الحرب في السودان: أزمة مركبة وملامح رؤية لما بعدها
تاريخ النشر: 9th, January 2024 GMT
أحمد إبراهيم أبوشوك
مقدمة
أكَّدت الحرب الدائرة الآن في الخرطوم وبعض الولايات أنَّ السُّودان يعاني من أزمة سياسية وفكرية وعسكرية مركبة. ويتمثل ضلعها السيادي في فشل الحكومات الوطنية المتعاقبة منذ الاستقلال في وضع أسس راسخة لحكم السُّودان، ووضع آليات مناسبة لإدارة تنوعه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي؛ ويتمثَّل ضلعها الثاني (السياسي-الفكري) في عجز المؤسسات الحزبية، التي أفسد أداؤها السياسي استدامة التحول الديمقراطي، وعطلت الانقلابات العسكرية الناتجة من سوء هذا الأداء حركة نموها الطبيعي، فحولتها إلى كيانات تفتقر إلى المؤسسية والدافع الديمقراطي الذاتي، والرؤية المستقبلية لإدارة الحكم في السُّودان.
وباندلاع حرب الخامس عشر من أبريل 2023 ظهرت هذه العيوب الهيكلية في بنية الدولة السُّودانية، وخلقت اصطفافًا غير حميدٍ في المجتمع السُّوداني، في ضوئه أضحى الذين ينادون بضرورة إيقاف الحرب، يُصفون بأنهم يساندون قوات الدعم السريع المتمردة على القوات المسلحة؛ والذين ينادون باستمرار الحرب للقضاء على قوات الدعم السريع يصنفون بأنهم يناصرون عناصر النظام القديم التي تسيطر على قرار القوات الشعب المسلحة. وقد أججت هذه الخصومة الثنائية المدمرة وسائط التواصل الاجتماعي، التي استغلتها الأطراف المتصارعة لتجييش الرأي العام، دون تثبت من صحة الأخبار أو كذبها؛ لأن سردياتها الخطابية لا تستند إلى وازع قيمي، يقدم الأعلى (مصلحة الوطن) على الأدنى (مصلحة الحزب أو القبيلة أو الجهة). لا جدال في أن هذا الاصطفاف المدمر، قد دفع بعض المهتمين إلى البحث عن مخارج آمنة من الأزمة الراهنة قبل أن يصبح السُّودان أثرًا بعد عين. وعمد معظم هؤلاء إلى تقديم مقترحات جوهرية، تعالج أس الأزمة الزمنة، ويمكن أن تسهم في وضع حلول تأسيسية.
ملامح رؤية لما بعد الحرب؟قد استوقفني في هذا المضمار مقال للدكتور الواثق كمير بعنوان: “سودّان ما بعد الحربِ: ملامحٌ من رؤية !!” (10/12/2023). وقد أسس كمير ملامح رؤيته على ركيزتين. أولاهما، “تكوين جيش مِهني، يستبعِد وجود أي تنظيم سياسي داخله، ويخضع للإصلاح والتطوير، سويًا مع بقيةِ أجهزة القطاع الأمني، ويستوعب التنوع والتعدد اللذين تذخر بهما البلاد قاطبةً.” وقد طرح الدكتور الطيب زين العابدين هذه القضية من زاوية أخرى في مقال باكرٍ بعنوان “إعادة بناء الجيش السُّوداني أهم قضايا المرحلة الانتقالية” (22/06/2019)”، واقترح أن تكون عملية إعادة البناء عبر “لجنة مهنية ذات كفاءة ورؤية من قدامى جنرالات الجيش السُّوداني المشهود لهم في تاريخ العسكرية، وبالطبع ستكون تلك الخطة طويلة المدى محل نقاش وتشاور في كافة أفرع المؤسسة العسكرية قبل أن تجاز من هيئة رئاسة الأركان المشتركة العليا، وتصبح قابلة لبدء تنفيذها أثناء المرحلة الانتقالية ثم تستكمل فيما بعد. فليس هناك من بلد حديث لا يُعنى بتطوير قواته المسلحة تجنيدًا وتأهيلًا وتدريبًا وآليات ومعدات ذات تقنية عالية، فقد اضطربت الأمور في منطقتنا الأفريقية والشرق أوسطية، وكثرت فيها المخاطر الداخلية والخارجية. وعليه يتوجب أن تكون مهمة بناء الجيش السُّوداني أحد القضايا الكبيرة التي تهتم بها المرحلة الانتقالية، خاصة عند تحقيق السلام مع الحركات المسلحة، ودمج هذه الحركات في جيش قومي مهني له نظام موحد.”
ويؤكد طرح مصطلحي “إعادة الهيكلة” و”إعادة التكوين”، بالرغم من الفارق الزمن بين المقالين، أن قضية تأهيل جيش مهني واحدة تحظى بإجماع واسع في أوساط علماء الاجتماع والسياسة، بالرغم من الاختلاف المفاهيمي بين المصطلحين. وتقتضي معرفة الفرق بينهما النظر في مقال العميد الركن (م) حيدر المُشرَّف: “نحو بناء أجهزة أمن وطني بمفاهيم جديدة”، الذي شرحهما شرحًا مفاهيميًا مفيدًا. ووصف المُشرَّف في مقدمة شرحه أنَّ عملية إصلاح أجهزة الأمن الوطني (القوات المسلحة والأجهزة الأمنية والشرطية) تمثل “حجر الزاوية في … إعادة بناء الدولة السُّودانية المدنية”. وبناءً على ذلك أبان أن إعادة الهيكلة (Structural Review) “تعني الإبقاء على ما هو موجود، وترميمه، وربما تغيير الواجهات أو إلغاء البعض منها”، فهي عملية تشبه، من وجهة نظره، وضع الخمرة المعتقة في قنينةٍ جديدةٍ. أما إعادة التكوين (Reconstitution) فتعني إعادة التأسيس وفق رؤية جديدة، وأعمدة جديدة (عقيدة)، ومفاهيم جديدة. واستشهد في ذلك بإعادة تأسيس (تكوين) الجيش الألماني بعد الحرب العالمية الثانية (1939-1945)؛ حيث أصبحت عقيدته ذات طابع دفاعي، وبموجب ذلك قًلِصَت أعداد الجند، الذين خضعوا لتدريبات مكثفة في مجال الدفاع عن حدود ألمانيا الغربية وأمنها القومي، وبالكيفية نفسها خضع الجيش الياباني إلى إعادة تأسيس ذات عقيدة دفاعية. ويقترح المُشرَّف أن تعقب ذلك سياسة خصصة (Privtization)، تحول بعض مؤسسات القوات المسلحة القابلة لذلك إلى القطاع الخاص من أجل تخفيف النفقات، علمًا بأن الوظائف الإدارية (مثل: السائقين والطباخين وحراس بيوت الجنرالات والمرافق العامة) التي يمكن الاستغناء عنها تبلغ نحو 40% في القوات المسلحة. ويرى المُشرَّف أن عملية إعادة التأسيس (أو التكوين) يجب أن تشمل الأجهزة الشرطية والأمنية أيضًا.
أما الركيزة الثانية في ملامح رؤية كمير فترنو إلى الانعتاق من قيود الصراع السياسي في سبيل الجلوس على مقاعد “السلطة الانتقالية” الدستورية إلى فضاء التوافق السياسي لـ”تأسيس الدولة”؛ لأن تأسيس الدولة سابق لتبني الديمقراطية أداةً لتداول السلطة؛ فضلًا عن أن تجارب الانتقال الديمقراطية الثلاث (1964، 1985، 2019) السابقة في السُّودان، قد أثبتت فشلها، حسب وجهة نظر كمير، وإن الأخيرة منها قد شهدت انقلابًا عسكريًا في 25 أكتوبر 2021 واندلاع حرب مدمرة في 15 أبريل 2023 قبل اكتمال الفترة الانتقالية. ويضاف إلى ذلك تغير الظروف الموضوعية والذاتية التي أفرزتها حرب الخامس عشر من أبريل، التي جعلت عملية إعادة تأسيس الدولة السُّودانية ضرورة ملحة، يجب أن يشترك فيها جميع السُّودانيين، كما يرى كمير، “بما ذلك الجيش والقوات النظامية، دون إقصاء، إلا حزب المؤتمر الوطني (بشخصيته الاعتبارية)، ومن أجرم وأفسد”. ولذلك يرى كمير أن الشرعية الثورية التي استندت إليها حكومة عبد الله حمدوك بغية الوصول إلى الشرعية الدستورية قد انكمشت قاعدتها الجماهيرية، وأضحى من العسير تحقيق الشرعية الدستورية المفضية إلى الانتخابات العامة دون تحقيق “الشرعية التوافقية”. ولتحقيق الشرعية التوافقية يدعو كمير القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني إلى التسامي فوق خلافاتها وجراحاتها الحزبية لمصلحة الوطن، وإعادة تأسيس الدولة السُّودانية بمشاركة الجميع؛ ليشعروا بمسؤوليتهم تجاه الكسب المشترك الذي حققوه ويحافظوا عليه في إطار “رؤية الكل منتصر، أو الكل يكسب”. وتبدأ الخطوة الأولى لعملية إعادة التأسيس بتشكيل حكومة مدنية “من أكفاءٍ وشخصياتٍ وطنيةٍ مُستقِلةٍ عن الحزبية السياسية”، يستند برنامجها التأسيسي إلى مُهمتين رئيسيتين: أولهما: “وضع خطط إعادة البناء والتعمير، ومتابعة القضايا الإنسانية، وعلى رأسها توفير الأمن وحماية المواطنين المدنيين، وعودة النازحين واللاجئين إلى مواقعهم الأصلية، وإعادة تفعيل الخدمات الحكومية من صحة وتعليم، وقضايا المعيشة اليومية، وكل ما من شأنه عودة الحياة الطبيعية”. وثانيتهما: “اتخاذ كل التدابير اللازمة لتهيئة المناخ للعملية السياسية التأسيسية واتاحة الحريات العامة للعمل السياسي”. وتكون الحكومة مسنودة بهيئة قومية، تشترك في اختيارها “كافة القوى السياسية والمجتمعية والأهلية والشبابية (وأن يكون تمثيل الشباب ُمضمنًا في هذه القوى) ولجان المقاومة، والتنظيمات النسائية، ومُمثلين للولايات، (باستثناء من أجرم أو أفسد)، وحركات الكفاح المسلح، ومن الشخصيات الوطنية وقيادات الرأي العام، والمغتربون، ورجال وسيدات الأعمال، والقوات النظامية.” وتتبلور مهمة هذه الهيئة القومية في ترشيح رئيس الوزراء المدني، وتقييم وتقويم أداء الحكومة، وتشكيل المؤسسات والآليات اللازمة لتنفيذ هذه المهام… وعقد المؤتمر القومي الدستوري والاستفتاء على مسودة الدستور الصادرة منه، وقيام الانتخابات، وتسليم السلطة إلى حكومةٍ مدنيةٍ مُنتخبةٍ، تُدشن مرحلة التحول الديمقراطي الحقيقي.” وقد قدم الدكتور الوليد آدم مادبو وآخرون طرحاً مشابهاً لرؤية كمير، ويحمل بعضاً من مقاطعها، فالقراءة الفاحصة في هذه الأطروحات ربما تفضي إلى طرح رؤية متجانسة، وقابلة لسماع الرأي والرأي الآخر، بهدف تثقيفها والترويج لها لإحداث إجماع حولها من بنات وأبناء.
ملامح رؤية كمير وأسئلتها الصعبةلا جدال في أنَّ ملامح رؤية الواثق كمير جديرة بالنقاش الجاد والتدبر الموضوعي، والتحاور في الأسئلة التي طرحها في نهاية مقاله: كيف يحدث التوافق لاختيار أعضاء الحكومة المدنية؟ وكيف يحدث التوافق لاختيار أعضاء الهيئة القومية الجامعة والمؤتمر الدستوري؟ هنا مربط الفرس! وتجاوز مربط الفرس يقتضي الالتزام بمبدأين، أحدهما أخلاقي وثانيهما فكري- سياسي. ويتمثَّل الأخلاقي في تقديم مصلحة الوطن على المصالح الحزبية الضيقة، ويتجسد الفكري-السياسي في إجراء حوار موضوعي ومهني شامل لكل القضايا التأسيسية بحضور توافقي جامع لأصحاب المصلحة؛ لإعادة بناء الدولة، التي تسع الجميع، وتطبق مبادئ العدالة الانتقالية ومعايير التميز الإيجابي لتنمية الولايات التي تأثرت بالحرب والتي تعاني من مشكلات الفقر والمرض والجهل المزمنة. لكن كيف السبيل إلى ذلك هداكم الله.
الوسومأحمد إبراهيم أبوشوكالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: القوات المسلحة تأسیس الدولة عملیة إعادة الدولة الس ملامح رؤیة الم شر
إقرأ أيضاً:
قبيل صدور تقرير عن المجاعة .. الحكومة السودانية تنسحب من نظام عالمي لمراقبة الجوع
أعلنت الحكومة السودانية بقيادة الجنرال عبدالفتاح البرهان قائد الجيش، عن تعليق مشاركتها في نظام عالمي مخصص لرصد الجوع.
الخرطوم ــ التغيير
و أقدمت الحكومة السودانية على الخطوة قبل صدور تقرير من المنظمة يتوقع أن يكشف عن تفشي المجاعة في مختلف أنحاء البلاد.
هذه الخطوة قد تؤثر سلباً على الجهود المبذولة لمواجهة واحدة من أكبر أزمات الجوع التي يعاني منها العالم، مما يثير القلق بشأن الوضع الإنساني المتدهور في السودان.
ووفقاً لبرنامج الأغذية العالمي، فإن أقل من “5% من السودانيين يستطيعون أن يوفروا لأنفسهم وجبة كاملة” في الوقت الراهن.
فيما عانى 18 مليون سوداني من انعدام الأمن الغذائي الحاد، وصار خمسة ملايين منهم على شفا المجاعة، في حين كابد العاملون في مجال الإغاثة الإنسانية الذين يساعدونهم، من صعوبات في التنقل ونقص كبير في التمويل.
و في رسالة رسمية بتاريخ 23 ديسمبر، أوضح وزير الزراعة السوداني أن الحكومة قررت تعليق مشاركتها في نظام التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي.
و اتهم الوزير النظام بإصدار تقارير غير دقيقة، مما يهدد سيادة السودان وكرامته بحسب زعمه.
ومن المتوقع أن يكشف التقرير الذي سيصدر اليوم الثلاثاء عن انتشار المجاعة في خمس مناطق من البلاد، مع توقعات بامتدادها إلى عشر مناطق أخرى بحلول مايو المقبل، وفقاً لوثيقة بحسب “رويترز”.
تشير الوثيقة إلى أن الوضع الغذائي في السودان قد شهد تفاقماً غير مسبوق، حيث يعاني السكان من أزمة غذائية حادة نتيجة الصراعات المستمرة وصعوبة وصول المساعدات الإنسانية. هذه الظروف الصعبة تضع ضغوطاً إضافية على الحكومة والمجتمع الدولي للعمل على إيجاد حلول فعالة للتخفيف من معاناة المواطنين وتحسين الأمن الغذائي في البلاد.
و كان قد حذر برنامج الأغذية العالمي من أن الحرب المستمرة في السودان “قد تخلف أكبر أزمة جوع في العالم” في بلد يشهد أساسا أكبر أزمة نزوح على المستوى الدولي.
الوسومالجوع الحكومة السودانية انسحاب وزير الزراعة