تعود «دارة الأنصاري للفكر والثقافة»*، بالتعاون مع جريدة «الأيام»، بإعادة نشر بعض مقالات أ. د. محمد جابر الأنصاري، «بتصرف» وبقراءة للحاضر من ماض قريب، حول الصراع العربي - الإسرائيلي والحل المفقود للقضية الفلسطينية منذ عقود، لعل ما يأتي فيها يسهم، ولو باليسير في إعادة قراءة الواقع التاريخي القديم لهذا الصراع وسبل تفكيك تعقيداته، وصولاً لمسار متجدد نتنفس، على طريقه أمل عودة الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني وفق خريطة سلام، شامل ودائم، يكافح من أجلها من لا يعرف لليأس مكانًا في عالم يصرخ بالمفارقات والمزايدات والتأجيلات والاستهانة بالكرامة الإنسانية والروح البشرية.


منذ حرب حزيران عام 1967م والعرب تلّح عليهم الأحداث والصدمات لمعرفة المعنى الحقيقي لإسرائيل وصانعي إسرائيل، ولكن يبدو أنه يتوجب على العرب قبل كل شيء معرفة المعنى الحقيقي لأنفسهم، من هم؟ وماذا يريدون؟ وإن الذي لا يعرف نفسه على حقيقتها، لن يعرف عدوه على حقيقته!! كتب «تيودور هرتزل» مفلسف الفكرة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر: (علينا أن نكون جزءاً من سور للدفاع عن أوروبا في آسيا، ومركزاً أمامياً للحضارة ضد البربرية). وفي الربع الأخير من القرن العشرين، أرسل مناحيم بيغن طائراته الأمريكية الصنع لضرب المنشآت العلمية العربية في العراق تأكيداً لاستمرار «المركز الأمامي اليهودي للحضارة الغربية والأمريكية في آسيا» ضد ما أسماه جده «هرتزل» بالبربرية. وبالطبع فإن العالم المتحضر لن يجرؤ على سؤال إسرائيل من هو البربري؟ أهو الذي يبني العلم؟ أم الذي يقصفه بالطائرات؟! فالحضارة يريدونها حكراً في هذه المنطقة على اليهود، والبربرية كما قدرها «هرتزل»، يجب أن تظل قدر العرب. وإذا ما قرر بعض العرب معاندة هذا القرار والعمل على اكتساب العلم الحقيقي والحضارة الحقيقية، فالجواب هو ضربهم بالطائرات (المتحضرة) وإرجاعهم إلى البربرية بالقوة. هل تحتمل مثل هذه الغارات أقل من هذا التفسير؟ وهو أن العلم والحضارة ممنوعان على العرب بقرار صهيوني. ذلك واضح كالشمس لأبدع المراقبين الأجانب. ولكن ماذا نقول لبعض اتجاهات التفكير السياسي العربي التي تحاول بحسن نية تحويل النمر إلى قط أليف! المشكلة إذن ليست في إيجاد دولة لليهود في فلسطين، ولا في اعتراف العرب بالكيان الإسرائيلي ضمن حدود آمنة وعلاقات طبيعية، فلو أن المشكلة كانت كذلك، لنهجت إسرائيل طريق الحل والتهدئة بين عرب أقدموا على الاعتراف بها وإقامة علاقات معها، وعرب آخرين ينتظرون فقط صيغة أفضل للحل لينهوا المشكلة. ولكن إسرائيل تأبى إلا أن تصرخ في وجه كل العرب بلا استثناء، بأنها ليست تلك الدولة ذات الحدود الآمنة التي يتصورون؛ لأن حدودها الآمنة تقع في عمق المشرق العربي كله وصولاً إلى صرح المنشآت العلمية، مروراً غداً بآبار النفط وأرضه، رجوعاً بعد غد إلى إجهاض أي تقدم يتحقق في أي قطر عربي، لأن إسرائيل – كما يقول رؤسائها على مر التاريخ ومنهم بيغن – هي التي تقرر مصادر الخطر عليها بغض النظر عن أية أعراف أو اتفاقات دولية. إذن فهذه إسرائيل الحقيقية، كما حددها «هيرتزل» في الأصل، وكما يجسدها قادتها، اليوم وغداً وبعد غد، بلا وهم وبلا تزويق: هي تدمير للتعايش العربي الحضاري ومحاولة لإيقاف مسيرة العلم، وهي تسميم للعلاقة العضوية بين العربي وأخيه، هي كل ذلك قبل أن تكون إخراجاً للفلسطيني من وطنه. والكبار الذين خلقوا إسرائيل لم يخفوا أغراضهم أيضاً، ولم يقولوا إنها دولة مسالمة لليهود المسالمين، بل قال بلسانهم، «كامبل بانرمان» رئيس الحكومة البريطانية عام 1902م، وقبل صدور وعد بلفور بسنوات، ما يلي بالنص الحرفي: (إن هناك قوماً يسيطرون على أرض واسعة تزخر بالخيرات وتسيطر على ملتقى طرق العالم، وتجمع هؤلاء القوم ديانة واحدة، ولغة وتاريخ وآمال واحدة. وليس هناك حاجز طبيعي يعزل القوم عن الاتصال ببعضهم، ولو حدث واتحدت هذه الأمة في دولة واحدة في يوم من الأيام لتحكمت في مصير العالم، ولعزلت أوروبا عنه. ولذلك يجب زرع جسم غريب في قلب الأمة، يكون عازلاً عن التقاء جناحيها، ويشتت قواها في حروب مستمرة، ورأس جسر ينفذ إليه الغرب لتحقيق مصالحه).. هذا ما قاله رئيس وزراء بريطاني عام 1902م. وبالأمس بريطانيا، واليوم أمريكا، ولا جديد في جعبة الغرب غير تجاهل العرب والدعم غير المحدود لعدوان إسرائيل حيثما وصل. ومنذ حزيران عام 1967م والعرب تلح عليهم الأحداث بل الصدمات لمعرفة المعنى الحقيقي لإسرائيل، والمعنى الحقيقي لصانعي إسرائيل، بلا أوهام أو تبسيط أو تقليل، ولكن يبدو أنه يتوجب عليهم معرفة المعنى الحقيقي لأنفسهم قبل كل شيء، وتقرير من هم، وماذا يريدون، لأنه، كما قلنا في البدء، الذي لا يعرف نفسه على حقيقتها، لن يعرف عدوه على حقيقته. والمعرفة المطلوبة ليست بياناً يعلن، بل هي إرادة تفعل وترد وتتحرك، وربما كان أخطر من إسرائيل على العرب بطء استجابتهم لخطر إسرائيل! إن بعض استجابة الأمم ضد التحديات هي أخطر من التحديات ذاتها؛ لأن من التحديات ما يوقظ الهمم ويدفع على العمل. والمطلوب من العرب معالجة ضعف استجابتهم للخطر وتحديد علة ذلك الضعف، أما الخطر ذاته فهو واضح ويعلن عن نفسه كل يوم بأشد الأسلحة تقدماً وفتكاً، وبما يتعدى الضفة الغربية وغزة بكثير في الامتداد وفي العمق!
* دارة «الأنصاري» للفكر والثقافة هي مؤسسة ثقافية تهدف إلى الحفاظ على إنتاج الدكتور الأنصاري وأعماله الفكرية والأدبية التي اهتم بها وركز عليها طوال مسيرته العلمية، وفي مقدمتها التعريف بالجوانب المضيئة للحضارة الإسلامية والتراث العربي ومطالبته بصحوة فكرية وثقافية لأمة العرب، وإتاحتها للمختصين والمهتمين للبناء عليها وإثرائها.

المصدر: صحيفة الأيام البحرينية

كلمات دلالية: المعنى الحقیقی على العرب

إقرأ أيضاً:

الكشف عن مفاجأة بشأن هوية وجنسية الجاسوس الذي زوّد إسرائيل بمعلومات عن المخبأ السري لـ‘‘حسن نصرالله’’

الكشف عن مفاجأة بشأن هوية وجنسية الجاسوس الذي زوّد إسرائيل بمعلومات عن المخبأ السري لـ‘‘حسن نصرالله’’

مقالات مشابهة

  • من الشخص الذي زوّد إسرائيل بمعلومات عن نصر الله؟.. صحيفة تكشف التفاصيل
  • الكشف عن مفاجأة بشأن هوية وجنسية الجاسوس الذي زوّد إسرائيل بمعلومات عن المخبأ السري لـ‘‘حسن نصرالله’’
  • معلومات فرنسية تكشف هوية الجاسوس الذي قاد إسرائيل لاغتيال نصرالله
  • “الفكر العربي وتحديات الوضع الراهن”.. ندوة بمعرض الرياض للكتاب
  • الطيار الذي قتل نصرالله لم يعرف التفاصيل إلا قبل وقت قصير
  • الجزيرة والنصر.. «الخطأ ممنوع» في «تضميد الجراح»
  • الواقع العربي والقابلية للهزيمة
  • صدور العدد الجديد من مجلة التراث العربي عن اتحاد الكتاب العرب
  • "بتهمة الثورة والعلم".. مليشيا الحوثي تواصل حملة الاختطافات في دمت بالضالع "أسماء"
  • اتحاد الصحفيين العرب يدين جرائم إسرائيل ضد المدنيين في لبنان