العرب والنموذج الأمريكى (1 - 3)
تاريخ النشر: 9th, January 2024 GMT
صغير الحجم كبير القيمة؛ هذا هو كتاب المفكر المصري الكبير الدكتور فؤاد زكريا؛ الذي عنوانه «العرب والنموذج الأمريكي» - عدد صفحاته لا تتجاوز الخمسين - أوضح المؤلف من خلال صفحات الكتاب ملامح الصورة الذهنية المرسومة في عقل العرب عن النموذج الأمريكي، فضلًا عن رصده طبيعة علاقة الولايات المتحدة الأمريكية بمنطقتنا العربية رصدًا بالغ الدقة؛ تحدث فؤاد زكريا عن دعم أمريكا للكيان الصهيوني؛ وكأنه يعايش ما يحدث اليوم على أرض قطاع غزة من مذابح وجرائم إسرائيلية بدعم ومساندة الولايات المتحدة الأمريكية.
يقول فؤاد زكريا: إن من طبيعة أمريكا أنها بلد يدعو إلى الانبهار. إنها بلد جمع في داخله أكبر كمية من «أفعل التفضيل»: فهى أقوى، وأغنى، وأحدث من كل بلاد العالَم. كل شئ فيها أضخم، وأسبق، وأعظم مما تجده في أي بلد آخر. إنها البلد الذي وصلت فيه سيطرة الإنسان على الطبيعة، وتسخيرها لخدمته، وتأكيد سيادة العقل البشري على العالَم المادي وقدرته على تشكيله وفقًا لغاياته، إلى حدٍّ يفوق ما كان يحلم به الفلاسفة والأدباء وأصحاب «المدن الفاضلة» على مرِّ التاريخ. هذه حقيقة لا يقدر على إنكارها أحد. (فؤاد زكريا، العرب والنموذج الأمريكي، ص ٩)
يفرض النموذج الأمريكي نفسه علينا بقوة متزايدة، والأسلوب الأمريكي في الحياة، الذي قد يرفضه الكثيرون في العلن، يُقَابل في السر بإعجاب متزايد، والقوة الأمريكية العسكرية والاقتصادية والإعلامية تبهر أعدادًا متزايدة من العرب، ووصل الأمر إلى حد الاقتناع السائد على أعلى المستويات بأن محاكاة النموذج الأمريكي يمكن أن يحل جميع مشكلات بلد كمصر ويدفعها بخطوات سريعة إلى الأمام مادام هذا النموذج قد جعل من أمريكا ذاتها أعظم وأقوى دول العالَم في مائتي سنة فقط.
لقد أصبحت «الوصفة» غاية في البساطة: أمريكا بَنَت نفسها في قرنين من الزمان، فأصبحت أعظم بلاد العالَم. ومن ثمَّ فإن اتباعنا للنموذج الأمريكي سيجعلنا بدورنا عظماء متقدمين، وسينقلنا من الفقر إلى الغنى، ومن الضعف إلى القوة. ولقد رأينا كيف أعلن الرئيس المصري محمد أنور السادات أن ٩٩٪ من أوراق اللعبة السياسية في منطقة الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة الأمريكية. إن لم يكن هذا إنبهارًا وإنسحاقًا وإرتماءً في أحضان أمريكا.. فماذا يكون؟!
هذه هى العقيدة الجديدة التي لا توجد فقط في عقول بعض الزعماء، بل تتسرب بشتى الوسائل إلى عقول الناس العاديين. ولو تأملنا المحيطين بنا من الناس، لوجدنا نسبة كبيرة منهم تؤمن، داخليًا على الأقل، بفاعلية هذه «الوصفة» وتقف مشدوهةً أمام عظمة النموذج الأمريكي، وتتمنى في قرارة نفسها لو استطعنا أن نحاكيه في مجتمعاتنا.
يقول فؤاد زكريا: إن القضية التي أودُّ أن أدافع عنها، في هذا الكتاب هى:
أولًا: أن النموذج الأمريكي فريد في نوعه، حدث مرة واحدة ولا يقبل التكرار.
ثانيًا: أن هذا النموذج الأمريكي، الذي يدعو حقًا إلى الانبهار، مليء بالعيوب الذاتية.
ثالثًا: أن هذا النموذج لا يصلح لأي بلد في العالَم الثالث، ولا لأي بلد في العالَم العربي بوجه خاص.
ذهب فؤاد زكريا إلى أن المد الأمريكي يزحف، لا إلى سياستنا واقتصادنا فحسب، بل إلى عقولنا أيضًا. قد نغضب من أمريكا حين ينكشف دورها في مساندة إسرائيل بصورة مفضوحة، ولكن في عقول الكثيرين منا إعجابًا صامتًا بها، مقرونًا بالرهبة والانبهار.
يعتقد المؤلف أن الإعجاب المفرط بأمريكا يظهر، في عالمنا العربي (وربما في جميع بلاد العالَم الثالث) بين الفئات الآتية:
هناك أولًا أصحاب المصالح المباشرة. ولا أعني فقط أولئك الذين ترتبط مكاسبهم الاقتصادية بأمريكا، كأصحاب التوكيلات والشركات المتعاملة مع أمريكا، بل أعني أيضًا أولئك الذين يؤمنون بأن أعمالهم، حتى ولو لم تكن ترتبط مباشرة بأمريكا، لا تزدهر إلا في وجود جو يسوده الود والوئام مع الولايات المتحدة الأمريكية. هذه الفئة تتخذ موقفًا صريحًا، واضحًا، لا يستطيع أحد أن يلومها عليه، ما دام ينسجم مع أهداف الحياة التي اختارتها لنفسها.
أما الفئة الثانية فينتمي إليها أشخاص يتسمون بانحراف الوعي الاجتماعي والأخلاقي، فتغطي مشاعرهم ورغباتهم الأنانية على تقييمهم للنمط الأمريكي في الحياة. هؤلاء قد لا يكونون أصحاب مصالح مباشرة مع الأمريكيين، كالفئة السابقة، ولكنهم ينظرون إلى أمريكا على أنها مرادفة للترف، والمتعة الاستهلاكية، والمستوى المعيشي المرتفع، والسيارات الفارهة، والأجهزة الإلكترونية الراقية.
وتأتي بعد ذلك فئة أولئك الذين ارتبطت حياتهم، في وقت ما بأمريكا، أعني أولئك الذين تلقوا العلم فيها، أو قاموا بزيارات لها، وهؤلاء تعود نسبة كبيرة منهم إلى بلادهم وقد انطبعوا بالطابع الأمريكي في تعاملهم مع الناس، وأخذوا يستخدمون التعبيرات الأمريكية في لغتهم والحركات الأمريكية في سلوكهم، بل إن أعدادًا منهم تعود حاملة معها تحيزات الأمريكيين المريضة ذاتها. ومن هنا كنا نجد نسبة كبيرة ممن دخلوا أمريكا في مقتبل أعمارهم، بغير وعي سياسي واجتماعي متماسك، يجرفهم التيار في طياته، ويعودون إلينا بمظهر أمريكي وعادات وحركات وإيماءات أمريكية، ويحملون معهم، قبل هذا وذاك، إعجابًا غير مشروط، متغلغلًا في أعمق تلافيف أمخاخهم، بالنموذج الأمريكي في جميع المجالات.
أما الفئة الأخيرة فهم أولئك الذين يتأثرون بالصورة الإعلامية البراقة للحياة الأمريكية. ففي «الثقافة العالمية» التي تولدت عن الثورة المعاصرة في وسائل الإعلام، تحتل نواتج الإعلام الأمريكي موقع الصدارة. وهكذا تُصدِّر أمريكا إلى بلاد العالَم – وبخاصةٍ العالَم الثالث – أفلامها السينمائية ومسلسلاتها التلفزيونية واسطواناتها ورقصاتها وأزياءها. وفي هذه النواتج الإعلامية والثقافية تندس صورة برَّاقة للحياة الأمريكية، تمر في الفيلم أو الحلقة التلفزيونية مرورًا عابرًا، ولكنها تؤثر تأثيرًا بالغًا – على المستوى الشعوري واللاشعوري – في المشاهدين، ولاسيما إذا كان الطابع الغالب على حياتهم هو الحرمان. وبمضي الوقت تترسب في أذهانهم صورة أمريكا الضخمة، الفخمة، المترفة، القادرة على كل شئ، والتي لا يقف في وجهها شئ، ويكون لهذه الصورة حتمًا تأثيرها في وعيهم الاجتماعي واختياراتهم السياسية.
د. حسين علي: أستاذ المنطق وفلسفة العلوم بآداب عين شمس
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: قطاع غزة د حسين علي الولایات المتحدة الأمریکیة الأمریکی فی أولئک الذین
إقرأ أيضاً:
عصام زكريا.. «مناورة» مدير المهرجان
من يعرف الناقد عصام زكريا عن قرب، يدرك أنه كرس وقته لأمور محددة فى الحياة بجانب مسئولياته، منها السينما والبحث الدائم فى عالمها الرحب، واقتناص اللحظات المدهشة فيها وتقديمها بشكل لافت يوجه الأنظار لأيقوناتها القديمة ودررها الجديدة قيد العرض، أيضا الاستماع لأغانى الموسيقار محمد عبد الوهاب كلما أتيحت له الفرصة، ما يخلق بداخله حالة شجن تضبط إيقاع تفكيره، غير أن الغواية الكبرى فى حياة الناقد الكبير تتمثل فى عشقه للعبة الملوك، فيتابع لعبة الشطرنج ويمارسها كلما كان ذلك ممكننا، ويشاهد مبارياتها بشغف شديد، ويحفظ الكثير من خططها ومناوراتها الشهيرة.
منذ عدة أشهر صاحب اختيار الناقد الجميل لإدارة مهرجان القاهرة السينمائى موجة ترحيب كبيرة وحفاوة بالغة فى الأوساط السينمائية والثقافية، وذلك لما يتمتع به زكريا من محبة وشعبية وتفكير عملى ولمسة فنية تضفى عليه جوانب من الدهشة والإبداع.
ويعتقد البعض أن تمرس الناقد فى لعبة الملوك منحه القدرة على رسم الخطط المغايرة، والتى تفضى به دائما للوصول لأهداف مستحقة بطرق أسرع، وبشكل غير تقليدي، وهو ما ظهر جليا فى لمساته على هذه الدورة فى المهرجان.
فبعد اضطلاعه بمنصبه الجديد اعتمد الناقد السينمائى الكبير ومدير مهرجان القاهرة السينمائى الدولى فى دورته الـ٤٥ هذا العام على خطة جديدة، أو مناورة كما يطلقون عليها فى لعبة الشطرنج، وتتمثل فى اختيار مجموعة شباب واعدة يثق فى قدراتهم وثقافتهم وخبرتهم، وأظهروا مدى وعيهم والتزامهم بأداء الدور المنوط بهم، على أكمل وجه، منهم من لديه تجارب سابقة فى صناعة المهرجانات ومنهم من يقدمه لأول مرة فى هذه الدورة.
تعامل زكريا مع هؤلاء الشباب ومنهم أسامة عبدالفتاح مدير مسابقة النقاد الدولية وخالد محمود مدير المكتب الإعلامى ورئيس المركز الصحفى، ومحمد سيد عبدالرحيم مدير ملتقى أيام الصناعة والناقد رامى المتولى المسئول عن الأفلام الوثائقية وبرنامج أفلام أمريكا الشمالية وأستراليا والناقد محمد نبيل مسئول مسابقة آفاق السينما العربية والصحفى عرفة محمود القائم على نشرة المهرجان والمصممة أمنية عادل لكي يقدموا وغيرهم للسينما وللجمهور وجبة سينمائية قوية تحمل كثيرا من التميز والتفرد سواء فى الموضوعات التى تقدمها تلك الأفلام أو فى الفعاليات الخاصة بتلك الدورة.
وجاءت اختيارات الشباب على قدر الطموحات والآمال المعلقة عليها، وظهرت هذه الدورة من المهرجان لتلفت الانتباه وتحقق نجاحات كبيرة فى ظل العمل الدؤوب والاحترافية التى يتمتع بها فريق العمل ككل ومن خلفه مدير المهرجان ورئيسه الفنان حسين فهمى.
وما ساعد أكثر على نجاح هذه الدورة هو إعلان القائمين عليه رفضهم لرعاية الشركات التى جاءت أسماؤها فى لوائح المقاطعة، ليأكدوا بذلك وقوفهم إلى جانب فلسطين وغزة فى حربها مع الكيان الصهيونى، كما دعموا ذلك بإهدائهم هذه الدورة للقضية رافعين شعار أن مصر ومهرجاناتها وفنونها بجانب الشعب الفلسطينى دون هوادة وضد العدوان الغاشم الذى تتعرض له غزة.
وفى الأخير يجب التأكيد على نجاح مناورة لاعب الشطرنج، الذى أضفى لمسته الإبداعية على جوانب المهرجان لتخرج دورة مختلفة وتحقق كل هذا النجاح، وترسل رسالة لكل مناوئ لها ولمصر ولغزة فحاوها «كش ملك».