ثقافة الأزمة ومآلاتها السياسية
تاريخ النشر: 10th, January 2024 GMT
أن الأزمة في توصيفها المعرفي عند البعض؛ هي الحالة المعقدة و المستعصية على الحل من قبل النخبة الساعية لحلها. و عندما تفشل النخب السياسية على حل الأزمة، تكون قد عترفت بطريق غير مباشر أو حتى مباشر بإنها لا تلك العقل المفكر الذي يساعدها على الحل، و أنها أيضا لا تملك الأدوات المساعدة التي يمكن توظيفها بعيدا عن عملية الاستقطاب السياسي، و بالتالي يستوجب فشلها أن تبارح مكانها، و تفتح الطريق إلي نخب جديدة تواصل عملية الحل، ربما يكون لها رؤى جديدة تساعد على الحل.
أن عملية التغيير في أي مجتمع لكي تنجح تحتاج لقيادات تدرك دورها المطلوب، و أيضا مستوعبة للتحديات التي سوف تواجه مسيرتها في عملية التغييرإذا كانت داخلية أو خارجية، و تعرف كيف التعاطي معها. و الغريب أن النخب السياسية رغم إنها تدين الآخرين في استخدامهم للمنهج التبريري في مواجهة الفشل و العجز، هي نفسها تعتمد على التبرير في مواجهة أخطائها، الغريب إنها ترفع شعار عملية التحول الديمقراطي الذي يتطلب التحول من المنهج التبريري إلي المنهج النقدي. أن النخب السياسية ظلت تحافظ على المنهج التبريري الذي أضحي واحدا من أعمدتها الثقافية، هذا المنهج لم يكون داخل جدران ساحة العمل السياسي بل أصبح منهجا عاما في المجتمع. أن الفشل في إدارة الأزمة من قبل النخب يجعلها لا تقدم على المنهج النقدي، فالتبرير يخلق ثقافة جانبية تساعد على التعقيد و ليس الحل، فالنخب السياسية في الأزمة لا تقبل أي نقد، بل تحاول أن تخرس الناقدين بشتى الطرق و الوسائل، باعتبار أن النقد الذي يبحث عن الأسباب الرئيس للفشل سوف يبين ضعف قدرات الذين يقعون فيه. أن تستخدم فزاعات أو إتهامات و غيرها من ثقافة الأزمة " Cultural Symbolism " تعني تعطيل العقل مع سبق الإصرار. فالأزمة تخلق إشاراتها و رمزيتها الثقافية و في نفس الوقت تستخدم كفزاعات بهدف وقف ممارسة أي نقد للنخبة السياسية، و تغدو الثقافة السائدة هي ثقافة الأزمة، و لا يمكن الخروج منها إلا باستخدام العقل إنتاجه الفكري.
إذا ذهب القاريء إلي أي قروب يضم عددا من النخب السياسية و المثقفين، أو الوسائط الاجتماعية، و قرأ التعليقات على المقالات المكتوبة.. يتبين له تماما عمق أزمة العقل السوداني، الذي يجنح إلي الشتم و التجريح و استخدام الفزاعات.. هذا الكم الهائل من هذه الأدوات السالبة تعكس عمق أزمة الثقافة الديمقراطية عند قطاع واسع من الذين كان يجب عليهم أن يساعدوا على تعبيد طريق الديمقراطية. أن من أهم خصائص الأزمة في المجتمع أنها تؤدي إلي تجميد و تعطيل العقل، و هو الذي يدفع الشخص أن يختصر الطريق و يستخدم رمزيات الردع في الحوار. هذه القضية ليست ممارسة مجموعة بعينها، لكنها أصبحت ثقافة سياسية أشبه بالعمومية، و هي نفسها التي تؤدي إلي حدة الاستقطاب بين المجموعات المختلفة. فالقوى السياسية التي تخرج مثل هذه الرمزية هي نفسها تطالها بخروج رمزيات و إشارات جديدة مضادة، و يصبح الصراع على هامش القضايا بسبب تعطيل العقل.
أن النخب السودانية الأكاديمية و التي تشتغل بالفكرو الثقافة، و المناط بها أن تقدم أفكارا جديدة للحوار المفتوح كخطوة أولى لتخفيف حدة الصراع، هي نفسها أعلنت أن الأزمة قد اطالتها؛ عندما ذهب البعض يتحدث عن وضع السودان تحت الوصاية الدولية عقود من الزمن، و هناك الذين يرفعون شعار التدخل الدولي، و آخرين يطالبون بالبند السابع لميثاق الأمم المتحدة. هؤلاء الذين كان ينتظرهم الشعب أن يظلوا هم الحاملين لشموع الوعي في المجتمع، و لكنهم الآن يعلنون للمجتمع أنهم عجزوا على مواصلة المشوار. لأمر الذي يؤكد أن السودان يعاني من أزمة مفكرين، قادرين على مناطحت الصخر حتى الوصول لبداية السلم، لكن قدراتهم خارت.و هناك من قدم أفكار جيدة للحوار يمكن أن تفتح أفاقا للحل، و لكن سرعان ما جعلوها وراء ظهورهم عندما لاحت لهم بعض المكاسب أو المصالح الضيقة، هكذا دائما تهزم الأفكار في مواجهة الرغبات الضيقة.
أن الحل لا يتأتى إلا إذا صممت النخب التي تشتغل بالعقل أن تعمل سويا لكي تخرج البلاد من "ثقافة الأزمة" التي كانت وراء تعطيل العقول. و يجب أن يؤسس البناء على المشتركات بين الجميع و ليس المختلف عليه الذي يعزز " ثقافة الأزمة" و أن فكرة المقاومة الشعبية التي جعلت البعض يستيقظ من ثباته، إذا كان مؤيدا أو حتى ناقدا لها، هي فكرة خرجت من رحم الأزمة، و ستظل باقية مادامت الأزمة موجودة، و ضاربة بجذورها في عمق الأرض، و هي فكرة إذا قبلت بها النخب السياسية أو رفضتها سوف تبرز من خلالها قيادات جديدة في كل مناطق السودان المستنفرة، و هي الفكرة التي تخاف منها القيادات السياسية بسبب التنازع على القيادة الجماهيرية. و أيضا هي سوف تخلق ثقافتها الجديدة التي تتعارض مع "ثقافة الأزمة" أن تصاعد الأزمة لابد أن يسعى البعض لأختراق جدارها بشتى الطرق، و سوف تكون مضادة لمصالح النخب السابقة.
يقول برهان غليون في كتاب " النخبة ( المطلوب هو دائما إحداث قفزة في الفكر الخامل تنقله من حالة العجز إلي حالة القوة و الحيوية و النشاط. أي المطلوب دائما هو تغيير العقل و هذا يعني تغيير مفاهيم الناس القديمة البالية و استبدالها بمفاهيم جديدة صالحة للعصر الجديد) أن الفكر في السودان هو الأداة المنسية التي لا يريد الأغلبية التطرق إليها، خاصة في حالة أزمة القيادات التي ركنت الفكر و استبدلته بشعارات سهلة الحفظ تخفي خلفها رغائب غير معلنة. نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: النخب السیاسیة
إقرأ أيضاً:
الحل الوحيد
#الحل_الوحيد
د. #هاشم_غرايبه
التاريخ كتاب مفتوح لمن شاء أن يقرأه ويستفيد منه، صحيح أن مساره في اتجاه واحد دائما، فهو لا يعيد نفسه، إنما ما يوحي بذلك أن الأحداث ليست عشوائية، بل هي نتاج لتفاعل الثابت مع المتغير، الثابت هو السنن الكونية التي وضعها الخالق، والمتغير هو الإرادة البشرية.
السنن الكونية هي قواعد ثابتة أساسها أن المخرجات مرتبطة جذريا بالمدخلات، ما يعدل إيجابيا أو سلبيا في المخرجات وليس جذريا هي أرادة البشر.
لو تناولنا إحدى هذه السنن، وهي أن نتيجة أي صراع عسكري بين طرفين ليست خاضعة للحظ أو لعامل الصدفة، بل هي لصالح الأقوى، فمن يتجهز تسليحا ويعد نفسه جيدا تدريبا ويضع الخطط الذكية ينتصر على الطرف الأقل تهيؤا، كما تحكم نتيجته النهائية قاعدة ان الصراعات بين باطل وباطل تدوم وتطول وتبقى سجالا لكنها لا تنتهي، وأما بين حق وباطل فقد تقصر أو تطول بحسب همة أهل الحق، لكن نتيجتها محسومة في نهاية المطاف لصالح الحق، أما مرحليا فلا يمكن أن يغير هذه النتيجة سوى أمرين : الإرادة الإلهية والإرادة البشرية.
فأذا أراد الله أن يجري بنتيجة هذا الصراع سنة أخرى، فهو يتدخل فيغير منتج الصراع، ومثال على ذلك حروب الروم والفرس التي دامت قرونا، وكانت سجالا، وتصادف أنه في عصر فجر الدعوة هزم الروم في غور الأردن، فحزن المسلمون، لكن الله طمأنهم أنهم سينتصرون على الفرس قريبا (في بضع سنين)، إذاً هنا تدخلت إرادة الله، ليست طبعا لأجل أن يفرح المسلمون، بل ربما ليحقق حالة من توازن القوى بين الفرس والروم، قبيل قدوم جيوش الفتح الاسلامي.
أما أرادة البشر فهي إيمانية،عندما تهديهم عقولهم الى اتباع منهج الله ويخبتون الى خالقهم، عندها ينالوا رعايته وعنايته، فلا يجعل للكافرين إليهم سبيلا، وبالتالي تتعطل هنا السنة الأساسية التي تعطي الغلبة للأقوى، فاذا أراد الله للمؤمنين النصر ينتصرون، وذلك بعد أن يحققوا (وبإرادتهم الحرة) المتطلبات الايمانية.
ومن سنن الله الكونية أنه تكفل بتوفير جميع متطلبات العيش لكل مخلوقاته، فلا يقصره على من أطاعه ولا يحجبه عمن عصاه، لكنه يمنح محبته للمؤمنين به ويكرم من أطاعه فاتبع منهجه، فيبارك لهم ويغدق عليهم رحماته في الدنيا قبل الآخرة، فتكون محصلة السعادة لديهم أعلى، وتكون محصلة الضنك لدى المعرضين عن منهجه أكثر، حتى ولو نالوا رزقا اوفر.
ومن محبته للمؤمنين أنه أنزل إليهم كتابه الكريم دليلا هاديا فيه كل ما يحقق لهم هذه السعادة، وبين فيه كثيرا من سننه الكونية، ومنها أنه أرشدهم الى ضرورة دوام التهيؤ والاستعداد العسكري: “واعدوا لهم ما استطعتم من قوة”، لأنهم بذلك يرهبون عدو الله والذي هو سيبقى عدوهم الى يوم الدين، لأن من يعادي منهجه سيداوم العدوان على من يتبعه، ولا تشكمه معاهدات سلام ولا تطبيع، بل ما يرهبه عزيمة المؤمن وعلو همته، وطمأنهم الى أن لا يوقفهم عن ذلك امتلاك العدو لوسائل عسكرية متقدمة ولا ترسانات هائلة، بل ما عليهم الا اعداد ما يستطيعون، وهو يتكفل بنصرهم.
لو راجعنا كل معارك التاريخ الفاصلة وجميع فصول الصراعات، لوجدنا أن نتائجها النهائية منضبطة تماما مع ما سلف من سنن كونية، فالصراعات بين أهل الباطل لم تنقطع في اي عصر، وكان حصادها وبالا على الطرفين ونتائجها سجالا، بدليل أنها ظلت على الدوام متجددة.
والصراعات بين الحق والباطل كانت نتائجها العسكرية في المحصلة العامة لصالح المؤمنين، رغم انه لم يكونوا الأقوى عسكريا، ولا الأكثر عديدا، وما انهزموا إلا حينما فشلوا في تحقيق المتطلبات الإيمانية.
بعد هذا الجلاء والوضوح الذي يبينه استقراء مجريات التاريخ، لا يبقى لمن يتساءل عن سر انهزامنا في هذا العصر غموض ولا اندهاش.
فالوصفة للنصر واضحة، وتتلخص بأمرين بمقدور الصادق النية تأمينهما:
فلتحقيق وعد الله بنصر المؤمنين يجب عليهم أولا أن ينصروه، أي يتبعوا منهجه ويستقيموا على أمره ونهيه.
فكيف إن كانوا يعادون منهجه ويتبعون منهج أعدائه، بل ويحاربون من يدعو له ويعتبرونه ارهابيا!؟.
وعليهم ثانيا أن يعدوا ما يستطيعون من قوة، فكيف ان اختاروا الاستسلام بالتطبيع!؟.
لذا فالحل ليس بالدعاء، بل بالعودة للحكم بموجب منهج الله.