بقلم د. أمجد إبراهيم سلمان
احتضنت القاعة الخامسة عشرة في الحي الثقافي كتارا بالعاصمة القطرية الدوحة ندوة بعنوان "المتنبي الطائر المحكي" قدمها الأديب السوداني و الأستاذ الجامعي الدكتور الصدّيق عمر الصدّيق أستاذ الأدب العربي بكلية الآداب جامعة الخرطوم. الندوة قامت بمبادرة من المركز الثقافي السوداني و جمعية اللغة العربية في قطر ومركز حوكمة ، و قد قدّم الندوة باقتدار الأديب و الناقد القطري الأستاذ جمال فائز.


د. الصديق الذي نال درجة الدكتوراة في اللغة العربية في تخصص الأدب القديم تحديداً و كانت أطروحته للدكتوراة في الشاعر سحيم عبد بني الحسحاس ، قدّم محاضرة رفيعة المستوى عميقة المعاني و الدلالات عن أبي الطيب الشاعر الفذّ. و إن كان المعروف و الشائع عن المتنبي هو الاكليشيهات المعتادة على شاكلة هجوه لكافور الإخشيدي و قصيدته الأشهر: الخيل و الليل و البيداء تعرفني.. فقد خلت محاضرة د. الصديق عن كل تلك القوالب الجاهزة و الوجبات السريعة في المعرفة ، و لكنها احتوت على غوص عميق في شخصية المتنبي الشاب و معرفته العميقة بأسرار حياة البادية و التي أمضى فيها سنوات عديدة و استشهد بأمثلة دقيقة لذلك من أن النمل قد يقتل شبل الأسد و أن هناك أماكن معينة أثناء هطول لا تنزل فيها قطرة واحدة من المطر.

استرسل محدثنا في استعراض شخصية المتنبي المعتد بنفسه لدرجة الغرور مستشهداً بالكثير من القصائد و أكثرها دلالة عن الزهو بالنفس على شاكلة
وما الدَهرُ إِلّا مِن رُواةِ قَلائِدي
إِذا قُلتُ شِعراً أَصبَحَ الدَهرُ مُنشِداً
فَسارَ بِهِ مَن لا يَسيرُ مُشَمِّرا
وَغَنّى بِهِ مَن لا يُغَنّي مُغَرِّدا
أَجِزني إِذا أُنشِدتَ شِعراً فَإِنَّما
بِشِعري أَتاكَ المادِحونَ مُرَدَّدا
وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني
أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى

و تعرّض أستاذنا الموهوب لسر خلود و ذيوع قصائد المتنبي ذلك لأنه جسّد فحولة الشاعر العربي و اعتداده بنفسه لدرجة أنه اشترط على سيف الدولة الحمداني أن لا يُقبّل الأرض بين يديه و أن لا ينشد شعره إلا و هو جالس عكس ما جرت عليه العادة بين الشعراء و هم في حضرة الملوك و الأمراء.
و دلف محدثنا الدمث إلى تجليات تأثير المجتمعات التي عاش فيها المتنبي على شعره ، و كيف أنه تعلم من أهل مصر روح الدعابة و القفشات و انعكست في أشعاره. و بيّن أن من مواطن إبداع أبي الطيب إحكام الصياغات الشعرية ، بحيث تنساب التعابير بين يديه في سلاسة و إتقان حتى يخيل للمرء أنه هو من ألّف تلك الأقوال المأثورة بينما كانت قدرته المبهرة في نسجها في صياغات محكمة صارت مضربا للأمثال بين الناس إلى يومنا هذا على شاكلة
وقد فارَقَ الناسَ الأَحِبَّـةُ قَبلَنا، وأَعيا دواءُ المَوت كُلَّ طَبِيبِ
أو قوله
ومـن صَحبَ الدُنيا طَويلًا تَقَلَّبَـتْ على عَينهِ، حـتَّى يَرَى صِدْقَها كِذْبًا

و انتقل بنا د. الصدّيق إلى مشهد رحيل جدة المتنبي و هي تتحرّق شوقاً لرؤيته بعد أن مُنِع من دخول الكوفة كي يراها فبعث إليها بكتاب ينبئها بذلك فلما قرأته بكت ثم أصابتها الحمى فماتت جدته وجْداً و شوقاً إليه و كان يحبها حبا شديداً
فأنشد.. قائلاً
أَلا لا أَرى الأَحداثَ حَمداً وَلا ذَمّا
فَما بَطشُها جَهلاً وَلا كَفُّها حِلما
إِلى مِثلِ ما كانَ الفَتى مَرجِعُ الفَتى
يَعودُ كَما أُبدي وَيُكري كَما أَرمى
لَكِ اللَهُ مِن مَفجوعَةٍ بِحَبيبِها
قَتيلَةِ شَوقٍ غَيرِ مُلحِقِها وَصما
أَحِنُّ إِلى الكَأسِ الَّتي شَرِبَت بِها
وَأَهوى لِمَثواها التُرابَ وَما ضَمّا.

حتى وصل إلى البيت القائل...
وَلَو لَم تَكوني بِنتَ أَكرَمِ والِدٍ
لَكانَ أَباكِ الضَخمَ كَونُكِ لي أُمّا

و هنا توقف د. الصديق مليّاً عند هذا البيت قائلاً إن العميد طه حسين فسّره بأن نسب أبي الطيب نسب غير شريف ولكن الأستاذ محمود محمد شاكر و هو باحث مُجد يرى أن ذلك البيت يوضح بجلاء كرم محتد أبي الطيب و أضاف مستدلاً ببيت آخر أعقب هذا البيت يقول فيه
و إنّا لمن قوم كأن نفوسهم بها أنَفٌ أن تسكن اللحم و العظم

أعقبت الندوة مداخلات عميقة من الضيوف الذين جاؤوا من بلدان عربية مختلفة كقطر و موريتانيا و مصر و العراق و السودان.. وأسرّ لي الصديق الدكتور محمد وليد وهو استشاري عيون سوري الأصل سوداني الثقافة أن د. الصديق كنز معرفي يجب أن يروج له.. و قد صدق.

امتلأت الصالة بالحضور لدرجة أن الكثيرين آثروا الوقوف لمدة طويلة لجزالة الطرح و قوة العبارة و روعة الإلقاء. لا يسعني هنا إلا أن أعبر عن كل الإمتنان لمنظمي هذه الندوة الجميلة خاصة الجمعية القطرية للغة العربية و المركز الثقافي السوداني في الدوحة و مركز حوكمة. و يقيننا أن لهذه الندوة ما بعدها فقد مدت جسوراً ثقافية متعددة بين الجالية السودانية و غيرها من الجاليات العربية و وضعت الحراك الثقافي السوداني في بؤرة الاهتمام.

د. أمجد إبراهيم سلمان
ع9 يناير 2024
Whatsapp 0031642427913
amjadnl@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

شهداء الشرطة حائط الصد أمام مخططات شياطين الظلام

فى ذكرى عيد الشرطة الذى يُحتفل به فى 25 يناير، نتذكر تضحيات رجال الشرطة الذين قدموا أروع الأمثلة فى التضحية والفداء دفاعًا عن الوطن. 
دائما ما يكون رجال الشرطة فى طليعة حراس الأرض والمقدرات، حائط الصد الأول أمام محاولات إثارة الفوضى والظلام، يسعون جاهدين لاستقرار البلاد وإعادة الأمن والطمأنينة بعد فترات من التوتر والخوف.
ولا تزال بطولات رجال الشرطة تتجدد عبر الأجيال، حيث يستمرون فى تقديم أبهى صور التضحيات، ويدفعون ثمن الدفاع عن الوطن من أرواحهم، ويسقط العديد منهم شهداء وهم فى ساحة المعركة ضد العناصر الإرهابية، بهدف تطهير تراب الوطن والحفاظ على أمنه واستقراره.
ونقدم فيما يلى أمثلة من أبطال الشرطة الذين ضحوا بحياتهم من أجل أمن الوطن.
المقدم محمد مبروك
12 عاما مروا على استشهاد البطل المقدم محمد مبروك الضابط بقطاع الأمن الوطنى، الذى سجل اسمه بأحرف من ذهب مخلدا بطولته فى التاريخ المصرى مثله مثل جميع شهداء الجيش والشرطة الذين ضحوا بدمائهم للدفاع عن أمن واستقرار الوطن، حيث استهدفته جماعة الإخوان الإرهابية يوم 18 نوفمبر 2013 بعد خروجه من مسكنه بمدينة نصر متوجها إلى عمله فى عملية إرهابية خسيسة نفذها 7 أشخاص ملثمين، فتحوا النيران على الشهيد وكانوا يستقلون سيارتين ملاكى بدون لوحات معدنية، ومن على بعد 5 أمتار أمطروا جسد الشهيد برصاصات الغدر مما أدى إلى استشهاده على الفور.
الرائد ضياء فتحى
فى السابع نوفمبر عام 2015 شيّع الآلاف من أهالى الشرقية، جثمان خبير المفرقعات، الرائد ضياء فتحى فتوح الذى استشهد خلال محاولته تفكيك قنبلة بدائية الصنع بجوار قسم شرطة الطالبية فى الجيزة.
وتقدم صفوف المشيعين عدد من القيادات الأمنية والتنفيذية، على رأسهم المحافظ سعيد عبدالعزيز، ومدير الأمن اللواء سامح الكيلانى، ومدير المباحث اللواء رفعت خضر، وموفد عن رئاسة الجمهورية، وعدد من زملاء الشهيد، وأفراد أسرته.
المقدم رامى هلال
استشهد المقدم رامى هلال الضابط بقطاع الأمن الوطنى بوزارة الداخلية، فى حادث الدرب الأحمر مساء الاثنين 18 فبراير 2019، أثناء القبض على شخص من الجماعة الإهابية، قام وقتها الإرهابى بتفجير نفسه فى القوة الأمنية كان من بينهم «هلال».
الرائد مصطفى عبيد
استشهد الرائد مصطفى عبيد فى انفجار عبوة ناسفة فى محيط كنيسة العذراء وأبو سيفين بعزبة الهجانة بمدينة نصر، أثناء قيامه بواجبه بفحص حقيبة وجدت بجوار كنيسة السيدة العذراء والشهيد أبو سيفين بعزبة الهجانة فى مدينة نصر، تبين أن بها عبوة ناسفة، انفجرت ما أدى إلى استشهاده.
النقيب عبدالمجيد الماحى
استشهد النقيب عبدالمجيد الماحى الضابط بالقوات الخاصة، فيما أصيب اللواء ناصر حسين بنزيف فى المخ، إثر تفجير عبوة ناسفة فى مدرعة أمن مركزى أثناء توزيع تعيينات السحور على الخدمات فى سيناء.
الرائد مصطفى حمدون
استشهد الرائد مصطفى حمدون ضابط الأمن المركزى خلال حملة أمنية بقرية المعابدة التابعة لمركز أبنوب فى محافظة أسيوط، أثناء ضبطه مجموعة من الخارجين عن القانون.
النقيب مصطفى سمير بدوى
استشهد النقيب مصطفى سمير الضابط بإدارة المرور، أثناء قيامه بعمله بفحص رخص السيارات بمدينة كفر شكر، وتسيير الحركة المرورية بشارع الخليفة المأمون، ونظرا لوجود زحام شديد، مرّ «يونس. أ» 24 عام وطلب منه الضابط فحص سيارته، وسحب رخصته، فاعترض المتهم على سحب الرخصة وترجل من سيارته، ونشبت بينهما مشادة كلامية، وسحب المتهم السلاح الميرى من الضحية، وأطلق عيارين ناريين أصاب أحدهما الضابط فى صدره.
العقيد هشام أبوالعزم
استشهد العقيد هشام محمود أبو العزم شاهين، ضابط شرطة، فى 4 نوفمبر 2016 برصاص مسلحين فى شارع الأزهر بالعريش بشمال سيناء.
وقال شهود عيان: «مسلحون على دراجة نارية أطلقوا الرصاص على الضابط أمام منزله أثناء انطلاقه بسيارته، ثم فروا هاربين، وعادوا مرة أخرى وأطلقوا النار من جديد عليه للتأكد من مقتله، ونقل الأهالى الضابط إلى المستشفى وفارق الحياة قبل وصوله إليه.
وتواصل وزارة الداخلية تكريم رجال الشرطة الأبطال الذين استشهدوا أثناء دفاعهم عن الأمن العام ومحاربة الإرهاب، فى مسعى لدحر العناصر الإرهابية التى تهدد أرض مصر.
يظل رجال الشرطة حراسًا للسلم الأهلى، يقدمون ما فى وسعهم لحماية المواطنين والمؤسسات الحكومية من مختلف المخاطر، ويتعرضون لمواقف صعبة لتحقيق الأمن واستقرار الشارع المصرى.
وقد أطلقت وزارة الداخلية مبادرات تكريمية لتخليد أسماء هؤلاء الأبطال، من خلال الترقية الاستثنائية لأسمائهم، وتسميتها على منشآت حكومية ومدارس، إضافة إلى تكريمهم فى المناسبات الوطنية.
وتستمر جهود وزارة الداخلية لتطوير الخطط الأمنية لمكافحة الإرهاب، وتنفيذ ضربات استباقية ضد العناصر الإرهابية، حفاظًا على أمن البلاد، وتحظى أسر الشهداء بعناية خاصة، من خلال تقديم كافة أشكال الدعم والرعاية، بما فى ذلك توفير فرص تعليمية، منح دراسية، توفير فرص عمل، ورعاية صحية. 
وتحرص الدولة على تذليل الصعوبات التى يواجهها أبناء وأسر الشهداء من رجال الشرطة، إذ تمنحهم الدولة دعمًا معنويًا ونفسيًا متواصلاً، وتكفل لهم فرصًا للحج أو المشاركة فى الأنشطة الرياضية والثقافية، تقديرًا لتضحياتهم التى حفظت أمن الوطن.

مقالات مشابهة

  • تعرّف على فعاليات اليوم الثالث من البرنامج الثقافي لمعرض الكتاب
  • فعاليات اليوم الثالث من البرنامج الثقافي لمعرض القاهرة للكتاب في دورته الـ56
  • فعاليات اليوم الثالث من البرنامج الثقافي لمعرض القاهرة الدولي للكتاب في دورته الـ56
  • مشروع صون التراث الثقافي السوداني الحي بشمال كردفان
  • جماهير الزمالك تحتفي بالتأهل إلى نهائي البطولة العربية للطائرة
  • أثر اللغة العربية على الثقافة الأفريقية فى نقاشات معرض القاهرة للكتاب 2025
  • شهداء الشرطة حائط الصد أمام مخططات شياطين الظلام
  • "العوامل المحددة لحاضر المدينة العربية ومستقبلها» ندوة بمكتبة الإسكندرية
  • العوامل المحددة لحاضر المدينة العربية ومستقبلها.. ندوة بمكتبة الإسكندرية
  • الأحد .. مكتبة الإسكندرية تنظم ندوة عن حاضر المدينة العربية ومستقبلها