ما هي الضّوابط في تحديد رواتب الموظفين في الجماعات والجمعيّات والمؤسّسات العامّة؟
تاريخ النشر: 10th, January 2024 GMT
إنّ التعامل الحذر مع المال العام الذي يشبه في توصيفه أموال اليتامى في خطورة التعدي عليه؛ يفرض وضع ضوابط واضحة تسيرُ عليها الجهة التي تقوم بتحديد الرّواتب للموظفين بحيث لا يقع أيّ نوع من التعدّي على المال العام أو يلحق أيّ حيفٍ أو جورٌ بالموظفين.
ضابط العدل
إنّ الضّابط المركزيّ في تحديد رواتب الموظفين والعاملين الذين يتقاضون رواتبهم من "المال العام" هو العدل، ومن التّعريفات الجميلة للعدل ما قاله الجاحظ في كتاب "تهذيب الأخلاق" المنسوب له: "هو استعمال الأمور في مواضعها، وأوقاتها، ووجوهها، ومقاديرها، من غير سرف، ولا تقصير، ولا تقديم، ولا تأخير".
وقال ابن تيمية في "مجموع الفتاوى": "العدل نظام كلِّ شيء، فإذا أُقيم أمرُ الدّنيا بعدلٍ قامت، وإن لم يكن لصاحبها في الآخرة من خلاق، ومتى لم تقم بعدلٍ لم تقم، وإن كان لصاحبها من الإيمان ما يجزى به في الآخرة".
الضّابط المركزيّ في تحديد رواتب الموظفين والعاملين الذين يتقاضون رواتبهم من "المال العام" هو العدل
كما يقولُ في موضعٍ آخر: "وأمورُ النّاس تستقيم في الدّنيا مع العدل الذي فيه الاشتراك في أنواع الإثم، أكثر مما تستقيم مع الظّلم في الحقوق وإن لم تشترك في إثم؛ ولهذا قيل: إنّ الله يقيم الدولة العادلة وإن كانت كافرة؛ ولا يقيم الظالمة وإن كانت مسلمة. ويقال: الدّنيا تدوم مع العدل والكفر، ولا تدوم مع الظّلم والإسلام".
أمّا ابن القيّم فيجلّي الفرق بين السّياسة العادلة والسياسة الظالمة في التّعامل وذلك في كتابه "الطرق الحكميّة" فيقول: "ومن له ذوقٌ في الشّريعة، واطّلاع على كمالها، وتضمّنها لغاية مصالح العباد في المعاش والمعاد، ومجيئها بغاية العدل الذي يسع الخلائق، وأنَّه لا عدل فوق عدلها، ولا مصلحة فوق ما تضمّنته من المصالح، تبين له أنَّ السّياسة العادلة جزء من أجزائها، وفرع من فروعها، وأنَّ من أحاط علما بمقاصدها، ووضعها موضعها، وحسن فهمه فيها لم يحتج معها إلى سياسة غيرها البتة.
فإنَّ السياسة نوعان: سياسة ظالمة، فالشّريعة تحرّمها، وسياسة عادلة تخرج الحقَّ من الظّالم الفاجر، فهي من الشّريعة علمها من علمها، وجهلها من جهلها".
وقد جاء التّحذير للمسؤولين عن العمّال والموظفين من مغبّة الظلم في تعاملهم مع هؤلاء الموظفين على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلّم؛ الذي يقول في الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "ما من أميرِ عشرةٍ، إلَّا وهو يُؤْتَى بِهِ يومَ القيامَةِ مغْلُولا، حتى يَفُكَّهُ العدلُ، أوْ يوبِقَهُ الجورُ".
وكذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلّم في الحديث الذي أخرجه أحمد في مسنده بسندٍ صحيح عن معقل بن يسار رضي الله عنه أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلّم قال: "ليس مِن والي أُمَّةٍ، قَلَّتْ أو كَثُرَتْ، لا يَعدِلُ فيها، إلَّا كَبَّه اللهُ على وَجهِه في النَّارِ".
وفي هذين الحديثين تحذير شديدٌ من الوقوع في الظلم؛ ظلم الموظفين والعمال من قبل المسؤول عنهم، ومن أبشع صور الظلم ظلم النّاس في أرزاقهم واستحقاقاتهم الماليّة.
وهنا يكون المسؤول بين نوعين من التّحذير عليه أن يوازن بينهما؛ التّحذير من تضييع المال العام وإنفاقه في غير مواضعه، والتّحذير من ظلم الموظّفين وبخسهم حقوقهم.
فهؤلاء الموظفون تجري رواتبهم من خزينة المال العام الذي كان يعبّر عنه في كتب الفقهاء الأقدمين بلفظ "بيت المال"، ومن ذلك ما قاله أبو يوسف في كتابه لهارون الرشيد "وكلّ رجلٍ تصيّرُه في عمل المسلمين فأجره عليه من بيت مالهم".
ويقول الشّوكاني في "السّيل الجرّار المتدفّق على حدائق الأزهار": "ثبتَ ثبوتا لا شكّ فيه ولا شبهة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلّم كان يجعل لمن عمل عملا يرجع إلى مصالح المسلمين رزقا".
والعدل في العطاء أن يكون الرّاتب على قدر الكفاية ومراعاة حال الموظف الاجتماعيّة والأسريّة والبيئة الاقتصاديّة التي يعيش فيها. قال ابن جماعة في "تحرير الأحكام في تدبير أهل الإسلام": "ويفرض السُّلْطَان لكل وَاحِد من الْأُمَرَاء والأجناد من الْعَطاء أَو الاقطاع قدر مَا يحْتَاج إِلَيْهِ فِي كِفَايَته اللائقة بِحَالهِ، ومروءته، ومنزلته فِي الزَّوْجَات، والاولاد، والخدم، وَالدَّوَاب من مُؤنَة كسْوَة ومسكن، وخيل، وَسلَاح، وحاجة سفر، ويراعى فِي ذَلِك الزَّمَان وَالْمَكَان، والرخص، والغلاء، وَعَادَة الْبَلَد فِي المطاعم والملابس الشَّرْعِيَّة، فيكفيه بذلك المؤونات كلهَا".
فالرّواتب تُعطى للموظفين بناء على معيار الاستحقاق العادل القائم على حاجة الموظف وكفايته، والعمل الذي يقوم به، فلا يجوز أن يكون راتبه أعلى ممّا يستحقّه مقابل عمله وتوصيفه الوظيفيّ، ولا يجوز التّقتير عليه بإعطائه أقلّ ممّا يستحقّ تحت أيّة ذريعةٍ ما دام يقوم بعمله على الوجه المطلوب منه
فالرّواتب تُعطى للموظفين بناء على معيار الاستحقاق العادل القائم على حاجة الموظف وكفايته، والعمل الذي يقوم به، فلا يجوز أن يكون راتبه أعلى ممّا يستحقّه مقابل عمله وتوصيفه الوظيفيّ، ولا يجوز التّقتير عليه بإعطائه أقلّ ممّا يستحقّ تحت أيّة ذريعةٍ ما دام يقوم بعمله على الوجه المطلوب منه.
وأمّا إعطاء موظف ما راتبا أكثر ممّا يستحقّه من باب المحاباة أو الاسترضاء أو بسبب صحبةٍ أو قرابةٍ أو بسبب انتمائه إلى التيّار الفكريّ أو الجماعة التي ينتمي لها رئيس العمل؛ فهو نوعٌ من الظّلم في العطاء وهو خيانةٌ للأمانة ومحرّمٌ لا يجوز بحال.
قال ابن تيمية في "السّياسة الشرعيّة في إصلاح الرّاعي والرّعيّة": "لا يجوز للإمام أن يعطي أحدا ما لا يستحقّه لهوى نفسه من قرابةٍ بينهما أو مودّةٍ أو نحو ذلك".
بين التّسوية في الرّواتب والمفاضلة بين الموظّفين فيها
العدل في تقدير الرّواتب لا يعني التّسوية في المقادير أبدا، بل يعني التّسوية في دفع حاجاتهم وتحقيق كفاياتِهم، وهذه الحاجات تختلف باختلاف طبيعة وظائفهم ومراتبهم الوظيفيّة.
فهناك فرقٌ بين من كانت مسؤوليّته وعمله يفرض عليه نفقات معيّنة وبين من لا يكلّف إلّا نفسه، كما أنّ هناك فرقا بين من عنده من يعولهم من زوجة وأولاد وبين الأعزب الذي لا تجب عليه نفقة أحد غير نفسه.
يقول العزّ بن عبد السلام في "قواعد الأحكام في مصالح الأنام": "العدل تقدير النّفقات بالحاجات مع تفاوتها عدل وتسوية، من جهة أنه سوى بين المنفق عليهم في دفع حاجاتهم لا في مقادير ما وصل إليهم لأن دفع الحاجات هو المقصود الأعظم في النّفقات وغيرها من أموال المصالح".
وقال الشّافعي في "الأم": "فإذا اجتهد الوالي ففرّقه في جميع من سمّى له على قدر ما يرى من استحقاقهم بالحاجة إليه وإن فضل بعضهم على بعض في العطاء؛ فذلك تسوية إذا كان ما يعطى كلّ واحد منهم سدّ خلّته".
وهذا يفرض على الجهة المتخصّصة بتقدير رواتب الموظفين أن تدرس أحوال الموظفين من حيث الاحتياجات المتعلقة بأشخاصهم وعائلاتهم وأعداد أبنائهم ومن تجب عليهم نفقتهم من غير الأولاد، وكذلك دراسة البيئة التي يتمّ فيها العمل وما تفرضه من احتياجات ماليّة على المقيم فيها، على وفق العرف العام للطّبقة المتوسّطة دون النّظر لأهل الثّراء والتّرف والطبقة المخمليّة فيها، أو النّظر إلى الطّبقات المسحوقة المظلومة في تقدير الرّواتب.
قال الماوردي في "الأحكام السلطانيّة": "وأمَّا تقدير العطاء فمعتبر بالكفاية حتى يستغني بها عن التماس مادة تقطعه عن حماية البيضة، والكفاية معتبرة من ثلاثة أوجه؛ أحدها: عدد من يعوله من الذّراري والمماليك، والثاني: عدد ما يرتبطه من الخيل والظهر، والثالث: الموضع الذي يحلّه في الغلاء والرخص، فيقدَّر كفايته في نفقته وكسوته لعامه كلّه، فيكون هذا المقدر في عطائه، ثم تعرض حاله في كل عام، فإن زادت رواتبه الماسَّة زيد، وإن نقصت نقص".
وقال الشّافعيّ في "الأم": "ويختلف مبلغ العطايا باختلاف أسعار البلدان، وحالات الناس فيها، فإن المؤونة في بعض البلدان أثقل منها في بعض".
هذا يفرض على الجهة صاحبة الاختصاص في تحديد الرّواتب الدّراسة المستفيضة لطبيعة عمل الشخص، واحتياجه وكفايته ضمن البيئة التي يعيش فيها وأحوال أسرته التي ينفق عليها، وفي هذا تحقيق للعدل ورعاية للمال العام، وعلى الرّئيس أو المسؤول متابعة هذه الأمور بنفسه
وهذا التّفاضل في الرّواتب بناء على المرتبة الوظيفيّة والوضع الاجتماعي والوضع الاقتصاديّ للبيئة محلّ العمل كان معمولا به في عصور الإسلام الأولى.
فمن التّفاضل بناء على الوضع العائلي ما أخرجه أبو داود بسند صحيح عن عوف بن مالك "أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ كانَ إذا أتاهُ الفَيءُ قسمَهُ في يومِهِ، فأعطى الآهِلَ حظَّينِ، وأعطى العزَبَ حظّا".
ومن التّفاضل بناء على طبيعة العمل ما أخرجه البخاريّ في صحيحه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال:" قَسَمَ رَسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَومَ خَيْبَرَ لِلْفَرَسِ سَهْمَيْنِ، ولِلرَّاجِلِ سَهْما. قالَ: فَسَّرَهُ نَافِعٌ فَقالَ: إذَا كانَ مع الرَّجُلِ فَرَسٌ فَلَهُ ثَلَاثَةُ أسْهُمٍ، فإنْ لَمْ يَكُنْ له فَرَسٌ فَلَهُ سَهْمٌ".
إذن فإنّ هذا يفرض على الجهة صاحبة الاختصاص في تحديد الرّواتب الدّراسة المستفيضة لطبيعة عمل الشخص، واحتياجه وكفايته ضمن البيئة التي يعيش فيها وأحوال أسرته التي ينفق عليها، وفي هذا تحقيق للعدل ورعاية للمال العام، وعلى الرّئيس أو المسؤول متابعة هذه الأمور بنفسه فإنّه المسؤول الأوّل بين يدي الله تعالى عن ذلك.
twitter.com/muhammadkhm
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه المال العام العدل رواتب رواتب الاسلام العدل جمعيات المال العام مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة رسول الله صلى الله علیه وسل م ى الله علیه وسل م رواتب الموظفین المال العام ا یستحق ه فی تحدید بناء على لا یجوز ه وسل م ة التی من الت
إقرأ أيضاً:
احذر| 10 أفعال في رمضان تنقص ثواب الصيام.. يقع فيها كثيرون بسهولة
إذا كان هناك أفعال في رمضان تنقص ثواب الصيام ، فينبغي الانتباه إليها والعلم بها لتجنبها وعدم الوقوع فيها، حيث إن صوم رمضان فريضة لا يجوز التهاون بها أو فيها، لما لها من فضل عظيم وثواب جزيل، لا يمكن لعاقل أن يفرط فيه ولو بقدر قليل، لذا ينبغي معرفة أفعال في رمضان تنقص ثواب الصيام للفوز به كاملاً فهو غنيمة وكنز من الكنوز الربانية.
قال مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم نهى الصائمين عن أفعال في رمضان تنقص ثواب الصيام ، ففيما ورد في صحيح البخاري (1894) وصحيح مسلم (1151)، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ فإذا كان يوم صوم أحدكم فَلاَ يَرْفُثْ وَلاَ يَجْهَلْ، وَإِنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أَوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إِنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ».
وأوضح «مركز الأزهر» عن أفعال في رمضان تنقص ثواب الصيام في شرحه للحديث الشريف، أن المعنى الإجمالي للحديث: في هذا الحديث النبوي العظيم: بشارة، وتحذير، وتربية وتعليم، فالبشارة: أن الصيام وقاية وسترة من النار؛ لأنه إمساك عن الشهوات، والنار محفوفة بالشهوات!، أو وقاية من الوقوع في المعاصي التي هي سبب الدخول في النار؛ لأنه يكسر الشهوة ويضعف القوة، فيمتنع به الصائم عن مواقعة المعاصي، فصار كأنه جنة وستر دونها، حيث يكفّر الله تعالى به الذنوب، ويضع به الأوزار، ويستجلب به العفو والمغفرة.
وتابع: والتحذير: هو نهي الصائم ألا يتكلم الكلام الفاحش، ولا يفعل شيئًا من الجهالة المعيبة في حقه، والمنزلة من قدره، كالسخرية بالآخرين، أو الضحك بلا سبب، أو رفع الصوت على الآخرين، فهذا أعمال لا تليق بالصائم وجلالة الشهر الكريم، فقال الإمام القرطبي: (والجهل في الصوم: هو العمل فيه على خلاف ما يقتضيه العلم).
وأضاف: وأما التربية والتعليم: فإن الصائم إذا شتمه أحدٌ أو سبّه، أو جهل عليه، فلا ينبغي أن يندفع للانتقام لنفسه، أو الاستقواء بجاهه أو حسبه، بل يتذكر أن صيامه وقاية له من الوقوع في الخطأ، يمنعه من الردّ، ويعصمه من الزلل!، وقال الإمام الخطابي: (قوله: (فليقل إني صائم) يحتمل وجهين: أحدهما: أن يقول ذلك فيما بينه وبين نفسه، لئلا تحمله النفس على مجازاة الشاتم، فيفسد بذلك صومه، والآخر: أن يقول ذلك بلسانه، ليمتنع الشاتم من شتمه إذا علم أنه معتصم بالصوم، فلا يؤذيه ولا يجهل عليه).
وأشار إلى أن ما يستفاد من الحديث خمسة أمور، أولها الصيام نعمة عظيمة تقي المسلم من أوحال الشهوات، وثانيها الصيام يربي المسلم على القول الطيب والعمل الحسن، وثالثها يتجنب المسلم في صيامه كل أنواع الرفث والفسوق، ورابعًا الترفع عن النقائص أدب إسلامي، وخامسًا الجهل ليس من خصال المسلم.
ونبه إلى أن من صامه إيمانًا بالله ورسوله، واحتسابًا لأجره وثوابه عند الله - عز وجل - لا رياءً ولا سمعةً، محافظًا عليه مما يُنْقص ثوابه، من الغيبة والنَّميمة، وأكلِ أموال الناس بالباطل، غفر الله له ذنوبه، وأعدَّ له الثواب الجزيل، في جنات النعيم، ودخَلَها من بابٍ يقال له باب الرَّيَّان، لا يدخل منه إلا الصائمون المحتسبون.
فضل صيام شهر رمضانقال مركز الأزهر العالمي للفتوى الإلكترونية، إنه فيما أخرج الإمام أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ».
وأوضح «مركز الأزهر» في شرحه للحديث الشريف عن فضل صيام شهر رمضان ، أن الصيام ومغفرة الذنوب ورد في المعنى الإجمالي للحديث، حيث شرع الله سبحانه على المسلمين المكلفين فرضية صيام شهر رمضان فقال تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ».
و أضاف: "ورغبة في الحث على الصيام قد أودع الله سبحانه في شهر رمضان عديدًا من المنافع الدينية والدنيوية، ونلاحظ هنا في تعبير الحديث الشريف عن صيام رمضان وقيده بالإيمان، ليشكل صورة أدبية بليغة في كلمة واحدة، للدلالة على أن الصيام لا يقبل من الكافر مطلقًا، ولا يثاب عليه الفاسق، وإن سقط عنه الفرض، ذلك أن الأساس في قبول الأعمال هو الإيمان بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم مع الطاعة المطلقة لهما".
واستشهد بقوله تعالى: «مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ»، وهذا سر تخصيص الخطاب بأهل الإيمان في قوله تعالى: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»، ومعنى قوله إيمانًا: أي: مؤمنا بالله ومصدقا بأنه تقرب إليه (واحتسابا)، أي: محتسبا بما فعله عند الله أجرا لم يقصد به غيره.
وتابع: "قال القاري: أَيْ طَلَبًا لِلثَّوَابِ مِنْهُ - تَعَالَى - أَوْ إِخْلَاصًا أَيْ بَاعِثُهُ عَلَى الصَّوْمِ مَا ذُكِرَ، لَا الْخَوْفُ مِنَ النَّاسِ، وَلَا الِاسْتِحْيَاءُ مِنْهُمْ، وَلَا قَصْدُ السُّمْعَةِ وَالرِّيَاءِ عَنْهُمْ، وَقِيلَ: مَعْنَى احْتِسَابًا اعْتِدَادُهُ بِالصَّبْرِ عَلَى الْمَأْمُورِيَّةِ مِنَ الصَّوْمِ وَغَيْرِهِ، وَعَنِ النَّهْيِ عَنْهُ مِنَ الْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَنَحْوِهِ، طَيِّبَةً نَفْسُهُ بِهِ، غَيْرَ كَارِهَةٍ لَهُ، وَلَا مُسْتَثْقِلَةٍ لِصِيَامِهِ، وَلَا مُسْتَطِيلَةٍ لِأَيَّامِهِ. وأسلوب الشرط هنا قد جاء ليثير انتباه القارئ، ويحرك عواطفه ومشاعره، فتستقر معاني الحديث وقيمه الخلقية، في أعماق النفس إيمانًا وتصديقًا وإخلاصًا، ابتغاء مرضاة الله عز وجل".
وأشار إلى أنه مما يستفاد من الحديث: أولا فرضية صيام شهر رمضان على العاقل البالغ المكلف، وثانيًا فضل الإيمان واشتراطه لقبول الأعمال الصالحة، وثالثًا احتساب الأجر عند الله تعالى من علامات القبول، ورابعًا بلاغة الأسلوب النبوي في الحديث الشريف، وخامسًا ظيم فضل الله تعالى الواسع وإنعامه السابغ.
فضل صيام رمضانخصَّ الله عز وجل عبادة الصيام من بين العبادات بفضائل وخصائص عديدة، منها: أولًا: أن الصوم لله عز وجل وهو يجزي به، كما ثبت في البخاري (1894)، ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ يُضَاعَفُ الْحَسَنَةُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا إِلَى سَبْعمِائَة ضِعْفٍ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلا الصَّوْمَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ يَدَعُ شَهْوَتَهُ وَطَعَامَهُ مِنْ أَجْلِي».
ثانيًا: إن للصائم فرحتين يفرحهما، كما ثبت في البخاري ( 1904 ) ، ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لِلصَّائِمِ فَرْحَتَانِ يَفْرَحُهُمَا: إذَا أفْطَرَ فَرِحَ، وإذَا لَقِيَ رَبَّهُ فَرِحَ بصَوْمِهِ».
ثالثًا: إن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، كما ثبت في البخاري (1894) ومسلم ( 1151 ) من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «والذي نفس محمد بيده لخلوف فم الصائم أطيب عند الله عز وجل يوم القيامة من ريح المسك».
رابعًا: إن الله أعد لأهل الصيام بابا في الجنة لا يدخل منه سواهم، كما ثبت في البخاري (1896)، ومسلم (1152) من حديث سهل بن سعد قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ فِي الجَنَّة بَابًا يُقَالُ لَهُ: الرَّيَّانُ، يدْخُلُ مِنْهُ الصَّائمونَ يومَ القِيامةِ، لاَ يدخلُ مِنْه أَحدٌ غَيرهُم، يقالُ: أَينَ الصَّائمُونَ؟ فَيقومونَ لاَ يدخلُ مِنهُ أَحَدٌ غَيْرُهُمْ، فإِذا دَخَلوا أُغلِقَ فَلَم يدخلْ مِنْهُ أَحَدٌ».
خامسًا: إن من صام يومًا واحدًا في سبيل الله أبعد الله وجهه عن النار سبعين عامًا، كما ثبت في البخاري (2840)؛ ومسلم (1153) من حديث أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما مِنْ عبدٍ يصومُ يوْمًا في سبِيلِ اللَّهِ إلاَّ بَاعَدَ اللَّه بِذلكَ اليَوْمِ وَجْهَهُ عَنِ النَّارِ سبْعِين خريفًا».
سادسًا: إن الصوم جُنة «أي وقاية» من النار، ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «الصيام جُنة»، وروى أحمد (4/22) ، والنسائي (2231) من حديث عثمان بن أبي العاص قال : سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: «الصيام جُنة من النار، كجُنة أحدكم من القتال».
سابعًا: إن الصوم يكفر الخطايا، كما جاء في حديث حذيفة عند البخاري (525)، ومسلم ( 144 ) أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «فِتْنَةُ الرَّجُلِ فِي أَهْلِهِ وَمَالِهِ وَجَارِهِ تُكَفِّرُهَا الصَّلَاةُ وَالصِّيَامُ وَالصَّدَقَةُ والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر».
ثامنًا: إن الصوم يشفع لصاحبه يوم القيامة، كما روى الإمام أحمد (6589) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «الصِّيَامُ وَالْقُرْآنُ يَشْفَعَانِ لِلْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، يَقُولُ الصِّيَامُ : أَيْ رَبِّ مَنَعْتُهُ الطَّعَامَ وَالشَّهَوَاتِ بِالنَّهَارِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. وَيَقُولُ الْقُرْآنُ: مَنَعْتُهُ النَّوْمَ بِاللَّيْلِ فَشَفِّعْنِي فِيهِ. قَالَ: فَيُشَفَّعَانِ».
فضل شهر رمضانأولًا: خص الصائمين بباب في الجنة يُسمى باب الريان، وحتى يحصل الأجر العظيم ينبغي للصائم اجتناب أعمال السوء كلها، والبعد عن الرفث والفسوق، مصداقًا لِما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (الصِّيَامُ جُنَّةٌ فلا يَرْفُثْ ولَا يَجْهلْ، وإنِ امْرُؤٌ قَاتَلَهُ أوْ شَاتَمَهُ فَلْيَقُلْ: إنِّي صَائِمٌ مَرَّتَيْنِ).
ثانيًا: فيه ليلة القدر: فقد فضّل الله -تعالى- شهر رمضان بأن جعل فيه ليلة عظيمة، تُغفر فيها الذنوب والآثام، وتتضاعف فيها الأجور، مصداقًا لقول الله تعالى: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ* لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ)، بالإضافة إلى ما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (مَن قامَ ليلةَ القَدرِ إيمانًا واحتِسابًا غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ من ذَنبِهِ).
ثالثًا: شهر العتق من النار، و العتق من النار أسمى أمنيات المسلم، لا سيما أن العتق يعني اجتناب عذاب النار، ودخول الجنة، ومن فضل الله -تعالى- ورحمته بعباده أنه يصطفي منهم في كل ليلة من شهر رمضان عتقاء من النار، مصداقًا لِما رواه أبو أمامة الباهلي -رضي الله عنه- عن النبي -عليه الصلاة والسلام- أنه قال: (إنَّ للَّهِ عندَ كلِّ فِطرٍ عتقاءَ وذلِك في كلِّ ليلةٍ).
رابعًا: شهر نزول القرآن الكريم، من أعظم فضائل شهر رمضان المبارك أن الله -تعالى- اصطفاه من بين شهور العام وأنزل فيه القرآن الكريم، مصداقًا لقوله تعالى: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ)، بل إن جميع الكتب السماوية نزلت في شهر رمضان، مصداقًا لِما رواه واثلة بن الأسقع -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (أُنزلتْ صحفُ إبراهيمَ أولَ ليلةٍ من شهرِ رمضانَ، وأُنزلتِ التوراةُ لستٍّ مضتْ من رمضانَ، وأُنزل الإنجيلُ بثلاثِ عشرةَ مضتْ من رمضانَ).
خامسًا: من فضائل شهر رمضان أن فيه صلاة التراويح، لا سيما أن الإجماع انعقد على سنيّة قيام ليالي رمضان، وقد أكّد الإمام النووي -رحمه الله- أن المقصود من القيام يتحقق في صلاة التراويح، وقد أخبر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن قيام رمضان مع التصديق بأنه حق، واعتقاد فضيلته، والإخلاص بالعمل لوجه الله تعالى، واجتناب الرياء والسمعة، سبب لمغفرة الذنوب، حيث قال: (مَن قامَ رمضانَ إيمانًا واحتِسابًا، غُفِرَ لَهُ ما تقدَّمَ مِن ذنبِهِ).
سادسًا: اختص الله -تعالى- شهر رمضان بأن تُفتح أبواب فيه الجنة، وتُغلق أبواب النيران، وتصفّد الشياطين عند دخوله، كما ورد في الحديث الذي رُوي عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (إذا جاءَ رَمَضانُ فُتِّحَتْ أبْوابُ الجَنَّةِ، وغُلِّقَتْ أبْوابُ النَّارِ، وصُفِّدَتِ الشَّياطِينُ).
سابعًا: شهر الجود في كل شيء، فقد ثبت في الحديث الصحيح أن النبي -عليه الصلاة والسلام- كان أجود ما يكون في شهر رمضان.
ثامنًا: رمضان من الأوقات التي يُستجاب فيها الدعاء، ويُكرم الله فيه عباده بالعديد من الكرامات، ويعطيهم المزيد من فضائل رحمته وعطياه؛ فصيام رمضان هو الركن الرابع من أركان الإسلام، حيث صامه رسول الله - صلّى الله عليه وسلّم-، وأمر الناس بصيامه، وأخبرهم أن من صامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، ومن قامه إيمانًا واحتسابًا غفر الله له ما تقدم من ذنبه، كما حث فيه على المبادرة إلى التوبة من الذنوب والخطايا، والتعاون على البر والتقوى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وجميع الأخلاق التي تُرضي الله، وتُقرب العبد من ربه.
تاسعًا: العمرة في رمضان ثوابها مضاعف، وقد أخبر رسول الله أنّ العمرة في رمضان تعدل الحج في الأجر والثواب.
عاشرًا: الصدقة في رمضان أجرها عظيم، فقد كان رسول الله أجود الناس في رمضان.
أحد عشر: من فضائل الصيام أن الله -تعالى- قد أضافه إليه، فكل أعمال العباد لهم، إلا الصيام فهو لله وهو يجزي به، وقد قال العلماء في سبب اختصاص الصوم بهذه المزية أنّه من الأعمال التي لا يقع فيها الرياء، وقيل لأن الله هو فقط العالم بمقدار ثوابه ومضاعفة حسناته، وهو من أفضل الأعمال التي لا مساوي لها عند الله، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لأبي أمامة الباهلي: (عليك بالصَّوم فإنَّه لا مثل له)، وهو وقاية من شهوات الدنيا، فيمنع صاحبه من الوقوع في الشهوات والمعاصي، وهو وقاية من عذاب الآخرة كذلك.
اثنا عشر: يحصل الصائم على أجر الصبر على طاعة الله، والصبر في البعد عن المعصية، والصبر على ألم الجوع والعطش والكسل وضعف النفس، وفيه يكفر الله الخطايا والذنوب، ويشفع لصاحبه يوم القيامة، ويدخله الجنة من باب الريان، ويعيش الصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، وإنّ خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك، وقد بشّر رسول الله بأنّ دعوة الصائم من الدعوات المستجابة، فقال: (ثلاثُ دعواتٍ مُستجاباتٍ: دعوةُ الصائم، ودعوةُ المظلُوم، ودعوةُ المسافر).