلج (الأصغرين) في (منح) التي يوجد فيها ثمانية أفلاج بأنه خير أنهار الدنيا:
يا خير أنهار الورى كلها
من سائر البلدان والأخضر
كأنما ماؤك من جنة الفردوس
أو من مسكها الأذفر
فقد رأى في الفلج أكثر من نبع ماء يجري في قناة مشقوقة في الأرض، ومورد من موارد المياه، بل رآها مشهدا لمكان يمور بالخصب والحياة والعذوبة، وهذا ما جعل الأفلاج مصدرا من مصادر الحياة في سلطنة عُمان، وحين يصف الشيخ سعيد بن خلف الخروصي أفلاج (سمائل) فإنه لم يقل (أفلاجًا) بل (أنهارا) مع أنه لو ذكر (أفلاجًا) لما حدث خلل عروضي؛ لأنها على الإيقاع نفسه، لكنه أراد أن يرتفع بها إلى مصاف الأنهار، مثلما ارتفع بوادي سمائل وجعله في مرتبة (النيل) بقوله:
يا سائلا عن دارنا الغنّاء
عين القرى (سمائل) الفيحاء
شقّت بواد هو فيها النيل
وماؤها العذب فسلسبيل
يشفى به من دائه العليل
أنهارها جداول تسيل
ولأن سلطنة عُمان مشهورة منذ القدم بالأفلاج حيث بلغ عددها أكثر من أربعة آلاف فلج ما زالت تروي شرايين أرض عُمان وتمدّ أشجارها ونباتاتها وإنسانها، وكائناتها الحية الأخرى بأسباب الحياة، وقد ارتبطت بالكثير من الأحداث التاريخية وجاء في (تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان) لنور الدين السالمي، أن مالك بن فهم قبل أن يستعد لحرب الفرس حفر بناحية الجوف فلجا عُرف بـ(فلج مالك) شرب منه جيشه وخيوله قبل أن يشن الحرب على الفرس، ويلحق بهم هزيمة تاريخية، وتؤكد الآثار القديمة أن تاريخ الأفلاج يعود إلى أكثر من 2500 سنة قبل الميلاد، حتى أن منظمة الأمم المتحدة للتربية والثقافة والعلوم (اليونسكو) أدرجت في عام 2006م خمسة أفلاج عمانية ضمن لائحة التراث العالمي، وهي: «فلج دارس بنزوى والخطمين ببركة الموز، والملكي بإزكي، والميسر بالرستاق، والجيلة بولاية صور»، وفي كتابه «الاستكشاف الأثري من وادي الرافدين إلى عُمان» الصادر ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق يتحدث د.
واليوم وأنا أصغي إلى صوت تدفق مياه الفلج الصغير الذي يمر من أمام سكني الجديد في (بوشر)، ويمدُّ البساتين المحيطة بنسغ الحياة، أعود إلى كتب الشعر باحثا عن امتدادات الفلج في الحياة بما يوازيه في نصوص الشعراء العمانيين، وحتما سأعثر على الكثير.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً: