لجريدة عمان:
2025-04-26@21:04:55 GMT

الهروب إلى الأدب

تاريخ النشر: 9th, January 2024 GMT

الهروب إلى الأدب

غريبة فعلا هي مسألة القراءة في الكثير من الأحيان. وبخاصة في هذه العلاقة مع الكتاب الذي تقرأه، أو حتى الذي تكون اشتريته منذ فترة ولم تنتبه له إلا مؤخرا عن طريق الصُدفة. منذ بدايتها، وأنا أتابع «سلسلة إبداعات عالمية» (التي تصدر عن «المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب» في الكويت)، وأستطيع أن أدعي أنني قرأت الغالبية العظمى من أعدادها، ما عدا النُذر اليسير.

من هذا النُذر، كتاب «السكينة» للروائي المجري أتيلا بارتيش (ترجمة نافع معلا، ومراجعة عبدالله عبدالعاطي النجار) الذي حزته من سنتين تقريبا، لكنه «ضاع» في متاهة مكتبتي، إذ كان من الأعداد التي لم تصل إلى بيروت في موعدها المحدد، بل وصلت متأخرة سنة تقريبا؛ كانت يومها المطارات مقفلة بسبب وباء «كوفيد-19»، ما أثر على حركة انتقال الكتب من بلد إلى آخر (الثقافة دائما ضحية شيء ما !!).

في أي حال، مع بداية هذه السنة الجديدة، كان لا بدّ من إجراء مسح ما، لترتيب بعض الرفوف التي تغزو الغرفة، حيث أعمل وأكتب، لا لشيء، إلا لأن همّ الجاحظ يؤرقني دائما، حيث هذه الخشية في أن تتساقط عليّ حمولتها من دون أن أنتبه. ثمة كتاب كان «يلهو حزينا» وراء كتب أخرى. ربما انزلق دون انتباه، أو ربما لم يتحمل البقاء مع الآخرين فقرر الانعزال وحده. لا أعرف إن كان قد شعر بإنقاذي له، لكني أعرف جيدا أنه أنقذني من البحث عن كتاب أقرأه لأقضي يومين، أكتشف فيهما بمتعة كبيرة، هذا الكاتب المجري (مواليد 1968) الذي أخذني إلى عوالم فاتنة، على الرغم من أن روايته مليئة بعنف متنوع (سياسي وجنسي وعاطفي...)، على العكس ممّا يدعيه العنوان.

يومان من المثابرة، من دون أن تشعر بالندم. بل تفرح بهذه اللقيا! وخاصة إن كنت بحاجة إلى رواية تجعلك تعيد التفكير بالكثير من المسلمّات التي تعتقد أنك تعرفها. لذلك لا بدّ أن تنجذب إليها، بمجرد أن تعتاد على طبيعة الحبكة المتشظية، غير الأفقية، الخالية من المنطق الزمني، والتي تحيك نسيجها وفقا لأفكار الراوي - أندور وير - كما لذكرياته التي تعيده (ونحن معه) إلى فترات عديدة من حياته التي يتمحور حولها هذا العمل الكبير دون مبالغة.

يمكن وضع «السَكينة» ضمن فئة الروايات الاجتماعية التي تركز على «كوارث» العلاقة بين الأم والابن، خلال الفترة التي كانت فيها المجر تحت النظام الاشتراكي وما بعده (أي من سبعينيات إلى تسعينيات القرن الماضي)، عبر كتابة تتسم بروح الدعابة السوداء والطريقة الأسلوبية (وحتى الفكرية) في تناول العنف والإثارة الجنسية.

انتهت مسيرة الممثلة المجرية الشهيرة ريبيكا وير، التي لعبت دورا لا يُنسى في دور كليوباترا، فجأة. لقد «انتقلت» ابنتها جوديت، عازفة الكمان الشابة ذات الموهبة الاستثنائية، إلى الغرب، حيث استغلت رحلة إلى هناك لتقديم عرض موسيقي، للهروب من نظام بلادها و«أمها السامة». حدث ذلك في نهاية السبعينيات وكانت السلطات المجرية تستخدم كل الوسائل للحفاظ على الموهوبين في البلاد. إزاء ذلك، بدأت الممثلة الكبيرة تعاني من أسوأ أنواع الضغوط، ألا وهي حرمانها من التمثيل، فتحاول من دون جدوى إقناع ابنتها بالعودة.

ولكي تنقذ حياتها المهنية، تعلن ريبيكا وير في نهاية المطاف وفاة ابنتها، وتنظم جنازة مزيفة وترسل إعلانات إلى قادة الحزب وأتباعهم الثقافيين. لكن مع عملية استمرار استبعادها، تقرر الممثلة أن تعزل نفسها في المنزل وألا تعود لرؤية أي شخص مجددا، باستثناء ابنها، شقيق جوديت التوأم، بحكم الظروف؛ كانا يعيشان في الشقة عينها المليئة بــ «ديكورات ومعدات مسرحية»، إذ لم يكن من السهل في مجر السبعينيات، العثور على مكان للسكن. خلال الخمسة عشر عامًا التي تلت ذلك، وبينما انهار النظام السياسي بأكمله (1989: فتح الحدود؛ 1991: رحيل القوات السوفييتية)، لم تغادر الممثلة شقتها بل كانت تمارس طغيانًا غيورًا على ابنها.

ابنها هو الراوي. لذا يصف بدقة محاولاته اليائسة للهروب من الشبكة التي نسجتها مصيبة والدته وشرها حوله وجعلته مشلولا في تحركاته. بل أصبح يعاني أيضا من نوبات الخرف والسلوك الاستبدادي، والنوبات القهرية والعنف، ما أدى إلى إهانات وابتزاز عاطفي لا هوادة فيها. كأن حياته الخاصة قد تمّ تعليقها... الحب، الكراهية، الغضب، اللامبالاة، تدمير الذات - كل ذلك سوف يشكل جهودا متعددة ومتنوعة للخلاص من هذا الطوق، لغاية الفعل الأخير، الأكثر سلبية ولكن الأكثر فعالية على الإطلاق...

تكمن قوة الرواية في المرونة التي تمكن من خلالها بارتيش من خلق جو الحياة القمعي الذي عاشه الشاب، بينما كان يعرف حرية هائلة تمكن من اختراعها لنفسه. في البداية، كانت كتابات الشاب جزءًا من نظام عائلة الحيلة والأكاذيب: لتعزية والدته، كتب بيده اليسرى رسائل مخترعة كانت أخته ترسلها إلى والدتهما أثناء جولاتها في العواصم الغربية، مثلما يضع أحيانا بعض المبالغ لتأمين نفقات الأم على أساس أنها من ابنتها. لكن في الواقع، لم تكتب الفتاة أي رسالة أبدًا وسوف ينتهي بها المطاف آخر الأمر بأن تنتحر. ولكن شيئا فشيئا، ترتفع وتيرة الكتابة، ونشهد - في نفس الوقت الذي نشهد فيه كارثة حياة دمرها نظام سياسي غير إنساني - ظهور حرية تعبير هائلة استطاعت إحباط الرقابة التي كانت الأم تحاول ممارستها، لذا يهرب الكاتب الشاب عبر الأدب، ليبتكر فصولا وحكايات كي لا يصل إلى مرحلة القتل: قتل والدته.

كيف يمكن للمرء أن يحب عندما يكون أسير مصيبة والدته بالمعنى الحرفي والمجازي؟ بعد العديد من المغامرات غير السعيدة، وكلها مكرسة لحياة جنسية جامحة وعنيفة ومدمرة، يلتقي الراوي بــ إستير ويشعر، لأول مرة، بشعور يشبه الحب. هل ستكون هذه الفتاة قادرة على تحريره؟ في أي حال، كانت هي من تدعمه، وبفضلها أصبح كاتبا. إذ حتى المشاهد الأكثر فظاظة (للإثارة الجنسية وللعنف أيضًا) كانت دقيقة ومكتوبة بأسلوب متقن تمامًا (تمّت مقارنة بارتيش بكلّ من ألبير كامو وجان بول سارتر). لكن الأمر المثير للدهشة هو الغياب التام للسخرية (أو لنقل الكلبية، وفق المفهوم الفلسفي). وحتى في أثناء ممارسة هذه الدعابة السوداء، يظل المؤلف قريبًا من شخصياته، ولا يندّد بها أبدًا، ويتجنب الطريق السهل.

من خلال قصته الفسيفسائية هذه، يكشف الكاتب عن تماسكها عبر عملية تجميع قطعها البطيء (كلعبة البازل)، حيث تتشابك الأسرار العائلية والانغماس في العلاقة الحميمة مع استحضار المجر المضطهدة. نص اتيلا بارتيش هذا، القوي والكبريتي والمعقد، برأيي الخاص، يضعه في مصاف كبار الكتّاب الذين عرفناهم من أوروبا الشرقية كمثل هيرمان بروخ، وكونديرا (في رواياته الأولى) والبولندي أندري ستاشيوك وغيرهم كُثر.

من قال إن الرواية الحديثة هي وليدة أوروبا الغربية فقط؟

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

صلاة القلق.. إبداع مصري يتوّج بـ«جائزة البوكر العربية 2025»

فازت رواية “صلاة القلق” للكاتب المصري محمد سمير ندا بالجائزة العالمية للرواية العربية لعام 2025، وهي واحدة من أبرز الجوائز الأدبية في العالم العربي.

الرواية “تميزت بأسلوبها الفريد الذي يمزج بين الرمزية والسرد المتعدد الأصوات، مما يجعلها تجربة فكرية وجمالية عميقة، تدور أحداثها في قرية خيالية تُدعى “نجع المناسي”، حيث تتشابك المأساة والخيال في إطار رمزي يعكس تحديات إنسانية وسياسية”.

واختيرت الرواية الفائزة “من بين 124 رواية مرشحة، ووصلت إلى القائمة القصيرة إلى جانب خمس روايات أخرى من دول عربية مختلفة، مثل “دانشمند” للموريتاني أحمد فال الدين و”المسيح الأندلسي” للسوري تيسير خلف”.

والجائزة العالمية للرواية العربية، المعروفة أيضًا باسم “البوكر العربية”، “هي واحدة من أبرز الجوائز الأدبية في العالم العربي”.

تأسست الجائزة “عام 2008 بهدف دعم الأدب العربي المعاصر وتشجيع القراء على التفاعل مع الروايات ذات الجودة العالية. تُمنح الجائزة سنويًا للرواية الفائزة، وتبلغ قيمتها 50 ألف دولار أمريكي، بالإضافة إلى دعم ترجمة الروايات الفائزة والقائمة القصيرة إلى لغات أخرى لتعزيز انتشار الأدب العربي عالميًا”.

ترعى الجائزة حاليًا “مركز أبوظبي للغة العربية التابع لدائرة الثقافة والسياحة – أبوظبي، وتُعتبر منصة مهمة لتكريم الإبداع الروائي باللغة العربية. كما تُنظم الجائزة ورش عمل للكتّاب الشباب الواعدين، مما يساهم في تطوير المواهب الأدبية الجديدة”.

مقالات مشابهة

  • شكسبير واليوم العالمي للإنجليزية
  • جلسة نقدية تبحث تجليات السرد الشعبي في الأدب العُماني
  • جلسة تبحث تجليات المسكوت عنه في النص والحياة
  • المملكة تفتح أبواب جناحها في معرض أبوظبي الدولي للكتاب 2025
  • بيت الحكمة يسلط الضوء على حكايات "كليلة ودمنة" على مدار أيام "الشارقة القرائي للطفل"
  • ما هي الإمتيازات التي كانت تدافع عنها د. هنادي شهيدة معسكر زمزم
  • في تصعيد للخلاف بين إدارة ترامب والسلطة القضائية.. اعتقال قاضية بتهمة مساعدة رجل على الهروب
  • صلاة القلق.. إبداع مصري يتوّج بـ«جائزة البوكر العربية 2025»
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • مؤكداً فشل العدوان الأمريكي.. السيد القائد: حاملة الطائرات “فينسون” باتت تتدرب على عمليات الهروب أثناء المواجهة مع القوات اليمنية