يحكي غسان كنفاني في مجموعته القصصية «عالم ليس لنا» عن السيد عبد الرحمن بطل قصة «نصف العالم» الذي يتعرض لحادثة تؤدي إلى فقدانه إحدى عينيه، وأصبح يرى نصف الأشياء فقط، ولا يرى نصفه الآخر. بمعنى أن السيد عبد الرحمن مثلا عندما يشاهد رجلا يجلس على الكرسي فإنه يشاهد الرجل بدون الكرسي وعندما يرى الكرسي لا يشاهد الرجل وهكذا لا يبدو له إلا نصف الأشياء.
في العالم الذي نعيش فيه يبدو أنه يتماثل مع عالم السيد عبد الرحمن، عالم موغل في النظرة الأحادية والرؤية الناقصة للأشياء. فعندما أشاهد تلك الكوارث والمآسي والدمار وآلة القتل التي لا تتوقف يتبادر إلى ذهني سؤال أطرحه على نفسي باستمرار، هل نحن فعلا نرى وندرك ما يحصل حولنا أم إننا نعيش في عالم آخر لا نرى فيه شيئًا من العالم الواقعي؟ هل يتمثل السيد عبد الرحمن فينا نحن ولا نرى إلا النصف من العالم؟ أم أن العالم الغربي وأمريكا على رأسه هو السيد عبد الرحمن الذي يرى نصف العالم ولا يرى شيئًا آخر غيره؟ أم إننا لا نرى العالم بعيوننا وعواطفنا دون عقولنا وكل الأشياء ماثلة أمامنا واضحة الرؤية لا تحتاج لمكبرات؟
ليس بسر ولا بخاف على أحد ولا يحتاج الإنسان إلى منظار متطور ولا لذكاء ليكتشف أن أمريكا قسمت العالم إلى نصفين، العالم الذي تتربع عليه وهو العالم المتحضر المتطور المتقدم وفق قياساتها، فعملت على صياغة ملامحه ونظامه، وهي من وضع شروطه وقوانينه ورسمت أخلاقه وأرست دعائمه، حتى أنها أثثته بالعديد من المنظمات والهيئات والبنوك والصناديق. وهي مدركة تمامًا أن هناك وعلى نفس الكوكب ليس إلا عالم واحد يتكون من بشر يعيشون على الكوكب نفسه ويتنفسون الهواء نفسه لكنها تعمدت ألا ترى ذلك، أرادت أن يكون العالم نصفين: نصف تراه هي وتدافع عنه، والنصف الآخر عالم تمقته وتحتقره، ولا ترى فيه إلا عالما مظلما عبثيا مليئا بالفقر والعوز، تمارس عليه شتى أنواع القتل والتجارب الدموية التدميرية الكارثية.
أمريكا لا ترانا ولا تريد أن ترانا وهي الحقيقة الدامغة، وإذا أرادت أن ترانا فإنها ترانا وفق ما هي تريد، رغم أنها تتجلى أمامنا، حاضرة في كل شيء، تشغل كل المساحات، وتملأ علينا الثغرات، وتسد الفراغات، شئنا أم أبينا، فهي في الفرح حاضرة، في الحزن، في الظلم، في التناقضات، في كل الأوقات موجودة، في الدقائق والساعات والأيام والسنين، في الليل والنهار، وفي العتمة والنور، في الحب، وفي الشتيمة وفي القبح، أينما ولينا وجوهنا فثمة أمريكا، لا فكاك منها، أمامنا نجدها وخلفنا وعلى جانبينا وفي الأعلى والأسفل. كل ذلك ولا ترانا إلا بعين واحدة.
فالعالم كله أصبح كأنه السيد عبد الرحمن لا يرى إلا نصف الأشياء، فهو كله أمريكا يعيش وفق شروط أمريكا، ويتنفس أمريكا، ويفرح كما تفرح، ويبطش كما هي تبطش.
ليس المشكلة أن ترى أمريكا نصف العالم فقط، لكن الأخطر والأنكى والأدهى من ذلك هو ما ينتج عن تلك الرؤية الناقصة للعالم، فتغير الأفكار والقناعات والمقدسات والأخلاقيات والأساسيات، كل شيء يجري وفق تلك الرؤية التي أسقطت النصف الآخر من العالم. اختلفت المفاهيم، وتعددت التفسيرات، وأريقت النظريات والأيديولوجيات، فأصبح لكل شيء دلالات ومعان مختلفة، فعندما تتحدث أمريكا وعالمها عن القتل والدمار والإرهاب، حتما ليس كما يفهمه العالم الآخر، عالم المظاليم والمسحوقين فالقتل والإرهاب والتدمير والاغتصاب في هذا العالم ليس كما هو في العالم الآخر. فليس بغريب عندما تصرح أمريكا بأن إسرائيل لم ترتكب أي مذابح في غزة، ولا يوجد أي دليل على ذلك، وعندما يسكت الغرب (المتحضر) كله عن ذلك وكأنه فعلا لا يشاهد ولا يرى شيئا، لا يرى كل تلك المجازر والكوارث التي تجعل شعر رأس أي شخص يقف هلعًا من هول ما يشاهد.
تقود تلك الرؤية الناقصة إلى شيء آخر غريب ومؤلم في نفس الوقت هو عندما يسعى ثلة من المظلومين والمسحوقين الذين تعرضوا تاريخيًا لشتى أنواع الاستعمار والأذى، الذين ينتمون طبيعيًا إلى العالم الآخر الذي لا تراه أمريكا عندما يتمنى هؤلاء لو أنهم بعين واحدة ليشاهدوا العالم كما تشاهده أمريكا معتقدين أنه هو العالم الحقيقي الحر والمتقدم، بل تجاوز ذلك، وأصبحت أمريكا هي المتلازمة، ونحن نحب أن ترانا هكذا وفق ما هي تريد، لا يهم أن ترى العالم ولا ترانا نحن، وإن رأتنا فإنها ترانا بدون العالم وبعيدين عنه تمامًا، وكأننا مخلوقات فضائية بعيدة، كل ذلك لا يهم. ومهما حاول الشرقيون سادة العالم الآخر الذي لا تراه أمريكا مهما حاولوا الكف عن بلورة خطاب الكراهية والعنف (طبعا بما تراه أمريكا) وتبني ثقافة السلام والتعايش والقبول بالآخر فلن يلقى ذلك القبول لدى الطرف الآخر طالما هو في نظره عالم مختلف مغاير لا يلتقي معه في تفكيره، ولا يتبنى نفس معتقداته ونظرياته، مهما حاول هذا العالم المستضعف إعادة قراءة المشهد والأحداث وملاءمتها والاندماج فيها.
لا أدري في الحقيقة إن كانت صحيحة مقولة الشاعر الإنجليزي روديارد كيبلينغ «الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا»، تلك المقولة التي كرست في العصر الاستعماري وأرست دعائم العنصرية والتمييز والتفريق بين شعوب العالم، لكل ما أدريه وألمسه أن تلك المقولة تتكرس ويترسخ وجودها ليس فقط في عقولنا نحن ولكن أكثر من يكرسها ويتبناها هم الذين نحتوها، أصحاب العالم الآخر الذي تقوده أمريكا، فهم لا يرون فينا إلا عالم آخر ضعيفا غير إنساني لا يستحق العيش. من يعتقد أن عهد الاستعمار ولىّ وذهب فهو بالتأكيد مخطئ، ولا يرى إلا عالمه هو. إذا كان عصر الاستعمار والاستغلال، كما قال أحد الباحثين يُمكن خصومه من إنتاج مضاداته المتمثلة في حركات التحرر والمقاومة والاستقلال، وإن كان ذلك مرحليًا ومؤقتًا وخصوصًا في عالمنا العربي، فأنه بالتأكيد نجح هو أيضًا في إنتاج أدواته الاستعمارية وتحديث منظومته ونفخ فيها روح الاستعمار والاستغلال من جديد وبشتى الوسائل متخطيًا كل الممكنات والمعقوليات، الحقيقة ماثلة أمامنا، وتتجلى في شتى الأمثلة، من إيجاد وزراعة إسرائيل في قلب العالم العربي، إلى إنتاج قادة شعوبيين إلى ترسيخ ثقافة عنصرية بغيضة لا ترى إلا تفوقهم وغطرستهم، إذ ليس العالم في نظرهم إلا ما يريدون أن يرونه هم.
يوغل (السيد عبد الرحمن) في الرؤية لكنه لا يرى إلا النصف من العالم، ويقتنع تماما، ويقنع ثلة معه بأن لا عالم إلا العالم الذي يراه هو. وبمرور الزمن كثر حوله المريدون والتابعون. عندما نتطلع لما يحدث حولنا نقتنع تمامًا أن عالم أمريكا عالما ليس لنا. لكن الحقيقة ما نراه أمامنا ليس إلا عالم كارثي مثخن بالألم والجراح والمصائب التي تلفه من كل الجهات في المقابل عالم آخر الذي تراه وصنعته أمريكا، وسيجته بالقوانين والأنظمة التي تضمن بقاءه وتفوقه، لكن هذا العالم نراه نحن بوضوح ليس في حقيقته إلا عالما يتهاوى من البؤس الأخلاقي والفقر الروحي لا تحكمه إلا آلة المصالح والرأسمال بعيد كل البعد عن الأخلاق والسمو والإنسانية، فهو بحق عالم ليس لنا والمعذرة هنا للكاتب الفلسطيني غسان كنفاني في اقتباسي لهذا العنوان الجميل.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: السید عبد الرحمن العالم الآخر من العالم عالم لیس إلا عالم آخر الذی لیس لنا ولا یرى لا عالم لا یرى لا نرى
إقرأ أيضاً:
"بص يا كبير" أولى أغنيات ألبوم مروان موسى الجديد "الرجل الذي فقد قلبه"
كشف الرابر مروان موسى عن ألبومه الغنائي الجديد "الرجل الذي فقد قلبه"، والمقرر ظهوره للنور 5 مايو المقبل على مختلف المنصات الموسيقية مع SALXCO UAM | VIRGIN RECORDS.
يتكون الألبوم من خمسة أجزاء يعكس خلالها مروان المراحل الخمس للحزن من حالة الإنكار والغضب والمساومة والإكتئاب إلى القبول، وينقل الجمهور في رحلة مشاعر شخصية للتحول من الفقدان إلى الشفاء.
"الرجل الذي فقد قلبه" ألبوم باللغة العربية، إلا أنه يتجاوز اللغة، مقدما سردًا عميقًا يلامس المشاعر ويعبر كل الحدود عاكسًا طموح مروان موسى في ترك بصمة خاصة على الساحة العالميّة.
قال مروان موسى:" لم يولد هذا الألبوم بين ليلة وضحاها، بل نحته الزمن والحزن والإرادة، واستغرق وقتل طويلا لأن كل كلمة ونغمة عكست مشاعر حقيقية"، مضيفا "هذا المشروع يتكون من خمسة أجزاء، ويجسد كل جزء مراحل الحزن ويترجم خريطة العواطف التي واجهتها بعد فقدان والدتي، ليس مجرد حديث عن الفقدان، بل مُحاولة بحث عن القوّة للوقوف مجددا وتقديم يد المساعدة لأي شخص قد يحتاجها، بخاصة للجيل الأصغر سنًا إذ أردتهم أن يعلموا أن أصعب وأقسى اللحظات في الحياة لا تدوم إلى الأبد".
كما أضاف مروان موسى:" سجلت الألبوم في عدة دول حول العالم بين مصر وهولندا وألمانيا وتايلاند وإنجلترا ولوس أنجلوس، وكل بلد كانت لها بصمتها الخاصة على أغنيات الألبوم، وأنا كنت صبورًا، واخترت بعناية الموسيقى وجميع المُتعاونين على هذا الألبوم الذين بإمكانهم ترجمة المشاعر التي لم أستطع دائمًا توظيفها في كلمات، وأنا فخور جدًا بهذا العمل، ومُتحمّس كثيرًا ليسمعه العالم، وأتمنّى أن يجد كلّ مستنع أغنية تعبر عنه في هذا الألبوم عندما يحتاجها تمامًا كما يعبر هذا الألبوم بالكامل عنّي".
ومهد مروان موسى لصدور الألبوم عبد إطلاقه أغنيته المصورة "بص يا كبير"، وهي بمثابة تعبير عاطفي يتناول الفراق والذكريات والفوضى العقلية وتنقل مشكلات الثقة والإنفصال العاطفي ومحاولة محو الذات، وتحمل التوتر في جوهرها، عقل مُجهد وقلب متعب خالٍ من المشاعر.
تعكس "بص يا كبير" هيك مروان موسى الفنية المميزة والتي جعلت منه واحدًا من أكثر الأصوات جاذبيّة في المنطقة. واعتمد مروان في الفيديو كليب على تصوير سينمائي متميز لتعزيز الجانب العاطفي للأغنية، إذ نراه في عدد من المشاهد وهو يتصارع مع إنعكاسه ويقف وحيدًا تحت سماء واسعة، ما يظهر العزلة والصراع الداخلي في قلب الأغنية سواء من خلال لقطات شاملة تؤكّد على وحدته أو صور مُشوّهة لشعوره بالحبس في غرفة. بإختصار، فإن هذا الفيديو هو مذكرات بصريّة تكشف عن الضعف والحيرة.
كرابر ومنتج وكاتب أغاني رائد، يواصل مروان موسى في رسم مستقبل الهيب هوب العربي بصوته المتميز وسرد قصصه بشكل جذاب، إذ يمزج التأثيرات المصريّة التقليديّة مع الراب المُعاصر، ما يخلق أسلوبًا فريدًا يتردّد صداه بعمق مع قاعدة معجبيه المتزايدة.
كثالث أكثر رابر عربي استماعا على الإطلاق على سبوتيفاي، بنى مروان موسى حضورًا لا يُمكن إنكاره عبر العالم، حيث جمع أكثر من 246.2 مليون إستماع على أنغامي و294 مليون مشاهدة على يوتيوب. تم تعزيز قاعدته الفنيّة العالميّة عندما لفتت أغنيته "بطل عالم" العالم، كما حصل على جوائز، بما في ذلك ثلاث جوائز رئيسيّة في جوائز الموسيقى الأفريقية لعام 2022.