لجريدة عمان:
2025-04-08@12:46:06 GMT

دفتر مذيع :القاهرة 1982 « 2»

تاريخ النشر: 10th, January 2024 GMT

أكمل اليوم ذكريات أول سفر للخارج، والذي كان للقاهرة في دورة تدريبية..

أشعر أحيانًا أن السفر في ذلك الزمن كان أقل ضغطًا في بعض الحالات؛ لأنه بلا هواتف محمولة، لا ذكية ولا غبية. قد أكون مخطئًا، ولكن ربما بسبب الزحام الذهني الذي أحدثته الهواتف في تفاصيل حياتنا اليومية.. كان الهاتف داخل السكن وفي المكاتب فقط.

. قبل ظهور هواتف الشارع سواء بالعملة، أو بالبطاقة في عُمان، وقبل ظهور البليب أو البيجر (النداء الآلي). فإذا خرجت فأنت تستمتع بالأشياء دون انشغال بملاحقات الهاتف وتبعاته، ويكفي أن تنشغل في بعض المشاوير المميزة بكاميرا وفيلم أو اثنين يحوي الواحد ستًا وثلاثين صورة كحد أقصى، فتصور بتركيز وانتقاء وتحمضها في الاستوديو وتوثّقها في ألبوم ورقي وليس في عالم افتراضي، رغم أن فقدان بعض الصور وارد أو حتى احتراق الفيلم كاملا في لحظة سوء تصرف مع الكاميرا أو دخول بعض الضوء.. كنا إذا اشتقنا للأهل نتوجه إلى السنترال ونحجز مكالمة محددة بالدقائق، إما أن نجريها في نفس الوقت داخل كابينة لا تزيد مساحتها عن متر مربع، وكل المنتظرين خارجها يسمعون حديثك، أو نحجزها للمساء وتحال لنا في السكن، ونكون قد حضّرنا في ورقة صغيرة أهم العناصر التي سنتناولها في المكالمة بما فيها العبارات الحميمة والعاطفية، قبل أن ينتهي الوقت وتقطع المكالمة من السنترال. ونظلّ أيامًا نعيش تفاصيل تلك المكالمة. كل هذا لمن لديه هاتف في عُمان، فالعديد منا قدّموا من ولايات وقرى لم تدخلها الهواتف بعد. بل مسقط نفسها لم تكتمل الخدمة بعد في بعض أحيائها.

من أروع ما في جدول الدورة أن كل خميس هناك رحلة ينظمها المعهد كحصة عملية ميدانية فيها الفائدة والترفيه، فقد أتاحت لنا تلك الرحلات التي حرصت على عدم تفويتها كاملة، التعرُّف على أماكن ومؤسسات مهمة مثل المتحف الوطني لنخرج بقراءة مهمة عن تاريخ مصر الفرعونية، ومؤسسة جريدة الأهرام العريقة، ونطلع على فن التحرير، وحتى طريقة الطباعة القديمة بصف الحروف الحديدية المجسمة كلعبة مكعبات الأطفال، ولكن بمسؤولية عالية لأهمية وحساسية الكلمة. الجريدة حالة معاشة في كثير من تفاصيل الحياة اليومية، بدءا من مثقف يتأبطها، مرورًا بالمقهى الذي سيجلس على إحدى زواياه في تلك الكراسي الخشبية العتيقة التي تعرفها كل مصر وفي كل محفل سعيد أو حزين، متلذذا بقهوة مضبوطة بوِشّ (وجه) منتظرا صديقه ليشاركه لعبة الطاولة، بينما تعلو المكان سحابات السلّوم والزغلول والقصّ. وبعد أن يلتهم جريدته، يتركها على الطاولة ويمضي ليأتي صبي يسترزق ويجمع الجرائد المقروءة في المقاهي ليبيعها بنصف قيمتها، وليس انتهاء بتقطيع القديم منها قِطعًا صغيرة على هيئة قمع لبائع الفول السوداني واللب.. وزيارة محطة الإرسال الإذاعي في جبل المقطم المطل على القاهرة، حيث تعرفنا على الرحلة الأثيرية لموجات وذبذبات الراديو كيف توجّه وتسافر عبر الكرة الأرضية. وبانوراما حرب أكتوبر، لنشاهد لأول مرة تصويرًا مبهرًا على 360 درجة، وقلعة محمد علي التي تعرض بزة الرئيس أنور السادات العسكرية التي اخترقتها رصاصات خالد الإسلامبولي قبل حوالي عام في ما عرف بحادث المنصة (سمعت أنه تم نقلها لاحقا إلى متحف آخر)، وزيارة قناة السويس والتجول في الأوتوبيس البحري وملامسة خط بارليف الذي تحوّل من رمز التحصين الإسرائيلي إلى رمز الانتصار العربي عام 1973م.. ما أشبه تلك الخرافة بخرافة القبة الحديدية اليوم.. وزيارة إذاعة طنطا، التي تسمى إذاعة وسط الدلتا، وكانت لا تزال حديثة جدا، وهي إذاعة إقليمية صغيرة، أعجبت كثيرا ببساطتها وطريقة إدارتها، أما زيارة بورسعيد فتعد استثنائية؛ لأن عددًا من الزملاء المصريين يحاولون الانضمام للرحلة، فهي فرصة لشراء بعض البضائع المستوردة وخاصة الملابس. نحن الضيوف معفيون من الجمرك، لذلك حملنا مشتريات بعض الأصدقاء تواطؤا وعربون صداقة، بينما لبس أحدهم الجديد فوق الملبوس تمويهًا حتى يعبر نقطة الجمرك.

كل شيء كان مدهشا لواحد مثلي. الأهرامات وأبو الهول والصحراء الرملية وتعلُّم ركوب الخيل فيما يعرف بصحارى سيتي، فكثبانها تشكل وسائد رملية عملاقة تقلل أثر الإصابة في حالة السقوط، غير أن الزميل سعيد بن محمد الزدجالي -رحمه الله- سقط من الخيل مرة وتأثرت رجله عدة أيام.. السيدة، والحسين، وخان الخليلي ولمعان النحاسيات والمقاهي.. برج القاهرة أضخم مجسم لزهرة اللوتس، مدهش بعمارته ودلالاته، النيل وبهجة لا تنتهي، من أضخم السفن السياحية وعالمها الداخلي بين إيقاع الرقص الشرقي ورقصة التنورة الصوفية، التي طورت في السنوات الأخيرة بإضاءات الـ led إلى قارب صغير بشراع متهالك يشكل لوحة كالخيال مع شروق الشمس وأصيلها، الأسواق، الإسكندرية والبحر على أنغام (دقوا الشماسي) وقصور تحكي العهد الملكي، ومحطة الرمل، وزنقة الستات. الأجواء داخل مبنى الإذاعة والتلفزيون ومصادفة كبار الفنانين حتى وإن عابرا عند المصاعد.. والعم أحمد الذي يمدنا بشاي يتلألأ داخل أكوابه الصغيرة الشفافة، سألني ذات مرة: يا ابني يا محمد انته عندك كام بير بترول؟ فجاوبته: (تلاته. اتنين للوالد وواحد عشان مصروفي) وتحملّت كذبتي إلى اليوم التالي فقط؛ لأصحح له الصورة التي رسمها في ذهنه عن الخليجيين عموما.. المسرح والسينما دهشة، الحفلات الغنائية لكبار المطربين دهشة، ضجيج الأحياء المزدحمة و أبواق السيارات، الأذان من مئات المنائر، الأوتوبيسات البرية والنهرية، القطار ومحطة رمسيس، عربات الفول والطعمية، الكازينوهات، نكت سائق التاكسي وحتى احتياله بتطويل المشوار ومجاملاته: (أجدع ناس) و(ماتخلي)، والحِكم والعبارات الظريفة على جوانب سيارات الأجرة، الحنطور وإيقاعه ورنين الأشياء المعلقة فيه، المذاق الجديد للأكلات المصرية، الكتب والصحف على قارعة الطريق، أكشاك الصور ومجسمات عين الحسود، والميداليات التذكارية التي حتما ستأخذ حيزا في حقائب العودة، بهجة الواجهات التجارية في سور نادي الزمالك ووسط البلد وفي كل مكان، عصائر فرغلي وخاصة المانجو، الأشجار المعمرة في الشوارع الداخلية، حديقة الحيوانات، والقناطر الخيرية، محيط الجامعات، النيل والشتاء، وأبجديات الهيروغليفية والتذكارات الفرعونية. حتى المصاعد العتيقة التي نشاهدها في بعض الأفلام القديمة، الأصوات العالية والمتداخلة بدءا من السيارات مرورا بالباعة، دخولا إلى الطرب الأصيل داخل المقاهي.. كل شيء، كل شيء مدهش. القاهرة ليست حالة وسطى، فبعض من زاروها حلفوا ألا يعودوا لها، وفي تقديري هم قلة، وآخرون مثلي بعدما شربوا من نيلها رجعوا لها مرارا وتكرارا، وكلما طال بهم الأمد شعروا بعطش لا يرويه إلا نيلها.

على كباري النيل وقفت طويلا، أشاكس العابرين في المراكب الصغيرة وأبادل السياح التحية من بعيد، وضجيج المجاميع الصغيرة تعلو أصواتها بآخر أغنية تعد (ترند) تلك الأيام تتوسطهم طفلة موهوبة يرقص كل الركاب على إيقاعها، ومراهقة تلعب دور المطربة.. فأعود لتأمل ماء النيل يحكي خريره أساطير عروس النيل والوفاء لهبة مصر، والمراكب الفرعونية الطويلة، محاولا معرفة اتجاهه حتى تدلني عليه بقايا شجيرة سابحة فأذهب في اتجاهها وأتساءل وأتخيل منابعه؛ لأتتبعه لاحقا على الخارطة، وأشعر أن من يعيشون على منابعه محظوظون ومختلفون، حتى كتب لي بعد ثلاثين عاما أن أجلس على قارب صغير في البحيرات العظمى في أوغندا ومن تحته تتدفق عيون الماء، ومن حولي روافد بحيرة فيكتوريا، مشكلة القطرات والدفعات الأولى لنهر النيل التي تسافر آلاف الكيلومترات لتمتزج مع ملوحة البحر الأبيض المتوسط.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: فی بعض

إقرأ أيضاً:

بين النيل والسين.. العلاقات الثقافية المصرية الفرنسية وحوار الحضارات

في مشهد يجسد عمق التاريخ وتبادل الحضارات، اصطحب أمس الرئيس عبد الفتاح السيسي نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون في جولة وسط أزقة خان الخليلي وساحة مسجد الحسين، لم تكن هذه الزيارة مجرد لحظة بروتوكولية، بل رمزية تذكرنا بجذور العلاقة الثقافية الطويلة بين مصر وفرنسا، وتلخص قرونًا من التبادل الثقافي والحضاري بين بلدين جمعت بينهما رغبة عميقة في المعرفة، واختلاف غني فتح أبواب الحوار لا الصدام.

البداية من الحملة… والثقافة من بين الرماد

منذ الحملة الفرنسية على مصر عام 1798، بدأ فصل جديد من التبادل الثقافي والعلمي بين البلدين، وعلى الرغم من أن الحملة كانت غزوًا عسكريًا، لكنها حملت معها نخبة من العلماء والباحثين، وأدت إلى ميلاد أول مطبعة حديثة في مصر، وإصدار كتاب «وصف مصر» الذي وثق ملامح الحضارة المصرية بكل تفاصيلها، ثم جاءت الحملة الثقافية الأكبر مع بزوغ نجم محمد علي، الذي أرسل البعثات التعليمية إلى فرنسا، لتبدأ نهضة فكرية وعلمية غيّرت وجه مصر الحديث، ومن هناك، جاءت ترجمات الكتب، وولدت مدارس الفنون والآداب، وتشكلت ملامح حركة التنوير المصرية.

محمد علي وفرنسا.. بداية التنوير الحقيقي

بدأ التنوير مع عهد محمد علي باشا، المؤسس الحقيقي لمصر الحديثة، الذي  أرسل البعثات العلمية إلى باريس، وأسس أول نواة لمؤسسات التعليم والفكر في مصر، على الطريقة الأوروبية ولكن بروح مصرية، ومن هذه اللحظة، بدأت تتشكل طبقة من المثقفين المصريين الذين يجيدون الفرنسية، ويتواصلون مع الفلسفة، والعلم، والآداب الفرنسية، ثم يعيدون إنتاجها بما يناسب الواقع المصري.

صالونات القاهرة... على خطى باريس

في النصف الأول من القرن العشرين، تشكّلت طبقة ثقافية مصرية متأثرة بباريس: صالونات أدبية، مجلات فكرية، ترجمات لأعمال فولتير وروسو وسارتر، وظهور فنانين وكتّاب مصريين حاوروا هذه الثقافة دون أن يفقدوا مصريتهم،  حيث طه حسين درس في السوربون، وتجلّت النزعة العقلانية الفرنسية في مشروعه التنويري، بينما نجيب محفوظ حمل عن نثر الفرنسيين عمق التفاصيل، مع حفاظه على طابع الحارة المصرية.

الفن والعمارة.. لغة أخرى للتواصل

من وسط البلد في القاهرة بتصميمها الأوروبي، إلى مبنى دار الأوبرا الخديوية القديمة التي شُيدت خصيصًا لعرض أوبرا عايدة، ومن مباني الجامعة المصرية الأولى، إلى الطراز المعماري الذي يحمل روح باريس، يتجلى الحضور الفرنسي لا كمستعمر، بل كشريك في بناء الحداثة.

وجها لوجه في العصر الحديث

اليوم، العلاقات الثقافية لا تزال نابضة، حيث معاهد الثقافة الفرنسية في القاهرة والإسكندرية تدرس اللغة الفرنسية لآلاف المصريين، وتدعم المسرح والسينما والفنون البصرية، والمصريون، بدورهم، يشاركون في معارض باريسية ويدرسون في جامعات فرنسية، في علاقة أخذ وعطاء.

وجاءت جولة ماكرون في خان الخليلي، ومروره بجوار المشغولات النحاسية، والعطور الشرقية، والمقاهي الشعبية، تجسيد فعلي لأن الثقافة لا تعترف بالحدود السياسية، بل تتجاوزها إلى مساحة إنسانية أوسع.

نجيب محفوظ..  حاضر في لحظة تاريخية

في لفتة رمزية تعكس عمق البُعد الثقافي للزيارة، اختار الرئيسان عبد الفتاح السيسي وإيمانويل ماكرون أن يتشاركا العشاء في مطعم نجيب محفوظ بخان الخليلي، أحد أشهر معالم الحي العتيق، والمكان الذي يحمل اسم الأديب المصري العظيم صاحب نوبل.

داخل المطعم، الذي يجمع بين الطابع الشرقي الأصيل واللمسة الثقافية الراقية، جلس الرئيسان وسط أجواء تحاكي عبق القاهرة القديمة، وتذكر بزمن نجيب محفوظ الذي كتب عن شوارع الحسين، وأزقة الجمالية، ومقاهي القاهرة التي احتضنت شخصيات رواياته.

هذا العشاء لم يكن مجرد استراحة في جدول زيارة رسمية، بل لحظة حوار حضاري صامت، لقاء في حضرة نجيب محفوظ، الذي طالما كتب عن التلاقي بين الشرق والغرب، عن الإنسان حين يواجه نفسه وسط تحولات العصر، ولو كان بيننا اليوم، لربما كتب قصة جديدة بعنوان: «الرئيس في الحي القديم».

مقالات مشابهة

  • حملت بالحرام.. شابان يلقيان شقيقتهما حيّة في النيل
  • شابان يلقيان شقيقتهما حية في النيل
  • حملت سفاحا.. شابان يلقيان شقيقتهما حية في النيل بسبب علاقاتها
  • شقيقان وراء قتل سيدة والتخلص من جثتها فى نهر النيل بالصف.. تفاصيل
  • بين النيل والسين.. العلاقات الثقافية المصرية الفرنسية وحوار الحضارات
  • ماكرون في مصر| ما الذي تقدمه هذه الزيارة؟.. محمد أبو شامة يوضح
  • يجب استهداف الأماكن التي تنطلق منها المسيّرات المعادية في أي دولة كانت
  • اللهم نصرك الذي وعدت ورحمتك التي بها اتصفت
  • لن يكون الرئيس الوحيد الذي يزورها.. إيمانويل ماكرون في جامعة القاهرة غدا
  • مذيع بالتناصح: عليكم بالجهاد ضد السلفية المدخلية وطردها