تُبثّ حرب الإبادة على الفلسطينيين في قطاع غزّة مباشرة على الهواء وعلى طول الوقت. وبالرغم من ذلك، فالذي يُبثّ أقلّ بكثير من أن يصوّر الحقيقة كاملة، يكفي فقط التذكير باستهداف الصحافيين بالقتل المباشر، الإمعان في الانتقام من مراسل قناة الجزيرة وائل الدحدوح، فالدولة المُدججة بالنووي تعجز عن ضبط غريزة الحقد تجاه هذا الرجل، فكيف بالشعب الفلسطيني ومقاومته؟! وحتى لو أمكن لكلّ ما في الأرض من وسائط إعلامية الإطباق على غزّة بالتقاط كلّ ما يجري فيها؛ فإنّ ذلك لن ينقل الحقيقة كاملة، لأنّ الحقيقة لا يمكن تصويرها.

الحقيقة تُقرّب فقط، وأمّا إدراكها بالكامل فغير ممكن إلا بالانغماس فيها ومعاناتها والوقوف في قلبها.

ما يُبثّ لا ينقل الحقيقة كاملة، ولكنه كافٍ لتقريبها، وللعلم بمأساة الفلسطينيين في غزة، وهي المأساة المجبولة بصبرهم وصمودهم، والمأساة التي يتكثّف فيها خطّ من الزمن الفلسطيني يزيد على مئة عام من الاستعمار والنضال والمعاناة والخذلان. اليوم، بات الزمن الفلسطيني الطويل واضحا ومفهوما، وتبيّن كيف وقعت النكبة، وكيف شُرّد الشعب الفلسطيني، وكيف تصرّفت الدول العربية حينها.

ظلّ الكثير من الكلام يلاحق الفلسطينيين منذ النكبة، عن تركهم لأرضهم وعدم البقاء فيها، بالرغم من أنّ الحروب الحديثة كلّها، بين قوى أجنبية أو كانت حروبا أهلية؛ تكشف كيف تدفع النار السكان الآمنين للنزوح، فإنّ تعيير الفلسطيني بنزوحه لم يتوقف من التداول التعييري، الذي انتهجته أنظمة عربية وتيارات انعزالية في العالم العربي، وكان يجري التغاضي باستمرار عن عمليات التطهير العرقي التي مارستها المليشيات الصهيونية في حينه، وعن أنّ الحرب كانت مع جيوش عربية
استعمار صهيوني منفلت بالكامل من أيّ كابح، ومندفع بإرادة الإبادة والمحو، ومتحرّك بالعنصرية الطاغية والاحتقار المحموم للآخر، الساكن الأصلي للأرض، ومن خلف الصهيوني النظام الدولي، في حينه كانت بريطانيا العظمى وهي تتقاسم المشرق العربي مع فرنسا، ومن حينه إلى اليوم هؤلاء على رأسهم الولايات المتحدة، ذلك كلّه يواجهه شعب أعزل، خرج من سلطة الدولة العثمانية المهزومة في الحرب العالمية الأولى إلى سلطة الانتداب البريطاني، في حين كانت بريطانيا تُهيّئ المنطقة المحيطة بفلسطين لتكون منطقة عازلة يُضمن بها أمن القادم المصطنع الجديد، الذي سيسمّى لاحقا "إسرائيل"، وبهذا يمكن أن نتوقع كيف هُزِمت الجيوش العربية عام 1948.

خرجت الجيوش العربية مهزومة عام 1948، الأمر الذي يعني، بالضرورة الأخلاقية والبدهية العقلية، وبقطع النظر عن أي مسؤولية أخرى لصيقة، دينية أو عروبية أو مصلحية، أنّ المسؤولية العربية عن ضياع فلسطين لا تسقط بالتقادم، وهي المسؤولية التي يُفترض أنّها تعزّزت بعد هزيمة العام 1967، والتي هي ومن كلّ وجه هزيمة عربية.

فقطاع غزّة كان خاضعا للإدارة المصرية، والضفّة الغربية ومنها شرقيّ القدس كانت جزءا من المملكة الأردنيّة الهاشمية، إلا أنّ الجيوش التي خسرت الحرب عام 1948؛ غطّت هزيمتها بدعوى أن الفلسطينيين باعوا أرضهم للصهاينة. وللمرء أن يعجب كيف راجت هذه الدعاية المنحطة في بلاد عربية كانت أبعد عن المواجهة، ويجري استرجاعها هذه السنوات الأخيرة بكثافة. وأمّا هزيمة العام 1967 فقد انتهت بأنّ وقّعت مصر سلاما منفردا مع "إسرائيل" لم يكن الحضور الفلسطيني فيه سوى مقترح لحكم ذاتيّ محدود، وفكّت المملكة الأردنية الهاشمية ارتباطها بالضفّة الغربية لاحقا.

ظلّ الكثير من الكلام يلاحق الفلسطينيين منذ النكبة، عن تركهم لأرضهم وعدم البقاء فيها، بالرغم من أنّ الحروب الحديثة كلّها، بين قوى أجنبية أو كانت حروبا أهلية؛ تكشف كيف تدفع النار السكان الآمنين للنزوح، فإنّ تعيير الفلسطيني بنزوحه لم يتوقف من التداول التعييري، الذي انتهجته أنظمة عربية وتيارات انعزالية في العالم العربي، وكان يجري التغاضي باستمرار عن عمليات التطهير العرقي التي مارستها المليشيات الصهيونية في حينه، وعن أنّ الحرب كانت مع جيوش عربية، إذ الفلسطيني أعزل ولم تكن له دولة يدفع بها عن بلاده. كما عُيّر الفلسطيني باستمرار بأنّ الأثمان التي دفعها في سبيل التحرّر أقلّ ممّا دفعته شعوب أخرى؛ وكأنّ هذا الخطاب السادي المُرتاح يتطلع لرؤية هذا الشعب قليل العدد وقد انتفى تماما من الوجود!

اليوم في غزة، يواجه الفلسطيني إبادة جماعية مكشوفة، فلا إمكان لأدنى تبييض لصفحة العدوّ، وهذا الفلسطيني صامد في أرضه لم يخرج منها، بالرغم من ملاحقته بالنار والدمار، وبالجوع والعطش، والقذف به في أحضان الأمراض والأوبئة والجراح والآلام؛ وقد مُنعت عنه حبّة الدواء، ومُنِع هو من الخروج من غزّة للعلاج، وهو في الأثناء يقاوم الدولة المدججة بأمريكا والنووي، والمدججة بـ"F35" والميركافاه، والمدججة بالهزيمة النفسية العربية التي انتهت إلى اصطفاف كامل في خندق العدوّ؛ يقاومها ببنادق الكلاشنكوف وقاذفات "RPG" المصنعة محليّا في مخارط بدائية، وبالنفْس الصلبة، والإرادة التي لا تنكسر.

تُعيد حرب غزّة اكتشاف نكبة العام 1948، وتُفسّر طول أمد المعاناة الفلسطينية من يومها إلى اليوم، وذلك في حين أنّ الفلسطيني الصامد من جهة، والمقاوم من جهة أخرى؛ والأمر بهذا القدر من الوضوح، وبطولته ومأساته تُبثّان على مدار الساعة؛ يُفترض أنّه لا يستحقّ إلا الانحياز الحازم، والدعم الثابت، والمحبّة الخالصة؛ بيد أنّه، ويا للمفارقة، لم يخلُ الفضاء العربي ممّن ينحاز ضمنيّا أو صراحة للعدوّ، ويعيد اجتراح دعاية الكراهية للفلسطينيين
تُعيد حرب غزّة اكتشاف نكبة العام 1948، وتُفسّر طول أمد المعاناة الفلسطينية من يومها إلى اليوم، وذلك في حين أنّ الفلسطيني الصامد من جهة، والمقاوم من جهة أخرى؛ والأمر بهذا القدر من الوضوح، وبطولته ومأساته تُبثّان على مدار الساعة؛ يُفترض أنّه لا يستحقّ إلا الانحياز الحازم، والدعم الثابت، والمحبّة الخالصة؛ بيد أنّه، ويا للمفارقة، لم يخلُ الفضاء العربي ممّن ينحاز ضمنيّا أو صراحة للعدوّ، ويعيد اجتراح دعاية الكراهية للفلسطينيين؛ واتهامهم بكلّ نقيصة!

قد يُقال، إنّ تلك أصوات معزولة في العالم العربي. والحق أنّها أصوات انعزالية ولكنها ليست معزولة، فالذي يملك كبريات الوسائط الإعلامية، وجيوشا من مرتزقة المثقفين والمُعمّمين، ويدير لجانا إلكترونية تنبثّ في كلّ مواقع التواصل الاجتماعي الجديدة، وهو أصلا دولة تعوم على النفط والمال، ليس صوتا معزولا.

تنظيم الدعاية في العالم العربي لتحطيم عدالة القضية الفلسطينية، وتشويه معاناة أهلها، والتشكيك في حقهم، والإزراء بنضالهم، قديم قدم هزيمة الجيوش العربية عام 1948، إلا أنّه تكثّف في السنوات الأخيرة منذ العام 2017، ووصول ترامب البيت الأبيض، وظهور طليعة التحالف الإسرائيلي العربي برعاية ترامب، ومع صعود نخبة جديدة للحكم في بعض البلاد العربية، وبما كان يقتضي من تعظيم النزعات اليمينية الوطنية والانعزالية في بعض البلاد العربية. وهذا الانعزال لا يتأتّى إلا بتحطيم أهمّ قضية جامعة للعرب، ومُسيّسة لجماهيرهم، وفارضة لمسؤوليات عربية مشتركة، وهي القضية الفلسطينية.

لم يكن خطاب الكراهية ضدّ الفلسطينيين، المتصاعد منذ العام 2017، مرتبطا بقطاع غزّة، أو موجّها لحماس، بل نال من أصل القضية الفلسطينية وجذورها، ومن الفلسطينيين كلّهم، وسقط أكثر من أيّ وقت سابق إلى قيعان غائرة من الخسّة، ليس فقط باستعادة دعاية أنّ الفلسطينيين باعوا أرضهم، بل وبتبني السردية الصهيونية في بعض الأحيان، ونفي المكانة الدينية للمسجد الأقصى، وتحميل الفلسطينيين المسؤولية عن معاناتهم لكونهم، بحسب دعاية اليمين الانعزالي العربي، أضاعوا فرص السلام، مما يعني تبرئة المجرم من جريمته، وطمس الجريمة الأصلية، جريمة الاستعمار والتطهير العرقي.

في مقابل إهانة الفلسطيني وتحقيره كان دائما تبجيل المستعمر من حيث "تحضّره وتقدّمه"، وما يوفّره التطبيع معه من فرص للازدهار، مقابل ما تسبّبه القضية الفلسطينية من خراب! وذلك كلّه كان يأتي بلا سياقات واضحة، مما يعني أن تحطيم القضية الفلسطينية كان مشروعا فعّالا باستمرار على أجندة نخبة الحكم الراهنة في بعض البلاد العربية
وفي مقابل إهانة الفلسطيني وتحقيره كان دائما تبجيل المستعمر من حيث "تحضّره وتقدّمه"، وما يوفّره التطبيع معه من فرص للازدهار، مقابل ما تسبّبه القضية الفلسطينية من خراب! وذلك كلّه كان يأتي بلا سياقات واضحة، مما يعني أن تحطيم القضية الفلسطينية كان مشروعا فعّالا باستمرار على أجندة نخبة الحكم الراهنة في بعض البلاد العربية، وليس واضحا إن كانت الرؤى الانعزالية وحدها كافية لتفسير سياسات هذه النخبة!

ومن ثمّ فلا ينبغي أن يُستغرب، لا من حيث المحاكمة الأخلاقية والواجبات الأصلية، ولكن من حيث واقع نخبة الحكم هذه؛ الموقف المتواطئ مع الاحتلال في السياسات الفعلية في حربه على غزّة، وفي بثّ الدعاية المنحازة له، والتي تأخذ في أشكالها المتحفظة موقف التشكيك بحماس والمقاومة، وفي أشكالها الذبابية موقف العودة لاتهام الفلسطيني بكلّ نقيصة، فهو متهم بالشيء ونقيضه؛ بأنّه دمّر بلده وأباد نفسه لكونه صامدا مقاوما، وبأنّه باع أرضه لعدوّه بدلا من مقاومة عدوّه! وهو انحطاط في الخطاب لم يُبق للدهشة مساحة!

إذن، فهذا الانكشاف الحاصل؛ باللحم الحيّ والموت والجوع والدمار، من الأثمان التي يدفعها الفلسطيني في غزّة هذه المرّة، لا لأجل كرامته وتحرير بلده وارتجاع مقدّسات المسلمين فحسب، بل أيضا لتحرير أخيه العربي من خطر نخبة الحكم العربي عليه، تلك النخبة التي لا مشروع لديها إلا فرض الانحطاط على المواطن الخاضع لها وعلى المجال العربيّ كلّه من خلفه!

twitter.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطينيين غزة العالم العربي الكراهية فلسطين غزة العالم العربي الإبادة الجماعية الكراهية مقالات مقالات مقالات سياسة صحافة سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة مقالات سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة فی العالم العربی الفلسطینیة من ر الفلسطینی عام 1948 من حیث من جهة

إقرأ أيضاً:

الأمين العام لجامعة الدول العربية يفتتح المؤتمر العربي السادس عشر للطاقة الذرية بالأردن

افتتح أحمد أبو الغيط الأمين العام لجامعة الدول العربية، اليوم الاحد الموافق ١٥ ديسمبر ٢٠٢٤ أعمال المؤتمر العربي السادس عشر للاستخدامات السلمية للطاقة الذرية، والذي يعقد خلال الفترة من ١٥ إلى ١٩ ديسمبر ٢٠٢٤ فى البحر الميت بالمملكة الأردنية الهاشمية، وذلك بتنظيم الهيئة العربية للطاقة الذرية بالتعاون مع هيئة الطاقة الذرية الأردنية، وبحضور وزير الطاقة الاردني معالي صالح الخرابشة.

 وتجدر الإشارة إلى أن المؤتمر يعتبر بمثابة منصة هامة تجمع الباحثين والعلماء العرب لاستعراض نتائج أبحاثهم العلمية والتطبيقية وتبادل الخبرات والمعارف فيما بينهم، وبما يساعد فى تعزيز التعاون العربي - العربي فى مجال العلوم والتكنولوجيا النووية.

 أوضح الأمين العام، خلال الجلسة الافتتاحية أهمية المؤتمر والموضوعات والأوراق العلمية التى سيتم تناولها ومناقشة أبعادها خلال جلساته.

كما أكد على أهمية الدور المميز  والمحوري للهيئة العربية للطاقة الذرية فى توحيد جهود الدول العربية والتنسيق بين أنشطتها فى مجالات الاستخدام السلمي للطاقة الذرية، وسعي الهيئة المستمر لتعزيز وتطوير التعاون العربي والاستفادة من التجارب الدولية الرائدة في هذا المجال الهام والدقيق.

وصرح جمال رشدي المتحدث الرسمي باسم الأمين العام، بأن أحمد أبو الغيط، قد أكد على أهمية انتهاج فلسفة جديدة تتسم بالتطور والحداثة، والسعي إلى الاستفادة من الإمكانات والطاقات الغير مستغلة فى العديد من الدول العربية بهدف اللحاق بركب التنمية وتحقيق التنمية المستدامة بكافة أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والبيئية.

وأضاف أن الأمين العام، قد أوضح أهمية دور التطبيقات السلمية للطاقة الذرية فى مواجهة العديد من التحديات التي تعطل الجهود الرامية إلى الوصول لتحقيق التنمية المستدامة.

 ونقل المتحدث عن الأمين العام، تجديد التأكيد على الحق الأصيل لكافة الدول الأطراف بمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية فى الاستخدام السلمي للطاقة الذرية، ورفض أية محاولات للتضييق على هذا الحق أو فرض أية قيود أو شروط عليه تحت أي مبرر.

مقالات مشابهة

  • البيت الأبيض: المسيرات التي شوهدت بسماء نيوجيرسي كانت تطير بشكل قانوني
  • «البيت الأبيض»: المسيرات التي شوهدت في سماء نيوجيرسي كانت تطير بشكل قانوني
  • الجامعة العربية تؤكد أهمية اعتراف الحكومة الفرنسية بالدولة الفلسطينية المستقلة
  • اعلان غير سار من اليونيسيف للأسر اليمنية التي كانت تحصل على مساعدات نقدية
  • جامعة الدول العربية تؤكد أهمية الدبلوماسية الرياضية في نقل صورة مشرفة عن الوطن العربي إلى العالم
  • البرلمان العربي يشيد بالجهود والإنجازات التي حققتها سلطنة عمان في مجال حقوق الإنسان تحت قيادة السلطان هيثم
  • انطلاق أعمال لجنة الميثاق العربي لحقوق الإنسان بالجامعة العربية
  • الرحلة الغامضة التي أنقذت بشار الهارب .. توقفت في عاصمة عربية قبل توجهها إلى روسيا
  • دعوة عربية إلى انتقال سلمي بسوريا ترعاه الأمم المتحدة والجامعة العربية  
  • الأمين العام لجامعة الدول العربية يفتتح المؤتمر العربي السادس عشر للطاقة الذرية بالأردن