لجريدة عمان:
2024-11-24@08:01:20 GMT

«الميزة العابرة» في رأس مال الابتكار

تاريخ النشر: 9th, January 2024 GMT

في عام 2003 بدأت شركة تسلا (Tesla) بالتموضع في قطاع صناعة السيارات، أدركت الشركة مبكرًا بأن مستقبل النقل لا يمكن أن تشكله ممارسات صناعة السيارات التقليدية السائدة حينذاك، فبادرت في وضع تصور مستقبلي حيث يستطيع الناس قيادة السيارات الكهربائية التي تعمل بالطاقة المتجددة، والمتصلة بشبكات ذكية، والقادرة على القيادة الذاتية، ووضعت استراتيجية بمنهجية «العودة من المستقبل» (Future-back) لتوجيه الابتكار نحو تحقيق مستوى الطليعة في صناعة السيارات الكهربائية، وفي عام 2020 حازت تسلا على لقب شركة صناعة السيارات الأعلى أداءً من حيث إجمالي العائدات، ونمو المبيعات، وقيمة المساهمين على المدى الطويل، فبدأت شركات التكنولوجيا في استلهام الدروس من هذه التجربة، والبحث عن طرق لاستنساخهاـ، ولكن استراتيجية تسلا في الابتكار ليست سهلة التقليد، كما جاء في تصريح أحد القادة التنفيذيين لابتكارات خط التصنيع حيث قال: «كان الأمر صعبا بالنسبة لنا أيضًا؛ لأننا تاريخيًا كنا مهندسين ميكانيكيين عظماء، ولكن النجاح يتطلب إجادة مهارات أخرى بجانب الهندسة مثل البرمجيات»، إذن ما هي أسرار التفكير المستقبلي في استراتيجية تسلا؟ وما هي الرهانات الكبيرة التي وضعت في رأس مال الابتكار للحصول على التوافق التنفيذي لهذه الاستراتيجية؟ دعونا في البدء نتعرف على مصطلح رأس مال الابتكار (Innovation Capital)، إذ تشير الأدبيات إلى أنه تعبير اقتصادي يُطلق على ذلك الأصل الاستراتيجي الناتج عن اندماج أربعة عوامل في عملية الابتكار، وهي أولاً رأس المال البشري الخاص بالابتكار ويتكون من عقول المبتكرين التي تقود التفكير المستقبلي، وحل المشكلات بشكل إبداعي، وثانيًا يأتي رأس المال الاجتماعي الذي يعزز الشراكة والتعاون مع الجهات المالكة للموارد الداعمة لكسب القيمة من مخرجات العقول الابتكارية، أما العامل الثالث فهو رأس مال السمعة الخارجية، وهي تعكس السجل الحافل بالنجاحات السابقة في مجال الابتكار، وأخيرًا تربط «مضخمات الانطباع» العوامل الثلاثة السابقة بروابط تمكينية من خلال حزمة الإجراءات والسياسات والممارسات التي تستهدف تعزيز المصداقية، وجذب الموارد اللازمة لازدهار الابتكار واستدامته، وفي تجربة شركة تسلا كان التركيز على رأس مال الابتكار من منظور إطلاق العنان للنمو غير المألوف في أوقات عدم اليقين الاقتصادي، وذلك كتوجه استراتيجي طويل المدى، والتزام حقيقي بجهود الابتكار التحويلي، وهذا هو سر نجاح الاستراتيجية.

فإذا عدنا لسنوات قليلة للوراء نجد أن جائحة كورونا قد فرضت على قادة الأعمال تأجيل الخطط الاستراتيجية ذات المدى المتوسط والطويل، كان ذلك بسبب التفكير التفاعلي الذي اتسم به عصر الوباء، ولم تتعافَ المؤسسات في مختلف القطاعات حتى يومنا هذا من منهج التفاعل الآني بشكل كامل، مما خلق علاقة عكسية بين الاستثمار في الموارد والاستثمار في صناعة القرارات الاستراتيجية، فإدارة الأعمال المؤسسية تتطلب ضخ موارد بشرية ومالية وتخصيص الوقت الكافي للوصل إلى نسب معقولة للإنجاز، وهكذا تقلصت المساحة المخصصة للتخطيط والاستشراف الاستراتيجي على مدى زمني أوسع، وإذا أخذنا في الاعتبار تحديات تعريف محركات التغيير الأكثر صلة بواقعنا سريع التحولات، فإن نمذجة السيناريوهات المستقبلية المحتملة قد لا تفي بتطلعات تحديد الفرص الجديدة التي تستحق المزيد من التحقق والاستثمار، ولكن هذا لا يعني إطلاقًا التخلي عن وضع الخطط الاستراتيجية طويلة الأمد، وإنما يجب التركيز على فهم المتطلبات الحالية والمستقبلية على ضوء تأثير القوى الكلية التي هي أوسع من حدود المؤسسة، والتي غالبًا ما يتم تصنيفها على أنها اجتماعية وتكنولوجية، ودوافع اقتصادية وتنظيمية، وهذا ما يطلق عليه رؤية الواقع الحالي حول الزوايا، وهي ضرورية لإعادة تشكيل مضامين الميزة التنافسية قياسًا على نماذج الفرص الأكثر قابلية للتطبيق في الوقت الراهن، وتطلعات المشهد المستقبلي، وهنا ظهر مفهوم «الميزة العابرة» الذي طرحته البروفيسورة ريتا ماكجراث؛ أستاذة علوم الاستراتيجية في جامعة كولومبيا، وجاء ظهوره بعد تزايد القلق بشأن جدوى التخطيط على المدى الطويل في ظل وتيرة التغييرات السريعة التي تجعل حتى الخطط التي مدتها ثلاث سنوات متقادمة وغير مواكبة، ويتم أرشفتها قبل أن يتوفر لها الوقت الكافي للتنفيذ، مما يعني أن عالم المؤسسات والأعمال اليوم بحاجة إلى المرونة والاستجابة من خلال تصميم مبادرات استراتيجية موجهة لتوظيف مزايا تنافسية مؤقتة، مع الاحتفاظ باستراتيجية طويلة الأمد تغطي جميع مضامين الميزة التنافسية بشكل متكامل، لتفادي ظاهرة الانفصال الأساسي والوظيفي بين الاستراتيجية وفرص الابتكار في التنفيذ، ففي حين أن الاستراتيجية من دون ابتكار ليست سوى عملية آلية لوضع ميزانية برامج التنفيذ بشكل سنوي، فإن الابتكار من دون استراتيجية يؤدي إلى نقص حقيقي في الالتزام التنفيذي.

وهذا يقودنا إلى نهج التخطيط الاستراتيجي بالعودة العكسية من المستقبل وهو طريقة تفكير وتخطيط تبدأ والنهاية في الاعتبار، وبذلك يتفادى هذا النهج النقاط العمياء في التخطيط التقليدي، ويتضمن تحديد المشهد المستقبلي ثم تحليل المعطيات ومسارات التنفيذ بطريقة زمنية عكسية من المستقبل إلى الحاضر، من أجل تحديد الأولويات على المدى القريب الذي يمتد من ثلاث إلى خمس سنوات، أي أن التخطيط يبدأ من الوجهة المنشودة، أو على الأقل بالقرب من هذه الوجهة، مما يجعل رحلة التنفيذ أكثر احتمالا، وذلك بعكس التخطيط التقليدي الذي يبدأ من الواقع الراهن بكل تحدياته مما يؤدي في غالب الأحيان إلى انحراف مسارات التنفيذ عن الوصول للوجهة المنشودة، ويختلف نهج التخطيط بالعودة من المستقبل عن أداة رسم السيناريوهات الكلاسيكية، فهو لا يتعلق بالتنبؤ بالمستقبل أو وضع افتراضات، بل يتمحور الأمر حول استكشاف الاحتمالات الأقرب لتحقيق الحالة المستقبلية، واختبار فرضيات إعادة إنتاج الدور الاستراتيجي للفريق أو المؤسسة، وتتلخص المنهجية في رسم صورة المستقبل ثم تعريف خطوات الوصول إليه كمهام أساسية ومُلزمة، مع إتاحة المرونة في مجموعة «المساحات البيضاء» التي تعكس مبادرات النمو التي لم يتم تعريفها في المهام، وهنا يتم تحويل الرؤية إلى عمل، من خلال ترجمة الحالة المستقبلية حرفيًا إلى قائمة المهام، وتحديد أولويات التنفيذ عبر مناطق الفرص الاستراتيجية (Strategic Opportunity Areas SOAs) والتي تتميز بالقيمة العالية والتنوع، أما الخطوة الأخيرة فهي الرجوع بالحالة المستقبلية إلى الحاضر، وفيها يتم تحويل الفرص الاستراتيجية في المهام إلى محفظة ابتكارات، مع مراجعة البيئة الداعمة بشكل شمولي لضمان أن القرارات التي يتم اتخاذها متسقة مع مخطط الاتجاه نحو الحالة المستقبلية المرغوبة، ونظرًا لأن فلسفة التنفيذ تقوم على فكرة محفظة الابتكارات وليست رهانًا استراتيجيًا واحدًا فإن صناعة المستقبل قد يصبح أكثر قابلية للتحقق.

وعبر هذه الآفاق فإن الحاجة ضرورية إلى بناء المرونة أثناء صناعة المستقبل، وإيلاء الأولوية لتأصيل رأس مال الابتكار ضمن المشهد المستقبلي، فبمجرد أن نفهم الدوافع الأكثر تأثيرًا للتغيير في المستقبل، فإنه بالإمكان تسخير أدوات التخطيط الاستراتيجي في وضع نموذج للفرص الأكثر قابلية للتطبيق، وإذا قرأنا قصة تسلا بتمعن نجد أن مؤشرات الريادة والتفوق واعدة ومستمرة في الارتفاع، ويرى المحللون بأن الإمكانات المستقبلية لابتكارات شركة تسلا تفوق التكهنات الحالية بكثير، فجوهر التفكير المستقبلي الذي اتبعته الشركة استهدف تشجيع الإبداع والتعلم وحل المشكلات، وذلك بالتركيز على نتائج وتأثير رأس مال الابتكار بدلًا من الوقوف على القيود والتحديات، فالرهانات الكبيرة التي انبثقت من التفكير المستقبلي جاءت بمثابة خريطة طريق الابتكار، وأسفرت عن استراتيجية تتطلع إلى ما هو أبعد مما يستطيع القادة رؤيته الآن، وأحدثت تحولًا جذريًا في الصناعة، لأنها تمكنت أولًا من تعريف الميزة العابرة التي تسمح بالاستثمار الآمن والمُجزي، ولم تركز على نماذج العمل الموجهة إلى المنتج النهائي وحسب، ولكن التفتت بكل عناية إلى النظام البيئي للمنتج بأكمله، وطبقت نهجًا فعالًا لبناء رأس المال الابتكاري، حتى تمكنت الشركة من الفوز بالثقة والموارد والدعم اللازم لتنفيذ الرؤية الاستراتيجية مما يجعل هذا الجزء من تجربتها فريدًا حقًا، ومصدر إلهام دائم لأي مبتكر أو مؤسسة تبحث عن الاستدامة والريادة.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صناعة السیارات من المستقبل

إقرأ أيضاً:

نورة الكعبي: الابتكار يعزز مكانة الإمارات المتقدمة في التكنولوجيا

تالين (وام)

أخبار ذات صلة محمد بن راشد: لا تبطئ أبداً الإمارات: آثار خطيرة لقرار إسرائيل حظر عمل «الأونروا»

ألقت معالي نورة الكعبي، وزيرة دولة، كلمة رئيسية في قمة تالين الرقمية التي تُعقد سنوياً من قبل رئيس وزراء إستونيا، وتجمع قادة من دول العالم المتقدمة رقمياً، بما في ذلك مسؤولين حكوميين وممثلي المنظمات الدولية والقطاع الخاص.
وللبناء على الأسس التي تم تناولها في القمم السابقة، اجتمع أصحاب الشأن لتسليط الضوء على «ضمان غدٍ رقمي» ومعالجة التحديات واستغلال الفرص نحو مستقبل رقمي مستدام.
وأكدت معالي الكعبي، خلال القمة التي عُقدت تحت عنوان «بناء دول مستدامة وشاملة ومتقدمة تكنولوجياً»، التزام دولة الإمارات بإعطاء الأولوية للتقنيات الناشئة نظراً لأهميتها في تحقيق الأهداف المنشودة للدولة، كما أشارت إلى دور هذه الابتكارات في تعزيز مكانة دولة الإمارات المتقدمة في مجال التكنولوجيا والتي تضمن مستقبلاً مستداماً وشاملاً.
كما قامت معاليها بتسليط الضوء على جهود دولة الإمارات البارزة والتي شملت تطوير الأطر التنظيمية المستقبلية القابلة للتكيف، إضافة إلى الاستثمار في برامج التعليم والتدريب والتعاون مع المنظمات العالمية.
وشددت معاليها على التزام دولة الإمارات بتوفير إمكانية الوصول إلى التكنولوجيا الناشئة الآمنة والشفافة والأخلاقية على مستوى العالم بشكل متكافئ، حيث يتضح هذا من خلال استثمارات دولة الإمارات في نماذج اللغة مفتوحة المصدر المهمة، بما في ذلك «جيس» و«ناندا».
وشددت معاليها على أهمية تعزيز القيم الإنسانية والتسامح في مجال التكنولوجيا المتقدمة لتفادي أي استخدام خاطئ لهذه التقنيات التي تدعم التقدم وتهدف إلى استعادة التوازن.
وتؤكد مشاركة معالي الكعبي في قمة تالين الرقمية التعاون الوثيق بين دولة الإمارات وجمهورية إستونيا، كما تسلط الضوء على التزام الدولتين المشترك باستخدام التكنولوجيا لتحقيق تقدم مستدام، والمساهمة في محادثات عالمية حول حوكمة التكنولوجيا.
رافقت معاليها في القمة، آمنة فكري، سفيرة الدولة لدى فنلندا وإستونيا.

مقالات مشابهة

  • «ملتقى الأدلة الجنائية» يحفز الابتكار لدى طلبة الجامعات
  • ‏«COP29» يحقق التنفيذ الكامل للمادة الـ6 من اتفاق باريس
  • “اعتقال مع وقف التنفيذ”.. زعماء لم يسجنهم قرار الجنائية الدولية
  • قرار المحكمة والأبعاد أكبر من التنفيذ
  • نورة الكعبي: الابتكار يعزز مكانة الإمارات المتقدمة في التكنولوجيا
  • سجل الملاحقات القضائية يؤرق إسرائيل.. والجنائية تفتقر لآليات التنفيذ
  • أوكرانيا: موسكو استهدفتنا بصاروخ عابر للقارات
  • التخطيط: فرق التعداد ستزور جميع الأسر التي لم تصلها في الساعات الماضية
  • ردود فعل أوروبية على قرار «الجنائية الدولية» باعتقال نتنياهو: التنفيذ ملزم
  • محافظ لحج يطالب بسرعة إنجاز وثائق المشاريع التنموية.. خطوة نحو التنفيذ