البنك الدولي يرفع توقعاته لنمو اقتصاد الإمارات
تاريخ النشر: 10th, January 2024 GMT
مصطفى عبد العظيم (دبي)
أخبار ذات صلة 84.5 مليار دولار حجم التجارة الثنائية بين الإمارات والهند حمدان بن محمد: شهادة نجاح جديدة يمنحها العالم لدبيرفع البنك الدولي توقعاته لنمو الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي لدولة الإمارات خلال العام الجاري 2024 إلى 3.7%، بزيادة بلغت 0.3% عن توقعاته السابقة في شهر يونيو الماضي والتي بلغت 3.
كما رفع البنك الدولي توقعاته لنمو اقتصاد الإمارات كذلك للعام المقبل 2025، والتي جاءت في نسخة شهر يناير من«تقرير آفاق الاقتصاد العالمي 2024»، إلى 3.8%، بزيادة 0.4% عن توقعاته السابقة في نسخة شهر يونيو والمقدرة بنحو 3.4%، ليشكل واحداً من أسرع الاقتصادات النفطية نمواً في المنطقة والعالم.
وتعكس التوقعات القوية للبنك الدولي لآفاق نمو الاقتصاد الإماراتي خلال العام الجاري، ديناميكية الاقتصاد الوطني والدور المحوري للاقتصاد غير النفطي وقدرته على التحليق بالنمو بعيداً عن المؤشرات السلبية التي جاءت في تقرير آفاق الاقتصاد العالمي 2024، والتي توقعت تباطؤ معدل النمو العالمي بشدة خلال العام الجاري من 2.6% في العام الماضي إلى 2.4% في العام 2024، أي أقل بنحو ثلاثة أرباع نقطة مئوية عن المتوسط السائد في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، وتعد هي الأدنى والأبطأ في فترة 5 سنوات على مدى 30 عاماً.
الاقتصاد الخليجي
وتوقع تقرير البنك الدولي أن يرتفع معدل النمو في دول مجلس التعاون الخليجي ليبلغ 3.6% في 2024 و3.8% في 2025. وفي المملكة العربية السعودية، من المتوقع أن ينتعش النمو بسبب زيادة إنتاج النفط وصادراته، على الرغم من تمديد الخفض الطوعي في إنتاج النفط إلى هذا العام. وعلى مستوى البلدان الأخرى المصدرة للنفط، مثل الجزائر والعراق، من المتوقع أن تسهم زيادة الإنتاج في أوائل عام 2024 في تسريع وتيرة النمو.
وأظهرت بيانات البنك الدولي، تسجيل اقتصاد دولة الإمارات ثاني أعلى معدل نمو في الناتج المحلي الإجمالي بين دول مجلس التعاون الخليجي هذا العام بعد رفعه توقعات نمو الاقتصاد السعودي إلى 4.1%، في حين يتوقع أن يسجل اقتصاد البحرين ثالث أعلى معدل نمو بنحو 3.3%، يليه اقتصاد سلطنة عمان بنحو 2.7%، ثم اقتصاد الكويت بنمو متوقع 2.6% و اقتصاد قطر بنحو 2.5%.
الشرق الأوسط
وأشار التقرير في توقعاته لآفاق اقتصادات منطقة الشرق الأوسط إلى أن الصراع في المنطقة أدى إلى زيادة حالة عدم اليقين بشأن توقعات النمو، مشيراً إلى أنه وبافتراض عدم تصاعد الصراع، فمن المتوقع أن يزيد معدل النمو في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إلى 3.5% في عامي 2024 و2025، حيث تم تعديل التنبؤات بالزيادة، مقارنة بما كان متوقعاً في يونيو ، مما يعكس معدلات نمو أقوى من المتوقع في البلدان المصدرة للنفط، ويدعم ذلك انتعاش النشاط النفطي.
وفي البلدان المستوردة للنفط بالمنطقة، من المتوقع أن يرتفع معدل النمو ليصل إلى 3.2% هذا العام و3.7% في عام 2025. وسيرتفع معدل النمو في بعض البلدان.
تراجع المخاطر
وأشار التقرير إلى أن الاقتصاد العالمي في وضع أفضل مما كان عليه قبل عام، فقد تراجعت مخاطر حدوث ركود عالمي، ويرجع ذلك بقدر كبير إلى قوة الاقتصاد الأميركي، لكن التوترات الجيوسياسية المتصاعدة يمكن أن تخلق أخطاراً جديدة تواجه الاقتصاد العالمي على المدى القريب. وفي الوقت نفسه، أصبحت الآفاق متوسطة الأجل قاتمة بالنسبة للعديد من الاقتصادات النامية وسط تباطؤ معدلات النمو في معظم الاقتصادات الكبرى، فضلاً عن تباطؤ التجارة العالمية، وأكثر الأوضاع المالية تشديداً منذ عقود من الزمان.
التجارة العالمية
ومن المتوقع ألا يتجاوز نمو التجارة العالمية في عام 2024 نصف المتوسط في السنوات العشر التي سبقت جائحة كورونا. وفي الوقت نفسه، من المرجح أن تظل تكاليف الاقتراض بالنسبة للاقتصادات النامية - وخاصة تلك التي تعاني من ضعف التصنيف الائتماني - مرتفعة مع بقاء أسعار الفائدة العالمية عند أعلى مستوياتها على مدى 40 سنة بعد استبعاد أثر التضخم.
و قال إندرميت جيل، رئيس الخبراء الاقتصاديين بمجموعة البنك الدولي والنائب الأول للرئيس: ما لم يحدث تصحيح رئيسي للمسار، ستكون السنوات العشر من 2020 إلى 2030 عقداً من الفرص الضائعة، وسيظل النمو ضعيفاً على المدى القريب، وسيؤدي ذلك إلى حدوث ارتباك في العديد من البلدان النامية، لا سيما الأشد فقراً منها، وستؤدي معدلات الديون العالية إلى غل قدرات هذه البلدان، بل سيكون من الصعب للغاية توفير الغذاء لواحد من كل ثلاثة أشخاص تقريباً.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: البنك الدولي الإمارات اقتصاد الإمارات الاقتصاد الإماراتي الاقتصاد الوطني الناتج المحلي الإجمالي الناتج المحلي الإجمالي للإمارات البنک الدولی
إقرأ أيضاً:
مقاربة للنمو من منظور اقتصادي إسلامي.. المرتكزات والمفاهيم
يمكن للإسلام أن يقدم إطارًا قيمياً وعملياً لمعالجة تحديات النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. الجمع بين المبادئ الإسلامية والسياسات الاقتصادية الحديثة يعزز من قدرة الدول على بناء اقتصادات أكثر عدالة واستدامة، مع ضمان تحقيق التنمية البشرية والرفاهية.
الباحث التونسي في شؤون الاقتصاد الإسلامي الدكتور محمد النوري وبعد أن قدم في الجزء الثالث والأخير من ورقة خاصة أعدها للنشر في "عربي21" عن "مشكلات النمو الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. رؤية من منظور اقتصادي إسلامي"، مقاربة للنمو من منظور اقتصادي إسلامي.. المرتكزات والمفاهيم"، يفصل فيها كالتالي:
مقاربة للنمو من منظور اقتصادي إسلامي
لا شك أن جميع هذه المشكلات الهيكلية والموضوعية واستدامتها تعكس فشل النموذج التنموي الليبرالي السائد الذي يقود كل اقتصاديات بلدان المنطقة منذ ما لا يقل عن نصف قرن وهو ما يجعل هذه البلدان بحاجة الى نموذج جديد يستند الى مقاربة جديدة من خارج الصندوق الليبرالي ويعتمد نهجا مغايرا في مسائل الحوكمة والتنمية يتخطى بها نموذج الدولة الريعية التي استنفذت أغراضها وينتقل بها الى نموذج دولة الاقتصاد الحقيقي القائم على العمل والإنتاج والاستثمار والاعتماد على الذات في بناء الاقتدار والقدرة على النهوض. كما يعتمد هذا النهج على استلهام الأفكار الفعالة من منظومة القيم والمبادئ الإسلامية في المجال الاقتصادي والمعاملات المالية التي بدأت تستقطب اهتمام العالم وخصوصا منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية الأخيرة.
سوف نتناول في هذا الفصل الثالث مقاربة إسلامية لعوامل النمو الاقتصادي (المبحث الأول)، ثم مرتكزات النمو من منظور اقتصادي إسلامي (المبحث الثاني)، وأخيرا كيف يمكن الانتقال من النموذج الليبرالي القديم الى النموذج الإسلامي الجديد (المبحث الثالث).
1 ـ عوامل النمو من منظور اقتصادي إسلامي:
يحيلنا البحث في هذه المسألة الى إعادة النظر في سؤال النهضة القديم الذي طرح في بداية القرن الماضي: لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم؟ ولا شك أن الإجابات على هذا السؤال متعددة الابعاد والجوانب. فمن الزاوية الاقتصادية يمكن اعتبار السبب الرئيسي في تأخر العالم الإسلامي عن غيره من الأمم سوء اختيار المنوال التنموي الملائم لأوضاع مجتمعاته وخصوصياته الثقافية. وبالتالي فالحل يكمن في استنباط المنوال التنموي الذي يتماشى مع خصوصيات المجتمعات الإسلامية عوضا عن توريد مناويل تنمية مترهلة ومنبتة عن واقع هذه المجتمعات وقائمة على التقليد والمحاكاة وليس على التجديد والابتكار والأصالة.
يرتكز نموذج النمو من منظور اقتصادي إسلامي على محركات ثلاث وهي الانفاق والتبادل والملكية وهي تشمل ضمنيا المحركات التي تقوم عليها نماذج ومناويل النمو في الاقتصاد التقليدي مثل الاستهلاك والاستثمار والتصدير، ولكنها تتميز عليها بطابع الشمولية والتكامل والمسؤولية الاجتماعية.فمع التداعيات الاقتصادية للأزمة المالية العالمية والتي ضربت كل بلدان العالم والانعكاسات التي خلفتها الموجات المتعاقبة للجائحة الوبائية، عاد السؤال عن ماهية منوال التنمية الى صدارة الاهتمام والبحث والتفكير الاقتصادي من اجل التوصل الى منهج جديد قادر على تجاوز تلك التحديات والمصاعب التي تواجه المنهج التقليدي في صيغته الليبرالية التي يسوّق لها منذ عقود صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، وعاد السؤال عن مدى قدرة اقتصاد السوق الرأسمالي على التكيف مع الأوضاع الجديدة وإضفاء إصلاحات ملائمة للتغلب على الأزمات المتتالية التي تلاحقه لكي يصبح اقتصادا اكثر عدالة واكثر إنسانية واكثر رحمة، وهو ما تختزله مقولة «الاقتصاد الرحيم» التي راجت في الأدبيات الاقتصادية المعاصرة.
ففي حين تختزل المقاربة التقليدية الليبرالية عوامل النمو في تراكم رأس المال والمراهنة على السوق في إدارة النظام الاقتصادي والتعديل الآلي للاختلالات التي قد تطرأ، إضافة الى تطوير المحركات الأساسية الثلاثة للنمو وهي الاستهلاك، والاستثمار والتصدير، فإن المقاربة الإسلامية تتجه الى تحديد أصل المشكلة الاقتصادية أولا، وتحديد عناصر الإنتاج وأسلوب مكافأتهم ثانيا، وتحديد الطريقة المثلى لتمويل الاقتصاد ثالثا.
. الفساد أصل المشكلة الاقتصادية:
يقدم الفكر الاقتصادي الإسلامي نظرة مغايرة لفهم المشكلة الاقتصادية وأسبابها، تستند الى نقد للنظرتين الرأسمالية والاشتراكية من جهة، وتقوم على تحميل المسؤولية لسلوك الانسان كفرد وككيان مجتمعي من جهة أخرى. ويعود أصل المشكلة وفق هذه النظرة بالأساس الى ظاهرة الفساد وما يتعلق بها من استغلال الموارد وهدر الثروات، وسوء التوزيع الذي يرتبط بالظلم والنهب واستغلال العلاقات الاقتصادية في المجتمع الواحد وبين الشعوب والمجتمعات البشرية، طبقا للنص القرآني الصريح في هذا الإطار: ﴿ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت ايدي الناس﴾ (الروم/41). ولا شك أن هذه النظرة المتميزة تختلف جذريا مع النظرة الوضعية التي حبست المسألة في دائرة مقولة "الندرة"، واتجهت للنتيجة بدل الاهتمام بالسبب. ولم يفلح التفكير البشري في هذا الجانب للوصول الى الحقيقة العلمية للفساد باعتباره نتيجة طبيعية للسلوكيات الإنسانية.
إن تطور الفساد في العقود الأخيرة في مجمل بلدان المنطقة جعلت منه العدو الأول للتنمية والسرطان الذي يفتك بالاقتصاد وينخر في جسد ه ويؤثر سلبا على الاستقرار المالي ويضعف الإنتاجية والاستثمار، ويغذي الفوارق الاجتماعية وغياب العدالة. كما بينت بعض الدراسات ان مخاطره كارثية حيث يولد انعدام الثقة في المجتمع ويسهم في انخفاض معدلات النمو، وزيادة البطالة، واتساع رقعة الفقر ورفع تكاليف المعيشة، ويحرم الدولة من مجموعة من الموارد من جراء التهرب الضريبي ونهب المال العام وتهريبه الى الخارج بدلا من توجيهه الى مشاريع تنموية اجتماعية حيوية في مجالات الصحة والتعليم والسكن والبنيات الأساسية، وهو ما يعزز ثقافة الاحباط وغياب الثقة وخيبة الامل ويؤدي بالتالي الى العزوف عن الاهتمام بالشأن العام.
ومنذ ثمانية قرون خلت أشار العلامة ابن خلدون الى علاقة ظاهرة الفساد بالمشكلة الاقتصادية من جهة وبانهيار الامم وسقوط الحضارات من جهة أخرى، واعتبر أن تراجع النمو وغياب التنمية في المجتمعات يعود بالأساس الى استشراء الفساد في جميع المجالات، والعجز عن محاربته والتصدي له، حيث يورد في مقدمته: « أنّ غاية العمران هي الحضارة والتّرف وأنّه إذا بلغ غايته انقلب إلى الفساد وأخذ في الهرم كالأعمار الطّبيعيّة للحيوانات".
ـ العمل ورأس المال عماد النشاط الإنتاجي:
لا شك أن تحديد عناصر الإنتاج المشاركة في النشاط الاقتصادي والتصور العادل والموازي لمكافأتهم يعدّ عاملا مهما من عوامل النمو. ففي حين يقوم الاقتصاد التقليدي على أربعة عناصر مختلفة وهي رأس المال والعمل والموارد الطبيعية والتقنية والتنظيم أو الإدارة، ويحصل كل عنصر منها على مكافأة محددة وهي على التوالي الفائدة والأجر والريع والربح فإن الاقتصاد الإسلامي يأخذ في الحسبان عنصرين فقط من عناصر الإنتاج: العمل ورأس المال أو بتعبير آخر رأس المال المالي ورأس المال البشري. تتخذ مكافأة العمل أشكالًا مختلفة: العمل بأجر الذي يحصل على راتب، وعمل الوكيل الذي يتقاضى عمولة أو أجرًا وفقًا لعقد الوكالة، والعمل في عقد المضاربة الذي يحصل على نسبة مئوية من الربح المحقق كمدير من صندوق المضاربة، وعمل المشارك (مساهم في شركة مشاركة) الذي يتلقى أيضًا حصة من الأرباح وفقًا لنتائج عملية المشاركة، إلخ.
من ناحية رأس المال، يميز الاقتصاد الإسلامي بين رأس المال العيني ورأس المال النقدي. الأول يتقاضى أجرًا حسب نوع الشراكة (مشاركة، مضاربة، مزارعة ... إلخ) بينما الثاني ـ رأس المال النقدي ـ لا يحق له الحصول على فائدة (لأنها ربا) مثلما هو الحال في عقد التمويل التقليدي، بل يدعوه الى المشاركة في دائرة الاقتصاد الحقيقي للحصول على حصة من نتائج المشروع.
وباستبعاد الفائدة عن رأس المال يدفع الاقتصاد الإسلامي كل أشكال رأس المال إلى الولوج إلى القطاع الحقيقي وتعزيز الإنتاج والقبول بنتيجة النشاط الإنتاجي والاستثماري عبر تقاسم المخاطر والمشاركة في الربح والخسارة، وبالتالي التخلي عن منطق الأنانية والجبن التي تلاحقه (مقولة "رأس المال جبان") الى منطق المشاركة وإدارة المخاطر بكفاءة واقتدار لتعظيم الربح وترفيع معدلات النمو في الاقتصاد.
ـ التمويل الذاتي للاقتصاد الحقيقي بديلا عن المديونية:
العامل الثالث من عوامل النمو من المنظور الإسلامي يتعلق بنمط التمويل الذي يقترحه للاقتصاد. ففي حين يقوم نظام التمويل التقليدي على المديونية المستندة بدورها الى نظام الفائدة وتظل رهينة لتقلبات أسعار الفائدة في الأسواق، الى جانب ما تشكله من مخاطر على مسار النمو، يطرح الاقتصاد الإسلامي بديلا عمليا للتخلص من ربقة المديونية وأعبائها يقوم على نظام التمويل الذاتي عبر تطوير نظام التبادل بين القطاعين السلعي والنقدي، من خلال نشاط البيع والشراء الذي يتحول فيه البنك من مقرض بفائدة الى بائع أو مشتري أو مؤجر أو مسدي خدمات يتقاضى من خلالها عائدا محددا بالاتفاق بينه وبين العميل في شكل أجرة أو ربح أو عائد متغير مرتبطا بنتيجة النشاط أو المشروع.
وباستبعاد الفائدة عن رأس المال يدفع الاقتصاد الإسلامي كل أشكال رأس المال إلى الولوج إلى القطاع الحقيقي وتعزيز الإنتاج والقبول بنتيجة النشاط الإنتاجي والاستثماري عبر تقاسم المخاطر والمشاركة في الربح والخسارة، وبالتالي التخلي عن منطق الأنانية والجبن التي تلاحقه (مقولة "رأس المال جبان") الى منطق المشاركة وإدارة المخاطر بكفاءة واقتدار لتعظيم الربح وترفيع معدلات النمو في الاقتصاد.يقطع هذا التصور البديل للتمويل مع الوظيفة التقليدية للبنوك القائمة على الإقراض والاقتراض وتحويل المخاطر التي تقود الى تضخم المديونية والارتهان الى أسعار الفائدة ويفسح المجال لها لتقوم بوظائف متعددة تصب كلها في خانة الاقتصاد الحقيقي بعيدا عن التضخم والمزيد من الديون.
2 ـ مرتكزات النمو من منظور اقتصادي إسلامي: الانفاق، التبادل، الملكية:
يرتكز نموذج النمو من منظور اقتصادي إسلامي على محركات ثلاث وهي الإنفاق والتبادل والملكية وهي تشمل ضمنيا المحركات التي تقوم عليها نماذج ومناويل النمو في الاقتصاد التقليدي مثل الاستهلاك والاستثمار والتصدير، ولكنها تتميز عليها بطابع الشمولية والتكامل والمسؤولية الاجتماعية.
ـ الإنفاق:
يلعب الانفاق دورا بارزا في الاقتصاد الإسلامي ويشكل منظومة شاملة ومتكاملة تفوق دور الاستهلاك في الاقتصاد التقليدي الذي ترتكز عليه النظرية الكينزية وتعدّه ركنا رئيسيا لتعزيز النمو وتحقيق التوازن. فالإنفاق في الاقتصاد الإسلامي يتعدى الاستهلاك والقطاع الربحي ليشمل الى جانب ذلك القطاع غير الربحي. فهو يتعلق بكل صرف للمال، متقيدا بالضوابط الشرعية، واجباً كان أم مستحبّاً، خاصّاً كان هذا المال أم عاما.
وبالتالي فهو يشمل بالإضافة الى النشاط الإنتاجي والاستهلاكي والاستثماري كل أعمال الخير بشتى أنواعها، وإنفاق الوقت من أجل القيام بمصالح الآخرين دون مقابل وإنفاق الجهد البدني من أجل فعل الخيرات وتقديم المساعدة للمحتاجين وإنفاق الجهد الفكري والعقلي كتعليم الناس والبحث من أجل إيجاد الحلول العلمية لبعض المشكلات دون مقابل. ولا يقتصر معنى الإنفاق مثلما هو رائج على الإنفاق الخيْري في سبيل الله، وإنما يشمل أيضا الإنفاق الحاصل في النشاط الربحي من نفقات واجبة واستهلاك وما إلى ذلك .
من أجل ذلك يحتلّ الإنفاق بمعناه العام وبأشكاله المتنوعة، حيْزا مهمّا في حياة الانسان وجزءا معتبرا من سلوكه اليومي بغض النظر عن وضعيته الاجتماعية أو الصحية أو المادية. وهو بالنسبة للمسلم مطلب ديني وأمر إلاهي يتعاطى معه على مدار اليوم والليلة، في السرّاء والضرّاء، في السر والاعلان (الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُم بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً) (البقرة/274)، غنيا كان أم فقيرا، وهو من العبادات بالضرورة ووسيلة للحصول على الثواب الدنيوي والاخروي من الناحية العقدية والمنفعة المادية من الناحية الاقتصادية.
ومن الناحية الاقتصادية تبرز أهمية الإنفاق في إشباع الحاجات وتلبية طلبات الأفراد ورغباتهم عن طريق الإنفاق الاستهلاكي والإنفاق الاجتماعي والإنفاق التعاوني وهي كلها آليات تساهم في زيادة الطلب، الذي يؤدي بدوره الى زيادة العرض وبالتالي زيادة الإنتاج. ويعتبر الاقتصاديون الاستهلاك - الذي هو جزء من الإنفاق- من أهم محركات النمو الاقتصادي الى جانب الاستثمار والتصدير، التي تولد الثروة وترفع من حجم الناتج الإجمالي وتدفع إلى استخدام الموارد الاقتصادية، وتوظيفها في خدمة المجتمع وتحقيق الاستقرار . كما یكشف التحليل الاقتصادي لآيات الإنفاق في القرآن الكريم عن آلية هامة من آليات الإعْمار والتنمية الاقتصادية في التشريع الإسلامي. انه الحث على الإنفاق ليلا ونهارا، سرّا وعلانية، كأنما هو دورة اقتصادية متدفقة لا تتوقف لأن في توقّفها توقّف للاقتصاد وللنمو الاقتصادي وكلما استمر التوقّف بحدث الكساد والانكماش. ولكنه إنفاق مسؤول ومنضبط بدائرة الحلال والحرام، متوازن بین الإسراف والتقتير، ورشید يهدف إلى تحقيق المنفعة في الدنيا والآخرة: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ (الفرقان/67).
ومن الناحية الاجتماعية تتجلى أهمية الإنفاق بشقيه الخاص والعام في زيادة رفاهية الأفراد وتعزيز التماسك الاجتماعي والإسهام في إعادة توزيع الثروة وتقليص الفوارق الاجتماعية من خلال الإنفاق الالزامي (الزكاة والنفقات الواجبة) والإنفاق التطوعي (الصدقات والكفارات والنذر والقرض الحسن) والانفاق الاجتماعي والتعاوني (نظام التكافل ونظام الوقف) .
من جانب آخر يرتبط مفهوم الإنفاق بالمسؤولية الاجتماعية من خلال ارتباطه الوثيق بالقيم ويستمد منها مشروعيته الدينية ومكانته الاجتماعية. فهو يرتبط بقيمة الوسطية والاعتدال والتوازن أو بالتعبير القرآني "القوَام" ((وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) (الفرقان/67)، حتى أن انفكاكها عن تلك القيمة يضعها في دائرة التبذير أو التقتير وكلاهما من السلوكيات المذمومة التي ينهى عنها الإسلام بشدة (ا إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا) (الاسراء 27). إنه موقف على غاية كبيرة من الدقة والحساسية بل الخطورة لأنها تحول ذلك السلوك من دائرة الفضائل التي يثاب عليها الى دائرة الرذائل التي تستوجب العقاب في الدنيا والآخرة.
من الناحية الاجتماعية تتجلى أهمية الإنفاق بشقيه الخاص والعام في زيادة رفاهية الأفراد وتعزيز التماسك الاجتماعي والإسهام في إعادة توزيع الثروة وتقليص الفوارق الاجتماعية من خلال الإنفاق الالزامي (الزكاة والنفقات الواجبة) والإنفاق التطوعي (الصدقات والكفارات والنذر والقرض الحسن) والانفاق الاجتماعي والتعاوني (نظام التكافل ونظام الوقف) .كما يرتبط الإنفاق بمجموعة من القيم الأخرى ذات علاقة بأبعاد مهمة مثل البعد المقاصدي القائم على ترتيب الاولويات ( تقديم الضروري على الحاجي والحاجي على التحسيني) ومراعاة البعد الأخلاقي (تجنب الإنفاق الترفي والكمالي والابتعاد عن التقليد والمباهاة) واعتبار البعد الإيثاري والتعفف عن الشبهات (وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) (الحشر/9) ، ( يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف) (البقرة/273)، وكذلك تغليب البعد الأخروي على الدنيوي الذي يراعي ابتغاء رضوان الله في أداء ما هو مطلوب من نفقات يقدمها الإنسان .
ـ التبادل:
ترتكز الفلسفة الإسلامية للتمويل على التبادل. والغرض الأساسي من التمويل هو تسهيل وتعزيز التبادل وأنشطة الاقتصاد الحقيقي. يحتل التبادل مكانة مهمة في الاقتصاد لأنه من خلال الاستثمار أو الاستهلاك يشكل الخطوة الأولى نحو النمو وتراكم الثروة وتنمية الاقتصاد ورفاهية الأفراد، لأنه بدون تمويل، لا يمكنهم تحقيق هذه الأهداف. إن الحاجة إلى التمويل تعكس بالفعل الحاجة إلى تبادل المنافع المتبادلة وتؤدي إلى تحقيق القيمة المضافة اللازمة للنمو.
يفترض التبادل وجود عنصرين: السعر والمنتج. الإسلام يدعو الى تنوع هذين العنصرين وليس تشابههما وتماثلهما. تنوعها يخلق قيمة أكبر وينتج المزيد من المنفعة الاقتصادية. في حين أن التشابه والتماثل بينهما يعني فقط المقايضة أو الديون (ثمن مقابل ثمن، أو التمويل عن طريق الفائدة على سبيل المثال، أو منتج مقابل منتج، مثل مقايضة البضائع). يعبر التنوع عن فائدة متبادلة لكلا الطرفين مثل المبيعات والعمليات التجارية. لهذا السبب، أصر القرآن لعدة قرون على التمييز بين معاملات البيع والإقراض بفائدة (الربا). وتؤكد الآية القرآنية على ذلك: "وأحلّ الله البيع (التجارة) وحرّم الربا (القرض بفائدة) ". إن التحليل الاقتصادي لمعنى هذه الآية يجعل من الممكن التمييز بين المجال الحقيقي على أساس عمليات التبادل والمبيعات والمجال المالي على أساس آلية الائتمان والديون. الأول يعني الشراء، والبيع، والمجازفة، وتكوين الثروة، والتوظيف، بينما يسمح الثاني بنقل المخاطر ورجحان الاقتصاد الربوي القائم على الدين.
على هذا الأساس، ترتبط جميع عمليات التمويل الإسلامي ارتباطًا وثيقًا بعقود الشراء والبيع: بيع المرابحة (البيع بهامش الربح)، بيع السلم (البيع للتسليم أي تأجيل المبيع وتعجيل الثمن) ، البيع الاستصناعي (عقد التصنيع أو التعاقد) ، عقد الإجارة ( بيع حق الانتفاع) ، إلخ. في الوقت نفسه، ترتبط عمليات الاستثمار ارتباطًا وثيقًا بالإنتاج وتكوين الثروة من خلال عقود مختلفة مثل: المضاربة والمشاركة، والمزارعة، والمغارسة والمساقاة، الخ.
تهدف كل هذه العمليات إلى تعزيز الاقتصاد الحقيقي من خلال التمويل. ومن هنا تأتي أهمية تحريم الربا الذي هو مجرد نوع من الانحراف عن دور المال والانحراف عن وظيفة المال. في المفهوم الإسلامي كما في الديانات التوحيدية ووفقًا لرؤية العديد من الفلاسفة، فإن الفائدة المدفوعة على مبلغ هو إقراض غير أخلاقي، مستهجن وبالتالي غير شرعي. يشير البعض إلى الاهتمام على أنه فيروس يهدف إلى تدمير كل خلية في جسم الإنسان. ويرى آخرون أنه ورم سرطاني يؤدي في النهاية إلى انهيار النظام بأكمله.
لكن التبادل الذي يولّد النمو هو التبادل العادل. لذلك يحض الإسلام على منع تأجيل عنصري التبادل (تأجيل البدلين) أو العقود الآجلة في نفس الوقت. فغالبًا ما يكون موضوع التبادل إما سعرًا أو منتجًا. من الممكن تأجيل أي من هذين العنصرين: بمعنى آخر، يُسمح بتأجيل السعر (الدفع لأجل) أو المنتج (التسليم لأجل)، ولكن لن يُسمح بأي حال من الأحوال بتأجيل كليهما في نفس الوقت، وهذا يعني تسديد الثمن بالإضافة إلى تسليم المبيع، لأننا ببساطة نقع في موقف غير شرعي يتمثل في بيع الانسان ما ليس عنده، وهو أيضًا أمر يجب تجنبه مثل العقود لأجل التي تُمارس اليوم في الأسواق المالية ومثل بيع الديْن بالديْن عبر المضاربة المالية مثل توريق الديون التي تعد العامل الرئيسي للأزمة المالية الراهنة.
ـ الملكية:
تعتبر الملكية بمثابة العمود الفقري في النظام الاقتصادي، إذا صلُحت، صلُح الاقتصاد كلّه وإذا فسدت، فسد الاقتصاد كلْه، وهي من المرتكزات الهامة التي تساهم في تحقيق معدلات أسرع للنمو من حيث ارتباطها الوثيق ببناء الثروة وترفيع الناتج الإجمالي للاقتصاد. وبالتالي فان تحديد نظام الملكية والخروج من بوتقة الصراع بين الملكية الخاصة والملكية العامة أي بين القطاعين الخاص والعام الذي يسود في الاقتصاد التقليدي، يعدّ مفتاحا أساسيا من مفاتيح النمو الاقتصادي. وفي هذا الإطار اعتنى الإسلام بنظام الملكية وتحديد دور كل شكل من أشكالها وكل قطاع من القطاعات التي تنبثق عنها. لذلك جاءت الاحكام الشرعية مبيّنة لأشكال الملكيات الثلاث (الخاصة والعامة وملكية الدولة) ونطاق كل شكل منها من أجل إحداث التوازن الاقتصادي والعدل الاجتماعي وعدم طغيان قطاع منها على القطاعات الأخرى. كما شددت تلك الاحكام على ضرورة الربط بين التمويل والملكية، فلا يصح تمويل نشاط اقتصادي ما إلا إذا استند الى الاقتصاد الحقيقي أي الى الملكية طبْقا لنهْي الرسول عليه الصلاة والسلام «عن بيع ما لم يُقبض وربح ما لم يُضمن» وقوله للصحابي الجليل حكيم بن حزام «لا تبع ما ليس عندك» .
لقد سجّل الإسلام بنظرية الملكيات الثلاث (الخاصة والعامة وملكية الدولة) سبْقا تاريخيا هاما تميّز به عن الفكر الاقتصادي الوضعي الذي غلب عليه في موضوع الملكية الاضطراب والغلوّ، حيث تراوح الموقف بين التأميم وإلغاء الملكية الفردية تارة والخوصصة وإلغاء الملكية العامة وملكية الدولة تارة أخرى، بينما ظلّ الموقف الإسلامي ثابتا في اقراره بالأشكال الثلاث التي تقود الى تعايش القطاعات الثلاث: الخاص والعام والاجتماعي التضامني.
ويحتاج التقسيم الثلاثي للملكية الى كثير من الدقة في رسم الحدود الفاصلة بين شكلي الملكية العامة وملكية الدولة، ذلك أن إدارة المرافق العامة هو من مسؤولية الدولة التي لا تملك حق التصرف في رقبة هذه المرافق والأموال العامة. فقد بيّن ذاك التقسيم أن الملكية العامة وملكية الدولة وإن اتفقتا في المغزى الاجتماعي فهما شكلان تشريعيان مختلفان، لأن المالك في الشكل الأول هو الأمة، في حين أن المالك في الشكل الثاني هو (المنصب) الذي يباشر حكم الأمة. وإن كان هناك من يدرج ملكية الدولة ضمن مكونات الملكية العامة، فتقسّم الملكية العامة من حيث استخداماتها إلى: ملكية الدولة، وملكية الأمة. وهنا يكمن الإشكال حيث تصبح ملكية الدولة جزءا من الملكية العامة.
يرتبط دور الدولة في الاقتصاد بمسألة نظام الملكية المعتمد وكذلك بالحرية الاقتصادية ويتغيّر هذا الدور من منوال اقتصادي الى آخر. فالدولة في منوال اقتصاد السوق الإسلامي ، دولة راعية وفاعلة، ومسؤولة على جملة من الوظائف والأدوار منها الدور التعديلي بين مختلف السياسات والأولويات، والدور التوزيعي الذي يكفل التوزيع العادل للثروة عبر تطبيق سياسة مالية وجبائية عادلة، ومنها كذلك الدور الاستراتيجي المتعلق بتحديد التوجهات الكبرى للسياسات العامة من حيث الأهداف والوسائل. إلى جانب إمكانية التدخل في النشاط الإنتاجي بما تقتضيه الضرورة والمصلحة العامة لتأمين السلع والخدمات الأساسية التي يعزف القطاع الخاص على الولوج إليها وخاصة خدمات الصحة والتعليم والنقل.
ويمكن للقطاع الخاص أن يستثمر في هذه الخدمات الأساسية حسب ما تمليه الحاجة الى مثل هذه الخدمات إمّا عن طريق الشراكة مع الدولة أو عن طريق الاستثمار المباشر. ويلعب القطاع الاجتماعي والتضامني دورا مهمّا في معاضدة جهود الدولة في الاستثمار في مثل هذه الخدمات الاجتماعية عن طريق الشراكة معها أو مع القطاع الخاص. أمّا فيما يخص القطاعات الاستراتيجية مثل الطاقة والمحروقات والمناجم والمياه وغيرها، فلدولة دور الإشراف عليها من دون غلق الأبواب أمام القطاع الخاص وقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني في إطار الشراكات بينها.
وتختلف هذه النظرة لدور الدولة "الراعية والفاعلة" في اقتصاد السوق الإسلامي عن مفهوم الدولة "الحارسة" أو "الدولة الصفرية" في نظام اقتصاد السوق الليبرالي والنيوليبرالي، والدولة "الموجّهة" في اقتصاد السوق الاشتراكي و"الدولة المنظمة" في اقتصاد السوق الاجتماعي. لقد أظهرت أزمة كوفيد - 19 الأخيرة بوضوح -على سبيل المثال- إخفاقات المقاربة التقليدية لدور الدولة "الحارسة" وكشفت عن عواقبها الوخيمة على حياة البشرية، مما أثار انتقادات شديدة للسياسات النيو ليبرالية السائدة وأسهم في العودة إلى الدور الاقتصادي والاجتماعي للدولة الموجهة أو الدولة المنظمة والذي لا يختلف كثيرا عن مفهوم دور الدولة الراعية والفاعلة.
3 ـ كيفية الانتقال الى النموذج الجديد:
يتطلب الانتقال الى النموذج الذي سبقت الإشارة اليه توخي منهجية واقعية متدرجة تراعي الظروف والبنى الاقتصادية لكل اقتصاد من اقتصاديات دول المنطقة وتهدف الى بناء نظام مالي مستدام قادر على ضمان مستقبل خالٍ من الديون للأجيال القادمة مستوحاة مباشرة من المبادئ التي سبق ذكرها. وتقوم هذه المنهجية على جملة من الإجراءات العملية والسياسات الهيكلية التي تجعل من الممكن تحقيق الانتقال في المدى المتوسط من نظام اقتصادي قائم على المديونية والنمو الهش، إلى نظام يعتمد على الموارد تتداول في اطاره الثروة بسلاسة وفعالية.
الإجراءات التمهيدية:
أ ـ الإجراء المسبق أو التدبير الأول - الذي يمكن وصفه بأنه تدبير للسلامة العامة - يتمثل في إلغاء الفوائد المتبقية على جميع القروض المستحقة للبنوك على الأفراد والشركات والدول. كما كان الحال عندما حرم الإسلام الربا. يجب الوفاء بأصل القروض القائمة فقط. في الواقع، لأنه من المستحيل رياضيًا سداد جميع الفوائد المصرفية، وهو ما يعني وضع حد لاستعباد الأفراد والدول بالديون المتزايدة باستمرار.
ب ـ التدبير التأسيسي الثاني هو إعادة احتكار الدولة للمال ومنع احتكار البنوك له. إن إلغاء المعاملات المصرفية لخلق النقود سيحرر الاقتصاد من فخ الديون اللانهائي. وذلك عبر توسيع العمل بآليات التمويل والاستثمار الإسلامي المبنية على الأصول كالبيوع والمشاركات وغيرها، التي لا تساهم في خلق النقود وتحد من تضخم الكتلة النقدية، وبالتالي تحاصر الموجات التضخمية وتساهم في تعزيز الاستقرار الاقتصادي. إن تنشيط هذه الصيغ التمويلية يزيد في الناتج الإجمالي ويعزز قطاع الاقتصاد الحقيقي ويحاصر التضخم.
تعتبر الملكية بمثابة العمود الفقري في النظام الاقتصادي، إذا صلُحت، صلُح الاقتصاد كلّه وإذا فسدت، فسد الاقتصاد كلْه، وهي من المرتكزات الهامة التي تساهم في تحقيق معدلات أسرع للنمو من حيث ارتباطها الوثيق ببناء الثروة وترفيع الناتج الإجمالي للاقتصاد.ت ـ الإجراء الثالث هو العمل الجماعي في إطار إقليمي أو دولي على إعادة قابلية تحويل العملة إلى ذهب وفضة (ما يعادل النظام النقدي الإسلامي ثنائي المعدن) أو أي نوع من الثروة المادية المكافئة. يجب أن تظل النقود وسيلة للتبادل وليست موضوعًا للتبادل. يجب أن يعكس المعروض النقدي في الاقتصاد كتلة الثروة التي ينتجها الفاعلون الاقتصاديون.
ث ـ الإجراء الرابع يتعلق بمنع البنوك من الانخراط في استثمارات مضاربية بحتة (مبدأ تحريم الغرر والميسر). بعبارة أخرى، يجب أن نعود إلى الدور الأساسي للبنوك كوسيط مالي في الاستثمار والإنتاج وليس كمضارب أو مقرض.
ج ـ الإجراء الخامس يتمثل في إعادة توجيه البنوك نحو تمويل الأنشطة الإنتاجية والتجارية في حدود رأس المال الذي تمتلكه بالفعل (مبدأ دعم التمويل للأصول الملموسة والاقتصاد الحقيقي). يجب حظر البيع على المكشوف والعقود الآجلة والمقايضات وجميع المشتقات والمعاقبة عليها.
ستسمح هذه التدابير بالتنمية المستدامة والخاضعة للرقابة. فهي لا تطرح أي صعوبة تقنية خاصة في التنفيذ. المشكلة تكمن بالكامل في ميزان القوى بين القوة المالية والسلطة السياسية. اللاعبون الأقوياء في التمويل العالمي سيبذلون قصارى جهدهم لمنع مثل هذا الإصلاح. فقط التعبئة الفعالة للمواطنين يمكن أن تجبر السياسيين على إعادة الفرد إلى قلب النظام المالي.
وأما السياسات الهيكلية فهي تتمثل في السياسة المالية والسياسة النقدية وسياسة المالية العمومية واعداد الميزانية. ففي حين يعتمد نموذج النمو التقليدي السائد على الديون عبر السوق النقدية فان النموذج المقترح يرتكز على الاقتصاد الحقيقي عبر تطوير السوق المالية :
السياسة المالية: ونقصد بالسياسة المالية، كل القوانين والتشريعات التي تصدرها الدولة من أجل التحوّل من اقتصاد الديون الى اقتصاد المشاركة. وتهدف السياسة المالية في هذا المنوال الى تحقيق الاستقلالية المالية عبر التقليص من اللجوء الى الديون وخاصة منها الخارجية لتمويل الاستثمار الخاص والعمومي. ويتم ذلك بتعبئة المدخرات الوطنية وبجلب رؤوس الأموال الأجنبية عبر السوق المالية وتوجيهها نحو الاستثمار، إذ تعتبر صناديق الاستثمار والصكوك بمختلف أنواعها وكذلك التمويل التشاركي (الكراونفاندينغ) الآلية التي تمكّن من بلوغ هذا الهدف. فتمويل الاستثمار عبر المشاركة والمضاربة والوكالة بالاستثمار تستند الى العدل في تقاسم المخاطر وليس في تحويل المخاطر وفق القاعدة الشرعية الغنم بالغرم والخراج بالضمان.
السياسة النقدية: تهدف السياسة النقدية الى التخلص التدريجي والمدروس من نظام سعر الفائدة والتحول على المدى المتوسط الى نظام المشاركة وتقاسم المخاطر بين مختلف الأطراف. فقد تبين أن سعر الفائدة (معدل الربا) آلية غير فعّالة في تخصيص الموارد، سواء كانت الفائدة مرتفعة، فهي ظلم للمقترض، أو صفرية وسلبية، فهي ظلم للمقرض. فالنظام الربوي المعاصر أنتج خلال العقود الماضية حالات من التخبط يصفها القرآن الكريم "كالذي يتخبطه الشيطان من المس" وأن الدول التي تمكنت من تحقيق نوع من الاستقرار المالي هي التي لديها نسبة فائدة حقيقية تقارب الصفر. فالسياسة النقدية في الاقتصاد الإسلامي تقوم على التبادل وليس على الإقراض الذي يقود إلى توسّع المديونية (وأحلّ الله البيع وحرم الربا). فالبيع والشراء نشاط تبادلي يرتبط بالاقتصاد الحقيقي ارتباطاً مباشرا ويسهم في تنمية حركة السلع والخدمات والأصول القائمة على الملكية ويمكّن من رواج الثروة ويقلّص من دائرة المديونية.
تقود السياسة النقدية في هذا المنوال الى تنظيم الائتمان بشكل يحول دون حدوث انكماش أو تضخم مالي عبر ضبط نمو الكتلة النقدية في حدود لا تتجاوز نسبة النمو الاقتصادي الى جانب التوجه نحو التخلص التدريجي من هيمنة سعر الفائدة كآلية وحيدة لإدارة النشاط الاقتصادي. وقد أثبتت التجارب العملية الحديثة إمكانية اللجوء مرحليا الى النظام الهجين، وهو نظام يتعايش فيه جنبا الى جنب النظام المستند الى سعر الفائدة مع نظام التمويل الإسلامي.
المالية العمومية: ونقصد بالمالية العمومية، الحوكمة في التصرف في المال العام من حيث تعبئة موارد الزكاة والموارد الجبائية وغير الجبائية وكيفية صرفها للصالح العام أي بعبارة أخرى سياسة تعبئة موارد الزكاة والسياسة الجبائية وسياسة الإنفاق العام.
أما على مستوى هيكلة ميزانية الدولة وخلافا للهيكلة السائدة في الاقتصاديات المعاصرة من تقسيم لميزانية الدولة الى عنوان أول يعنى بتسيير دواليب الدولة وعنوان ثان يعنى بالاستثمار، فميزانية الدولة في اقتصاد السوق الإسلامي تتكوّن من ميزانية أساسية وهي ميزانية الزكاة وميزانية فرعية هي ميزانية الجباية ولا تلجأ إليها الدولة إلا في صورة عدم كفاية ميزانية الزكاة أي في صورة تسجيل عجز فيها. فإذا لم تكن الحصيلة الاجمالية للزكاة كافية لتغطية النفقات العامة الاجبارية للدولة يمكن حينئذ اللجوء الى الجباية من خلال فرض ضريبة عادلة على القادرين من الافراد والمؤسسات، الأقدر فالأقدر، بشرط ألا يكون هناك إنفاق ترفي وأن تكون الضريبة في إطار الحاجة العامة، استنادا للحديث الشريف" ان في المال حقا سوى الزكاة".
ميزانية الجباية: تعتمد السياسة الجبائية في هذا المنوال على التخفيض في نسب الجباية وتوسيع الوعاء الضريبي مع الحرص على تكريس العدالة الاجتماعية، عملا بما قدمه ابن خلدون في هذا الجانب من مقولات معبّرة تمت الإشارة الى البعض منها مثل : "القليل في الكثير كثير والكثير في القليل قليل" وقوله"إذا كثرت الجباية أوشكت الدولة على النهاية"، نعتبر هذه المقولات إطارا مرجعيا أجمع عليه كبار الاقتصاديين مثل "لافير" وغيره من الاقتصاديين والذين يرون في ارتفاع نسب الجباية سببا أساسيا في تراجع معدلات النمو الاقتصادي ومدخلا للأزمات الاقتصادية والمالية التي عاشتها عديد الدول في العالم. أما بخصوص النفقات فيقع اللجوء الى نظام التخصيص في الميزانية من أجل معالجة العجز الشامل بمعنى يتم اعتماد نظام الميزانيات المتخصصة بدلا من الميزانية الواحدة، حيث يوجّه كل واحد منها الى كفاية نوع من الحاجات العامة ولا يُنقل قسم منها الى آخر إلا عند الضرورة التي تقدر بقدرها.
خاتمة:
تناول هذا البحث مشكلات النمو في بلدان منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا وهي بلدان رئيسية ذات وزن استراتيجي في العالمين العربي والإسلامي تعيش مفارقة صارخة وبونا شاسعا بين حجم الثروات الطبيعية والمادية والبشرية التي تمتلكها وضعف النمو وهشاشته التي تتسم به اقتصادياتها.
سلّط البحث الضوء على جملة من المشكلات الهيكلية مثل الهشاشة والريعية والمديونية وضعف الحوكمة الداخلية من جراء الفساد، والمشكلات الموضوعية ذات العلاقة بالظروف الخارجية وما يحدث من صدمات مؤثرة مثل تقلبات أسعار الفائدة العالمية وأسعار الطاقة والمواد الأولية والصدمات الناجمة عن الصراعات المتفاقمة في المنطقة والعالم مثل التأثيرات الناجمة عن الحرب في غزة والضفة الغربية والحرب في السودان بالإضافة الى تأثيرات الحرب الروسية الأوكرانية. يعكس تظافر هذه المشكلات واستدامتها فشلا ملحوظا لنموذج النمو الليبرالي الذي يهيمن منذ عقود طويلة على اقتصاديات تلك البلدان. كما يعكس تباينا صارخا بين السياسات التي ينفذها وبين الخصوصيات الثقافية والاجتماعية لمجتمعات تلك البلدان، الشيء الذي يتطلب مقاربة جديدة لتحليل تلك المشكلات واقتراح نموذج يتلاءم مع تلك الخصوصيات.
تستند المقاربة المقترحة إلى تبني نهج مغاير في مسائل الحوكمة والتنمية لبلدان المنطقة يتخطى بها نموذج الدولة الريعية التي استنفذت أغراضها وينتقل بها إلى نموذج دولة الاقتصاد الحقيقي القائم على العمل والإنتاج والاستثمار والاعتماد على الذات في بناء الاقتدار والقدرة على النهوض. كما يعتمد هذا النهج على استلهام الأفكار الفعالة من منظومة القيم والمبادئ الإسلامية في المجال الاقتصادي والمعاملات المالية التي بدأت تستقطب اهتمام العالم وخصوصا منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية الأخيرة. كما ترتكز هذه المقاربة الإسلامية على قراءة لعوامل النمو الاقتصادي بدءا بتحديد أصل المشكلة الاقتصادية الأم المتمثلة في ظاهرة الفساد، وحوكمة عناصر الإنتاج ونموذج التمويل الذاتي للاقتصاد و من ثم تحديد مرتكزات النمو من منظور اقتصادي إسلامي المتمثلة في ثلاثية الانفاق والتبادل والملكية، وأخيرا كيفية الانتقال من النموذج الليبرالي القديم الى النموذج الإسلامي الجديد عبر جملة من الإجراءات العملية والسياسات الهيكلية من خلال توخي منهجية واقعية مدروسة ومتدرجة.
* أستاذ الاقتصاد والتمويل الإسلامي
[email protected]
إقرأ أيضا: تحديات النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا.. المشكلات الهيكلية
إقرأ أيضا: تحديات النمو الاقتصادي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.. المشكلات الموضوعية