رئيس سابق للشاباك الإسرائيلي: نحن نغرق في رمال غزة والفلسطينيين مستعدون لأن يَقتلوا ويُقتلوا من أجل استقلالهم
تاريخ النشر: 10th, January 2024 GMT
سرايا - قال رئيس جهاز الشاباك السابق، عامي أيالون، في مقابلة صحافية، إن النظرية الخاطئة افترضت أن الفلسطينيين ليسوا شعباً، ولكنهم أثبتوا أنهم مستعدون لأن يَقتلوا ويُقتلوا من أجل تحقيق استقلالهم.
وردا على سؤال صحيفة "هآرتس" العبرية: "هل نطلق سراح مروان البرغوثي أيضا؟"، قال أيالون: " إن هذا ما يجب بالتأكيد فعله لأن استعادة الاسرى هي أقرب ما يمكننا تحقيقه من صورة نصر في الحرب الدائرة بغزة ولأن مروان هو الزعيم الفلسطيني الوحيد الذي يمكن أن يتم انتخابه والقادر على قيادة زعامة فلسطينية موحدة وشرعية على طريق عملية انفصال متفق عليه عن الفلسطينيين".
أيالون: لن نرى في هذه الحرب صورة انتصار، ليس حتى مثل مشهد رحيل عرفات من ميناء بيروت نحو تونس، بعد حرب لبنان الأولى عام 1982.
واشترط أيالون موافقته على حديثه الصحافي الأول، بالتحّدث عن “استراتيجية الخروج”، أو بالمصطلح السائد “اليوم الذي يتلو الحرب”، قالئلا: “لن نرى في هذه الحرب صورة انتصار”، ويضيف: “ليس مثل تلك الصورة التي تمثلت في رفع العلم الأمريكي على جزيرة إيو جيما في نهاية الحرب العالمية الثانية، وليس مثل صورة الملازم الصغير يوسي بن حنان (الذي صار لاحقاً جنرالاً في الجيش)، وهو يرفع بندقية كلاشنكوف في قناة السويس، مع انتهاء حرب 1967، لا بل ليس مثل مشهد رحيل عرفات من ميناء بيروت نحو تونس، بعد حرب لبنان الأولى عام 1982”.
ويقول أيالون إن “حروب الماضي التي وصفها فون كلاوزفيتز في القرن التاسع عشر، والتي يتم فيها تحقيق النصر بالحسم العسكري في ميدان المعارك، كانت فعلاً صورة نصر تُظهر بوضوح أن اليوم الذي يتلو الحرب يتمثل في الانتقال إلى التفاوض بين المنتصر والمهزوم، أمّا في الحرب على الإرهاب، فلن نشهد أعلاما بيضاء تُرفع. فحتى عرفات عاد بعد 10 أعوام من تونس إلى غزة”.
ماذا لو قضينا على السنوار؟ ألن يمثل ذلك صورة انتصار ما؟
ردا على هذا السؤال، يجيب أيالون: “لا.. حتى لو لفظ السنوار أنفاسه الأخيرة. إن كان هناك مَن يظن أن الفلسطينيين سيستسلمون، فهو لا يعرف الفلسطينيين ولا حماس ولا حركات الإسلام الراديكالي في العصر الراهن”.
لتوضيح موقفه أكثر، يعود أيالون إلى استرجاع لحظة اعتقال مؤسس حماس الشيخ أحمد ياسين، الذي كان مشلولاً ويستخدم كرسياً متحركاً “عندما كان في السجن، اهتممنا بصحته، كنا نخشى أن يموت في السجن كي لا يتحول إلى شهيد. نحن في الشاباك، عارضنا إطلاق سراحه. كان هناك جنرالات في هيئة الأركان العامة استخفوا بموقفنا: ممّ تخشون؟ إنه ليس زعيماً، إنه رجل مسكين على كرسي متحرك”، رداً على ذلك، ادعيت أن مفهوم الزعامة في العالم العربي والإسلامي هو أمر لا نفهمه نحن، لأننا ننظر إلى الزعيم دائماً بعيون غربية، من خلال طلته التلفزيونية، وتسريحة شعره، ونغمة صوته. علينا أن ندرك أن الشيخ ياسين، بصفته زعيم حماس الذي صاغ ميثاقها، كان في نظر الفلسطينيين، بسبب إعاقته ومظهره الهش، رمزاً لبؤسهم إلى حد كبير. لقد كان الرجل الذي تمكن من توحيد القيادة الدينية والاجتماعية والسياسية والعسكرية التي تجسدت فيه نفسه. واليوم، لا تملك حماس مثل هذه القيادة، إذ إن الجناح العسكري يمارس سياسة مستقلة، بينما الذراع الاجتماعية بكل شبكاتها الخيرية اختفت. الصراعات القائمة في حماس اليوم، هي بين الذراع الداخلية والعسكرية التي تفرض كلمتها في غزة، والذراع السياسية الموجودة في الخارج، في تركيا وقطر ولبنان. السنوار هو زعيم الداخل، صحيح أن هناك توتراً قائماً بين الذراعين العسكرية والسياسية، لكن التعاون بينهما في عهد السنوار أصبح أقرب”.
حتى لو لفظ السنوار أنفاسه الأخيرة، فلن نرى صورة انتصار. إن كان هناك مَن يظن أن الفلسطينيين سيستسلمون، فهو لا يعرف الفلسطينيين ولا حماس
فرّق تسُد
ينظر أيالون بصورة مختلفة إلى حروب "إسرائيل" في القرن الحالي، فيقول إن "حرب إقامة "إسرائيل" وحمايتها تُخاض منذ نحو 140 عاماً، منذ هجرة أوائل الصهيونيين في نهاية القرن التاسع عشر"، وهذه الحرب مستمرة بوتائر مختلفة، وفيها حملات عسكرية، ومعارك، واشتباكات. وفي رأيه، أن ما يحدث في الأشهر الثلاثة الماضية “ليست حرباً، بل هي معركة إضافية في الحرب المتواصلة التي نخوضها، دفاعاً عن استقلالنا".
وهذه الحرب، ألا ننتصر فيها؟
يقول أيالون: "انتصرنا في آذار/ مارس 2002. ففي مؤتمر جامعة الدول العربية، استسلمت الدول العربية ورفعت الراية البيضاء. لقد تراجعوا عن قرارات الجامعة العربية في آب/ أغسطس 1967 في الخرطوم، المعروفة بـ”اللاءات الثلاث”. في آذار/ مارس 2002، بعد 35 عاماً من الصراع، وافق العرب على الاعتراف بـ "إسرائيل" وإقامة علاقات كاملة معها، استناداً إلى قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي. هكذا تمت إعادة صياغة التوجيهات الثلاثة المذكورة بصورة معاكسة: نعم للاعتراف، نعم للمفاوضات، ونعم للسلام مع "إسرائيل". المأساة هنا أننا نرفض الاعتراف بانتصارنا، ونواصل القتال. لقد حوّلنا الحرب إلى هدف بحد ذاته”.
هل نقوم بذلك لكي نتلافى اتخاذ قرارات؟
يجيب: “نعم. لكي نتلافى الجدل الذي يمزق المجتمع الإسرائيلي، ذلك الجدل الذي يتمحور حول السؤال: ما الذي جاء بنا إلى هذه الأرض كشعب؟ إن قرار الكابينيت عدم مناقشة مسألة اليوم التالي، يحول الحرب إلى نزاع عسكري من دون بوصلة سياسية. لا يمكن لنا في هذه الحالة أن نعرف النصر الذي يتم صياغته دائماً بمصطلحات سياسية، والخطر الأكبر الذي يهددنا هو أن هذه الحرب تتحول إلى هدف بحد ذاتها. لحظة دخول بيني غانتس وغادي أيزنكوت إلى الكابينيت، ومن الواضح أن انسحابهما منه سيؤدي إلى تقويض الائتلاف الحكومي، باتت الاعتبارات سياسية داخلية. من دون صياغة الهدف السياسي بصورة قاطعة، لن نتمكن من ترسيم استراتيجية خروج من الحرب، ونحن نسير، بحدقات مفتوحة، نحو الغرق في رمال غزة”.
أيالون: انتصرنا في آذار 2002. ففي مؤتمر جامعة الدول العربية، استسلمت الدول العربية ورفعت الراية البيضاء، وتراجعت عن “اللاءات الثلاث”.
وهل تعتقد أن هذه هي المشكلة الكبرى بالنسبة لـ "إسرائيل"؟
“نعم. في مجمل الخلافات، هذه هي المشكلة الأساسية. فإذا لم نقرر إلى أين سنذهب معاً، وما هي القيم التي توحدنا، فنحن نواجه خطر الاستمرار في القتال إلى الأبد، لا لشيء، إلا لأن الحروب مع الآخرين هي المراحل التي نستريح فيها من قتال بعضنا البعض. إن مقولة “معاً سننتصر” الشعار الذي ترفعه "إسرائيل" في الحرب، هي مقولة صحيحة، لكنها صحيحة في وقت الحرب فقط، عندما يفرض علينا الأعداء من الخارج وحدة وطنية لم نكن نحن الذين اخترناها. إن وحدتنا هذه فارغة من مضمونها، إذا ما كانت سبيلا لهروبنا من النقاش الحقيقي الذي نرفض إجراءه، أو لا نستطيع الخوض فيه، ربما لأن هول الخلافات قد يدفع بنا نحو الحرب الأهلية”.
هل كنّا قريبين من الحرب الأهلية بعد اغتيال رابين؟
يقول أيالون: “لم يُقتل رابين إلا لهذا السبب. بسبب إجابته عن السؤال الكبير المتمثل في من نحن، ولماذا نحن هنا؟ لقد قُتل رابين لأن حاخامات أصدروا ضده حكماً شرعياً يقضي بمطاردته، وعلى هذه الخلفية، كان هناك مَن رأى في نفسه ممثلاً للشعب، فنفّذ جريمة القتل. لم أدرك، إلا بعد أن دخلت إلى جهاز الشاباك (تم تعيين أيالون رئيساً لجهاز الشاباك بعد اغتيال رابين) الفرق الشاسع والشرخ القائم منذ ذلك الحين ومدى التغير في عمقهما”.
وهذه الأزمة وصلت إلى قمتها خلال السنة الماضية مع الانقلاب على النظام؟
“بدافع الغطرسة، قررت حكومة اليمين، قبل نحو عام، أنه يجب تغيير طبيعة النظام. إلى جانب مئات الآلاف الذين خرجوا إلى الشوارع احتجاجاً، قال جنرالات هيئة الأركان ورؤساء المؤسسة الأمنية لرئيس الحكومة وأعضاء الكابينيت، إنه يوجد تهديد قائم متعدد الجبهات، وأن الخطوة التي تقوم بها الحكومة تعرّض أمن "إسرائيل" للخطر. لقد قام وزير الدفاع في خطابه أمام الأمة بتعريف مخاطر الحرب بأنها “واضحة وفورية”، ولذلك، تم فصله فوراً. لقد رفض رئيس الحكومة والوزراء الاستماع إلى الأمر، وأوضحوا أن التحذيرات الصادرة عن الجيش هي بدافع سياسي داخلي، وهكذا، وجدنا أنفسنا متورطين في الحرب الراهنة”.
أيالون: من دون صياغة الهدف السياسي بصورة قاطعة، لن نتمكن من ترسيم استراتيجية خروج من الحرب، ونحن نسير، بحدقات مفتوحة، نحو الغرق في رمال غزة
هل تقول إن نتيجة ذلك كانت أحداث السابع من أكتوبر؟
يقول: “نعم، فالانهيار كان على عدة مستويات من النظريات الخاطئة. أولاً، كان هناك النظرية السياسية، التي بدأت في انهيار المفاوضات في كامب دايفيد مع عرفات، والتي أفادت بأنه لا يوجد في الطرف الآخر مَن نتفاوض معه، إلى جانب تصريحات إيهود باراك”.
هل تعتقد أن هناك مَن نتحدث معه في الطرف الآخر؟
“اعترفت السلطة الفلسطينية (بدولة إسرائيل) في حدود سنة 1967، ووافقت على تبادل الأراضي. كما وافقت على مناقشة حق العودة مع "إسرائيل" في إطار المفاوضات. نحن بحاجة إلى التحدث إلى أي شخص مستعد للتفاوض معنا على أساس هذه المبادئ. كان آخر مَن حاول الدفع في اتجاه خطوة لتسوية النزاع، هو أريئيل شارون، الذي قرر الانسحاب من غزة وشمال الضفة؛ لأنه أدرك أن المجتمع الإسرائيلي يضيع من بين يديه. وأيضا إيهود أولمرت. منذ عودة نتنياهو إلى ديوان رئيس الوزراء، قام بتصميم سياسات إدارة النزاع من خلال الإضعاف المقصود للسلطة الفلسطينية وتعزيز حماس، لكي يتلافى التفاوض مع السلطة بشأن تسوية سياسية”.
هل يمارس نتنياهو أيضاً سياسة فرّق تسُد؟
يؤكد أيالون: “فعلاً. لقد أخطأ نتنياهو في اعتقاده أن هذه السياسة ستُكسبه وقتاً، ورفض رؤية التهديد الكامن في حماس. لقد قال قادة الشاباك لنتنياهو: أنت لا تعرف حماس، وطالبوه بالعمل على إضعافها عسكرياً. إن الجمود السياسي يجعل حماس، في نظر الفلسطينيين، الوحيدة التي تناضل من أجل تحقيق التحرر الوطني. لقد استندت نظريتنا الخاطئة إلى الافتراض أن الفلسطينيين ليسوا شعباً، فإذا وفرنا لهم بحبوحة اقتصادية، فسيتخلون عن حلمهم بالاستقلال. في نهاية المطاف، يعرّف الفلسطينيون أنفسهم بأنهم شعب. إنهم مستعدون لأن يَقتلوا ويُقتلوا من أجل تحقيق استقلالهم، أمّا الإرهابيون الذين يُقتلون، فيتحولون إلى شهداء، في نظرهم”.
في نهاية المطاف، يعرّف الفلسطينيون أنفسهم بأنهم شعب. إنهم مستعدون لأن يَقتلوا ويُقتلوا من أجل تحقيق استقلالهم.
ما هي النظريات الخاطئة الأخرى؟
يوضح أيالون: “هناك النظرية الاستخباراتية، التي قدّرت أن حماس ارتدعت بعد حملة “حارس الأسوار” في أيار/ مايو 2021. نحن نقيس الخطورة بعدد ناشطي حماس الذين قتلناهم، والبنى التحتية والسلاح، أو الأنفاق التي دمرناها. بينما يقيس الفلسطينيون الأمر من ناحية المضمون: بالنسبة إلى هؤلاء، المقياس هو حجم التأييد الذي يحصلون عليه في أوساط الشعب. بعد كل جولة من العنف، يتضاعف تأييد حماس لأنها هي التي تحارب الاحتلال، أمّا السلطة الفلسطينية، التي لا تنخرط في العنف، فيُنظر إليها على أنها عميلة لـ "إسرائيل".
القدس العربي
إقرأ أيضاً : السنوار إلى مصر .. ونتنياهو في "صفقة سرية جديدة": هل سيغامر الاحتلال بملف الأسرى؟إقرأ أيضاً : صحافي "إسرائيلي": "لا تهمني إبادتهم أو تحويل قطاع غزة إلى كومة خراب"إقرأ أيضاً : نائب رئيس كنيست الاحتلال يجدد دعوته لحرق غزة بأهلها
المصدر: وكالة أنباء سرايا الإخبارية
كلمات دلالية: رئيس قيادة لبنان لبنان اليوم تونس أحمد العالم سياسة تركيا اليوم الحكومة الحكومة أمن الدفاع رئيس الحكومة غزة رئيس سياسة العالم قيادة مصر الصين إيران لبنان السعودية تركيا تونس سياسة اليوم الحكومة أمن بايدن الدفاع غزة الاحتلال أحمد الشعب محمد رئيس الوزراء أن الفلسطینیین الدول العربیة من أجل تحقیق صورة انتصار هذه الحرب فی نهایة کان هناک فی الحرب هناک م ن
إقرأ أيضاً:
50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم
لم يكن 30 أبريل/نيسان 1975 يوما عاديا في التاريخ الفيتنامي، فقد انتصرت فيتنام الشمالية آنذاك، وأُعيد توحيد شطري البلاد بعد حربين مع إمبراطوريتين أودتا بحياة نحو مليوني فيتنامي، وفقدت فرنسا كامل نفوذها تقريبا بالمنطقة، بينما خسرت الولايات المتحدة -التي تورطت بعدها- نحو 58 ألف جندي و120 مليار دولار في الحرب التي باتت الأكثر "إذلالًا" في تاريخها.
وبدت حرب فيتنام -أو حروبها- بتشابكاتها الدولية والإقليمية تجسيدا لنظرية "الحرب التي تلد أخرى" في ظل صراع ساخن في بواكير الحرب الباردة. فقد أدت معركة ديان بيان فو (13مارس/آذار-7 مايو/أيار 1954) عمليا إلى نهاية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في منطقة الهند الصينية برمتها، وخسرت أيضا مستعمراتها الأخرى في أفريقيا بفعل صعود حركات التحرير التي تأثرت بالمقاومة الفيتنامية، وبمفاعيل "نظرية الدومينو" العسكرية والسياسية.
اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4كوارث بيئية لا تنسى.. "العامل البرتقالي" الأميركي بفيتنامlist 2 of 4الجزيرة نت في فيتنام.. احتفالات عارمة في "هو تشي منه" بخمسينية النصر والوحدةlist 3 of 4حرب فيتنام.. خمسينية النصر والوحدةlist 4 of 4هو شي منه قائد ثورة فيتنام ضد فرنسا وأميركاend of listكانت حرب فيتنام نتاج سنوات من مقاومة الاحتلال الفرنسي للبلاد (منذ عام 1883) ثم الغزو الياباني الذي انتهى بهزيمتها في الحرب العالمية الثانية، والمد الشيوعي في المنطقة وصراع الأيديولوجيات، ومحاولات تقسيم البلاد، وبلغت أوجها مع التدخل الأميركي العسكري المباشر لمحاولة صد التوغل الشيوعي السوفياتي الصيني.
إعلانوعمليا، لم تكن حرب الهند الصينية الأولى (بين عامي 1946 و1954) معركة الولايات المتحدة، لكنها كانت تمول فعليا نحو 78% من تكلفة تلك الحرب -وفق أوراق البنتاغون المنشورة عام 1971- وتقدم مساعدات عسكرية ولوجستية ضخمة لفرنسا، خوفا من التمدد الشيوعي وسيطرة الصين على المنطقة وصعود الاتحاد السوفياتي إذا هزمت القوات الفرنسية.
كما ناقش المسؤولون الأميركيون -تبعا لهواجسهم تلك- دعما إضافيا لفرنسا ضمن ما عرف بـ"عملية النسر" (Operation Vulture) وهي مقترح خطة عسكرية كبيرة، من أجل إسناد الفرنسيين في معركة ديان بيان فو، وضعها الرئيس دوايت آيزنهاور (حكم بين 1953 و1961) ومستشاروه.
وتضمنت العملية -اعتمادا على وثائق رفعت عنها السرية- قصفا مركزا ومكثفا مع احتمال استخدام قنابل ذرية اقترح تقديمها لفرنسا، وتدخلا بريا. لكن العملية لم تنفذ في النهاية وانسحبت فرنسا بخسائر فادحة، بعد توقيع اتفاقية جنيف للسلام في يوليو/تموز 1954 التي نصت على تقسيم فيتنام إلى شطرين، ولم توقع الولايات المتحدة وحكومة سايغون الموالية لها على الاتفاق رغم حضورهما. وبدأ التورط الأميركي العسكري تدريجيا لحماية النظام الموالي لها في فيتنام الجنوبية ومحاربة المد الشيوعي، إلى حد التدخل المباشر والمعلن عام 1963.
في منتصف عام 1968، وتحت ورطة الفشل في حرب فيتنام، اعتمد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1969-1974) على مبدأ تحقيق "السلام بالقوة" عبر "المزيد من قاذفات بي 52" التي أوصاه بها وزير خارجيته هنري كيسنجر، مبتدعا ما سماها "نظرية الرجل المجنون".
ويكشف رئيس موظفي البيت الأبيض بوب هالدمان في مذكراته عام 1994 عن إستراتيجية الرئيس نيكسون لإنهاء حرب فيتنام التي أسرّ له بها قائلا "أنا أسميها نظرية الرجل المجنون، بوب.. سنرسل لهم رسالة مفادها يا إلهي، أنتم تعلمون أن نيكسون مهووس بالشيوعية لا يمكن كبح جماحه عندما يكون غاضبا ويده على الزر النووي.. سيصل هو شي منه (الزعيم الفيتنامي) بنفسه إلى باريس في غضون يومين ويطلب السلام".
إعلانوكتب هالدمان أن الرئيس نيكسون سعى إلى تنفيذ إستراتيجية التهديد باستخدام القوة المفرطة لتقويض خصومه، وإجبارهم على الاستسلام أو التسوية. وبهذه الطريقة، يصبح عدم يقين الفيتناميين بشأن الخطوات المستقبلية للزعيم "أداة إستراتيجية في حد ذاتها".
وفي 4 أبريل/نيسان 1972 قال نيكسون لهالدمان والمدعي العام جون ميتشل "لم يُقصف الأوغاد قط كما سيُقصفون هذه المرة" عند اتخاذه قرارا بشن ما أصبح يُعرف باسم عملية "لاينباكر التي مثلت تصعيدا هائلا في المجهود الحربي، الذي شمل قصف ميناء هايفونغ، وحصار ساحل فيتنام الشمالية، وحملة قصف جديدة ضخمة ضد هانوي.
ولا تثبت الوقائع التاريخية أن الزعيم الفيتنامي هو شي منه خضع لنظرية "الرجل المجنون" عندما تم توقيع اتفاق السلام في باريس يوم 23 يناير/كانون الثاني 1973، لكن الولايات المتحدة استخدمت قوة هائلة ومفرطة لمحاولة إخضاع الفيتناميين، وفكرت في استعمال السلاح النووي.
كانت نظرية "الرجل المجنون" تجسيدا للإحباط الذي أصاب الإدارة الأميركية من صمود المقاومة الفيتنامية والخسائر الفادحة في صفوف الجيش الأميركي، ومن حركة الرفض الواسعة للحرب في المجتمع الأميركي، واهتزاز الضمير العالمي من المشاهد المؤلمة للمجازر البشعة، سواء في مذبحة "ماي لاي" في 16 مارس/آذار 1968 التي قتل فيها 504 من المدنيين العزل، وغيرها من المجازر.
وفي المقابل، كانت نظرية الجنرال فو نغوين جياب قائد قوات قوات "الفيت منه"(رابطة استقلال فيتنام) تراوح بين خطتي "هجوم سريع.. نصر سريع" و"هجوم ثابت.. تقدم ثابت" واعتماد الحرب الشعبية وحروب العصابات الخاطفة واستنزاف العدو، حيث يقول في مذكراته "إن كل واحد من السكان جندي، وكل قرية حصن" وكانت نظريته أن حرب العصابات هي "حرب الجماهير العريضة في بلد متخلف اقتصاديا ضد جيش عدواني جيد التدريب".
بدأ التورط الأميركي عمليا في حرب فيتنام بعد خروج القوات الفرنسية، ومنذ عام 1961 أرسلت واشنطن 400 من الجنود والمستشارين لمساعدة حكومة سايغون الموالية في مواجهته قوة هو شي منه الشيوعية، ومع التوصيات بزيادة المساعدات استجاب الرئيس جون كينيدي. وبحلول عام 1962 زاد الوجود العسكري الأميركي في جنوب فيتنام إلى نحو 9 آلاف جندي.
إعلانومع بداية عهد الرئيس ليندون جونسون (1963-1969) -الذي منحه الكونغرس صلاحيات واسعة في الشؤون الحربية- بدأت القاذفات الأميركية تنفيذ عمليات قصف منتظمة على فيتنام الشمالية وقوات "الفيت- كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام). وفي مارس/آذار 1965، بدأ تدفق القوات الأميركية إلى فيتنام الشمالية، حتى وصل إلى 200 ألف عام 1966، ثم نحو 500 ألف في نوفمبر/تشرين الثاني 1967.
وكانت قوات الزعيم هو شي منه، وقائد العمليات الجنرال جياب، تعتمد على التكتيكات الحربية النوعية والهجمات الخاطفة والكمائن والأنفاق والحرب الطويلة الأمد كما كانت تعتمد على الإمدادات القادمة من كمبوديا ولاوس المجاورتين، وعلى الدعم النوعي الذي تتلقاه من الصين ومن الاتحاد السوفياتي، خصوصا منظومات الدفاع الجوي التي أسقطت عشرات قاذفات "بي-52". ومع بداية عام 1968 بلغت الخسائر الأميركية 15 ألف قتيل و109 آلاف جريح.
وفي المقابل، زادت الولايات المتحدة من وتيرة القصف الجوي العنيف واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا مثل "النابالم" وما سمي "العامل البرتقالي" -الذي يحتوي على "الديوكسين" وهو أكثر تلك المبيدات ضررا وفتكا- على فيتنام ولاوس وكمبوديا، ومازالت آثاره البيئية الخطيرة قائمة.
لم تكن الخسائر البشرية لوحدها ذات التأثير الأكبر فيما اعتبر هزيمة أميركية عسكرية وأخلاقية في فيتنام، فقد مثلت تلك الحرب أول "حرب تلفزيونية" مع بروز سطوة التلفزيون والصورة، وكانت للتقارير الإعلامية عن المجازر في فيتنام ذات تأثير واسع في الرأي العالم الأميركي والعالمي وفي قرارات الإدارة الأميركية لاحقا، خصوصا صورة "طفلة النابالم" التي كانت تجري عارية بعد أن أسقطت طائرة أميركية مادة النابالم الحارقة على قريتها في 8 يونيو/حزيران 1972.
إعلانوفي 29 أبريل/نيسان 1975، ألقى الرئيس الأميركي جيرالد فورد (1974-1977) بيانا أعلن فيه إجلاء الموظفين الأميركيين من فيتنام قائلا "تعرض مطار سايغون لقصف صاروخي ومدفعي متواصل، وأُغلق بالكامل. تدهور الوضع العسكري في المنطقة بسرعة. لذلك، أمرتُ بإجلاء جميع الموظفين الأميركيين المتبقين في جنوب فيتنام" وكانت تلك نهاية الوجود الأميركي في هذه البلاد، ودخول قوات الجنرال جياب إلى المدينة اليوم التالي.
ولا تزال مجريات حرب فيتنام، بمآسيها وصمود مقاومتها وتوحيد شطريها، من بين أحداث العالم الفارقة خلال القرن العشرين، وواحدة من الحروب التي غيّرت وجه الولايات المتحدة والعالم بأبعادها العسكرية والسياسية وآثارها الإنسانية، كما باتت تكتيكاتها وأساليبها تدرس في الكليات العسكرية، وتتبعها حركات مقاومة أخرى حول العالم.
وبينما تحتفل بالذكرى الخمسين ليوم تحرير الجنوب وإعادة التوحيد الوطني، لم تعد مدينة سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية سابقا) -التي باتت تسمى هو شي منه نسبة إلى الزعيم الأسطوري لفيتنام- رهينة جراحات الماضي الأليم وأهواله، فقد تحولت على مدى الـ50 عاما الماضية إلى مدينة ناطحات سحاب براقة، وأعمال مزدهرة ومركز صناعي حيوي ونقطة جذب سياحية عالمية.