فشل في الحرب فشل في السلام
تاريخ النشر: 10th, January 2024 GMT
فشل في الحرب فشل في السلام
خالد فضل
والعالم كله ينادي لا حسم عسكري للصراع في السودان، من الداخل انطلقت الأصوات الوطنية المخلصة التي قلبها وعقلها على السودان، قوى الثورة بأجمعها حرية وتغيير، لجان مقاومة، جذرييون، نشطاء مجتمع مدني…الخ. السودانيين في المهاجر والمتافي والملاجيء، في أقبية النزوح، في عرض البحار وسط الأمواج على السنابك ينادون جميعاً لا للحرب وخيارها المدمر، دول الجوار، الإيفاد، الاتحاد الأفريقي، الجامعة العربية، منظمة المؤتمر الإسلامي، الأمم المتحدة، الاتحاد الأوروبي، الترويكا، الرباعية، الوسطاء، الخبراء جميعهم يقولون ذات الكلمات بمختلف الغات لا حسم عسكري للصراع في السودان، فمن ذاك الماجد من بني السودان الذي يعلم فوق علم العالمين إلا أن يكون مغروراً أو أبلهاً لا يعي فيردد نعم للحسم العسكري، أو مأجوراً يتقاضى ثمن تطبيله للحرب وتحريضه عليها، أو مغبوناً يتصور أن ملكا قد نزع منه، أو إرثاً من أبيه قد حجب عنه، أو ملكية خاصة قد تم تأميمها عنوةً، هؤلاء هم وقود الحرب الكريهة، هم أساطينها وروادها وما من صاحب ضمير حي على العموم يحب أن يكون في هذا الموضع.
إن تاريخ الحروب في السودان ممتد بعقود الاستقلال التي لامست السبعين عاماً، وكل هذا التاريخ الممضِ شهد فشلاً ذريعاً في الحسم العسكري لكل الصراعات الدامية التي كان الطرف الأساسي فيها الجيش السوداني مع الأسف ضد نفر من السودانيين في جهات الوطن كلها تقريبا، ومع ذالك لم ييأس أباطنة المؤسسة السودانية العسكرية من الحسم العسكري، السجل حافل بلغة السحق و الويل والثبور للمردة والشياطين من المناوئين يكون ذالك عادة في أول الصراع وفي أوسطه أما آخر كل حرب في السودان فكانت اتفاقية سلام يذعن فيها المتشددون والرافضون لأسوأ مما كان يتطلبه الأمر في أوله، ومع ذالك يعاودون الكرة كل مرة وفي كل مرة تزداد قسوة الشروط، حدث ذالك مع الجنوب في أنانيا الأولى وأنانيا الثانية فمن مطلب الفيدرالية على أول عهد الاستقلال إلى الحكم الذاتي في اتفاقية أديس أبابا إلى تقرير المصير في نيفاشا كانت هذه تبعات اتفاقية السلام التي فشل الحكام العسكريون في فرصها المتاحة لتجاوز الكارثة وتجنيب شعبهم وبلادهم ويلات الحروب إذ سرعان ما تندلع الحرب في قعر كل اتفاقية سلام، ثم انفصل الجنوب تماماً أراح نفسه من نقض العهود والمواثيق واصابه القنوت من وحدة وطنية تكفل للإنسان حقا وترعى فيه تطلعات العيش الكريم، حدث ذالك مع اتفاقات دارفور التي أفرغت كلها من مضامينها، فعاد مني أركو مناوي يتشكى من أنه مساعد حلة وأن اتفاقية أبوجا قبرت مع مجذوب الخليفة في طيبة الخواض وعاد يمتشق بندقيته ليحارب، وفي حربه الأخيرة ظهر له بعبع جديد من رحم القوات المسلحة اسمه قوات الدعم السريع التي قال قائدها ذات مرة انه طرد المتمردين من السودان إلى ليبيا ليشتغلوا هناك كمرتزقة في الحروب الليبية المستعرة أما اتفاقية الدوحة فقد انتهت إلى سراب وتلاشت الوديعة الفطيرة إلى الجيوب الشرهة للدولار والريال بحسب ما صرح به د. تاج الدين نيام أحد الموقعين على تلك الوثيقة، إنه فشل في السلام تحت الحكم العسكري، عاد مني وجبريل وآخرون محمولين على اشرعة الوعد بوطن جديد وأكف الثوار وحناجرهم تهتف كل البلد دارفور يا عنصري ومغرور كان ذالك جواز العبور لسودان جديد ما فيو عرق ما فيو عنصرية ما فيو قبلية عواليق نخليها كما غنى المغني الشاب بحق، أسمتهم الثورة قوى الكفاح المسلح عوضا عن الدمغة العسكرية الثابتة عملة وخونة ومتمردين، بعضهم رد التحية للثورة والثوار وانحازوا لقوى السلام ورفض الحرب و بعضهم استمرأ الوظيفة ولو كانت شقة في بورتسودان، إنه فشل في الحرب وفي السلام.
الآن تتحول الحرب المستعرة منذ 15 أبريل من العام الماضي إلى طور كارثي باستنفار القبائل واستنهاض المناطق وعسكرة المدنيين ليكونوا وقودا لحرب عبثية خاسرة كما أسماها قائد الجيش وقائد الدعم السريع، تتمدد رقعتها لتغطي عشر ولايات وتحاصر الحادية عشر والثانية عشر والثالثة عشر ومع ذالك ينهض من يقول لا للسلام نعم للحرب، فهل هو وباء مسلط على السودان أم هو تدبير رباني يريد بنا خيراً بعد هذا الشر المستطير بأن يفنى والى الأبد دعاة الحروب في السودان مشعولوها وتجارها والمتكسبين من ريعها الحرام، أم هو قصور في الوعي يجعل من السذاجة زاداً بتقوى به دعاة الحرب ووقودها ولو كانوا في الفلاة على ظهور الحمير، مساكين هؤلاء المدنيين الذين يستجلبون بنداء القبيلة أو المنطقة ليكونوا دروعا بشرية تقضمهم آلة الحرب وتشوي أجسادهم النحيلة ليكون فلان حاكما وعلان وزيرا وذاك مستثمرا وهم في فقرهم يعمهون وبأسمالهم يتسربلون عدمانيين من جنس حكيما ولا خبيرا للمشروع كما قال الراحل حميد، لا للحرب نعم للسلام، لا للتخلف نعم لتقدم.
الوسومالحرب السلام خالد فضل فشل لا للحربالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الحرب السلام خالد فضل فشل لا للحرب
إقرأ أيضاً:
تحديات السودان مع مطلع 2025
في نهاية 2024 يبدو المشهد في السودان مختلفاً تماماً عما كان عليه في الأيام الأخيرة من العام الماضي. آنذاك واجه الجيش خسارة كبيرة عندما اجتاحت «قوات الدعم السريع» مدني، عاصمة ولاية الجزيرة و«صرة السودان»، بعد انسحاب قيادة الفرقة الأولى مشاة من دون معارك تذكر. تبع ذلك موجة من التساؤلات بشأن مسار الحرب، وحملات من التشكيك بعد أن خسر الجيش مواقع عديدة ومدناً حيوية، وتمددت «قوات الدعم السريع» في مساحات شاسعة، ومعها اتسعت دائرة النزوح القسري للمواطنين، ودورة الانتهاكات الفظيعة والتدمير الممنهج لقدرات البلاد.
اليوم تظهر الصورة مختلفة بشكل كبير بعد الانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش السوداني والقوات المشتركة وكتائب الإسناد من المستنفرين، متمثلة في استرداد مناطق استراتيجية، واستهداف خطوط الإمداد بما في ذلك تدمير قاعدة الزرق في شمال دارفور التي تعد أهم قواعد «قوات الدعم السريع» وشريان الإمداد بالوقود وشحنات الأسلحة القادمة من الخارج. في غضون ذلك واصل الجيش وحلفاؤه التقدم نحو مدني، واستعادوا السيطرة على معظم أنحاء مدينة بحري وتقدموا للالتقاء مع القوات التي كانت معزولة في سلاح الإشارة، ليبدأ من هناك الزحف لاستكمال استعادة الخرطوم.
ينظر كثيرون إلى هذه التطورات المتسارعة كمؤشر على نقلة نوعية في مسار الحرب توحي بأن مطلع العام الجديد سيشهد تحولات ميدانية ستكون لها انعكاساتها على مجمل الأوضاع، مع تغير موازين القوى بشكل كبير وواضح. ومع ذلك، فإن مستقبل الوضع في السودان يعتمد على جملة من العوامل العسكرية، والسياسية، والإنسانية، والاقتصادية، والخارجية أيضاً.
الانتصارات العسكرية التي تحققت للجيش وحلفائه تمثل فرصة حقيقية لتعزيز الجهود نحو إنهاء الحرب، لكنها ليست حلاً نهائياً بحد ذاتها. فالوضع أعقد من ذلك بكثير، والمعالجات تحتاج إلى نظرة متعمقة في كيفية معالجة آثار هذه الحرب التي هزت السودان بشكل غير مسبوق، وأحدثت فيه جروحاً غائرة واستقطاباً حاداً، بما يستدعي تضافر الجهود، ورؤية حكيمة لكيفية عبور هذا المنعطف بسلام وبالطريقة التي تحافظ على وحدة السودان، وتصد عنه المكايد والمؤامرات التي غذت هذه الحرب.
خلال العام الجديد يمكن أن يشهد السودان نقلة مهمة إذا تم البناء على التحولات العسكرية الأخيرة بطريقة استراتيجية وشاملة تعالج الأزمة بمختلف أبعادها. فتحقيق السلام يتطلب أكثر من الانتصار في المعارك؛ إنه يتطلب رؤية للمعالجة السياسية تتجاوز دعوات الإقصائيين، وتفتح الباب أمام الحوار الشامل، الذي من دونه لن يكون هناك حل حقيقي، أو استقرار يحقق للبلد الوقوف على قدميه لمواجهة حرب أخرى أصعب هي إعادة البناء والإعمار، وجذب المساعدات والاستثمارات الضرورية في المرحلة المقبلة.
التحديات كثيرة، والطريق لن يكون سهلاً. بداية هناك التحدي المتعلق بكيفية معالجة الوضع الإنساني المتفاقم، والمعاناة التي تشتد كلما طال أمد الحرب. فالسيطرة على الأرض لا تعني انفراجاً إذا لم يتبعها توفير الظروف الأمنية، والخدمات الأساسية التي تتيح عودة النازحين والمهجرين إلى ديارهم، وتضمن تقديم الإغاثة العاجلة التي يحتاجونها. فالسودان اليوم يواجه واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية المركبة نتيجة التهجير القسري، والتدمير الممنهج للبنى التحتية والمنشآت الخدمية، وتعطل وسائل الإنتاج، وشل الحياة الطبيعية بما في ذلك العمل والتعليم.
تحدٍّ آخر سيتمثل في الطريقة التي سترد بها «قوات الدعم السريع»، والأطراف الخارجية الداعمة لها، وهل ستمضي في الحرب بما يعني إطالة أمدها. فالواضح الآن وفقاً للتحولات في الميدان، وفي موازين القوى، أن محاولة فرض السيطرة على السودان تبددت، وأن أقصى ما يمكن أن يحدث هو فرض واقع تقسيمي في غرب البلاد إلى حين، أو حدوث تحول في موقف الجيش الأخير وقبوله العودة إلى منبر جدة، للتفاوض هذه المرة على شكل انتهاء الحرب انطلاقاً من مفهوم أن الحروب تنتهي عادة بترتيبات عبر التفاوض حتى ولو كان هناك نصر ميداني.
في هذا الإطار فإن هناك عدة أسئلة شائكة مثل: هل بعد كل الانتهاكات التي حدثت، يمكن أن يكون هناك دور لـ«الدعم السريع» في أي مشهد مستقبلي؟ وهل يمكن استيعابها في الجيش الوطني «المهني» الواحد الذي يفترض أن يكون من بين أهداف وخطط مرحلة ما بعد الحرب التي ستشمل أيضاً الفصائل والحركات المسلحة الأخرى؟ وهل أن منحها أي دور مستقبلي سيعني نهاية الحروب في السودان، أم أنه سيشجع آخرين على تكرار تجربتها بكل مرارتها؟
يبقى بعد ذلك التحدي المتمثل في الإرادة السياسية للحل، وما إذا كانت الانتصارات الأخيرة التي حققها الجيش وحلفاؤه ستفتح مجالاً للبدء في خطوات نحو إطلاق حوار وطني سياسي شامل حول مستقبل السودان، وكيف يُحكم بما يحقق له الاستقرار، ويفتح طريق التنمية المتوازنة والمستدامة، ويعالج القضايا الجوهرية المتجذرة بما ينهي دوامة الحروب المستمرة منذ ما قبل الاستقلال والتي كبلت البلد وكلفته أثماناً باهظة.